خطب ومحاضرات
خلق المسلمين بين النظري والتطبيقي
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن المعلوم أن الإنسان مبتلىً ممتحن في هذه الحياة الدنيا بخمس جبهات مفتوحة عليه:
الجبهة الأولى منها: جبهة الشيطان، فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، كما قال فيما حكى الله عنه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17]، وهو عدو للإنسان يتربص به في كل الأوقات، يراه هو وقبيله من حيث لا ترونهم.
خطوات الشيطان في إغواء الإنسان
وهذه الجبهة ذات خطورة عظيمة على الإنسان؛ لأن بداية مطمع الشيطان في الإنسان أن يكفر بالله جل جلاله، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يوقعه في كبائر الإثم والفواحش، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يجعله يترك الواجبات والفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله ببعض الفرائض عن بعض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بالسنن والمندوبات عن الفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يوقعه في المكروهات واللمم، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بالمندوبات بالمبالغات، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بخلاف الأولى، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يعجب بنفسه حتى يأمن مكر الله، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يحقر عمله لديه حتى ييأس من رحمة الله.
جند الشهوة
ولا يقنط الشيطان من ابن آدم أبدًا؛ لأنه يحاوله طيلة عمره، ويركز عليه في أوقات ضعفه، وله جندان عظيمان هما جند الشهوة وجند الشبهة. وجند الشهوة ينقسم إلى قسمين: إلى شهوات حسية وشهوات معنوية.
فالشهوات الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوات المعنوية كحب الرئاسة وحب الشهرة، وحب الانتقام.
وهذه الشهوات جند من جنود إبليس يحركها في وقت ضعف الإنسان، فالإنسان بطبيعة الحدوث التي فيه، وبطبيعته الحيوانية، تأتيه النوازع والضعف في أوقات مختلفة، فكثيرًا ما يتناسى بعض قناعاته الثابتة لديه أو ينساها، وكثيرًا ما ينشغل عنها بالتسويف، وطول الأمل، وكثيرًا ما تأتيه نوبة من الفتور والكسل، وكثيرًا ما يأتيه ضعف لا يشعر به أمام شهوة من الشهوات، فهو يظنه قوة وفي الواقع هو ضعف، فيظن أن قوة ثارت فيه، وفي الواقع أنه ضعفت روحه، وفي مقابل ذلك قوي جسمه على الروح.
جند الشبهة
والجند الثاني: وهي الشبهة، وتنقسم إلى قسمين: شبهة بالتعامل مع الله، وشبهة بالتعامل مع الناس.
والشبهة بالتعامل مع الله تنقسم إلى قسمين:
الأول: شبهة بالعقائد، ولا يزال الشيطان بالإنسان حتى يقول له: هذا العالم خلقه الله، فمن خلق الله؟! يوصله إلى هذا النوع من الشبهات التي ليست مجالًا للعقل أصلًا، ولو راجع الإنسان نفسه لعلم أنها متهافتة متناقضة.
الثاني: الشبهات في العبادات، وهذه تشمل الوساوس في الطهارة والوساوس في الصلاة، والوساوس في الطلاق والوساوس في الأيمان والنذور، وفي نحو ذلك.
والشبهات بالتعامل مع الناس تنقسم إلى قسمين:
الأول: شبهات من قبيل الإفراط فيهم وازدرائهم واحتقارهم، كالذي لا يسمع من أثني عليه بخير إلا حاول تنغصيه والطعن فيه، ويكون ذلك مستمرًا معه طيلة حياته فلا يحب أن يسمع ثناءً على أحد من الناس إلا حاول أن يعقب على ذلك الثناء بالطعن، فهذا النوع هو شبهة في التعامل مع الناس من جهة التفريط فيهم وازدرائهم واحتقارهم.
الثاني: هو شبهة في التعامل مع الناس من جهة الإفراط فيهم، والمبالغة والتقديس، فيقدر الأشخاص تقديرًا زائدًا حتى يصل إلى حد التقديس، فيعطي الأسوة لمن ليس معصومًا، ويعطي حقوق الألوهية لمن هو عبد مملوك من الأنبياء أو الصالحين أو الملائكة المقربين، فكلهم مملوكون لله سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57].
سبل مواجهة جند الشيطان
وهذان جندان من جنود إبليس لا يمكن أن يردهم الإنسان عن نفسه في مواجهته المستمرة، إلا بجندين من جنود الله وهما الصبر واليقين.
فالصبر هو الذي يرد به الإنسان جند الشهوة مطلقًا، كلما ثارت شهوته صبر، فيصبر عن الشهوات المعنوية، ويصبر عن الشهوات الحسية، والصبر ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره.
أما اليقين، وهو الانطلاق من الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، والاعتماد على الوحي المقدس الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ[فصلت:42]، واليقين قاضٍ على الشبهة مطلقًا، فكل الشبهات سواء كانت في التعامل مع الله أو في التعامل مع الناس يقضي عليها اليقين، وإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24].
وهذه الجبهة الأولى كثير من الناس إذا سئل عن عدوه الأول لم يتذكر كيد إبليس ومراوغاته وأنه له بالمرصاد.
وهذه الجبهة ذات خطورة عظيمة على الإنسان؛ لأن بداية مطمع الشيطان في الإنسان أن يكفر بالله جل جلاله، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يوقعه في كبائر الإثم والفواحش، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يجعله يترك الواجبات والفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله ببعض الفرائض عن بعض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بالسنن والمندوبات عن الفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يوقعه في المكروهات واللمم، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بالمندوبات بالمبالغات، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يشغله بخلاف الأولى، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يعجب بنفسه حتى يأمن مكر الله، فإذا عجز عن ذلك حاول أن يحقر عمله لديه حتى ييأس من رحمة الله.
ولا يقنط الشيطان من ابن آدم أبدًا؛ لأنه يحاوله طيلة عمره، ويركز عليه في أوقات ضعفه، وله جندان عظيمان هما جند الشهوة وجند الشبهة. وجند الشهوة ينقسم إلى قسمين: إلى شهوات حسية وشهوات معنوية.
فالشهوات الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوات المعنوية كحب الرئاسة وحب الشهرة، وحب الانتقام.
وهذه الشهوات جند من جنود إبليس يحركها في وقت ضعف الإنسان، فالإنسان بطبيعة الحدوث التي فيه، وبطبيعته الحيوانية، تأتيه النوازع والضعف في أوقات مختلفة، فكثيرًا ما يتناسى بعض قناعاته الثابتة لديه أو ينساها، وكثيرًا ما ينشغل عنها بالتسويف، وطول الأمل، وكثيرًا ما تأتيه نوبة من الفتور والكسل، وكثيرًا ما يأتيه ضعف لا يشعر به أمام شهوة من الشهوات، فهو يظنه قوة وفي الواقع هو ضعف، فيظن أن قوة ثارت فيه، وفي الواقع أنه ضعفت روحه، وفي مقابل ذلك قوي جسمه على الروح.
والجند الثاني: وهي الشبهة، وتنقسم إلى قسمين: شبهة بالتعامل مع الله، وشبهة بالتعامل مع الناس.
والشبهة بالتعامل مع الله تنقسم إلى قسمين:
الأول: شبهة بالعقائد، ولا يزال الشيطان بالإنسان حتى يقول له: هذا العالم خلقه الله، فمن خلق الله؟! يوصله إلى هذا النوع من الشبهات التي ليست مجالًا للعقل أصلًا، ولو راجع الإنسان نفسه لعلم أنها متهافتة متناقضة.
الثاني: الشبهات في العبادات، وهذه تشمل الوساوس في الطهارة والوساوس في الصلاة، والوساوس في الطلاق والوساوس في الأيمان والنذور، وفي نحو ذلك.
والشبهات بالتعامل مع الناس تنقسم إلى قسمين:
الأول: شبهات من قبيل الإفراط فيهم وازدرائهم واحتقارهم، كالذي لا يسمع من أثني عليه بخير إلا حاول تنغصيه والطعن فيه، ويكون ذلك مستمرًا معه طيلة حياته فلا يحب أن يسمع ثناءً على أحد من الناس إلا حاول أن يعقب على ذلك الثناء بالطعن، فهذا النوع هو شبهة في التعامل مع الناس من جهة التفريط فيهم وازدرائهم واحتقارهم.
الثاني: هو شبهة في التعامل مع الناس من جهة الإفراط فيهم، والمبالغة والتقديس، فيقدر الأشخاص تقديرًا زائدًا حتى يصل إلى حد التقديس، فيعطي الأسوة لمن ليس معصومًا، ويعطي حقوق الألوهية لمن هو عبد مملوك من الأنبياء أو الصالحين أو الملائكة المقربين، فكلهم مملوكون لله سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57].
وهذان جندان من جنود إبليس لا يمكن أن يردهم الإنسان عن نفسه في مواجهته المستمرة، إلا بجندين من جنود الله وهما الصبر واليقين.
فالصبر هو الذي يرد به الإنسان جند الشهوة مطلقًا، كلما ثارت شهوته صبر، فيصبر عن الشهوات المعنوية، ويصبر عن الشهوات الحسية، والصبر ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره.
أما اليقين، وهو الانطلاق من الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، والاعتماد على الوحي المقدس الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ[فصلت:42]، واليقين قاضٍ على الشبهة مطلقًا، فكل الشبهات سواء كانت في التعامل مع الله أو في التعامل مع الناس يقضي عليها اليقين، وإذا جمع الإنسان بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24].
وهذه الجبهة الأولى كثير من الناس إذا سئل عن عدوه الأول لم يتذكر كيد إبليس ومراوغاته وأنه له بالمرصاد.
الجبهة الثانية: جبهة النفس، فنفسك التي بين جنبيك، تسعى لإغوائك؛ لأنها لا ترضى منك إلا أن تكون من المطففين: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[المطففين:2-3]، تريد منك أن تستوعب كل حقوقك من الناس، وتريد منك أن تقصر في حقوق الناس من استطعت، فإذا كنت موظفًا فإن نفسك تراودك عن التخلف عن العمل والتقصير فيه، لكن إذا جاء نقص في الراتب ثارت ثائرة النفس، وأرادت الانتقام، وإذا كنت طالبًا فإن نفسك تريد منك أن تقصر في الدراسة، وإذا جاء نقص في الدرجات فإن نفسك تنفر وتشمئز من ذلك، وهكذا .. فالحمية التي تجدونها عندما ينتهك شيء من حقوق الطلاب تثورهم ثائرة، وفي مقابلها أيضًا هم ينتهكون بعض حقوق غيرهم، ولا يقومون بها، وهذا دليل على أن النفوس عدوة لنا: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي[يوسف:53].
وإذا أراد الإنسان أن يراقب ذلك فلينظر علاقته بأبيه وأمه وزوجه وأولاده وأهله، فسيجد أنه يحاول أن ينقص بعض حقوقهم ما استطاع، ولا يرضى أن ينقص أي شيء من حقوقه، فإذا نقصت الزوجة من حقه ولو كلمة واحدة أو فعلًا واحدًا ثارت ثائرته، وهو يحاول أن ينقص من حقها ما استطاع، وهكذا الأولاد والوالدان.
إذًا هذه النفس التي هي بين جنبيك هي عدو لك، فلابد أن تعاملها معاملة العدو بالحذر من غوائلها، وأن تنصف منها الغير، وألا تنتصف لها من الغير، فهي ثلاثة حقوق لنفسك عليك:
الحق الأول: ألا تنتصر لها أبدًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله ما انتصر لنفسه قط، وما غضب إلا لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله، فإذا غضب لا يقوى لغضبه شيء.
الحق الثاني من حقوق نفسك: أن تنتصر للغير منها، فتحاول أن تأخذ منها كل الحقوق للغير، وأول ذلك حق الله جل جلاله، فتفرضها على أخذ حق الله منها، وأن تأخذ منها حقوق الآدميين وحقوق الخلائق أجمعين حتى تتأدب على ذلك.
والحق الثالث: الخوف من غوائلها فهو حق لها، فتبقى دائمًا على وجل من غوائلها وتراقبها.
الجبهة الثالثة المفتوحة علينا: إخوان السوء والقرناء، فنحن في هذه الدار لا يمكن أن نعيش وحدة، فأمامنا وحدة القبور ووحشتها، وما دام الإنسان يعيش على الأرض في الحياة الدنيا فإنه مضطر لمخالطة الناس، والذين يخالطهم ثلاثة أقسام:
الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبدًا، وهو الذي يعينه على أمور الدين، فيعلمه إذا جهل ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، وينصح له ويزيل عنه الوحشة وينافسه في الخير، فهذا الأخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبدًا، وقد أمرنا الله بصحبة الصادقين من هؤلاء فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28].
الثاني: أخ كالدواء يحتاج إليه الإنسان في بعض الأوقات دون بعض، وهو الذي يعينه على أمور الدنيا، ولا يعينه على أمور الدين، وهذا النوع من الإخوة يحتاج إليه الإنسان في بعض الأوقات دون بعض، والإعلام العالمي المكتوب على جميع الأدوية: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك، فننصحك بالابتعاد عنه، كل دواء أياً كان لابد أن يكتب عليه هذا البيان، وهذا الإعلام العالمي.
فكذلك الأخ الذي يعينك على أمور الدنيا، ولكنه لا يعينك على أمور الدين، ينبغي أن تزهد عما في يده، وأن تتقلل منه، وألا ترفع إليه من حوائجك إلا ما أنت غير مستغنٍ عنه، فهذا النوع فيه نفع، ولكن نفعه في أمر الدنيا فقط.
الثالث: أخ كالداء ليس فيه نفع أبدًا، فلا ينفع في أمر الدين، ولا ينفع في أمر الدنيا، وفيه مضرة عاجلة؛ لأنه يصل إليك العدوى من خلقه، ومن أقواله ومن أفعاله، ويجلس بهمتك عن المراتب العالية، ويرغب عن المنافسة، وهذا النوع من الإخوان هم أعداء للإنسان كما قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، وكما قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29]،وقال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، فهم أعداء للإنسان؛ لأنهم يأخذون وقته الثمين في غير طائل، ويصل إليه العدوى من أخلاقهم وأقوالهم وأفعالهم، وربما وصل إليه شيء من ظلام ذنوبهم ونتنها، وشؤمها ورائحتها الكريهة، فأثر ذلك في بصيرته وفي قلبه.
الجبهة الرابعة من الجبهات: مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها، فهذه الدار التي نعيش فيها هي ضرة الآخرة، وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، ولذلك جعلها الله في الحياة الدنيا لأهلها، ولم يجعل لهم نصيبًا في الآخرة، قال: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[الشورى:20]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، أي: لأهل الدنيا في الدنيا، ولكم في الآخرة.
وهذه المفاتن تشغل الإنسان بالتسويف وطول الأمل، فإنه يرى أن هذا الشهر بعده شهر، وأن هذه السنة بعدها سنة، ولا يزال يتحرى وينتظر ويؤخر أعماله تطويلًا للأمل وتسويفًا، حتى يفجأه الموت فيقطع عليه مشواره، ويخيب أمله ورجاءه، والموت هاذم اللذات ومفسد الآراء ومفرق الجماعات.
والإنسان إذا كان عاقلًا فإن شواهد زوال هذه الحياة الدنيا قائمة عليه، فكل يوم يرى بعثًا ينطلقون إلى الدار الآخرة، كانوا أصحاء كما كان هو صحيحًا، وكانوا أغنياء كما كان غنيًا، وكانوا مثقفين كما كان مثقفًا، يرى من هو أسن منه، ومن هو أصغر، ومن هو مساوٍ له، كلهم يذهبون بأسباب شتى إلى الدار الآخرة، منهم من يموت بحوادث السير، ومنهم من يموت بالأمراض، ومنهم من يموت بغير سبب، ومنهم من يموت بالقتل وبغير ذلك:
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
الجبهة الخامسة والأخيرة: هي نعم الله علينا، فإن نعم الله لا تحصى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، وهذه النعم جبهة مفتوحة على الإنسان؛ لأنها ترة عليه ما لم يشكرها لله سبحانه وتعالى ويقم بحقها، وكثيرًا ما يغفل الإنسان بوجودها.
والناس حول النعمة على أنواع:
الأول: من لا يعرف النعمة إلا بزوالها، فالذي لا يعرف النعمة بوجودها وإنما يعرفها بزوالها، ما دام آمنًا في سربه، معافى في جسمه، لا يشكو سرطانًا في كبده، ولا ضعفًا في عضلة قلبه، ولا فشلًا في كلاه، ولا عمًى في عينيه، ولا صممًا في أذنيه، ولا شللًا في جهازه العصبي، ولا نقص مناعة في جهازه المناعي، ولا توقفًا في غدده، فإنه لا يستشعر هذه النعمة، فإذا زالت هذه النعمة تذكرها وخالطه الندم حيث لا ينفع الندم فلا يمكن أن يشكرها لله أبدًا.
الثاني: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ولكنهم لا يعرفون من أين أتت، فهم يظنون أنها من عند أنفسهم؛ من جِدهم وجَدهم واجتهادهم وميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، وهم يغفلون عن أن الله يخص من شاء بما شاء، وحاله حال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ[القصص:78].
الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم يهدمونها آناء الليل وأطراف النهار، ويسخرون بما خصهم الله به من النعم على عباد الله، وينسون أن لهذه النعمة قيدًا وهو شكرها تقيد به، وهؤلاء حالهم حال المخلفين من الأعراب: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، وقد حذرنا الله من هذا الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].
وإذا عرف الإنسان أنه قد فتحت عليه هذه الجبهات الخمس في هذه الحياة الدنيا، وعرف أنه بين نوعين من أنواع الخلائق:
الأول: نوع أسمى منه وهو الملائكة الكرام، محضهم الله لطاعته وخلصهم لعبادته، فهم عباد مكرمون: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع)، وقد كلفهم الله بتكاليف، ولم يسلط عليهم الشهوات.
الثاني: صنف أدنى منا وهو البهائم، سلط الله عليها الشهوات، ولم يكلفها بالتكاليف.
ونحن جمع الله لنا بين الخاصيتين، فنحن مكلفون بالتكاليف ممتحنون بالشهوات، فإذا نحن أدينا التكاليف ولم نتبع الشهوات التحقنا بالصنف الأسمى وهم الملائكة: ( الذي يقرأ القرآن ولا يتعتع فيه، وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين)، فهؤلاء مع الملائكة الكرام.
وأما من يضيع التكاليف ويتبع الشهوات، فهذا مع البهائم، بل هو أدنى من البهائم؛ لأن الحجة قائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الأنعام، ولذلك قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ[محمد:12]، وقال: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].
وقد ضرب الله لهم الأمثلة بأسوأ البهائم وأخسها: الكلاب، الحمير، القردة، الخنازير، فقد قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ[الأعراف:175-176]، وهذه الآية صريحة في أن من آتاه الله العلم ولم يعمل بمقتضى علمه فليس كالبشر، هو بشر في خلقته، لكنه كلب عند الله في طينته، فهو مثله: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ[الأعراف:176-177]، وكذلك ضرب لهم المثل بالحمار، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[الجمعة:5]، فالحمار أبلد البهائم وأرضاها بالذل والعار والمهانة.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج ولا يرثي له أحد
وهذا مثل لليهود حين أعرضوا عما علمهم الله وأنزل عليهم من الكتاب، فتراهم في صورة البشر، ولكنهم حمر أهلية، قيمتهم عند الله كقيمة الحمر الأهلية، ترى إنسانًا قد يكون جميل الصورة يمشي ويتكلم ويفكر وحاصل على الشهادات، وهو مع ذلك حمار في قيمته عند الله، وكذلك ما بين أنه: جعل منهم القردة والخنازير: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[المائدة:60]، فمن الناس من تراه في صورة الرجل، ولكنه في قيمته بهيمة، كما قال الحكيم:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضا ليدفع معور عن معور
أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
يحتاج الإنسان إلى قيم يرتفع بها ويسمو عن البهائم، ويصل بها إلى مقام المنافسة، وسيكون في السابقين في المنافسة مع السفرة الكرام البررة.
وهذه القيم منها قيمة الخلق، وقيمة الدين، وهما أكبر قيمة يتحلى بهما الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فالإنسان ليس بجسمه، فالفيل أكبر منه والأسد أقوى منه وأشجع.
والإنسان ليس بجمال صورته فهذا أمر لا يثبت أبدًا، كما قال حسان بن ثابت:
لم تفقها شمس النّهار بشيء غير أنّ الشّباب ليس يدوم
والإنسان ليس بثقافته فهي قابلة لأن يحصل عليها أي إنسان، والإنسان ليس بماله فيجمع حطام الدنيا تفسده النملة والفأرة، الإنسان إنما هو بدينه وخلقه.
حاجة الإنسان لقيمة الدين
فإذا كان صاحب دين، فإنه أمن مستقبله الأخروي عند الله جل جلاله؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13]، فمن كان صاحب تقوى فهذا هو صاحب الدين، وهو بأعلى المقامات عند الله سبحانه وتعالى، ولا يضره ضعف جسمه، ولا يضره ضعف ثقافته، ولا يضره ضعف مستواه عند الناس، ولا يضره ضعف مستواه الاقتصادي، فكل تلك الأمور زائلة ومدة تنافس الناس فيها محصورة.
وأنا أضرب لها مثالًا بقوم ركبوا طائرة، فكان بعضهم في الدرجة الأولى، وبعضهم في درجة رجال الأعمال، وبعضهم في درجة السياحة الاقتصادية، وطارت الطائرة ومكثت خمس ساعات، ونزلت في المطار الذي يتجهون إليه، وخرجوا منها يمشون، فقد وصلوا جميعًا، ولا يمكن أن يفخر هذا بأنه كان في الدرجة الأولى، المهم أنهم وصلوا، فكذلك أهل الدنيا يتفاوتون فيها بجمال الصور،وفيما جعل الله تحت أيديهم من المال، وبما خصهم به من الثقافة والمكانة الاجتماعية، لكن مدة ذلك محصورة يسيرة.
فإذا وقفت على المقبرة، فرأيت القبور، هل تستطيع أن تميز بين قبر الذكر وقبر الأنثى؟ هل تستطيع أن تميز بين قبر من عُمّر ومن كان قصير العمر؟ هل تستطيع أن تميز بين من كان جميلًا غاية الجمال، ومن كان دميماً قبيحًا؟ هل تستطيع أن تميز بين من كان غنيًا من الأغنياء، وبين من كان فقيرًا لا يملك قوت يومه؟ هل تستطيع أن تميز بين قبر من كان مثقفًا ومن كان عاميًا؟ هل تستطيع أن تميز بين قبر من كان ملكًا أو وزيرًا، أو قائدًا أو من كان مقودًا مملوكًا؟ لا تستطيع أن تميز؛ لأن مدة هذا التفاوت هو في هذه الحياة الدنيا القصيرة التي قد يكون عُمر الإنسان فيها عشر سنين، وقد يكون عشرين سنة، وقد يكون ثلاثين سنة، وهي مدة تمتيعه بهذا الذي يفخر به.
أما المستقبل الباقي سواء كان ذلك في البرزخ تحت الأرض، أو على الساهرة وهو الحشر، أو في جنة أو في نار، فهو المستمر الذي لا ينقطع، وهو الذي يحصل فيه التفاوت الحقيقي، كما قال الله تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا[الإسراء:21].
أنتم الآن إذا سمعتم هذا تفكرون في الفرق بين أهل الجنة والنار: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ[آل عمران:185]، لكن حتى مع هذا أهل النار متفاوتون في درجاتهم، كما قال الله تعالى في المنافقين: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا[النساء:145]، وأهل الجنة متفاوتون فيها تفاوتًا عظيمًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، الكوكب الدري بيننا وبينه آلاف السنوات الضوئية! بل ربما أكثر من ذلك، مئات آلاف السنوات الضوئية، وهذه منازل أهل الجنة يتفاوتون فيها، مع أنهم جميعًا في الجنة.
إذاً يحتاج الإنسان إلى هذه القيمة وهي الدين.
حاجة الإنسان لقيمة الخلق
ثم يحتاج إلى القيمة الثانية المهاجرة لها وهي الخلق، وهما قيمتان مترابطتان لا يمكن الفصل بينهما أصلاً، فلا يمكن أن يكون الإنسان متدينًا وليس على خلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)، يمكن أن يكون الإنسان صاحب خلق وليس صاحب دين، لكن لا يمكن أن يكون صاحب دين، وليس صاحب خلق؛ لأن الدين يدعوه إلى الخلق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا)، ويقول: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا).
وحسن الخلق مِنّة من الله سبحانه وتعالى امتن بها على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، وقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ المَفْتُونُ[القلم:1-6].
وحسن الخلق من الأمور المكتسبة؛ لأن الإنسان يولد جاهلًا لا يعلم شيئًا: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل:78]، فوسائل العلم موجودة، لكن العلم مفقود عند الميلاد، ومنه ما يتعلق بالطرق، ثم بعد ذلك يكتسبها الإنسان، أو ينالها بعطية الله سبحانه وتعالى.
ونحن لا ننكر أن من الناس من يؤدبه الله سبحانه وتعالى ويحسن خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، فهذا تأديب من الله، لكن من الناس من يحتاج إلى أن يؤدب نفسه.
والتأديب يمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة تأديبه في الأسرة، تأديب الوالدين للإنسان، وهذه المرحلة راجعة إلى مستوى الوالدين، فمن الآباء والأمهات من يكون مستواه صالحًا لأن يكون أستاذاً في الأخلاق، فيربي أولاده على ذلك، ومنهم من لا يكون كذلك فيكون النقص الذي لديه ينطبع به ولده أو بنته، فما كان لديه من النقص في الخلق سيكسبه لأولاده، وقديمًا قال غيلان:
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
المرحلة الثانية: هي ما يتلقاه الإنسان عن طريق المؤسسات الاجتماعية والتعليمية، فالشارع والمدرسة ووسيلة الإعلام، والنوادي والأندية الرياضية.. ونحوها هي مدارس يتلقى منها الإنسان أخلاقه وقيمه، ويجد نفسه مجبرًا مأسورًا على بعض العادات التي يجدها في المدرسة أو في المؤسسة التعليمية أو في الشارع أو في المجتمع، فلها تقاليد يدأب عليها الناس، فيجد الإنسان نفسه مأسورًا بها، فلا يستطيع التخلص منها إلا بصعوبة.
المرحلة الثالثة: تأديب الإنسان لنفسه، بمراجعته لأخلاقه وفحصه لنفسه، وهذا الخلق عُرضة للتغير دائمًا؛ لأن كثيرًا من المؤثرات تؤثر فيه، فتغير حال الإنسان إذا لم يكن طالبًا في مرحلة إلى أن يصل إلى مرحلة أخرى، هذا انتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة أو مرحلة ثقافية إلى مرحلة، فيحتاج إلى أن يفحص نفسه الآن فحصًا شاملًا: هل أخلاقه مستقيمة مناسبة لهذه المرحلة؟ كان طالبًا في الثانوية فأصبح طالبًا في الجامعة، يستحق الآن أن يجلس جلسة محاسبة لنفسه، وتقويمًا لخلقه، وهذا الخلق الذي كان عليه في الثانوي هل هو المناسب للطالب الجامعي، فإذا تخرج من الجامعة فأصبح طالبًا في الدراسات العليا، هذه مرحلة جديدة، لابد أن يفحص نفسه، هل المسلكية التي هو عليها ملائمة لمستواه الثقافي، وإذا توظف فانتقل من مقام الطالب إلى مقام الموظف، لابد أن يفحص نفسه من جديد، وإذا أصبح رب أسرة فقد انتقل بقدر المسئولية، فيحتاج إلى فحص نفسه الآن، وإذا تقدم به العمر، فالعمر يجد فيه الإنسان كثيرًا من الأمور التي يستنكرها، فما كان يشتهيه من الطعام لم يعد يشتهه، وما كان يجده من النوم ويسهل عليه لم يعد يمكن أن يجده، كما قال الفرزدق:
أسمع أحدثك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة الزاد إذا الزاد حضر وقلة النوم إذا الليل اعتكر
والإنسان يحس ذلك في نفسه كلما تقدم به العمر كما قال الشاعر:
فأجبتها أن من يعمر يدكر ما قد كفينا وينبو عنه المنظر
ولقد رأيت شبيه ما عيرتني يغدو علي به الزمان ويبكر
فغدوت يغضبني اليسير وملني أهلي وكنت مكرمًا لا أكهر
(فغدوت يغضبني اليسير) أي: الأمور التي لا تغضب، تغضب الإنسان الكبير؛ لأنه يعود كحال الصغير.
(وملني أهلي وكنت مكرمًا لا أكهر).
ونظير هذا ما قاله أمية بن الأسكر الثقفي رضي الله عنه:
يا ابني أميةَ إنِّي عنكما غاني وما الغِنى غيرُ أني مرعش فانِي
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان
يا أم هيثم ماذا قلتِ أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلبًا غير كذان
أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أهدي بلادًا كنت أعرفها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني
أمسيت هزءًا لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان
إن ترعى ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني
فهذه التغيرات العمرية تؤثر في الخلق، وكذلك المستوى، فالإنسان إذا كان مقترًا عليه في رزقه ففتح الله له بابًا من أبواب الرزق فلابد أن يفحص نفسه هل خلقه مناسب للمقام الذي وصل إليه أم لا؟ لأنه قد يكون في ظرفه الأول وهو مقتر عليه تعود على الضيق في الإنفاق والشح والبخل، فإذا فتح الله عليه لم يغير ذلك في شيمته وسلوكه، سيكون كما قال الشاعر:
قالت أمامة ما تبقى دراهمنا وما بنا سرف فيها ولا خرق
إلا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ظلت إلى طرق المعروف تستبق
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
حتى يصير إلى نذل يخلده يكاد من صره إياه ينمزق
وهذا الفحص مأمور به شرعًا فلابد أن يراجع الإنسان خلقه في كل فترة، ويقوم سلوكه، وهو من المحاسبة التي أمر بها أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4830 استماع |
بشائر النصر | 4289 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4061 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4000 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3934 استماع |
اللغة العربية | 3931 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3897 استماع |