خطب ومحاضرات
صور من انتصار الدين
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وضمن له النصر والتمكين، وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار؛ فقد قال الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[الأنبياء:105]، وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف:128]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51]، وقال تعالى: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، وقال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55].
وقد أخرج البخاري في الصحيح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا! ألا تدعو لنا؟! فقال: إنه قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، فوالذي نفس محمد بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك انتصار هذا الدين وانتشاره فقال: ( لينصرن الله هذا الدين حتى لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله )، و(بيت حجر) أي: بيت مبني من الحجارة، و(بيت مدر) أي: بيت مبني من الطوب والطين.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار حتى لا يبقى بيت إلا دخله، وبين أنه سيعزه الله بعز عزيز أو بذل ذليل.
وكذلك بين أنه ستفتح الأمصار؛ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون، فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون, فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح مصر فيأتي قوم يبسون فيخرجون بأهليهم ومن أطاعهم, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )، وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ستفتتحون مصر وهو أرض يذكر القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم نسباً وصهراً، فإذا رأيت الرجلين يقتتلان على موضع لبنة منها فاخرج )، قال: (فرأيت ربيعة بن شرحبيل بن حسنة يقاتل أخاه على موضع لبنة فخرجت فلم أرجع إلى بيتي).
فهذه النصوص التي سقناها هي نصوص صريحة من القرآن, ونصوص صحيحة من السنة تدل كلها على أن المستقبل لهذا الدين, وأن الله سيعزه ويعز أهله، وينصره وينشره، وقد نصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم, وتعهد له بالنصر؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:38-40].
وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا[الفتح:1-3]، وقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا[التوبة:25-26]، وقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ[آل عمران:123].
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله نصره بالنصر الباقي لأمته من بعده؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: أوتيت الشفاعة, وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ).
وأخرج أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرعب نصر لهذه الأمة )، وكذلك بين أن أصحابه ينصرون بعده, وأن التابعين ينصرون, وأن أتباعهم ينصرون كذلك؛ فإنه قال: ( أنا سكن لأصحابي، أنا أمن لأصحابي، وهم أمن لمن بعدهم ).
وأخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
وهذا النصر الذي وعده الله سبحانه ليس تابعاً للعدة ولا للعدد؛ فقد كان النصر يوم بدر وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة مقاتل, وليس لهم من السيوف إلا ثمانية, وليس لهم من الخيل إلا ثلاثة، ولهم مائة بعير، يتعاقب على كل بعير ثلاثة رجال، ونصرهم الله النصر المبين, وفتح لهم ذلك الفتح الذي له ما بعده.
وكذلك فإن الله نصره يوم الأحزاب حين جاءت قريش وأحابيشها وغطفان وكل من معها، وجاء اليهود فأحاطوا بالمدينة من كل جانب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في ألف وخمسمائة مقاتل، وقد ألهمه الله سبحانه وتعالى قضية الخندق؛ فخندق على المدينة, ولكنهم حاصروها في وقت الشدة وقلة الأرزاق والأزواد، ولكن الله نصرهم النصر المبين؛ فأنزل جنوداً من عنده, وأرسل الريح العقيم فهزمت المشركين؛ وقال تعالى: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[الأحزاب:25].
وقد أمتن الله بهذه المنة العظيمة على هذه الأمة؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا[الأحزاب:9-16].
وهذا النصر المبين الذي نصر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو نصر لدينه عز وجل؛ فهذا الدين هو الذي أنزله, وهو الذي أختار له من ينصره، وسينصرهم لا محالة؛ كما قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249].
وهذا النصر يقتضي أن تبقى هذه الأمة على الحق؛ لأن النصر لا يكون إلا بوسيلته وهي الحق، فمن كان من أهل الباطل يمكن أن يعلو شأنه في وقت من الأوقات، ولكن سرعان ما يضمحل ذلك؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وللباطل صولة فيضمحل.
بقاء طائفة على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم
ولذلك ضمن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين منصورين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وفي صحيح مسلم: ( وهم أهل الغرب )، وفي مسند البزار وغيره: ( قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: بالبيت المقدس، وأكناف بيت المقدس )، وهذا يدل على أنهم متفرقون في هذه الأمة، في كل مكان منها توجد طائفة منصورة باقية على الحق، التي ينصرها الله, ولا يضرها خذلان من خذلها، ولا كيد من كاد لها، بل ينصرها الله بالحق الذي ثبتها الله.
بعث الله على كل رأس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها
وكذلك من نصر هذا الدين: تجديده؛ فإن الله ضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، فأمر الدين يعروه القدم, فينسى الناس كثيراً من أموره، وينشأ كثير من البدع, ويترك في مقابلها كثير من السنن، فإذا حصل ذلك بعث الله تعالى من يجدد أمر الدين؛ فيرد البدع المضلة, ويحيي السنن, ويعلم الناس العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد, والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث, من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).
ولذلك ضمن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين منصورين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وفي صحيح مسلم: ( وهم أهل الغرب )، وفي مسند البزار وغيره: ( قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: بالبيت المقدس، وأكناف بيت المقدس )، وهذا يدل على أنهم متفرقون في هذه الأمة، في كل مكان منها توجد طائفة منصورة باقية على الحق، التي ينصرها الله, ولا يضرها خذلان من خذلها، ولا كيد من كاد لها، بل ينصرها الله بالحق الذي ثبتها الله.
وكذلك من نصر هذا الدين: تجديده؛ فإن الله ضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، فأمر الدين يعروه القدم, فينسى الناس كثيراً من أموره، وينشأ كثير من البدع, ويترك في مقابلها كثير من السنن، فإذا حصل ذلك بعث الله تعالى من يجدد أمر الدين؛ فيرد البدع المضلة, ويحيي السنن, ويعلم الناس العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد, والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث, من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).
ومن هنا يعلم أن مجالات النصر متعددة، وأن المستقبل له أوجه كثيرة.
المجال العلمي الثقافي
فمن مجالات النصر: المجال العلمي الثقافي، وهذه الأمة أبقى الله ثقافتها وعلمها معصومة بالقرآن؛ لأن ثقافتها مستنبطة من القرآن, ولأن علمها مرتبط به، وهذا القرآن معصوم؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وهو محفوظ بحفظ الله تعالى له؛ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وكل ما كان مرتبطاً به فهو محفوظ به، لا يمكن أن يستمر على باطل؛ لأن القرآن ينفي الخبث؛ فيرد كل ما خالفه مما هو باطل، وعلى هذا فثقافة هذه الأمة هي أقوى ثقافة الأمم، وعلمها هو أقوى علوم الأمم، وهو الباقي لبقاء القرآن؛ لأنه مستمر حتى يرفعه الله تعالى، منه بدأ وإليه يعود، ولذلك فما عرفت أمة قط أكثر علماء من هذه الأمة، ولا أكثر مثقفين من هذه الأمة، وسيبقى فيها ذلك إلا نهايتها.
وكذلك فإن علماء هذه الأمة لهم منزلة خاصة فيها؛ فقد استشهدهم الله على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكة؛ فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، وهم في هذه الأمة مثل أنبياء الله بني إسرائيل: ( إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، وأنه لا نبي بعدي )، وفي الحديث الآخر: ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )، والمقصود بذلك فيما يتعلق بتجديد الدين, وفي المستوى القيادي الذي يكونون فيه في هذه الأمة.
مجال النصر العسكري
كذلك من مجالات النصر: مجال النصر العسكري، وهذه الأمة كذلك منصورة بالجهاد في سبيل الله؛ فقد جعله الله ذروة سنام الإسلام، وجعل أجر المجاهد أكبر من أجر جميع ذوي الطاعات؛ فلا عبادة تعدل الجهاد في سبيل الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يعدل الجهاد من الطاعات فقال: ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مصلاك فتقوم ولا تنام, وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك! )، ولذلك كان في الجهاد من الأجور ما لا يمكن أن يخطر على بال؛ فمجرد انتظار العدو بالرباط في سبيل الله وعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل العظيم الذي لا يقدر؛ فبين أن المرابط لا يختم على عمله, وأنه يأمن الفتان, كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ومعنى (لا يختم على عمله) أي: أن ما كان يعمله من الطاعات من صلاة وصوم وحج وصدقة وغير ذلك؛ كتلاوة القرآن يكتب له كما لو كان حياً يفعله أبد الآبدين، لا يختم عليه، بينما من سوى المرابطين إذا مات أحدهم انقطع عمله؛ كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية )، والمرابط في سبيل الله لا ينقطع عمله؛ لأنه يبقى يكتب له كما لو كان يفعله، وكذلك فإنه يأمن الفتان؛ فلا يأتيه الفتان عند الموت، فكل الناس يأتيهم الفتان عند الموت، فيقول للمسلم: مت على دين اليهودية.. مت على دين النصرانية، وهذا الفتان هو الذي تستعيذون من شره -أي: من ضرره- في صلاتكم؛ فقد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد أن تستعيذوا بالله من أربع: ( من عذاب جهنم, وعذاب القبر, وفتنه المسيح الدجال، وفتنة المحيا والممات )، ففتنة المحيا: كل أهل الحديث يفسرونها بأنها الفتنة في آخر المحي عند الممات، وفتنة الممات هي سؤال الملكين في القبر.
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن رباط يوم أو ليلة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؛ فأن يرابط الإنسان يوماً وليلة في سبيل الله خير من مما لو ملك الدنيا بحذافيرها، وحيزت له بما فيها، هذا فيما يتعلق بالرباط، فضلاً عن الجهاد؛ لأنه بين أن الشهيد يغفر له عند أول قطرة تقطر من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين، وبين كذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الشهيد لا يموت، بل يجرى عليه رزقه، ويبشر بحال إخوانه والمجاهدين معه بعد موته، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ[آل عمران:169-171].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة, وتأكل من ثمارها )، وبين كذلك أن الشهداء يشفعون في ذويهم, فمنهم من يشفع في القبائل, فمنهم من يشفع في مثل تميم، ومنهم من يشفع في مثل ربيعة ومضر؛ كما أخرج ابن ماجه في السنن، وأحمد في مسنده وغيرهما.
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد؛ فالذي يكلم بكلم -أي: يجرح بجرح- يبعث يوم القيامة ينزف اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وتشهد له كلومه، وأخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كفى ببارقة السيوف شاهداً )، أي: كفى ببارقة السيوف فوق الرءوس شاهداً للإنسان على صدقه وإخلاصه لله سبحانه وتعالى.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن ( من صام يوماً في سبيل الله -أي: في الغزو- باعد الله به وجهه سبعين خريفاً عن نار جهنم )، وبين أن غبارين لا يجتمعان أبداً: غبار الخيل في الجهاد، ودخان نار جهنم، فلا يجتمعان في أنف مسلم أبداً، وهذا يقتضي حسن الخاتمة, وقبول العمل وإجزائه, وحصول أجره.
وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أجر النفقة في سبيل الله وقال: ( من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا، ومن جهز غازياً فقد غزا )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فضل الذين يغزون فيخفقون- أي: لا يغنمون- فقال: ( ما من سرية تخرج في سبيل الله فتغنم إلا عجل لها ثلثا أجرها، وما من سرية تخرج في سبيل الله فتخفق إلا أخذت أجرها كاملاً، ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقاتل فأقتل ثم أحيا فأقاتل فأقتل ).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل النفقة في سبيل الله؛ فالذي ينفق على نفسه أو على فرسه له أجر عظيم؛ فذكر أن فرس المجاهد إذا استنت في طولها -أي: في حبلها- فقطعت شوطاً أو شوطين، فأثارت غباراً أو مرت بنهر فشربت منه، فراثت كان كل ذلك في ميزان حسناته عند الله تعالى، وانظروا إلى هذا الأجر العظيم! فهي فرس جماد يعني: بهيمة، وعملها ليس بنية، ولكن مع ذلك مجرد قطعها لحبلها، أو مجرد عدوها في الصحراء والغبار الذي تثيره والماء الذي تشربه والروث التي تروثه، كل ذلك يوزن بالميزان القسط عند الله سبحانه وتعالى.
وهذا الجهاد باق إلى قيام الساعة مع كل بر ومع كل فاجر، لا ينقضه جور جائر ولا عدل عادل، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيبقى في هذه الأمة حتى تقاتل بقيتهم المسيح الدجال مع المسيح بن مريم عليه السلام، فما من عصر من العصور إلا وفيه طائفة مجاهدة قلت أو كثرت، ( ولابد أن يبقى ذلك مستمراً إلى أن ينزل المسيح بن مريم حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، كأنما خرج من ديماس يمنيه على ملك، وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تقاطر منه مثل الجمان، وإذا طأطأ رأسه تحدر، فلا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وأن نفسه يبلغ ما يبلغ بصره )، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أننا سنقاتل معه اليهود: ( فلتقتلنهم حتى يقول الشجر والحجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فقتله, إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: ( أن بقية هذه الأمة ستفتح روما، وأنها ستغزو مناطق شاسعة، تغزو قوماً نعالهم الشعر، وهم صلع الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة )، وبين كذلك: ( أن عصيبة من أمة يفتتحون البيت الأبيض )، كما في صحيح مسلم، عصيبة أي: جماعة قليلة من أمته يفتتحون البيت الأبيض، وفي رواية: ( بيت آل كسرى )، وقد قال بعض أهل العلم: هي مدرجة أي: زيادة على اللفظ النبوي، وبين كذلك أن هذه الأمة ستفتح المسجد الأقصى فتحاً آخر غير الفتح الأول، وهو عمارة المسجد؛ عمارة بيت المقدس عند خراب المدينة، وهذا المستقبل مجزوم به؛ لأن الأحاديث صحت به؛ فلا يمكن التشكيك فيه أبداً.
مجال النصر السياسي
ثم من أنواع النصر كذلك النصر السياسي؛ فهذه الأمة منصورة كذلك, لا يكيد لها كائد إلا غلبته وانتصرت عليه، فسينصرها الله سبحانه وتعالى على كل من خالفها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يكيد كائد لأهل المدينة إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء )، وهذا النصر السياسي يقتضي التمكين لهذه الأمة, وأن تبقى دولتها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خمس مراحل لدولة هذه الأمة في الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت ).
وستأتي هذه الخلافة لا محالة, وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث جابر بن سمرة بن جندب رضي عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، فسألت أبي وكان بيني وبينه، فقلت: ماذا قال؟ فقال: قال: كلهم من قريش )، فهذا النصر السياسي سيأتي لا محالة، وهو مستمر كذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله لهذه الأمة ألا يسلط عليها السنة أي: القحط المجحف الذي يقضي على ثروتها، فاستجاب الله له ذلك؛ فلا يأتيها قحط شامل يشملها جميعاً، وسأله ألا يسلط عليهم عدواً من سواهم فيستأصل شأفتهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط بعضهم على بعض فمنعه ذلك، فإذاً سيكون النصر السياسي لهذه الأمة من خارجها، ولكن مع ذلك سيقع بأسها في ما بينها، وهذا بلاؤها.
مجال النصر الاقتصادي
كذلك من أوجه النصر: النصر الاقتصادي، وهذه الأمة منصورة نصراً اقتصادياً كبيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكني أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا أبوابها فتنافسوها كما تنافسها الأمم من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتكم )، وكذلك بين صلى الله عليه وسلم خطر ما سيفتح من أبواب الحياة الدنيا وزهوها وزخارفها على هذه الأمة، فقال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا؛ فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتددت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منا الفقير والمسكين وابن السبيل ).
مجال النصر الدعوي
وكذلك من أوجه النصر: النصر الدعوي، وهو أبلغ أوجه النصر بالنسبة لهذه الأمة؛ لأن الزيادة إنما تكون من أهل الكفر ومن أعداء الدين، فتزداد منهم هذه الأمة بإسلام الكفار، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وكذلك بالتزام الفساق ورجوعهم إلى الله تعالى؛ فقد سمى الله ذلك نصراً, فقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد شاهدنا أوجه النصر جميعاً في تاريخنا في هذه الأمة؛ فنحن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أخرج من مكة ثاني اثنين، وقد تألب عليه أهل الأرض فنصره الله عليهم جميعاً، وأظهره عليهم ومكنه من رقابهم، وتعرفون أن الله فتح له مكة, وفتح له جزيرة العرب جميعاً حتى خرج إلى الروم في غزوة تبوك، وقال لــمعاذ: ( لئن بقيت لترين ما هاهنا قد ملئ جناناً ) فرأى معاذ تبوك قد ملئت جنان بعد ذلك؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإن خلفائه من بعده نصرهم الله هذه النصر المبين؛ ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر، وأنفقت في سبيل الله, كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد هذا نصرت الأمة نصراً مبيناً في كل العصور بحسب رجوعها إلى الله, وأخذها بالجهاد في سبيله, وبالدعوة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبالعلم الذي جاء به؛ فما حصل ذلك قط إلا رأى الناس النتيجة بارزة واضحة في النصر المبين والتمكين، انظروا إلى الحال في أيام عمر بن عبد العزيز الذي وجد فيه كثير من الجور والحيف، وقد مكن الله له في الأرض، ونصرت به هذه الأمة نصراً عظيماً، حتى كان الذئب يطرد الشاة ثم يتركها لحصول الأمن العام بعدل الراعي واستقامة أمور الرعية، وكذلك في أيام المهدي العباسي كما قال فيه أحد الشعراء:
تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف ولا لهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس
وكذلك في مختلف العصور، وإذا شاهدنا أو راجعنا العصر الذي نحن فيه؛ فإن كل إنسان منا يتذكر أيام خلت، وأوقات مضت كان فيها التراجع الذي يشهده هو ويلاحظه؛ فلم تكن المساجد تمتلئ، ولم يكن عددها كبيراً، ولم يكن الالتزام سائداً بين الشباب والشابات، وقد شهد كثير من العقلاء في هذا العصر أن الصحوة الإسلامية في عصرنا هذا لم يمضي لها منذ سبعة قرون على الأقل؛ في القرون السبعة الماضية لم يحصل فيها من الإقبال على الله مثل ما حصل في وقتنا هذا، وقد حدثني أحد الشيوخ أنه قبل أربعين سنة كان يمر على الإمام عبد الله الخليفي إمام الحرم المكي، وهو يصلي صلاة القيام الثانية في العشر الأواخر من رمضان، وليس معه إلا ستة وأربعون رجلاً، يعدهم عداً، ويقول الآن: صلاة القيام الثانية تمتلئ فيها فجاج مكة جميعاً والطرق المحيطة بالحرم، فيصلي الملايين من الشباب والشابات الذي أتوا من مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها، وهذا إقبال على الدين منقطع النظير، وكذلك الحال بالنسبة للبلدان الأخرى؛ فأنتم تشهدون هنا هذه المدينة التي أنتم فيها، وهي مثال فقط من مدن العالم، لنتذكرها قبل عشرين سنة مثلاً أو قبل ثلاثين سنة كم كان فيها من المساجد؟ وكيف كان حجمها؟ وكم كان يشهد الصلاة فيها؟ وليتذكر كل إنسان منا من أقاربه وقبيلته كم كان عدد الملتزمين من الشباب والشابات؟ وكم وصلوا إليه الآن؟ وما تأثيرهم وحالهم؟ فسيجد البون شاسعاً ولله الحمد.
وكذلك بالنسبة للوعي العام بأمر الدين؛ فإن كثيراً من الناس أصبح الدين محل اهتمام لهم الآن، فإذا عرض أي أمر بدأوا يسألون عنه، ونحن نعلم أننا أدركنا من آثار العلمانية في عصرنا الحديث أن كثيراً من الأجيال التي سبقتنا والمعاصرة لنا انكسرت لديها حلقة بين الحلال والحرام؛ فأصبح الحلال والحرام عندها دائرة واحدة، لا تميز بين الحلال والحرام، فيما يتعلق بالمصالح كل ما فيه مصلحة يأخذه الإنسان، لا يبالي هل هو من حلال أو من حرام، أما اليوم فأعداد التائبين كثيرة جداً، وقد عرفنا كثيراً من الجيل الذي هو أسن منا والمعاصر لنا قد قضوا صلاة عدد من السنوات، منهم من قضى ثلاثين سنة, ومنهم من قضى صلاة ثماني عشرة سنة، ومنهم من خرج من الملايين التي جمعها من الربا أو مما يشك فيه، ومنهم من قضى صيام ثماني عشر سنة، ونحو ذلك، ونشاهد التوبة يومياً في مختلف شرائح المجتمع، وفي العالم كله لا تزال تسمع توبة الفنان والفنانة، والمخرج السينمائي والممثل، وغيرهم، كل يوم يتوب عدد من الناس إلى الله سبحانه وتعالى وينيبون، وكذلك نشاهد توبة كثير من الذين كانت بيئتهم من أفسد البيئات؛ فأنا أعرف عدداً من الشباب في الجزائر مثلاً بيئتهم فاسدة؛ فالآباء والأمهات قطعاً لا يرشدونهم إلى خير ولا إلى دين، ولكن الله أخرجهم من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً لشاربين، فهداهم الله واستقاموا والتزموا؛ فكانوا خير من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك في كثير من البلدان، وانظروا إلى الصحوة الحاصلة في تونس رغم التجهيل وتجفيف المنابع؛ فإقبال الناس الآن كبير جداً، ومن أغرب ذلك أقبالهم على القنوات الفضائية، والبرامج الدينية سجلت أكبر معدل يستمع إليه الناس وينظرون إليه، وإقبال الناس على حلقات الإفتاء، وكثرة سؤالهم عن أمر الدين، كل ذلك يدل على الاهتمام الكبير لديهم بأمر الإسلام، ومجرد نظرة عجلى لأية محاضره ستجدون في آخرها كماً كبيراً لا يستطيع المحاضر أن يجيب على ثلثه من الأسئلة التي كلها اهتمام بأمر الدين، وهذا لا شك نصرة عظيمة لهذا الدين.
وكذلك الانتصار السياسي؛ فأنتم تعرفون أن هذا الدين يشكو كثيراً من المضايقة في بلاده من طرف أولاد المسلمين الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم أصيبوا بالجبن والخور أمام أعداء الإسلام، فأعداء الإسلام هم الذين وصلوهم إلى المناصب ومكنوهم من زمام الأمور، ورسموا لهم السياسات؛ فهم يخافون أن يفقدوا مصالحهم إذا ساءت علاقتهم بأعداء الدين، ولذلك تجاوزوا أعداء الدين، فانظروا إلى الفرق بين حال المسلمين في فرنسا وأمريكا وغيرها، وحالهم في بعض البلدان الإسلامية تجدون بوناً شاسعاً؛ فالحريات التي ينالونها في فرنسا وأمريكا لا يحلم بها المسلمون في بعض البلدان الإسلامية مع الأسف، وأذكر كلمة قالها جاك شيراك في مؤتمر عقده المسلمون في مدينة باريس، وكنا نصلي خلف إمام واحد ونحن مائة ألف وزيادة, ويقومون الليل جماعة واحدة، فحضر شيراك افتتاح المؤتمر فقال: أنا فخور بعقد هذا المؤتمر في فرنسا، وفي باريس بالخصوص، حيث لا تستطيعون عقده في أية مدينة عربية أو إسلامية! مع ذلك كل ما أتيحت الفرصة ترون إقبال الناس على البحث عمن هو ملتزم، وكلما رفعت لافتة الإسلام ولو كانت مشوبة بدخن صوت الناس لها جميعاً بكثافة، ولو كانت مشوبة بدخن، انظروا إلى الحال في تركيا! الاكتساح الكبير الذي يكتسحه الإسلاميون لأصوات الناخبين، وكذلك في كل البلدان الأخرى كلما أتيحت فرصة نجد إقبالاً كثيراً, مع أن كثيراً من الناس قد تربوا على طلب مصالحهم وعلى رغبتهم بالدنيا، وعلى خراب الذمم وبيعها، لكن مع ذلك بقيت بقية صالحة وهي في ازدياد مطرد، والمكاسب في كل عام أكثر من المكاسب في العام الذي قبله مما يدل على أن المستقبل لدين لا محالة.
مجال النصر في تفهم العالم للإسلام والمسلمين
وكذلك التفهم الذي العالم كله يتفهمه للإسلام والمسلمين؛ فيأتيني كثير من الشباب الذين يعملون في السفن في بلاد الغرب، وقد كان معي قبل ليلتين أحدهم يحدثني أن النصارى الذين معه في السفينة، وهم في عمق البحر لا يمكن أن يسألوه, ولا أن يسألوا أحداً من المسلمين أن يساعد في حمل الخمر ولا في إنزاله، يقولون: هذا مسلم، فهذا التفهم السائد أمره عجيب جداً، كنا قبل سنوات عدة في مؤتمر, وكانت ستحضره امرأة غير متحجبة ولا متسترة، وزعمت أنها متخصصة في علوم الشريعة؛ فحاول بعض العلماء إقناعها بذلك عند طريق الفقه فلم تقتنع، فأعطوني إياها بالهاتف، فقلت: إن أهل كل بلد يشترطون شروطاً في تأشيرات الدخول، ولا يعترض أحد على ذلك, وأهل هذا المؤتمر يشترطون لتأشيرة الدخول للمشاركة فيه تغطية الرأس، وتغطية الشعر والعنق -الرقبة- فقالت: نعم، هذا الوجه الصحيح، أنا الآن مقتنعة وسأغطي رأسي، ورقبتي وشعري، ليس عن قناعة بالحجاب، ولكن عن قناعة بأن كل قوم لهم الحق أن يشترطوا شروطاً في تأشيرات دخولهم، لكن الآن أصبح التفهم سائداً؛ فكثير من الذين يلتزمون بالدين لا يغضب أحد من عدم مصافحتهم للنساء، ولا يغضب أحد من عدم دخولهم في الأماكن التي هي محظورة على المسلمين، بل يتفهم الناس أنهم التزموا بدين محترم، حتى في الجيش الأمريكي قبل سنوات صدر قرار باعتبار المصحف الشريف قطعة سلاح للجيش الأمريكي، ما معنى هذا القرار؟ معناه: أن المصحف تمنع إهانته في الجيش الأمريكي، وكل من أهانه يعتبر أهان قطعة سلاح؛ فأهان شعار الدولة؛ فيفصل مباشرة من الجيش، والجيش الأمريكي ينفق الآن على عدد من الأئمة ليس عن رغبة ولا عن طواعية، وإنما لأن الجنود كثير منهم مسلمون, ويطالبون بأن يكون لهم أئمة يعلمونهم أمر دينهم، وقد ذكر كثير من المسلمين الذين يأتون من بلاد شتى, وقد كان عدد منهم معنا قبل أسبوعين في مؤتمر الندوة العالمية لشباب الإسلامي في القاهرة، وجاء عدد كبير من ممثلي المسلمين في مائة واثنين وخمسين دولة، وحدثوا أن أعداد الملتزمين بالدين دائماً في ازدياد، وأن المسلمين الجدد تتحسن نوعياتهم؛ فهم أطباء ومهندسون وموظفون كبار، وهم من ذوي المنازل العالية والمراتب الرفيعة، وقد قال أحد المعلقين: إن مجرد عقد هذا المؤتمر في القاهرة، وحضور عدد كبير من العلماء والدعاة من مختلف الأقطار، وحضور هذا العدد الكبير, حشد بشري كبير جداً فيه أكثر من سبعمائة ممثل لجمعيات إسلامية أو لجامعات أو مؤسسات علمية من مختلف أنحاء العالم، اجتمعوا في القاهرة في هذا الوقت يدل كذلك على انتصار هذا الدين وانتشاره.
وكذلك ما نشهده أيضاً من تفهم كثير من الحكومات الإسلامية الآن لهذا الدين والالتزام به؛ فمثلاً: جيراننا هنا دولة المغرب ملكها وحكومتها يتفهمون دور الإسلاميين, وأنهم يستحقون أن يكون لهم دور في الحفاظ على المغرب، والحفاظ على الدين, والحفاظ على الدولة، والآن في البرلمان المغربي سبعة وأربعون نائباً إسلامياً، وفي البرلمان الجزائري كذلك قريب من تسعين برلمانياً إسلامياً من أربعة أحزاب، وقد فاز الإسلاميون قبل أمس بالانتخابات كذلك في البحرين؛ فهذه البلدان أصبحت تتفهم أن الطرح الإسلامي مقبول, وأنه ليس إرهاباً ولا تطرفاً، وأنه يمكن التعامل معه ككل الأطروحات الأخرى على الأقل؛ فكل هذا يدل على مصداق هذه النصوص التي جلبناها، وأن الله سينصر هذا الدين لا محالة.
هذه أمور نحن لا نشك فيها, ونعلم أنها الحق، ولكن مما تطمئن له القلوب أن ترى الشواهد في الواقع والحس، فبمجرد المقارنة والعملية الحسابية البسيطة يرى الإنسان آثار ذلك واضحة بارزة، وبرؤيتنا لهذا نزداد إيماناً ويقيناً بما أخبرنا الله به في كتابه، وما أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وزيادة اليقين مطلوبة في الإيمان؛ لأن إبراهيم عليه السلام قال: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، كما حكى الله عنه في كتابه.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
بشائر النصر | 4291 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3948 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |