الدعوة إلى الله والتحديات المعاصرة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى أراد بحكمته البالغة استمرار الصراع بين الحق والباطل في هذه الدار التي هي الدار الدنيا، وبدأ ذلك من إهباط آدم وحواء وإبليس إلى هذه الأرض، فقد أراد الله بحكمته البالغة أن يبقى على هذه الأرض حزبان هما: حزب الله، وحزب الشيطان، وأن تكون هذه الدار مسرحاً للصراع بينهما، ولن يقضي أحدهما على الآخر فيها، بل مصلحة الدنيا في بقاء تدافعهما؛ فكل واحد منهما يدفع الآخر ما استطاع، ويعين الله سبحانه وتعالى أولياءه وحزبه فتكون العاقبة لهم، ولكن لا يمكن أن يقضى على الباطل بالكلية على هذه الأرض، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].

ووجه ذلك: أنه لو تمحض الحق على الأرض فلم يبق للباطل وجود لاستحق أهل الأرض أن ينتقلوا إلى الجنة، فهذه الدار دار الكدر والأذى، ومن نجح في الامتحان يستحق الجزاء، والجزاء جنات النعيم، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق وجود لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته، وقد ورد في الحديث: ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله )، وذلك حين لا يبقى على الأرض من يقول: الله، فأراد الله بقاء هذا الصراع.

ولو شاء ما خلق إبليس، ولا خلق الضلال، ولكنه ذو الحكمة البالغة، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد قال في محكم التنزيل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

ولو شاء لانتقم من أعدائه في طرفة عين، فما أهون الأرض وأهلها على الله إذا عصوه، فريشة واحدة من أجنحة جبريل عليه السلام تقضي على الأرض وأهلها، ولله جنود لا يمكن أن نستحضرها، فكثير من جنود الله لا يعلمها إلا هو جل جلاله، كما قال: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور -وفي رواية: حجابه النار- لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه ).

وقد قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وبهذا يعلم أن هذه الحياة هي مدة امتحان فقط، وقد بدأت الأقلام تعمل، والملائكة يكتبون أعمال العباد فيها، والنتائج تعلن عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، فهذه الدار دار امتحان، كما قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

وقد ابتلى الله الآخرين بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقام الحجة، وأنار به المحجة، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فما من خير إلا دلنا عليه، وما من شر إلا حذرنا منه، وقد قام أصحابه رضوان الله عليهم بنقل ما جاء به من هذا الدين، وحملوه إلى التابعين، ثم حمله التابعون بجدارة وإحسان إلى من وراءهم، حتى وصل إلينا نقياً كما أنزل، فنحن نشهد أن القرآن كما أنزل، وأن الدين كما شرع، وأن الله هو الحي القيوم، فبذلك كان لابد لكل إنسان أن يعرف من أي هذين الحزبين هو، هل هو من حزب الله أو من حزب الشيطان؟ فإن كان راضياً أن يكون من حزب الشيطان فليعلم أن له متاعاً قليلاً في هذه الدار لن ينال منه إلا ما كتب له، ثم بعد ذلك العذاب المقيم الذي لا انقطاع فيه ولا زوال في الدار الآخرة، وهذا الحزب الذي اختار الانتساب إليه محكوم عليه بالخسران: إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19]، والخسران مناف للربح بالكلية، فمعناه: أن صاحبه فاشل في الامتحان الدنيوي، خاسر في الجزاء يوم القيامة.

وإن اختار أن يكون من حزب الله فليعلم أن لذلك تبعات كثيرة، فحزب الله لا ينال الانتساب إليه بمجرد الجنسية، ولا بالاسم، ولا بالنسب، وإنما ينال الانتساب إليه بالعمل، فمن أراد أن يكون من حزب الله، فليعمل بعمل حزب الله، وكل من عمل بعمل حزب الله التحق بهذا الحزب وكان منه، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:54-56].

وعمل هذا الحزب مناف لحزب الشيطان، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وإذا عرف الإنسان أنه من حزب الله، واختار هذا الطريق، فليتذكر ما عليه من التبعات، فأول تبعة تواجهه، وأول تحد يلقاه هو أنه وقع على صفقة وبيعة مؤكدة مع الرب جل جلاله الغني الحميد، الذي ليس محتاجاً إلى أحد من خلقه، لو شاء ما خلق آدم ولا من دونه، ولا يحتاج إلى العرش، ولا إلى حملته، ولا إلى أحد من خلقه جل جلاله، وقد وقعنا معه عهداً أكده في التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا العهد لا يستطيع أحد منكم الآن أن يقول: أنا لست داخلاً فيه، أو أن يقول: أريد الاستقالة منه، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

لكن الله أخبر أن الناس في سبيل هذه البيعة انقسموا إلى قسمين: صادقين, ومنافقين، فالصادقون هم الذين وفوا لله بما بايعوه عليه، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24], وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].

فلابد إذاً يا أخي! إذا كنت تعلم أنك من حزب الله، وقد وقعت على اتفاقية مع الله جل جلاله أن يأخذ الوفاء بهذه الاتفاقية حيزاً من وقتك وتفكيرك، فأي واحد منكم إذا كان صاحب دين وأمانة ومروءة إذا أخذ ديناً أحسن به عليه إنسان وساعده به، فلابد أن يفكر في سداد هذا الدين إذا حان أجله، يقتضي ذلك الدين، وتقتضيه الأمانة والمروءة، فكيف يا أخي! يكون بينك وبين الله دين ببيعة مؤكدة، ولا تفكر في الوفاء به أبداً، فتعيش ما أنعم الله به عليك من العمر، ولم يخطر ببالك أن عليك ديناً لله جل جلاله وهو الغني الحميد، ولا تسعى لقضاء هذا الدين ولا أدائه، ولا تفكر فيه أي تفكير، أهذا ممكن؟! هذا لا يمكن أن يقع من عاقل شريف؛ لأن العاقل الشريف إذا وعد وعداً -مجرد الوعد فقط- أو أمل منه أمل ولو لم يعد به، فمن المناسب جداً أن يبالغ في الوفاء به، وأن يؤديه على أحسن الوجوه، فكيف بما التزمه، ووقع عليه، وعاهد عليه.

ثم بعد ذلك لا شك أن من التحديات الجسام التي تواجه حزب الله في طريق الحق: ما يعرض من الشهوات, فهي من جنود إبليس، وهذه الشهوات تنقسم إلى قسمين: شهوات مادية، وشهوات معنوية، فالشهوات المادية مثل: شهوتي البطن, والفرج، والشهوات المعنوية مثل: حب الرئاسة والظهور، وحب الانتقام، ونحو ذلك، فهذه الشهوات جند من جنود إبليس، وهي تحد يواجه السائر في طريق الجنة، والسالك لطريق الحق، ولابد أن يدرك الإنسان أن الجنة محفوفة بالمكاره، وأن النار محفوفة بالشهوات، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقد صح عنه كذلك: ( أن الله عز وجل لما خلق الجنة، وبارك فيها، أرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم خلق النار، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد، ثم أمر بالنار فحجبت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد ).

لذلك لابد أن يحرص المؤمن السالك لطريق الحق على الاستقامة، والحذر من هذه الشهوات، وأن يعلم أن من نهى نفسه عن هواها فقد سما بها وارتفع إلى عداد الملائكة الكرام؛ لأن الإنسان بين عنصرين: عنصر أسمى منه وهو الملائكة، وعنصر أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، فالملائكة كلفهم الله بالتكاليف، ولم يمتحنهم بالشهوات، والحيوان لم يكلفه الله بالتكاليف، وسلط عليه الشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين وبين الأمرين، فهو مكلف بالتكاليف، ممتحن بالشهوات، فإذا هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهم الملائكة، وإذا هو ضيع التكاليف وتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو البهائم، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فلذلك يحتاج الإنسان إلى الحذر كل الحذر من هذه الشهوات.

ثم بعد ذلك عنصر آخر من جنود إبليس وهو تحد واضح في وجه حزب الله، وهو: الشبهات، وهذه الشبهات أنواع كثيرة، ومن حكمة الله فيها أن يصرف بها الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، فالله خلق للجنة أهلها، وخلق للنار أهلها، كما قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]، أي: خلقهم لرحمته، وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، فأولئك خلقوا للجنة، وأولئك خلقوا للنار، ولما مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان بيده الشريفة أخرج منه ذرية، فقال آدم: (أي رب من هؤلاء؟ قال: خلقاً من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى)، قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، لم يبق أحد منهم إلا قالها.

ثم بعد ذلك حبست الأرواح في سماء الدنيا، وهي عند آدم الآن، كما ثبت في حديث المعراج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به إلى سماء الدنيا، رأى آدم فإذا عن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، أي: نسمات بني آدم، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم)، وهم محبوسون في سماء الدنيا، تنزل الأرواح عندما يبلغ الجنين أربعة أشهر ببطن أمه، تنزل إليه روحه من تلك الأرواح في السماء، وقد ميزت هل هي شقية أو سعيدة؟ فتنفخ فيه، وكل على سابق قدر الله سبحانه وتعالى سائر، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103].

ثم بعد ذلك لله تعالى حكم في صرف الناس عن طريق الاستقامة، فمن هذه الحكم: أنه لو سار الناس جميعاً على ما خلقوا من أجله، ونجحوا جميعاً في الامتحان، لم يكن للنار أهل، وقد تعهد الله للنار بملئها فقال: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، وهذا تعهد رباني لا يخلف، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].

وكذلك فإن من حكمة الله تعالى في هذه الشبهات: أنها -أيضاً- امتحان ليبين به تفاضل الناس وتفاوتهم، والله أعلم بمآلاتهم وما هم صائرون إليه، ألا إلى الله تصير الأمور.

وكذلك من فوائد هذه الشبهات ومن حكمها: أنها سبب لرفع درجات أقوام اختارهم الله سبحانه وتعالى للدرجات العلى، ولم يبلغوا ذلك بأعمالهم، فمرت بهم هذه الشبهات فأنقذهم الله منها، وثبتهم يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، وهذه الشبهات هي صرف عن هذا الطريق، كما قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

وهذه الشبهات منها ما يتعلق بجانب الله جل جلاله؛ فبعض الناس تقع عليه الشبهة في مجال العقائد، فيبتلى في هذا الباب، وبعضهم تقع عليه الشبهة في مجال العبادات، فيبتلى بالوساوس، وبعضهم تقع عليه الشبهة في مجال المعاملات؛ فيستبيح بالحيل ما حرم الله عليه، وكل ذلك من باب الشبهات في التعامل مع الله. ثم كذلك من هذه الشبهات ما يكون في التعامل مع الناس.

ومن الشبهات في ذلك: ما يتعلق بالغلو والإفراط، وهذه شبهة باقية في البشرية إلى يوم القيامة، فالإفراط هو: تجاوز الحد، والمبالغة في القصد، والإسراع بأقوى مما يقدر عليه الإنسان، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو، فقد أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر, ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة )، وكذلك قال: ( إن الدين يسر, فأوغلوا فيه برفق )، وقال: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )، وقال: ( إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ).

الغلو في العقائد

وهذا الغلو يشمل: الغلو في العقائد، ومن هذا الباب ما حصل من الشبهات في تاريخ الأمة، فهو إما غلو في التنزيه، كما حصل للمعتزلة الذين أنكروا صفات الله، وعطلوا كل ذلك غلواً في التنزيه؛ لأنهم يرون أن القديم لا يمكن أن يتعدد مطلقاً، فغلوا في التنزيه حتى ضلوا في الاعتقاد، وكذلك القدرية الذين نفوا القدر غلوا كذلك في التنزيه عن الظلم حتى أوصلوا الإنسان إلى أن يكون خالقاً لأفعاله, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذلك من الغلو في التنزيه أيضاً: القول بخلق القرآن, ونحو ذلك من الشبهات العقدية الخطيرة التي شاعت في تاريخ هذه الأمة، كلها من الغلو في التنزيه؛ لأنهم أرادوا أن ينزهوا الله عما لا يليق به فغلوا, فنزهوه عن بعض ما لا يليق به.

وفي مقابل ذلك أيضاً الغلو في الإثبات، فما حصل من شبهة التجسيم، وإثبات ما لا يليق بالله جل جلاله، كلها غلو في الإثبات، فلما رأوا النصوص مصرحة بصفات الله جل جلاله، وهي الصفات الكمال في حقه، ولا تشبه صفات المخلوقين بالغوا في الإثبات حتى أثبتوها على نحو ما يعرفونه في المخلوقين، فكان هذا ضلالاً كبيراً؛ لأن فيه تجسيماً وتشبيهاً لله بخلقه، وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

الغلو في العبادة

وكذلك من هذا القبيل -أي: من قبيل الغلو- ما يتعلق بالغلو في العبادة، فما يحصل من بعض الناس من الانقطاع عن الدنيا بالكلية والرهبانية في الإسلام هو من الغلو في العبادة الذي لم يشرع، وقد ( جاء قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أهل بيته عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: أنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، فإني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الغلو والمبالغة في العبادة, حتى في الإنفاق والصدقة؛ فقد بالغ ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتصدق بكل جذاذ نخله، ولم يترك لأهل بيته نفقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقد قال كثير من المفسرين: كان ذلك سبب نزول قول الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فإذا كان هذا السرف في العبادة، فما بالكم في السرف فيما دون ذلك؟!

الغلو في استحلال الحلال

كذلك الغلو في استحلال الحلال؛ فإن كثيراً من الناس يبالغ فيه حتى لا يبقى أي حلال إلا أخذ به، وحينئذ يوشك أن يصل إلى الشبهة أو الحرام؛ لأن لذلك حداً إذا وصل إليه الإنسان من اتباع النفس هواها فلابد أن يصل إلى المحرم، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أنه يمكن أن يترك بعض الحلال، فأنبياء الله وهم خيرة الله من خلقه كانوا أهل تزهد، وتقلل من هذه الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة الصالحة- خُير بين أن يكون نبياً ملكاً، أو أن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يمضي عليه ثلاثة أشهر بأهلتها لا توقد نار في بيوته، وكان ينام على حصير فيبقى أثر عيدانه في جنبه، وكان يقول عن نفسه: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ).

الغلو في استعمال طاقات الإنسان البدنية

وكذلك من هذا القبيل: الغلو في استعمال طاقات الإنسان البدنية، فالغلو في كثرة الكلام هو من الغلو غير المحمود، ولذلك عقد مالك في الموطأ باباً لما يكره من الكلام، أي: ما كرهه السلف من كثرة الكلام، وقال فيه مالك: أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وقد ترك رحمه الله الحديث عن بعض الشيوخ من التابعين، فسئل: لم تركت الحديث عنهم؟ فقال: رأيته يتكلم كلام الجمعة في اليوم، أي: يتكلم كلاماً كثيراً، ومن أكثر الكلام لا يمكن أن يوثق بضبطه؛ لأنه كل من كثر لغطه كثر سقطه، فيقع منه الخطأ في كثير من الأمور، فلذلك اجتنب مالك الرواية عنهم، وقد حدث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أصحابه من السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنهم كانوا يكثرون الصمت والفكر، فهم يفكرون كثيراً، ولذلك فقد قال العلامة ابن متالي رحمه الله:

وليك أكثر ما تسمعه أكثر من ما أنت قائل له تكن فطن

لذلك لا ازدواج للسان وازدوج العينان والأذنان

فمن حكمة الله: أن جعل للإنسان أذنين وعينين، وجعل له لساناً واحداً، فهذا يدل أنه يمكن أن يتلقى كثيراً عن طريق السمع، وكثيراً عن طريق البصر، ولكن ينبغي أن يخرج عن طريق اللسان اليسير فقط، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وتحفظ أحسن ما كتبت، وتحدث بأحسن ما حفظت، فيقع الانتقاء في مراحل، حتى يقل عمل اللسان فيها، واللسان مشكلته أنه سلطان الجوارح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من يوم إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإننا بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ).

والإسراف في الكلام يدل على نقص في العقل، وكذلك الإسراف في عمل الجوارح الأخرى، كالنظر ونحوه، فعلى الإنسان أن يقتصد فيه، فلابد أن يغض بعض بصره، ولنتذكر وصية لقمان لابنه، وفيها من الحكم في التعامل مع الله، وفي التعامل مع الناس الشيء الكثير، وقد ارتضاها الله حين أثبتها في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فبدأ أولاً بعمل القلب، ثم بعد ذلك قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، فأتى بعمل الجوارح، ثم خلص إلى اللسان بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، دعا إلى عمل القلب، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19]، فخلص إلى الأخلاق، واستغلال هذه الطاقات التي جعل الله للبدن.

الغلو في التعامل مع الناس

كذلك من الغلو: الغلو في التعامل مع الناس، وهو بالمبالغة في التقدير، حتى يصل به الإنسان إلى حيز التقديس، فكل من دون الأنبياء غير معصومين، يؤخذ من قولهم ويرد، وكل من ادعى عصمة لغير نبي فقد غلا فيه، وبالغ حتى تجاوز به حده، فـأبو بكر الصديق ومن دونه من هذه الأمة جميعاً غير معصومين، فلا معصوم في هذه الأمة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من دونه يؤخذ من أقوالهم ويرد عليهم، كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر.

وليس في الرد لقول بعض الناس تنقصاً لهم، ولا عدم إنزال لهم منازلهم، فأهل العلم من أهل السنة خالفوا كثيراً من الصحابة في مسائل كثيرة، فخالفوا عثمان رضي الله عنه في بعض اجتهاداته، وخالفوا عمر في بعض اجتهاداته، وخالفوا علياً في بعض اجتهاداته، وخالفوا زيد بن ثابت في بعض اجتهاداته، وخالفوا ابن عباس في بعض اجتهاداته، حتى قال المنصور لـمالك: اكتب لي كتاباً تجنبني فيه شواذ ابن مسعود، وتشديدات ابن عمر، ورخص ابن عباس، ولا يقصد هو الطعن في هؤلاء الصحابة الفضلاء رضوان الله عليهم، فهم يجب الإيمان بأنهم من أهل الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.

فـابن مسعود شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين، وكذلك ابن عمر، وكذلك ابن عباس شهد له ودعا له، فكل هؤلاء من أهل الجنة، وكلهم من أئمة الهدى، ولكن أراد أن يعلمنا ألا نغلو في الناس، وأن نعلم أنهم جميعاً يؤخذ من أقوالهم ويرد، فما عرفت دليله وترجح لديك من أقوالهم فقل به، وما لم تعرف دليله، أو لم ترجح لديك فدعه، فلست مكلفاً بأخذ قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن تسأل في قبرك عن غير النبي صلى الله عليه وسلم من الناس.

ثم بعد هذا الغلو في البشر يقتضي من الإنسان الاستلاخ من شخصيته وحياته، فالإنسان لا ينبغي أن يكون مقلداً تقليداً أعمى؛ لأن ذلك خطر عليه عندما يسأل في قبره، فأنتم تعرفون أن المنافقين أو المرتابين في قبورهم إذا سئلوا كل واحد منهم يقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فعلى الإنسان ألا يكون هكذا إمعة يسمع الناس يقولون شيئاً فقاله، بل عليه أن يتثبت، وأن يتبين، وأن يأخذ بالبرهان والدليل، كما قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] .

كذلك من الغلو في الأشخاص: ما يتعلق بالمبالغة في إعطائهم حقوقاً هي أكثر مما لهم، فكثير من الناس -وبالأخص في العصور المتأخرة- يرى أهل الدنيا من السلاطين، والحكام والوجهاء، والتجار وغيرهم، فيبالغ في التقرب إليهم رجاء وطمعاً في بعض ما في أيديهم، أو خوفاً من بأسهم، فيصفهم بما ليسوا أهلاً له، وهم يعلمون أنه مبطل في قوله، وكاذب فيما يقول، فيثني الإنسان بما يعلم بطلانه، ويعلم المخاطب به أيضاً بطلانه وكذبه، وهذا النوع هو من النفاق البين، ولذلك فإن أهل مصر يقولون: إن بعض الناس ملك أشد من الملك، أي: كانوا ملكيين أكثر من الملك، فلذلك يدعون لملكهم ما ليس له، وما لا يدعيه هو لنفسه، فيزعمون له أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يدع ذلك، ويزعمون أنه إمام مبايع، وهو قال: إنما أتيت بانقلاب عسكري، أو أتيت بانتخابات، أو أتيت بأية وسيلة أخرى، وشتان بين الأمرين وهذا القياس، ومنه قياس الخمر باللبن، وأحكامها متفاوتة متباينة.

فهذا النوع هو من السرف والغلو الذي لا ينبغي، وعلى الإنسان أن يقصد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه أهل اليمن فأثنوا عليه وبالغوا، قال: ( قولوا مثل قولكم أو أقل من قولكم، فإنما أنا عبد الله ورسوله )، وكان يقول: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم )، وهذا الإطراء والمبالغة في المدح سبب للتجبر والتكبر، ففرعون إنما تجبر حين استخف قومه فأطاعوه.

وكذلك هذا الإسراف في الناس والغلو فيهم هو الذي يقتضي كثيراً من المظاهر الشركية بالناس أحياء وأمواتًا، فالتماس ما لا يقدر عليه الناس من الناس هو من الغلو فيهم، فالإنسان الواحد حتى وهو ميت تسمع من يدعوه ويناديه في مشارق الأرض، ومن يدعوه ويناديه في مغاربها، ومن يدعوه في جنوبها، ومن يدعوه في شمالها، وهو لا علم له بشيء من ذلك، وقد قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].

وهذا الغلو يشمل: الغلو في العقائد، ومن هذا الباب ما حصل من الشبهات في تاريخ الأمة، فهو إما غلو في التنزيه، كما حصل للمعتزلة الذين أنكروا صفات الله، وعطلوا كل ذلك غلواً في التنزيه؛ لأنهم يرون أن القديم لا يمكن أن يتعدد مطلقاً، فغلوا في التنزيه حتى ضلوا في الاعتقاد، وكذلك القدرية الذين نفوا القدر غلوا كذلك في التنزيه عن الظلم حتى أوصلوا الإنسان إلى أن يكون خالقاً لأفعاله, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذلك من الغلو في التنزيه أيضاً: القول بخلق القرآن, ونحو ذلك من الشبهات العقدية الخطيرة التي شاعت في تاريخ هذه الأمة، كلها من الغلو في التنزيه؛ لأنهم أرادوا أن ينزهوا الله عما لا يليق به فغلوا, فنزهوه عن بعض ما لا يليق به.

وفي مقابل ذلك أيضاً الغلو في الإثبات، فما حصل من شبهة التجسيم، وإثبات ما لا يليق بالله جل جلاله، كلها غلو في الإثبات، فلما رأوا النصوص مصرحة بصفات الله جل جلاله، وهي الصفات الكمال في حقه، ولا تشبه صفات المخلوقين بالغوا في الإثبات حتى أثبتوها على نحو ما يعرفونه في المخلوقين، فكان هذا ضلالاً كبيراً؛ لأن فيه تجسيماً وتشبيهاً لله بخلقه، وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وكذلك من هذا القبيل -أي: من قبيل الغلو- ما يتعلق بالغلو في العبادة، فما يحصل من بعض الناس من الانقطاع عن الدنيا بالكلية والرهبانية في الإسلام هو من الغلو في العبادة الذي لم يشرع، وقد ( جاء قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أهل بيته عن عبادته، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: أنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، فإني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الغلو والمبالغة في العبادة, حتى في الإنفاق والصدقة؛ فقد بالغ ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وهو من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتصدق بكل جذاذ نخله، ولم يترك لأهل بيته نفقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقد قال كثير من المفسرين: كان ذلك سبب نزول قول الله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، فإذا كان هذا السرف في العبادة، فما بالكم في السرف فيما دون ذلك؟!

كذلك الغلو في استحلال الحلال؛ فإن كثيراً من الناس يبالغ فيه حتى لا يبقى أي حلال إلا أخذ به، وحينئذ يوشك أن يصل إلى الشبهة أو الحرام؛ لأن لذلك حداً إذا وصل إليه الإنسان من اتباع النفس هواها فلابد أن يصل إلى المحرم، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أنه يمكن أن يترك بعض الحلال، فأنبياء الله وهم خيرة الله من خلقه كانوا أهل تزهد، وتقلل من هذه الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة الصالحة- خُير بين أن يكون نبياً ملكاً، أو أن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يمضي عليه ثلاثة أشهر بأهلتها لا توقد نار في بيوته، وكان ينام على حصير فيبقى أثر عيدانه في جنبه، وكان يقول عن نفسه: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ).

وكذلك من هذا القبيل: الغلو في استعمال طاقات الإنسان البدنية، فالغلو في كثرة الكلام هو من الغلو غير المحمود، ولذلك عقد مالك في الموطأ باباً لما يكره من الكلام، أي: ما كرهه السلف من كثرة الكلام، وقال فيه مالك: أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وقد ترك رحمه الله الحديث عن بعض الشيوخ من التابعين، فسئل: لم تركت الحديث عنهم؟ فقال: رأيته يتكلم كلام الجمعة في اليوم، أي: يتكلم كلاماً كثيراً، ومن أكثر الكلام لا يمكن أن يوثق بضبطه؛ لأنه كل من كثر لغطه كثر سقطه، فيقع منه الخطأ في كثير من الأمور، فلذلك اجتنب مالك الرواية عنهم، وقد حدث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أصحابه من السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أنهم كانوا يكثرون الصمت والفكر، فهم يفكرون كثيراً، ولذلك فقد قال العلامة ابن متالي رحمه الله:

وليك أكثر ما تسمعه أكثر من ما أنت قائل له تكن فطن

لذلك لا ازدواج للسان وازدوج العينان والأذنان

فمن حكمة الله: أن جعل للإنسان أذنين وعينين، وجعل له لساناً واحداً، فهذا يدل أنه يمكن أن يتلقى كثيراً عن طريق السمع، وكثيراً عن طريق البصر، ولكن ينبغي أن يخرج عن طريق اللسان اليسير فقط، ولذلك قال الشافعي رحمه الله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وتحفظ أحسن ما كتبت، وتحدث بأحسن ما حفظت، فيقع الانتقاء في مراحل، حتى يقل عمل اللسان فيها، واللسان مشكلته أنه سلطان الجوارح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من يوم إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإننا بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ).

والإسراف في الكلام يدل على نقص في العقل، وكذلك الإسراف في عمل الجوارح الأخرى، كالنظر ونحوه، فعلى الإنسان أن يقتصد فيه، فلابد أن يغض بعض بصره، ولنتذكر وصية لقمان لابنه، وفيها من الحكم في التعامل مع الله، وفي التعامل مع الناس الشيء الكثير، وقد ارتضاها الله حين أثبتها في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فبدأ أولاً بعمل القلب، ثم بعد ذلك قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، فأتى بعمل الجوارح، ثم خلص إلى اللسان بقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، دعا إلى عمل القلب، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19]، فخلص إلى الأخلاق، واستغلال هذه الطاقات التي جعل الله للبدن.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4819 استماع
بشائر النصر 4292 استماع
أسئلة عامة [2] 4135 استماع
المسؤولية في الإسلام 4066 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4003 استماع
نواقض الإيمان [2] 3948 استماع
اللغة العربية 3935 استماع
عداوة الشيطان 3935 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3898 استماع