نصرة الإسلام الوسائل والغايات [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، وعلى من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

هذه وسائل لا تحصر فيها وسائل الدعوة، ولا وسائل إعلاء كلمة ولا نصرة دينه، بل قد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره بإعلاء كلمته ونصرة دينه وإقامة المحجة للناس وإقامة الحجة عليهم، ولم يحدد له كل الوسائل، بل قد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثير من الوسائل فاستغل كل وسيلة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه تتوفر في زمانه، كتب الكتب إلى كل جبار يدعوهم إلى الإسلام؛ كما في حديث أنس ، وأرسل البعوث والسرايا وخرج في الغزوات، خمس وسبعون ما بين غزوة وسرية أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خرج فيها، وكذلك استغل الوسائل حتى ما كان منها مجهولاً لدى العرب ولم يكونوا يستعملونه؛ فما كان من الحضارات الأخرى نافعاً يمكن أن يشارك في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ولم يرد نهي عنه فهي من الوسائل المطلوبة لأنها تحقق المقصد، وكل وسيلة لم يرد النهي عنها وكانت تحقق المقصد فهي مشروعة لذلك، لكن الوسيلة التي جاء النهي عنها بخصوصها هذه لا تحقق المقصد؛ لأن الله هو علام الغيوب، ( وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ).

الوسائل النبوية في الدعوة

ولذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالوسائل التي لم يكن العرب يعرفونها وهي من حضارات أخرى؛ فالخندق من حضارة فارس، والخاتم من حضارة الروم، قيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمنبر من حضارة الحبشة، صنعه غلام حبشي لامرأة من الأنصار فأهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أقر أصحابه على استغلال الوسائل في صحيح مسلم أنه جاء تميم بن أوس الداري وكان رجلاً من التجار يذهب إلى الشام فيأتي بالبضائع، فجاء بالقناديل فلما غربت الشمس أمر غلمانه فأوقدوا القناديل في المسجد ولم يستشر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد رأى النور ساطعاً فيه فقال: ( من فعل هذا يرحمه الله )، فدعا له، وهذا يدل على أمور عديدة منها:

أولاً: أن المسجد ليس لأحد من الناس سلطان عليه؛ فالمصلحة والأمور التي فيه لكل الناس كل الناس يستفيدون منه، وبيت الله جل جلاله رفع الله عنه ملك المخلوقين، وليس لأحد من الناس عليه سلطان؛ وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا[الجن:18]، ولذلك لم يستشر تميم الداري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب السلطة العليا في مصلحة المسجد، كذلك يدل هذا على أن المصالح التي لم يرد نهي عنها بخصوصها أنها مشروعة، فاستعمال القناديل في المسجد لم يكن معروفاً حتى في بيوت أهل المدينة لم يكونوا يسرجون قبل مجيء تميم الداري من الشام، أي: لم يكونوا يستعملون السرج، كانت السرج معروفة فقط للنصارى في صوامعهم، وتعرفونها في أشعار العرب في الجاهلية يذكرون صوامع النصارى وإيقاد القناديل فيها؛ فهذا يدل على أن الحضارة إذا كانت منتفعاً بها ولو كانت شعاراً لقوم ولو كانت معروفة لديهم لكن لم تكن شعاراً دينياً؛ فيجوز استغلالها، فإيقاد القناديل كان من شعار النصارى لكن لم يكن أمراً دينياً يختص بهم؛ فلذلك شرعت للمسلمين ففعلوها وأقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تجدد الوسائل وتغيرها بتغير الأحوال

كذلك فإن الوسائل منها ما يتجدد ويتغير باختلاف الأحوال؛ فالله سبحانه وتعالى ذكر من ما يجاهد به المنافقون والمشركون هذا القرآن فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، (جهاداً كبيراً) بالقرآن، (جاهدهم به) أي: بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين والمشركين فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73]، ونحن نعلم جميعاً ونشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمر به، قطعاً فعل ما أمره الله به، فقد جاهد المنافقين باللسان، وجاهد الكفار بالسنان، فجهاد المنافقين باللسان أملك، وجهاد الكفار بالسنان أملك، فكل جاهده بوسيلته التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عرض عليه قتل بعض رموز المنافقين أبى عن ذلك وامتنع منه وقال: ( لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه )، وعاملهم معاملة حسنة وصبر على أذاهم؛ وقد آذاه عبد الله بن أبي بن سلول أذىً شديداً؛ آذاه في أهله وآذاه في نفسه وقال: (أبعد عنا حمارك فقد آذانا بنتن رائحته) يقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيترفق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلطف في جوابه، ونحن نعلم جميعاً أن الظروف تختلف وتتغير، وقد حصلت لي قصة في إحدى مدن الداخل؛ كانت لدي محاضرة عن الدعوة وبعض أمورها فسألني شيخ كبير السن فقال: هذا الذي قلتموه صحيح عليه الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة ونحن لا نماري فيه ولا نناقش، لكن لدينا سؤال مهم وهو أن آباءنا قطعاً هم أعلم منكم وأتقى لله وأخشى له ولم يكونوا يفعلون هذا فمن أين جئتم به وابتدعتموه؟ أو هل قصروا هم وتركوا أمراً واجباً عليهم؟ فقلت: سأبين لك ذلك بما يقنعك وتنصف به الماضين واللاحقين، فقال: وما ذاك؟ فقلت: سأذكر لك مثالين:

المثال الأول: قوم في مجرى السيل في وسط الوادي وحولهم قوم على قمة الجبل، فأتاهم آت منذر فقال: أي قومي! قوموا عن مجرى السيل أو ضعوا سداً فإن السيل على التفاف سيأتي فيقتلع بيوتكم، فقالوا: لا، نحن لا نقيم سداً ولا نقوم من مقامنا حتى يفعل أولئك الذين فوق الجبل، إذا صنع الذين فوق الجبل سداً صنعناه، وإذا قاموا عن ذلك خشية السيل فعلنا، هل هذا التصرف صحيح؟ قال: لا، قلت: آباؤنا رحمهم الله كانوا بمنأىً عما نحن فيه، هل كان أجدادنا وآباؤنا رحمهم الله يتصورون أن أمة بكاملها تعيش من الربا؟ لا تستورد شيئاً إلا عن طريق البنوك الربوية؟ قال: اللهم لا، قلت: فهل كان آباؤنا وأجدادنا رحمهم الله يتصورون أن فتى من أولاد الزوايا أو من أولاد المسلمين يعيش بين أبوين مسلمين فإذا بلغ عشرين سنة إذا هو لا يصلي ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟ قال: لا، ما كانوا يظنون ذلك، هل كان آباؤنا وأجدادنا قبل مائة عام أو خمسين سنة يتصورون أن بنتاً من بنات المسلمين إذا بلغت بين أبويها تخرج مسافرة إلى ديار النصارى فتسكن في الفنادق بين النصارى؟ قال: اللهم لا، قلت: هل حصلت هذه الأمور؟ قال: والله لقد حصلت، ولقد شاهدناها، قلت: رحم الله أبا عبد الله مالك بن أنس فقد قال: (تحدث للناس أقضية على حسب ما أحدثوا من الفجور)، فهذه عيوب وأمراض حصلت فينا ولم تكن في آبائنا وأسلافنا، وكل يوم يتجدد الكثير من النقص في الدين؛ فهل نقتصر فقط على ما كان لدى آبائنا؟

قلت: لدي مثال آخر يوضح لك الفكرة، قال: هاته، لو أن طفلاً صغيراً في السابعة من عمره اشترى له أبوه ملابس جميلة هي من أحسن الموجود من لباس الأولاد فلبسها وباهى بها الصبيان جميعاً، وكانت أحب ملابسه إليه وأجمله، ثم بعد ذلك لما تقدم به العمر طواها ووضعها في صندوق عنده، فلما بلغ أربعين سنة أخرجها وقال: تلك الملابس هي أحب ملابسي إلي وأحسنها وسألبسها الآن، هل هذا ممكن؟ قال: لا لم تعد على مقاسه، قلت: كذلك ما كان لدى آبائنا وأسلافنا من خدمة الدين ونصرته كان على قدر جهودهم وطاقتهم، أنت لا ترضى أن تعيش على ما كانوا يعيشون عليه، هل فيكم أنتم اليوم أحد يرضى أن يلبس ما كان يلبسه أبوه قبل خمسين سنة؟ هل فيكم أحد يرضى أن يأكل ما كان يأكله أبوه قبل خمسين سنة؟ أو يسكن فيما كان يسكنه أبوه قبل خمسين سنة؟ أو يركب ما كان يركبه أبوه قبل خمسين سنة؟ إذاً أخذتم نعمة الله وتوسعتم في الدنيا وفتحت عليكم أبوابها، فلماذا لا ترضون بما كانوا فيه من الدنيا؟ وترضون بما كانوا فيه من الدين؟ هل هذا عدل أو جور؟ هذا جور لا محاله؟ فالظروف تتغير، ونحن نعلم أن مراعاة فروق الزمان أصل شرعي فالوقت الأول العصر الأول عصر الصحابة عصر النقاء والصفاء وتمام الإيمان والإقبال على الله والجهاد في سبيله وعدم التكلف، هذا العصر الأول والصدر الأول أهله قد فازوا بما فازوا به، ( مضت الهجرة لأهلها، ولا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا )، ما كان يعمله الصحابة هل تستطيعون أن تعملوه اليوم؟ لا تستطيعون ذلك.

ولذلك أخرج الترمذي في السنن من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى فيه بعشر ما أمر به نجا )، وهذا الحديث فيه توسعة عظيمة وفيه خير كثير؛ فلذلك لا تقيسوا أنفسكم بالصحابة.

الاقتصار على الوسائل الدعوية للصحابة

والغريب أن الذين يقيسون أنفسهم بالصحابة في مجال نصرة الدين والدعوة في أمور الدنيا لا يفعلون مثل ما يفعله الصحابة، ملابسهم ليست ملابس الصحابة ومراكبهم ليست مراكب الصحابة وبيوتهم ليست بيوت الصحابة وفرشهم ليست فرش الصحابة ووسائلهم ليست وسائل الصحابة، رأيت أحد الشباب يصلي في نعلين قديمتين قد اتسختا وتنجستا فيما أعتقد من كثرة ما مشي عليهما في الشوارع غير النظيفة وهما كبيرتان من الحجم السميك في المسجد، فقلت: يا أخي! اخلع نعليك وضعهما في مكانهما لا تفرط في فراش المسجد ولا تؤذي إخوانك المصلين، فقال: لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون في نعالهم، قلت: صدقت، لكن هل نعالك هذه من نعال الصحابة؟ نعال الصحابة كانت مقابلتين من صنوين من شب من الثيران وصلهما جميل، فهل نعال الصحابة جاءت من الميلانو أو من إسبانيا أو من إيطاليا؟ كل له صنعته وأسلوبه؛ ولذلك لا يمكن أن تظن أن نفس النعال هي نفس النعال التي لديك، تلك النعال خفيفة من جلد ويمكن أن تمتلئ مع الرجل وتكون نظيفة وتغسل، ونعالنا اليوم لا يمكن أن يفعل بها هذا وفي ذلك أذى للمصلين وأيضاً تضييع لهيئات الصلاة، إذا جلست في الصلاة بالتورك أو بالافتراس وأنت تلبس النعلين هل تستطيع أن تفعل ذلك في النعال الكبيرة السميكة؟ لا تستطيع ذلك، وهكذا؛ فلذلك ملابسنا هذه ليست ملابس صحابة وساعاتنا غير ساعاتهم وأجهزتنا ووسائلنا غير وسائلهم، وحتى الكتب والمؤلفات الذين يقولون هذا يؤلفون الكتب، وما شاء الله يكتبون، وقد رأيت شيخاً خارج هذه البلاد ألف كتاباً ذكر فيه وسائل الدعوة توقيفية، فقلت له: هذا الكتاب هل هو من وسائل الدعوة؟ فقال: نعم، قلت: هل جاءك توقيف من عند الله على تأليف الكتب؟

هل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو أحد من الصحابة؟ قال: لا، فوقف حمار الشيخ في العقبة في مسألة واحدة في هذا الكتاب الذي ألفه، وهو قطعاً من وسائل الدعوة، وهو يدعو به، وهذا الكتاب ليس توقيفياً؛ فالصحابة لم يؤلفوا الكتب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب كتاباً قط، ولذلك كنت عند الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه وقد جاءه كتاب من أحد العلماء في هذه البلاد ألفه مؤلفه يريد به إثبات أنه لا يجوز اليوم الخروج عن المذاهب الأربعة، وأنه يجب على كل مكلف أن يقلد أحد أئمة المذاهب الأربعة وأن هذا بالإجماع وحتى قول الشيخ سيدي عبد الله في "مراقي السعود":

والمجمع اليوم عليه الأربعة وقفوا غير ما الجميع منعه

ونقل كثيراً من النقول فقرأت الكتاب على الشيخ فقال: اكتب:

(بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

فإن نسبة هذه النقول إلى ما مظانها صحيحة، ولكنها يتضمن إثباتها رفعها كدفع العبد في صداقه) ما معنى هذا الكلام؟ أي: القائل أنه لا يجوز تقليد غير الأربعة ليس من الأربعة؛ فلا يجوز تقليده في ذلك، هو قطعاً من غير الأربعة، فلا يجوز تقليده في قوله بعدم تقليد غير الأربعة، فقال: (يتضمن إثباته رفعه كدفع العبد في صداقه) النكاح والرق متنافيان، والنكاح لا يصح إلا بصداق، ركن من أركانه، فإذا دفعت رقبة العبد في صداقه بطل النكاح، النكاح لا يصح إلا بالصداق؛ فإذا دفعت فيه الرقبة بطل، فلذلك قال: (يتضمن إثباته رفعه كدفع العبد في صداقه).

ولذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالوسائل التي لم يكن العرب يعرفونها وهي من حضارات أخرى؛ فالخندق من حضارة فارس، والخاتم من حضارة الروم، قيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمنبر من حضارة الحبشة، صنعه غلام حبشي لامرأة من الأنصار فأهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أقر أصحابه على استغلال الوسائل في صحيح مسلم أنه جاء تميم بن أوس الداري وكان رجلاً من التجار يذهب إلى الشام فيأتي بالبضائع، فجاء بالقناديل فلما غربت الشمس أمر غلمانه فأوقدوا القناديل في المسجد ولم يستشر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد رأى النور ساطعاً فيه فقال: ( من فعل هذا يرحمه الله )، فدعا له، وهذا يدل على أمور عديدة منها:

أولاً: أن المسجد ليس لأحد من الناس سلطان عليه؛ فالمصلحة والأمور التي فيه لكل الناس كل الناس يستفيدون منه، وبيت الله جل جلاله رفع الله عنه ملك المخلوقين، وليس لأحد من الناس عليه سلطان؛ وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا[الجن:18]، ولذلك لم يستشر تميم الداري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب السلطة العليا في مصلحة المسجد، كذلك يدل هذا على أن المصالح التي لم يرد نهي عنها بخصوصها أنها مشروعة، فاستعمال القناديل في المسجد لم يكن معروفاً حتى في بيوت أهل المدينة لم يكونوا يسرجون قبل مجيء تميم الداري من الشام، أي: لم يكونوا يستعملون السرج، كانت السرج معروفة فقط للنصارى في صوامعهم، وتعرفونها في أشعار العرب في الجاهلية يذكرون صوامع النصارى وإيقاد القناديل فيها؛ فهذا يدل على أن الحضارة إذا كانت منتفعاً بها ولو كانت شعاراً لقوم ولو كانت معروفة لديهم لكن لم تكن شعاراً دينياً؛ فيجوز استغلالها، فإيقاد القناديل كان من شعار النصارى لكن لم يكن أمراً دينياً يختص بهم؛ فلذلك شرعت للمسلمين ففعلوها وأقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك فإن الوسائل منها ما يتجدد ويتغير باختلاف الأحوال؛ فالله سبحانه وتعالى ذكر من ما يجاهد به المنافقون والمشركون هذا القرآن فقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، (جهاداً كبيراً) بالقرآن، (جاهدهم به) أي: بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا[الفرقان:52]، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين والمشركين فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73]، ونحن نعلم جميعاً ونشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمر به، قطعاً فعل ما أمره الله به، فقد جاهد المنافقين باللسان، وجاهد الكفار بالسنان، فجهاد المنافقين باللسان أملك، وجهاد الكفار بالسنان أملك، فكل جاهده بوسيلته التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عرض عليه قتل بعض رموز المنافقين أبى عن ذلك وامتنع منه وقال: ( لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه )، وعاملهم معاملة حسنة وصبر على أذاهم؛ وقد آذاه عبد الله بن أبي بن سلول أذىً شديداً؛ آذاه في أهله وآذاه في نفسه وقال: (أبعد عنا حمارك فقد آذانا بنتن رائحته) يقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيترفق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلطف في جوابه، ونحن نعلم جميعاً أن الظروف تختلف وتتغير، وقد حصلت لي قصة في إحدى مدن الداخل؛ كانت لدي محاضرة عن الدعوة وبعض أمورها فسألني شيخ كبير السن فقال: هذا الذي قلتموه صحيح عليه الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة ونحن لا نماري فيه ولا نناقش، لكن لدينا سؤال مهم وهو أن آباءنا قطعاً هم أعلم منكم وأتقى لله وأخشى له ولم يكونوا يفعلون هذا فمن أين جئتم به وابتدعتموه؟ أو هل قصروا هم وتركوا أمراً واجباً عليهم؟ فقلت: سأبين لك ذلك بما يقنعك وتنصف به الماضين واللاحقين، فقال: وما ذاك؟ فقلت: سأذكر لك مثالين:

المثال الأول: قوم في مجرى السيل في وسط الوادي وحولهم قوم على قمة الجبل، فأتاهم آت منذر فقال: أي قومي! قوموا عن مجرى السيل أو ضعوا سداً فإن السيل على التفاف سيأتي فيقتلع بيوتكم، فقالوا: لا، نحن لا نقيم سداً ولا نقوم من مقامنا حتى يفعل أولئك الذين فوق الجبل، إذا صنع الذين فوق الجبل سداً صنعناه، وإذا قاموا عن ذلك خشية السيل فعلنا، هل هذا التصرف صحيح؟ قال: لا، قلت: آباؤنا رحمهم الله كانوا بمنأىً عما نحن فيه، هل كان أجدادنا وآباؤنا رحمهم الله يتصورون أن أمة بكاملها تعيش من الربا؟ لا تستورد شيئاً إلا عن طريق البنوك الربوية؟ قال: اللهم لا، قلت: فهل كان آباؤنا وأجدادنا رحمهم الله يتصورون أن فتى من أولاد الزوايا أو من أولاد المسلمين يعيش بين أبوين مسلمين فإذا بلغ عشرين سنة إذا هو لا يصلي ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟ قال: لا، ما كانوا يظنون ذلك، هل كان آباؤنا وأجدادنا قبل مائة عام أو خمسين سنة يتصورون أن بنتاً من بنات المسلمين إذا بلغت بين أبويها تخرج مسافرة إلى ديار النصارى فتسكن في الفنادق بين النصارى؟ قال: اللهم لا، قلت: هل حصلت هذه الأمور؟ قال: والله لقد حصلت، ولقد شاهدناها، قلت: رحم الله أبا عبد الله مالك بن أنس فقد قال: (تحدث للناس أقضية على حسب ما أحدثوا من الفجور)، فهذه عيوب وأمراض حصلت فينا ولم تكن في آبائنا وأسلافنا، وكل يوم يتجدد الكثير من النقص في الدين؛ فهل نقتصر فقط على ما كان لدى آبائنا؟

قلت: لدي مثال آخر يوضح لك الفكرة، قال: هاته، لو أن طفلاً صغيراً في السابعة من عمره اشترى له أبوه ملابس جميلة هي من أحسن الموجود من لباس الأولاد فلبسها وباهى بها الصبيان جميعاً، وكانت أحب ملابسه إليه وأجمله، ثم بعد ذلك لما تقدم به العمر طواها ووضعها في صندوق عنده، فلما بلغ أربعين سنة أخرجها وقال: تلك الملابس هي أحب ملابسي إلي وأحسنها وسألبسها الآن، هل هذا ممكن؟ قال: لا لم تعد على مقاسه، قلت: كذلك ما كان لدى آبائنا وأسلافنا من خدمة الدين ونصرته كان على قدر جهودهم وطاقتهم، أنت لا ترضى أن تعيش على ما كانوا يعيشون عليه، هل فيكم أنتم اليوم أحد يرضى أن يلبس ما كان يلبسه أبوه قبل خمسين سنة؟ هل فيكم أحد يرضى أن يأكل ما كان يأكله أبوه قبل خمسين سنة؟ أو يسكن فيما كان يسكنه أبوه قبل خمسين سنة؟ أو يركب ما كان يركبه أبوه قبل خمسين سنة؟ إذاً أخذتم نعمة الله وتوسعتم في الدنيا وفتحت عليكم أبوابها، فلماذا لا ترضون بما كانوا فيه من الدنيا؟ وترضون بما كانوا فيه من الدين؟ هل هذا عدل أو جور؟ هذا جور لا محاله؟ فالظروف تتغير، ونحن نعلم أن مراعاة فروق الزمان أصل شرعي فالوقت الأول العصر الأول عصر الصحابة عصر النقاء والصفاء وتمام الإيمان والإقبال على الله والجهاد في سبيله وعدم التكلف، هذا العصر الأول والصدر الأول أهله قد فازوا بما فازوا به، ( مضت الهجرة لأهلها، ولا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا )، ما كان يعمله الصحابة هل تستطيعون أن تعملوه اليوم؟ لا تستطيعون ذلك.

ولذلك أخرج الترمذي في السنن من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى فيه بعشر ما أمر به نجا )، وهذا الحديث فيه توسعة عظيمة وفيه خير كثير؛ فلذلك لا تقيسوا أنفسكم بالصحابة.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع