أرشيف المقالات

بلاء الأنبياء (1)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
بلاء الأنبياء (1)


تلك الكلمة التي تُعَدُّ الاختبارَ الحقيقي للإنسان في هذه الفانية، تلك الكلمة التي تضع ابنَ آدم على المحك بالفعل، لقد طُبعت على كدر، وهل نطمع أن ننالها صفوًا من الأكدار والأحزان؟!
 
لا وربي؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 214].
 
عندما أتدبَّر كتاب ربي، وأجد تلك المعاني المعجِزة، أقفُ صامتًا مدهوشًا، أُزَلزَل من الداخل، كيف لا وهو كلام خالقي يخاطبني به؟! أقف عاجزًا بالفعلِ عندما أرى تلك السننَ الكونية التي تتكرر منذ بدأ الخليقة، ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62]، ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].
 
أقف خاشعًا وَجِلًا عندما أرى ذلك الكتاب الذي فصَّل الله تعالى لنا فيه كلَّ شيء، توقفتُ بالفعل عند هذه الدلالة، لقد أصابَتْني في مقتلٍ (كل شيء)، سبحانك ربي ما أعظم شأنك!
 
﴿ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89]، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12].
هذا هو كلام ربي، وهذا هو وصفه.
 
هل اعتقدتَ يومًا بأن الله قد ابتلاك؟!
إذًا فلتقرَأْ لتعلمَ ولتوقنَ جيدًا أنك لم ترَ إلا ذرةً لا تكاد تُرى في عالم البلاء، لتعلم المعنى الحقيقي لهذه الكلمة، اقرَأْ: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ﴾ [الأنبياء: 83]، ثم اصرُخْ قائلًا: أي ضرٍّ مسَّك يا أيوب؟!
 
إن كنتَ من أصحاب القلوب المعلقة بالسماء، فستبكي طويلًا، ستقف مطأطِئ الرأس، حائر الفكر، مُشتَّت الذِّهن، ساهِم الطَّرْف.
 
عندما تعلم أنه قد فقد كلَّ شيء في حياته، كل شيء يتصل بعالم المادة، ذهب ماله، وأبناؤه، أصبح طريح الفراش، لا يتحرك فيه سوى لسانه! ولكنه لم يفقد إيمانه، وحُسنَ ظنِّه بربه، وثقته بمولاه، لم يتبقَّ في جسدِه عضوٌ واحد داخل دائرة الصحة سوى لسانه! ولكن يا ترى ماذا ستصنع يا وليَّ الله به، وهو العضو الوحيد الذي ما زال قادرًا على الحراك؟!
 
إنه يُوجِّه لسانه توجيهًا عمليًّا ليتَّصِلَ بمَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، فلم يفترْ لحظةً من اللحظات عن الذِّكر والشكر.
 
وأخذتِ الألسنة تنهش في لحمِه الطاهر، نعم تلك الألسنة الحداد الأشحة، التي ستبقى ما بقي الدهر، قالوا عنه: لم يُصَبْ أيوب بكل هذا إلا لأنه أذنب ذنبًا عظيمًا، وفعل جرمًا جسيمًا لا يغتفر!
 
أي ضرٍّ مسَّك يا حبيب الله، وقد قال عنك مولاك: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾ [ص: 44]؟! فلتنتظر تلك الألسنةُ العَفِنةُ حسابها يوم العرض الأكبر.
ويشتد البلاء، هل تعرف ما معنى يشتد؟ هل تعرف دلالاتها على أرض الواقع؟
لم يبقَ له إلا تلك الزوجةُ الصابرة، التي صارت تخدم في البيوت، وهي سليلة الأنبياء، لقد كان اسمها (رحمة)، ولقد كان جدُّها هو (يوسف عليه السلام)، ولقد كانت اسمًا على مسمى بحق، ألا أنعِمْ بتلك المخلصة الوفية، ويمتد البلاء ثمانيةَ عشرَ عامًا، لكنه من الصفوة البشرية؛ ولذلك يجب ألا يفوتَك هذا المعنى الجليل ﴿ مَسَّنِيَ ﴾.
عندما ترتقي تلك النفسُ البشرية لتتصلَ بخالقها، عندما تعلم حقيقة الأدب مع الله، إن ﴿ مَسَّنِيَ ﴾ تُومِئ وتذهب بالذهن إلى ذلك الخدش الرقيق، الذي لم يتجاوز حتى جلد الإنسان، ولكنها القِيم، أَوَ لَمْ يرتبط الصبر المطلق به؟! أوَ لم يُصبِح حجة الله على أهل البلاء؟!
إن ﴿ مَسَّنِيَ ﴾ = فَقْدَ المال والأبناء والصحة بالكامل!
= رِماح الكلام التي كانت تنهالُ عليه من كلِّ جانب، وطعنات الألسن التي كانت تصيبه من كل حدب وصوب!
= عمل زوجته وحبيبته، التي لم يبقَ له في هذه الحياة سواها!
= الرضا المطلق بالقدر، أَوَ لَيْسَ بَلْسَم الجراح هو الإيمان بالقضاء والقدر؟!
هذا هو معنى ﴿ مَسَّنِيَ ﴾ في قاموس الأنبياء عليهم السلام، وفي معجم الأولياء.
وأما ﴿ مَسَّنِيَ ﴾ في معجم البشر المعاصرين = لماذا فعلتَ هذا بي يا رب؟
= ما الذي فعلتُه في حياتي لأستحقَّ كل ذلك؟!
= لماذا أنا خاصة دون بقية الناس؟!
وكلما ارتقَتِ النفوس، حاولت أن تجعل مِن تلك التجرِبة الفريدة نبراسًا يُحتَذَى به، ومِن ذلك المعجم منهلًا عذبًا تنهل من مَعِينه.
هل ستقرأ: ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ﴾ [الأنبياء: 83] بعد ذلك، وتمر عليك مرورًا عابرًا؟!
• قلبتُ تلك الأوراق العظيمة الجليلة، إنها رسائل ربي لي، انتقلت بين سورة وسورة، ثم أوقفتني قصةٌ عظيمة هزَّت كل كِياني!
إنه نبيُّ الله نوحٌ عليه السلام، إنه في الطبقة الأولى من الرسل (أولي العزم من الرسل)، لقد كانت مهمتُه في هذه الحياة هي الدعوة، والدعوة فقط، اقرَأْ وتأمَّل، تدبر تلك الكلمات، اجعَلْها تخاطب عقلك، ولا تجعَلْ منتهاها لسانك، اقرأ لتعلمَ كم عانى أنبياء الله عليهم السلام، لقد استخدم مع قومِه كلَّ الطرق الممكنة، كل الأساليب؛ ﴿ لَيْلًا وَنَهَارًا ﴾ [نوح: 5]، ﴿ دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴾ [نوح: 8]، ﴿ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح: 9]، ذكَّرهم بربهم، أنذرهم من عذابه، بشَّرهم بثوابه، لكنها سنة الله، فالمستجيبون قليلون، والثابتون قلة قليلة؛ ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]، إنها ألفُ سنةٍ إلا خمسين عامًا، ولكنها حكمة الله ورزق الله، إنها نظرية القلة والكثرة، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [هود: 17]، ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].
لعلك لا تُدرِك مدى المشقَّة التي كانت على كاهله، لعلك لا تعلم مقدار الجهد الذي بذله، لعلك لا تشعر بذلك الألم النفسيِّ الذي كان يعتريه، لقد حاول بكل ما يملك، ولكن ﴿ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ﴾، ﴿ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ﴾، ﴿ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 7]!
 
وهل تدخل تلك الفئةُ المنعَّمة المترَفَة في دينٍ اتَّبعه أراذلُ القوم؟! هكذا كانوا ينظرون إليهم، ذلك هو المقياس الأرضيُّ الذي تعرفه عقولُهم النَّتنة، ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111]؟!
 
ولكن ما هو المقياس عند خالق الكائنات ربِّ الأرض والسماوات؟
يخاطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابتَه، يريد أن يُعلِّمهم درسًا، ينظر إلى رجلٍ فقير مُعدِم أشعثَ أغبرَ، ثم يسأل صحابتَه: ما رأيكم في هذا الرجل؟ تظهر النظرة الدنيوية البشرية، لو تكلم هذا المهمَّش، فلن يستمع له أحد، وهل هو أهلٌ للإصغاء؟! وأمَّا إن سوَّلت له نفسه أن يَنكِح إحدى بناتنا، فسيكون الرفض المطلق هو جوابه: (هذا والله حري إن خطب ألا يُزوَّج، وإن شفع ألا يُشفَّع)، صمت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، مرَّ رجلٌ آخر تظهر عليه آثار النعيم والتنعم، يتبختر في أبهى الحُلَل، ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صحابته، ثم يسألهم قائلًا: ما تقولون في هذا؟ قالوا: (هذا والله حري إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشفَّع)، نعم تلك هي المقاييس الأرضية عند الانسلاخ من القيم المحمدية! يُبيِّن لهم خيرُ خلق الله صلى الله عليه وسلم أن مقياسَ مَلِك الملوكِ مختلفٌ تمامًا، ويجيبهم بعبارة تُحفَر في ذاكرتهم حفرًا: ((والله إن هذا لخيرٌ مِن ملء الأرض من ذاك)).
 
لو أحضرتم ميزانًا، ووضعتم سبعة مليارات من ذاك، ووضعتم ذاك المهمَّش في الكِفَّة الأخرى، لرجحت كِفَّته هو، تلك هي مقاييس مَن بيده مقاليد السموات والأرض، أما مقاييس البشر، فلتذهب أدراج الرياح.
 
نعم، فدعوة واحدة من فمِه الطاهر تقلبُ موازين الدنيا بالكلية، تغير نظام الكون بأسره، تغير تضاريس الأرض، ((إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه))، إنها أربع كلمات، ولكنه عظيم عند الرب سبحانه، وتلك الكلمات الأربع لها ثقلها، إنها تُغرِق الدنيا بأسرها، تنفطر السماء، وتنفجر الأرض بالماء الذي كان كالسيل الهادر، والذي ابتلع كل ما أمامه، ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]
 
أتعتقدُ أنه سيفعل كلَّ ما فعله، ثم سيترك ابنه أدراج الرياح، إن كان قد حاول بكل ما يستطيع في دعوة قومه، فاعلَمْ تمامًا أنه قد أفنى جهدَه كله في دعوة فِلْذَة كَبِده، ولكنه البلاء، تتوقَّف القدرة البشرية أمام المشيئة الإلهية، يصعدُ نوحٌ وصفوة البشرية يومئذٍ ثمانون شخصًا، هم المحصلة النهائية للاستجابة في ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا! ويأتي أمر الله تعالى، ويمضي قدر الله الذي لا مناص منه، يفور التَّنور، تغضب السماء لغضب خالقها، تنهال عليهم العقوبة من كل جانب، الرؤوس تتساقط أمامهم، أصبح الموجُ كالطَّوْدِ العظيم الشامخ، هل تخيَّلتَ يومًا موجًا بحجم الجبال؟!
 
ثم تَحين التفاتةٌ من نبي الله وولي الله وحبيب الله عليه السلام، يرى فيها ابنَه، فتنفجر عاطفةُ الأبوَّةِ الصادقة الجياشة، ويناديه النداء الأخير الذي لا اجتماع بعده: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، أرأيتَ إلى أي حدٍّ قد وصل؟! إنه لم يتوقَّف عند هذا، بل إن الأبوة تشتعل مجددًا في داخله، ويستغيث ربَّه، يتضرع إليه أن ينقذ ابنه، أن ينجيه، ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ [هود: 45].
 
ولكنها مشيئة الله، وقدر الله، وحكمة الله، وليجعله عزاءً لكلِّ مَن أُصِيب في ولده إلى يوم القيامة، ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46]، تتوقف المقدرة البشريةُ الإنسانية أمام المشيئة الإلهيةِ الربانية.

شارك الخبر

المرئيات-١