محاسبة النفس


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من دساها، وأهملها، فقال جل من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].

إن هذه الأقسام كلها من رب العزة مؤذنة بأهمية هذا الأمر والعناية به، فالله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، على من شاء، وإذا أقسم بشيءٍ من خلقه، دل ذلك على عظمة ذلك الخلق المقسم به.

القسم بالشمس وضحاها

وقد أقسم هنا بهذه الشمس التي جعلها الله آية من آيات وحدانيته، وملكه لهذا الكون، وميزها عن غيرها من الكواكب المحيطة بها، بهذه الحرارة الشديدة، حيث تبلغ درجة الحرارة على سطحها ما يقارب أربعة عشر مليون درجة حرارية، وأقصى ما يمكن أن تبلغه درجة الحرارة على هذه الأرض أن تتجاوز الخمسين بدرجتين أو ثلاث، والشمس تصل إلى أربعة عشر مليون درجة حرارية، وهي مع ذلك عقيرة في النار يوم القيامة، وقبل ذلك يكورها الله فيجعل ظهرها قبالة بطنها، وظهرها أحر من بطنها، فتكون كالميل في المحشر يوم القيامة.

ثم أقسم بعد ذلك بضحاها: وهو انتشار ضوئها، فإن الشمس إذا كانت تحت الأفق بثماني عشرة درجةً يطلع الفجر، فإذا تعالت فوقه بثماني عشرة درجة ينتشر ضياؤها، ويقع الإشراق المبيح للنفل عندما تصل إلى قدر الرمح، وهو قيد اثنا عشر شبراً من الوسط.

القسم بالقمر إذا تلاها

ثم بعد ذلك قال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، فهذا القمر العظيم الذي هو أيضاً خلق من خلق الله، وآية من آيات وحدانيته، يتصرف في هذا الفلك طلوعاً وأفولاً وزيادةً ونقصاً، وإذا بلغ تمامه بدأ في النقص، وهذا دليل على عظمة تدبير الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، وأخر القمر عن الشمس؛ لأن الشمس أعظم منه، فهذه الأرض كلها قدر الربع من الشمس تقريباً، وبعد ذلك فإن هذا القمر أيضاً تدبيره في تصرفه في الأفق، زيادةً ونقصاً وطلوعاً وأفولاً هو مثل عمر الإنسان، يبدأ بالضعف والصغر، ثم يتنامى حتى يصل إلى التمام، ثم يبدأ في النقص ويصل إلى الضعف والشيبة، ولذلك روي عن علي رضي الله عنه، أنه لما رأى الهلال قال: " أيها الخلق المتردد في منازل التقدير"، أي: في هذه المنازل، وهي ثماني وعشرون منزلة، كل منزلة ثلاث عشرة ليلة، إلا إذا كانت السنة كبيسة، تزيد منزلة واحدة يوماً واحداً، "والمتصرف في فلك التدبير: المتصرف، أي: الذي يطلع ويغرب ويذهب وينقص ويزيد، والمتصرف في فلك التدبير، أي: في هذا الفلك الذي دبره الله فجعله على الأبراج الاثني عشر، وفي هذه المنازل الثمانية والعشرين.

"والمتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامات من علامة سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل".

ثم بعد هذا قال: إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، أي: إذا جاء هذا الشمس، جاء القمر بعد الشمس، فإن الله سبحانه وتعالى يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، فلا يمكن أن يدرك القمر الشمس، مع أنه يسير سيراً حثيثاً في أثرها، لكن لا يمكن أن يجتمعا إلا عند طلوع الشمس من مغربها عندما يجمعهم الله عز وجل، بعد أن تحبس الشمس ثلاثاً وتؤمر أن ترجع من حيث أتت، فتقترن بالقمر إذ ذاك إذا تلاها.

القسم بالنهار إذا جلاها

وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3]، أقسم أيضاً بالنهار إذا جلى الشمس فأظهرها، فإن الشمس إنما تتضح إذا تربعت في وسط السماء، وهذا هو النهار، عندما يبهر ضوؤها الأشياء، وهذا وقت انكشاف الأشياء كلها وظهورها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الليل ظلاً؛ لأن الشمس يحول بينها وبين الأرض سواها من الأجرام فيعلوا هذه الأرض الظل، وتحتجب الشمس، وقد جعل الله الشمس علامة على الظل، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46].

القسم بالليل إذا يغشاها

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:4]، ثم أقسم بهذا الليل العظيم الذي يغشاها فيسترها، ويحجبها وهو الظل المستمر، وهذا الليل كما قال مالك رحمه الله: خلق عظيم، فهو كافر ما فيه، أي: ساتر له .

القسم بالسماء وما بناها

ثم بعد ذلك قال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، فهذه السماء التي هي سقف مرفوع، بناها الله سبحانه وتعالى ورفعها من غير عمد، وجعل هذه السماء سطحاً لهذه الدنيا السفلية، وظلاً لها، فجعل كل ما في هذه الدنيا داخلاً تحت ظل السماء، وقد جعل الله السماء سبعة طرائق، كل واحدة منها عرضها خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي، وما بين كل سماءين، كذلك أي مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، ومع ذلك فهذه السموات السبع في الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والترس الذي يتوقى به النبل، والكرسي في العرش، كحلقة في فلاة، فهذا يدل على عظمة عرش الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقبض هذه السموات السبع والأرضين السبع بيمينه، فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والبحار على إصبع، والأشجار على إصبع، والحيوانات كلها على إصبع، يوم القيامة، فهذا هو تمام العظمة.

القسم بالأرض وما طحاها

ثم بعد ذلك قال: وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6]، فهذه الأرض أيضاً خلق عظيم من خلق الله، جعلها مهاداً كفاتاً أحياءً وأمواتا، فجعل ظهرها مستقراً للإحياء، وسخر فيه من الهواء والماء والنبات والغذاء ووسائل العيش كلها ما يحتاج إليه سكانها، وجعل بطنها كذلك كفاتاَ للأموات، فهم يقبرون فيه، وهي تستر ما في بطنها، ثم بعد ذلك يقبضها الجبار بيمنيه يوم القيامة، يتكفأها كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، وتتبارك الأرض حينئذٍ ببركة يمين الجبار سبحانه وتعالى، فتكون خبزة يرثها أهل الجنة، فهم الذين يرثون الأرض، كما بين الله ذلك في كتابه وكتبه في الزبور من بعد الذكر، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

فهذه الأرض العظيمة يكفي من عظمتها أنها نزل أهل الجنة، وأن الجبار سبحانه وتعالى يخبزها كما يتكفأ أحدكم خبزته بيمنه، فيجعلها نزلاً لهم، وقد جعلها الله سبحانه وتعالى مهاداً للناس، بما سخر فيها من السبل والطرق، وبما رفع فيها من الجبال، وبما أغار فيها من الأودية، وبما رفع فيها كذلك من التلال، وجعل تدبير الرياح عليها تابعة لتضاريسها، وجعل الحر والبرد، كذلك الوافدان إلى هذه الأرض، لا يفدان إليها بصورة غزو ماحق؛ لأن ذلك مهلك لشئون الحياة التي عليها، فلو جعلت الأرض سطحاً مستوياً لأهلك أهلها ما يفد إليها من حرارة الشمس وأشعتها، ولأهلكهم ما يفد إليها من برد الكواكب الأخرى، عندما تقترب من الأرض، لكن الله جعل فيها هذه التلال وهذه الجبال، وهذه الأودية، ليكون الحر والبرد بقدر، يأتي البرد في وقت الشتاء، ويأتي الحر في وقت الصيف، وكل ذلك بتدبير الحكيم الخبير.

القسم بالنفس وما سواها

ثم بعد هذا قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، هذا قسم آخر بأمر عظيم من خلق الله، وهو أنفس البشر، فإن هذه الأنفس، وهي أقرب شيء إليك، تعرج وتستقر وتفهم وتقبل وتدبر وتعرض، ومع ذلك أنت مؤمن بها جازم بوجودها، ولا تراها، ولا تحس بها، بل لا تبحث أصلاً عن كيفها، وهذا أمر عجيب جداً، ودليل من أدلة وحدانية الله، فكما تؤمن بالله سبحانه وتعالى بنفسه وبصفاته، وتؤمن باتصافه بصفات الكمال، وأنت تعلم أنه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وتعلم أن الأوهام لا يمكن أن تصل إلى كنهه، فإن دليلك على ذلك هذه النفس التي بين جنبيك، وأنت لا تبحث عن ماهيتها، ولا عن كيفيتها، ولا عن لونها، وما وجدنا أحداً في ما مضى من الدنيا يحاسب نفسه عن طولها وقصرها، ولونها وفخامتها وسمنها، ونحافتها، لا أحد يبحث عن نفسه، وهو مؤمن بها جازم بها، لكنه لا يبحث عنها لعلمه بقصور نفسه وقصور عقله، وتصوره عن إدراك ذلك، وكان الأولى بالإنسان كله أن يقف دون التفكر في ذات الله، كما يقف بالأولى دون التفكر في ذاته هو وصفات هذه الروح، لكن الشيطان هو الذي يجعله يتفكر فيما لا يبلغه، ولا يصل إليه علمه بحال من الأحوال، ولو أدرك الإنسان أمر نفسه، وهي أقرب شيء إليه، لعرف عجزه الكامل عن تصور ذات الله وصفاته، وأنه لا ينبغي أن يشتغل أصلاً بالتفكير فيما هنالك، كما لا يتفكر في نفسه هو وصفاتها، ولهذا قال ابن أبي زيد رحمه الله: "يعتبر المتفكرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته"، يقفون دون التفكير في ماهية ذات الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تبلغه أوهامه، ولا عقولهم.

وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، فهذه تسمية عجيبة أيضاً، تستحق التنويه بها، فكل نفس لها بصماتها الوراثية المختصة، وهي مناسبة لبدنها، فكل بدن من الأبدان التي ترون على اختلاف درجاتها، طولها، وعرضها، واستقامتها، وعوجها، وألوانها، وضخامتها، وصغرها، روحها، روح ذلك الجسم مناسبة له، ولو جعلت في غيره لما كان وعاءً لها مناسبا، وهذه الأجسام أيضاً جعلت على هذا التقويم العجيب، فالعينان متساويتان والأذنان متساويتان، والمنخران متساويان، والشفتان على الطبق، والأسنان متقابلة، والذراعان واليدان والرجلان، والفخذان والساقان، كل ذلك على السواء، فهذا هو إحكام التقدير، والتسوية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7].

فألهمها فجورها وتقواها

ثم بين بعد ذلك ما يتعلق بإدراك النفس، فقال: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [:8]، إن الهداية والإيمان ليس مما يمكن أن يصل إليه الإنسان بقناعته، أو يدركه عن طريق الوراثة، أو يصل إليه بما يرى من المغريات، أو من وسائل الضغط، بل لا يمكن أن يؤمن إنسان، إلا إذا وهبه الله الإيمان، فالإيمان منحة ربانية يهبها الله لمن يشاء من عباده، ويمنع منها من يشاء، فكثير من الناس رأوا الآيات البينات، ومع ذلك لم يؤمنوا، فبنو إسرائيل الذين شاهدوا رفع الجبل فوق رؤوسهم، ورده إلى الأرض، وشاهدوا كذلك المائدة تنزل أربعين يوماً، لا يطلب أحد طعاماً إلا وجده فيها ثم ترتفع، وشاهدوا التابوت تحمله الملائكة فيه بقية مما ترك آل موسى، وآل هارون، وشاهدوا ميلاد عيسى من غير أب، وكلامه في المهد، وشاهدوا إحياءه للموتى، وإبراءه للأكمه والأبرص، ومع ذلك لم يؤمنوا وكانوا قوماً بهتاً، فدل هذا على أن الإيمان لا يكون إلا منحة ربانيةً يهبها الله لمن يشاء، ولهذا قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111]، وكذلك قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100]، فالذين لا يهديهم الله يصرفهم عن الآيات، ولو شاهدوها ورأوها، فلذلك قال: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8]، فالاستقامة على طريق الحق، والميل عنه لا يكونان إلا بالإلهام، فالله سبحانه وتعالى من علم فيه الخير يرشده إلى هذا الخير، ويهديه هداية التوفيق.

والهداية تنقسم إلى قسمين:

إلى هداية إرشاد، وهداية توفيق.

أما هداية الإرشاد: فهي إقام الحجة على الإنسان بتعليمه طريق الحق، كإقامة الحجة على الناس بإرسال الرسل، فهذه هداية توفيق، وقد أثبتها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53]، وهي التي بين أنه هدا إليها ثمود قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

وأما هداية التوفيق: فهي إلهام الهداية، وأن يأخذ الله بناصية العبد إلى ما يرتضيه منه، فلا يستطيع الميل يميناً ولا شمالاً أصلاً، ولا يفكر في ذلك، فهذه الهداية: هي التي نسألها الله في صلاتنا، فنقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهي التي نفاها الله، نفى الله القدرة عليها عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، فالهداية المثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم هي هداية الإرشاد، والهداية المنفية عنه القدرة عليها هي هداية التوفيق.

وقد أقسم هنا بهذه الشمس التي جعلها الله آية من آيات وحدانيته، وملكه لهذا الكون، وميزها عن غيرها من الكواكب المحيطة بها، بهذه الحرارة الشديدة، حيث تبلغ درجة الحرارة على سطحها ما يقارب أربعة عشر مليون درجة حرارية، وأقصى ما يمكن أن تبلغه درجة الحرارة على هذه الأرض أن تتجاوز الخمسين بدرجتين أو ثلاث، والشمس تصل إلى أربعة عشر مليون درجة حرارية، وهي مع ذلك عقيرة في النار يوم القيامة، وقبل ذلك يكورها الله فيجعل ظهرها قبالة بطنها، وظهرها أحر من بطنها، فتكون كالميل في المحشر يوم القيامة.

ثم أقسم بعد ذلك بضحاها: وهو انتشار ضوئها، فإن الشمس إذا كانت تحت الأفق بثماني عشرة درجةً يطلع الفجر، فإذا تعالت فوقه بثماني عشرة درجة ينتشر ضياؤها، ويقع الإشراق المبيح للنفل عندما تصل إلى قدر الرمح، وهو قيد اثنا عشر شبراً من الوسط.

ثم بعد ذلك قال: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، فهذا القمر العظيم الذي هو أيضاً خلق من خلق الله، وآية من آيات وحدانيته، يتصرف في هذا الفلك طلوعاً وأفولاً وزيادةً ونقصاً، وإذا بلغ تمامه بدأ في النقص، وهذا دليل على عظمة تدبير الله سبحانه وتعالى في هذا الكون، وأخر القمر عن الشمس؛ لأن الشمس أعظم منه، فهذه الأرض كلها قدر الربع من الشمس تقريباً، وبعد ذلك فإن هذا القمر أيضاً تدبيره في تصرفه في الأفق، زيادةً ونقصاً وطلوعاً وأفولاً هو مثل عمر الإنسان، يبدأ بالضعف والصغر، ثم يتنامى حتى يصل إلى التمام، ثم يبدأ في النقص ويصل إلى الضعف والشيبة، ولذلك روي عن علي رضي الله عنه، أنه لما رأى الهلال قال: " أيها الخلق المتردد في منازل التقدير"، أي: في هذه المنازل، وهي ثماني وعشرون منزلة، كل منزلة ثلاث عشرة ليلة، إلا إذا كانت السنة كبيسة، تزيد منزلة واحدة يوماً واحداً، "والمتصرف في فلك التدبير: المتصرف، أي: الذي يطلع ويغرب ويذهب وينقص ويزيد، والمتصرف في فلك التدبير، أي: في هذا الفلك الذي دبره الله فجعله على الأبراج الاثني عشر، وفي هذه المنازل الثمانية والعشرين.

"والمتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامات من علامة سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل".

ثم بعد هذا قال: إِذَا تَلاهَا [الشمس:2]، أي: إذا جاء هذا الشمس، جاء القمر بعد الشمس، فإن الله سبحانه وتعالى يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، فلا يمكن أن يدرك القمر الشمس، مع أنه يسير سيراً حثيثاً في أثرها، لكن لا يمكن أن يجتمعا إلا عند طلوع الشمس من مغربها عندما يجمعهم الله عز وجل، بعد أن تحبس الشمس ثلاثاً وتؤمر أن ترجع من حيث أتت، فتقترن بالقمر إذ ذاك إذا تلاها.

وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3]، أقسم أيضاً بالنهار إذا جلى الشمس فأظهرها، فإن الشمس إنما تتضح إذا تربعت في وسط السماء، وهذا هو النهار، عندما يبهر ضوؤها الأشياء، وهذا وقت انكشاف الأشياء كلها وظهورها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى الليل ظلاً؛ لأن الشمس يحول بينها وبين الأرض سواها من الأجرام فيعلوا هذه الأرض الظل، وتحتجب الشمس، وقد جعل الله الشمس علامة على الظل، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46].

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:4]، ثم أقسم بهذا الليل العظيم الذي يغشاها فيسترها، ويحجبها وهو الظل المستمر، وهذا الليل كما قال مالك رحمه الله: خلق عظيم، فهو كافر ما فيه، أي: ساتر له .

ثم بعد ذلك قال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، فهذه السماء التي هي سقف مرفوع، بناها الله سبحانه وتعالى ورفعها من غير عمد، وجعل هذه السماء سطحاً لهذه الدنيا السفلية، وظلاً لها، فجعل كل ما في هذه الدنيا داخلاً تحت ظل السماء، وقد جعل الله السماء سبعة طرائق، كل واحدة منها عرضها خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي، وما بين كل سماءين، كذلك أي مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام للحجر الهاوي، ومع ذلك فهذه السموات السبع في الكرسي كسبعة دراهم في ترس، والترس الذي يتوقى به النبل، والكرسي في العرش، كحلقة في فلاة، فهذا يدل على عظمة عرش الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقبض هذه السموات السبع والأرضين السبع بيمينه، فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ويجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والبحار على إصبع، والأشجار على إصبع، والحيوانات كلها على إصبع، يوم القيامة، فهذا هو تمام العظمة.

ثم بعد ذلك قال: وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6]، فهذه الأرض أيضاً خلق عظيم من خلق الله، جعلها مهاداً كفاتاً أحياءً وأمواتا، فجعل ظهرها مستقراً للإحياء، وسخر فيه من الهواء والماء والنبات والغذاء ووسائل العيش كلها ما يحتاج إليه سكانها، وجعل بطنها كذلك كفاتاَ للأموات، فهم يقبرون فيه، وهي تستر ما في بطنها، ثم بعد ذلك يقبضها الجبار بيمنيه يوم القيامة، يتكفأها كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، وتتبارك الأرض حينئذٍ ببركة يمين الجبار سبحانه وتعالى، فتكون خبزة يرثها أهل الجنة، فهم الذين يرثون الأرض، كما بين الله ذلك في كتابه وكتبه في الزبور من بعد الذكر، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

فهذه الأرض العظيمة يكفي من عظمتها أنها نزل أهل الجنة، وأن الجبار سبحانه وتعالى يخبزها كما يتكفأ أحدكم خبزته بيمنه، فيجعلها نزلاً لهم، وقد جعلها الله سبحانه وتعالى مهاداً للناس، بما سخر فيها من السبل والطرق، وبما رفع فيها من الجبال، وبما أغار فيها من الأودية، وبما رفع فيها كذلك من التلال، وجعل تدبير الرياح عليها تابعة لتضاريسها، وجعل الحر والبرد، كذلك الوافدان إلى هذه الأرض، لا يفدان إليها بصورة غزو ماحق؛ لأن ذلك مهلك لشئون الحياة التي عليها، فلو جعلت الأرض سطحاً مستوياً لأهلك أهلها ما يفد إليها من حرارة الشمس وأشعتها، ولأهلكهم ما يفد إليها من برد الكواكب الأخرى، عندما تقترب من الأرض، لكن الله جعل فيها هذه التلال وهذه الجبال، وهذه الأودية، ليكون الحر والبرد بقدر، يأتي البرد في وقت الشتاء، ويأتي الحر في وقت الصيف، وكل ذلك بتدبير الحكيم الخبير.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع