أرشيف المقالات

المشكلات

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
3 - اللغة العربية للأستاذ محمد عرفة لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟ يتوقع القراء أنني سآتيهم في مشكلة اللغة العربية بحلول مطولة وآراء معقدة، تثقل على العامة ولا يستسيغها إلا الخاصة وإنني سآتيهم بالجديد الذي لم يقرع أسماعهم، ولم يخطر لهم ببال وأني أقول للقراء أن ما سأعرضه عليهم قسمان، الأول نقد الطريقة التي تسلكها المدارس في تعليم اللغة، والثاني نقد علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة، وإبطال الباطل من قواعدها، وإحلال الحق محله فأما نقد أسلوب تعليم اللغة فإني أحب أن أطمئن القراء من جهته، فإن الحلول التي جئت بها سهلة لا غموض فيها، بسيطة لا تركيب فيها؛ وهكذا شأن الحقيقة تمتاز بالسهولة والبساطة، وقد أخذتها من العامة وأشباه العامة، أخذتها من الحائك إذ يعلم الحياكة، والحداد إذ يعلم الحدادة، والنجار إذ يعلم النجارة وليس فيما جئت به في هذا الموضوع جدة، وإنما هو قول معاد مكرور، قاله علماء الشرق قديماً وعلماء الغرب حديثاً، حتى أنني ترددت في عرضة على الناس، ولكن يشفع لي في عرضة أن قومي لم يعلموا به كأنهم لا يعرفونه، فقلت لعلهم يحتاجون إلى الإقناع به، وإقامة الدليل عليه، وإدارة الكلام على البرهان والإقناع، ليوافق طبقات الناس، وكذلك فعلت وأما نقد القواعد وبيان الباطل منها، وإحلال خير منها محلها.
فهي مسائل فنية يصعب فهمها إلا على الدارسين، وهي جديدة قد نشأت عن الدرس الطويل، والتأمل والتنقيب في هذه العلوم، وفيها لذة ومتعة، فسيرى فيها القراء مصاولة العقول ومقارعة الآراء، وسيرون علوما كانت تحاط بهالة من التقديس تنهار وتهدم، وعلوما أخرى حلت محلها وأخذت مكانها، فبدت أعلى منها وأسمق، وما نهدم ما نهدم إلا عن بينة وحجة، وما نبني ما نبني إلا عن بينة وحجة.
فما عدله الدليل فهو العدل الثقة، وما جرحه الدليل فهو المجرح المدخول فان كان ما جئت به حقاً فللقراء خيره وبركته، ولي ما كابدته من النصب والهم، وإن كان باطلاً فعلي تبعته وعاره، وخلاهم ذم ربما لم تعن أمة في العالم بلغة ما كما عنيت الأمم الإسلامية باللغة العربية، وقد عظمت هذه العناية واتصلت وتلاحقت مدة ثلاثة عشر قرنا، فتوافر العلماء عليها في القديم يدرسونها من نواحيها المختلفة، درسوا مفرداتها وعرفوا التغيرات التي تلحق المفرد، والأوزان التي يكون عليها، وكيف تتصرف الكلمة في الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة الخ.، وعرفوا قواعد ذلك وسموه علم الصرف، وعرفوا ما تدل عليه كل كلمة من معان، والشواهد التي يستشهد بها على هذه المعاني، ودونوا ذلك وسموه علم متن اللغة، ودرسوا نظمها وتراكيبها المختلفة، وما يفيده كل نظم وتركيب، ووضعوا قوانينه وسموه علم النحو.
ودرسوا فضيلة الكلام، ووضعوا القواعد التي يحسن بها الكلام وسموها علم البلاغة.
ودرسوا ما في لغة العرب من شعر ونثر وبينوا معانيه.
ودرسوا أوزان الشعر وأعاريضه وقوافيه.
وهلم جرا وضعوا كل ذلك في قوانين، ووضعوا هذه القوانين في كتب قد سطرت، وصحف قد نشرت، وكان كل جيل من الأجيال يزيد وينقص، ويغير ويبدل على حسب ما يتراءى له، ويضع الكتب الجمة والأسفار المختلفة، وكانوا يعكفون عليها يتدارسونها يعلمها كبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم، وقد ورثنا نحن هذه العناية فدرسناها في جميع معاهد التعليم، فهي تدرس في وزارة المعارف، في الأقسام الابتدائية والثانوية وفي التعليم الأولي، وهي تدرس في المعاهد الدينية والأزهر في الأقسام الابتدائية والثانوية، وهي تدرس في كلية اللغة العربية من كليات الأزهر، وفي كليتي الآداب من جامعتي فؤاد وفاروق، وهي تدرس في دار العلوم ومدارس المعلمين والمعلمات، ونصيبها من الحصص في هذه المعاهد نصيب الأسد عكفت مدارسنا على هذه القواعد التي استنبطها العلماء المتقدمون في النحو والصرف والبلاغة والعروض والقافية تدرسها وتضبط شوارد العربية على المتعلمين وكانت تقسم القواعد على سني الدراسة قسمة تراعي فيها الحكمة، فهي قليلة موجزة في الأقسام الابتدائية، وكثيرة مطولة بعض الشيء في الأقسام الثانوية، وهي مطولة كل التطويل ومستوعبة كل الاستيعاب في المدارس العالية إني لأعجب كيف تخفق مدارسنا وتخفق الأجيال قبلنا في تعليم هذه اللغة مع هذه العناية وهذا الجهد أينجح الحائك في تعليم الحياكة؟ والبناء في تعليم البناء، والنجار في تعليم النجارة، وكل ذي صنعة في الدنيا في تعليم صنعته، ويخيب رجل العلم والتربية في تعليم اللغة العربية؟ أينجح تلاميذ الصناع جميعاً إلا قليلاً، ويخيب تلاميذ رجال العلم إلا قليلاً مع أن الأولين يبذلون أقل جهد ومشقه في تعليم الصناع ولا يعللون المسائل ولا يفلسفونها، ولا يعملون شيئاً إلا أن يأخذوا المتعلمين بأعمال كثيرة من صنعتهم ويمرنوهم ويكرروا ذلك، فإذا هم قد حذقوا الصنعة وأجادوها، ومع أن الآخرين يبذلون كل جهد ومشقة، ويذكرون علل العربية ويفلسفونها، ويطلعون تلاميذهم على دقائقها وخفاياها لعل مازحاً يمزح ويقول أن سر هذا الإخفاق في هذه العناية، وسر هذا النجاح في هذا الإهمال وسنأخذ هذا المزاح جداً، ونرى أنه يشير إلى الطريق ونضع أن سر نجاح أولئك في طريقتهم وسر خيبة هؤلاء في طريقتهم سر نجاح أولئك في المرانة والتكرار حتى يكسبوا الصنعة، وسر خيبة هؤلاء في الاعتماد على القواعد وترك الحفظ والمرانة والتكرار ولو أخذ كل بطريقة الآخر لخاب الناجح، ونجح الخائب لو علم الحائك تلميذه بطريق القواعد فحسب، وظل طول عمره يقول له شد الخيط طولاً واسلك فيها الخيوط عرضاً ليتكون منها سدى ولحمة ولم يأخذه بأعمال الحياكة الكثيرة وتكرارها والمرانة عليها، لخاب في التعليم ولم يكسبه الحياكة، ولو أخذ عالم العربية بطريق المرانة والتكرار والحفظ، فحفظ تلاميذه أساليب العربية البليغة، ومثلها الرائعة مما يعتاد في الخطاب، وأخذهم بالنسج على منوالها في الحديث والكتابة والخطابة لنجح في تعليمه ولا عجب أن يكون هذا الصانع العامي أقرب إلى الحقيقة من هذا العالم المربي، لأن هذا العامي يرجع إلى الواقع ويستملي منه وهذا العالم قد أغفل الواقع وقلد ما كان عليه الآباء والأجداد هذا العامي يعلم أن قواعد الصنعة لا تعطي الصنعة، ولا يعطيها إلا تمرين المتعلم، وأخذه بنماذج كثيرة، وتكرير ذلك حتى يتقنها وهذا العالم أغفل هذه الحقيقة وظن أن قواعد اللغة تكسب اللغة وأن قواعد البلاغة تكسب البلاغة فأخذ يبدأ فيها ويعيد، ويكرر ويكثر من التكرار، فأكسبهم ملكة في قواعد اللغة، ولم يكسبهم ملكة اللغة سيهول هذا أقواماً ويرونه سخفاً من القول.
وقياساً مع الفارق، ويقولون: إنك لم تعمل شيئاً سوى أن قست قياساً فقلت تعليم وتعليم، ولغة وصنعة، وكما أن الصنعة لا تكسب بالقواعد إنما تكسب بالعمل والتكرار كذلك لا تكسب اللغة العربية بالقواعد فحسب إنما تكسب بالعمل والتكرار والحفظ، والقياس لا يفيد اليقين، فطرق العلم مختلفة، فهذا يعلم من طريق، وذاك يعلم من طريق آخر، فالروائح تعلم بالشم، والطعوم تدرك بالذوق، والألوان تدرك بالبصر، فكما لا يصح أن يقال: إن الأحمر قد كان طريق العلم به البصر فيجب أن يكون الحامض طريق العلم به البصر كذلك لا يصح القياس الذي ذكرته، فلعل هناك فارقاً بين الصنعة واللغة يجعل أحكامهما مختلفة، فتكون الصنعة تكسب بالتكرار، وتكون اللغة تكسب بالقواعد، فالقياس لا يجدينا ولا ينفعنا، فلا بد أن تأتي بالبرهان لنصدق به، ولا نجد عنه معدي وإني أعد القراء أن أجيء بالبرهان على أن اللغة كسائر الصنعات لا تكتسب بالقواعد، إنما تكسب بالحفظ والتكرار، وأن أدير الحديث على طرق إقناعية شتى حتى أفوز بإقناع أولي الأمر فنحل مشكلة من مشكلاتنا العديدة، لنفرغ لمشكلات أخرى. محمد عرفة

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن