سحر الكلمة
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
سحر الكلمةالكلمةُ ساحرةٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِنَ البيانِ لَسِحرًا))؛ رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما[1].
والبيان هو الكلام المُرتَّب، وهو - أيضًا - الإفصاحُ مع الذَّكاء[2]، والكلمة هي اللَّفْظةُ، والكلام هو القول، والكلمة الباقية هي كلمة التوحيد[3]، وللكلام سحرٌ؛ أي: له ما للسِّحر من غلَبة على القلب، وتأثير على النفس.
بالكلمة يرتقي الإنسان وبها يسقط ويهوي؛ ففي حديث معاذٍ في شرائع الإسلام، الذي جاء في آخره - بعد أن عدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم له شرائعَ الإسلام - قوله له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كلِّه؟))، قلتُ: "بلى يا نبي الله"، فأخذ بلسانه فقال: ((كُفَّ عليك هذا))، فقلت: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟!"، فقال: ((ثَكِلتْك أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النَّارِ على وجوههم - أو على مناخرِهم - إلا حصائدُ ألسنتِهم))؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح[4].
الكلمة مؤشر عميق لمعرفة الشخصية؛ فبالكلمة تستطيع أن تعرفَ ثِقَلَ صاحبها ومقامَه وقدرَه؛ أي: تستطيع أن تعرف أصاحبُها عاقلٌ أم مجنون؟ أمتعلم أم جاهل؟ أذكي أم أحمق؟ ذو رأي أم إمَّعة؟
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أظلُّ أهاب الرجل حتى يتكلَّم، فإن تكلَّم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي"، ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "المرء مخبوءٌ تحت لسانه"، ويقول سقراط: "تكلَّمْ حتى أراك"، وهنا يقصِد سقراط أن يرى حقيقةَ الشخص الذي يتحاور معه، فهو لا يأْبهُ للمظهر الخارجي، فما يعكس شخصيةَ وجوهرَ المرء هو كلامُه وليس مظهره.
لكل كلمة شحنة إما موجبة أو سالبة، إذا كانت الكلمة تحمل شحنةً موجبة، فإنها تُولِّد ردَّ فعلٍ موجبًا، أمَّا إذا كانت تحمل شحنة سالبة، فإنها تولِّد ردَّ فعل سالبًا؛ فعلى سبيل المثال: لو قال شخصٌ ما لشخصٍ آخر: "أنت قبيح"، فمن المتوقَّع أنه سيرُدُّ عليه قائلًا: "لم أرَ أقبحَ منك"، ولو قال - مثلًا -: "أنت إنسان رائع"، سيرد عليه قائلًا: "بل أنت الأحسن"، أو قال: "أنت جميل"، سيرد عليه: "عيونك الأجمل"؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108]؛ أي: إن لكل فعل ردَّ فعل، وحتى لا يسُبَّ المشركون اللهَ سبحانه وتعالى بغير علم لأنهم قومٌ جهلة لا يعرفون الله، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، وهكذا، فبالكلمة تَكسِب قلوبَ الناس، وبالكلمة تخسر الناس.
والله عز وجل يأمرنا بأن نقول كلامًا طيِّبًا للناس جميعًا، بغضِّ النظر عن الدين أو الجنس أو اللَّون؛ قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، والقول الحسن هو القول اللَّيِّن اللطيف الخالي من الغلظة والشدة، وما كان الرِّفق في شيءٍ إلا زانه، وما خلا من شيء إلا شانه، والله سبحانه وتعالى يقول لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
مما سبق يتضح أنه يجب على كل مسلم أن يختارَ كلماتِه بعناية شديدة؛ أي: يختار من الكلام أحسنَه وأعذبَه وأطيبه، وعليه أن يبتعدَ عن أقبحِه وأغلظه وأخبثه؛ كي لا يجرحَ الآخرين ولا يُؤذيَهم؛ فأذيَّةُ المسلم حرامٌ، بل أذية الإنسان لا تجوز، والكلام الحسن كله خير والخير كله حسن، ولا يُلام المرء على الصَّمت إذا كان لا خيرَ في الكلام، وإذا كان لا بد ممَّا ليس منه بُدٌّ، فلتكن - إذا تكلمت - من أولئك الذين إذا تكلَّموا أبدعوا فأقنعوا فأمتعوا، واعلم أن خلاصة الذكاء في الإيجاز، ولا ضيرَ في حشوِ الكلام.
واعلم أن الكلمة الطيبة تحمل شحنة موجبة، وتصنع رد فعل موجبًا، وتبني عَلاقات اجتماعية موجبة (طيِّبة)، وبها تنتشر ثقافةُ المحبة والمودَّة والأُلفة والإخاء، وفي المقابل، فإن الكلمة ذات الشحنات السالبة تهدم ولا تبني، وتصنع علاقات اجتماعية سيِّئة.
ويمكن القول أن الكلام نوعان:
أولًا: ذكر الله، ويجب الإكثار منه، وهل هنالك كلام أحلى وأطيب من ذكر الله؟ لا والله، فذكر الله طيب، وكله ذو شحنات موجبة، يُحيي القلوب، وينير الدروب.
ثانيًّا: ذكر الدنيا وأحوالها، ويُفضَّل الإقلال منه إلا إذا كان في جلب منفعة أو دفع ضرر، وأن يفيَ بالغرض، وأن يُقدَّمَ في حينه، وأن تُختارَ كلماتُه بعناية، وأن يملأه التفاؤل، وأن يخلوَ من التشاؤم؛ فقد جاء في الأثر: "تفاءلوا بالخير تجدوه".
وأخيرًا، إذا أردتَ أن تكون رئيسًا فليكن كلامُك رئيسَ الكلام، وإذا أردت أن تكون أميرًا فليكن كلامك أميرَ الكلام، وإذا أردت أن تكون عميدًا فليكن كلامك عميد الكلام، وإذا أردت أن تكون شيخًا فليكن كلامك شيخ الكلام.
والسلام ختام
[1] أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري، الطبعة الأولى، بيروت - دار ابن كثير، ص 1312، 1423هـ - 2002م.
[2] مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي: القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة 2005.
[3] المصدر السابق.
[4] يحيى بن شرف الدين النووي: شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، الطبعة الرابعة، دمشق، مكتبة دار الفتح، 1404هـ.