أرشيف المقالات

إياكم والجلوس على الطرقات (2)

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
إياكم والجلوس على الطرقات (2)


عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إيَّاكم والجلوسَ على الطُّرقات))، فقالوا: يا رسولَ الله، ما لنا بدٌّ، إنَّما هي مجالسنا نتحدَّث فيها؟ قال: ((فإذا أبَيتم إلاَّ المجالس، فأعطوا الطريقَ حقَّها))، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: ((غضُّ البصَر، وكفُّ الأذَى، وردُّ السَّلام، والأمرُ بالمعروف والنَّهي عن المنكر))؛ رواه الشيخان.
 
الشرح والبيان:
انتهينا بالقارئ الكريم في المقال الأوَّل عند قول النبيِّ صلوات الله وسلامه عليه: ((وكفُّ الأذى))، فمِن حقِّ الطَّريق ألاَّ يؤذِي المؤمنُ الناسَ بأيِّ نوعٍ من أنواع الإيذاء؛ بالقولِ أو الفعل أو الإشارة، فلا يمدُّ يدَه إليهم بضربٍ، أو وضع شيء في الطَّريق العام يؤذِي النَّاس في شعورهم، أو يعطِّل حركةَ مرورهم، ولا يسلِّط لسانَه عليهم بهُجْر القول، وفُحش الكلام، ومن ذلك المُغازلة التي بسَطنا لك القولَ فيها في الشرح السَّابق، ولا يشير إلى أحد المارَّة إشارةَ سُخرية أو تهكُّم أو تغامزٍ عليه احتقارًا له كتغامز الفسَّاق والمجرمين على المؤمنين الصادقين الذين ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، ولقد نرى كثيرًا من النَّاس في الأرياف يجلسون على المصاطب ينتقدون عبادَ الله، وهم في شؤون دُنياهم وفي المدن على الأرصِفة والمقاهِي العامَّة يَضحكون على المارَّة، ويشيرون إليهم إشارةَ الاستهزاء، ويتفكَّهون بهذه المناظر، كأنَّهم بهذا الخُلق الدنيء يعيدون عهدَ الجاهليَّة أيام كان المشركون يقعدون للمؤمنين كلَّ مَرصَد، يتغامزون عليهم ويَضحكون، ويشيرون إليهم ويسخرون، فأنزل اللهُ في شأنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المطففين: 29- 36]، وهكذا قضى جلَّ شأنُه بأن يَقتصَّ لعباده منهم في دار الخلود؛ حيث مكَّنهم وهم في منازلهم العالية في الجنَّة من النَّظر إلى جماعة المستهزئين وهم في درَكات الجحيم يُعذَّبون، يضحكون منهم كما كانوا يَضحكون عليهم في الدُّنيا، ويتغامزون ويسخرون منهم كما كانوا يَسخرون؛ فإنَّ الجزاء من جِنس العمَل، فلينظر هؤلاء الذين جَعلوا حظوَتهم الضَّحك والسُّخرية من الناس كيف يمثِّلون دَور المجرمين في الجاهلية، فإنَّ الآية تجرُّ عليهم، ولن يرضى الإسلامُ عمَّن ينتسب إليه ولم يتأدَّب بآدابه وتعاليمِه القويمة، فـ((المسلِم من سَلِم المسلمون من لسانه ويدِه))، ولعلَّ هؤلاء الذين يَسخرون منهم أعزُّ عند الله مقامًا وأرجى قبولاً، فقد قال جلَّت حِكمتُه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، وهل بقي بعد الفسوقِ والظُّلم شيء؟! لكنَّه انقلاب الأوضاع في هذا الزَّمن، كاد يجعل الرَّذيلة فضيلة، ولله درُّ من قال:

الناسُ مثل زمانهم
قَدُّ الحِذاء على مثالِهْ

ورجالُ دهرك مثل دَهْ
رِك في تقلُّبِه وحالِهْ

وكذا إذا فسد الزَّما
نُ جرى الفسادُ على رجالِهْ

 
ويدخل في كفِّ الأذى: ألاَّ تخالط الناس إذا كنت مريضًا مرضًا معديًّا أو منفِّرًا؛ حتى لا تضرَّ الناس في صِحَّتهم أو شعورِهم، وإن وجدتَ حَجَرًا أو شَوكًا في الطريق العام فعليك إزالته؛ فإنَّ إماطة الأذى عن الطَّريق صدَقة، وإن وجدتَ أعمى يتخبَّط في مشيته أو ضالاًّ لا يهتدي إلى غايته، فخذ بيده إلى طَلِبَتِه؛ فإنَّ ذلك مِن سماحة المسلِم ونُبلِه، وقد لا يخلو الحال مِن أن تقع هَفوة من أحد المارِّين أو الجالسين معك، فعليك بالصَّفح والتحمُّل؛ فإنَّ ذلك من سجايا المحسنين الذين يَكظمون الغيظَ ويعفون عن النَّاس، أرأيتَ الأحنفَ بن قيس رحمه الله تعالى، وقد سُلِّط عليه سفيه وهو في طريقه إلى منزله، وأخذ يكيل له مِن أنواع الشَّتائم ما لا سبيل إلى احتماله؟ كلُّ ذلك والأحنف سائِر في طريقه لا يَلتفتُ إليه ولا يحسُّه، حتى كان من الحيِّ قابَ قوسين أو أدنى والسَّفيه سادر في غلوائه لا ينفكُّ عن سبِّه وشَتْمه، فالتفتَ إليه الأحنفُ، وقال: إن كان قد بَقي في نفسك شيءٌ فقله؛ كي لا يستمعك أحدٌ من الحيِّ فيؤذِيك، بل هذا الإمام علي رضي الله عنه دعا خادمَه مثنى وثُلاث فلم يردَّ عليه، ولما استبطأه قام إليه فرآه مضطجعًا، فقال له: أما سمعتَ يا غلام؟ قال: قد سمعتُ نداءَك ولكنِّي لم أُجِبك؛ لأنَّني قد عرفتُ حِلمك وأمِنتُ عقوبتَك، فقال له علي رضي الله عنه: اذهب فأنتَ حرٌّ لوجهِ الله تعالى.
 
وهكذا حثَّ الإسلامُ على منع الأذى واحتمالِه، وجعل ذلك حقًّا من حقوق الطَّريق، فعليك به، وإلاَّ فلْيَسَعْك بيتُك؛ فإنَّ ذلك أَولى وأسلم.

سأُلزِم نفسي الصَّفحَ عن كلِّ مذنب
وإن كثرَت مِنه عليَّ الجرائمُ

فما النَّاسُ إلاَّ واحد من ثلاثةٍ
شريف ومشروف ومِثلٌ مقاومُ

فأمَّا الذي فوقي فأعرِف قدرَه
وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ لازمُ

وأمَّا الذي دوني فأحلم دائبًا
أصون به عِرضي وإن لامَ لائمُ

وأمَّا الذي مثلي فإن زلَّ أو هفَا
تفضَّلتُ إنَّ الفضلَ بالفخر حاكمُ

 
ومن حقوق الطَّريق (رد السلام)؛ فإنَّ السلام رسولُ الأُلفة، وحلِيف المودَّة، وهو تحيَّة المسلمين وشعارهم الذي يقوِّي أواصِر المحبَّة، ويُحكم روابِط الأخوَّة بين المؤمنين، وسبيل إلى الجنَّة، فقد قال أحكمُ الخَلق صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلوا الجنَّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحابَبتُم؟ أفشو السلامَ بينكم))، فلا تسأمنَّ كثرةَ المارِّين عليك، يحيونك بتحيَّة الإسلام، فقد وجب عليك الردُّ والحبُّ والود؛ لأنَّ ذلك حقٌّ مقدَّس عليك ما دمتَ أبيتَ إلاَّ المجلس.
 
ومِن أقدَس حقوق الطَّريق (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فإذا رأيتَ شابًّا يتعرَّض لفتاة أو يعاكسها، فمُرْه بالاستقامةِ في حِكمةٍ وموعظةٍ حسنة، فإن لم ينتَه فأغلِظ له دِفاعًا عن الشَّرَف وصونًا للأعراض، من غير أن تعرِّض نفسَك لما لا تُحمد عُقباه، وإن رأيتَ بائعًا ينقصُ الكَيلَ والميزان فانصَح له بالعدل، وانهَه عن ذلك في لُطفٍ وكرَم، وإن رأيتَ سارِقًا فأمسك بتلابيبِه حتى يردَّ الحقَّ إلى أهله، أو سلِّمه للشرطيِّ ليقوده إلى الحاكم، وإن رأيتَ ضعيفًا أو مظلومًا أو ملهوفًا، فانصره وخُذ بيده.
 
ومن حقِّ المجالِس على العموم: تبادُل الاحترام بين الجالسين، وأن يكون حديثهم بريئًا نزيهًا من الخوضِ في أعراض النَّاس والنَّيل منهم، واحذر أندية السوء وأخدان الشَّيطان؛ فإنَّ مجلسهم قوامه الغِيبة والنَّميمة، واعلم أنَّ كثيرًا من أصدقائك لا يعرفونك إلاَّ حيث تُنفق أموالَك عليهم، ولا ينظرون إليك إلاَّ وقتَ إسداء الجميل إليهم، فإذا نزلَتْ بك النَّوازلُ لا تجد أحدًا يوافيك، ولا خِلاًّ إذا طلبتَه يلبِّيك، فالودُّ الآن كله صَنعة وعِلَل وخداع:

ولما صار ودُّ النَّاس خبًّا
جزيتُ على ابتسامٍ بابتسامِ

وصِرتُ أشك فيمن أَصطفيه
لعِلمي أنَّه بَعضُ الأنامِ

 
ومن وصايا الإسلام لأهلِ المجلس الواحد أن يفسح بعضُهم لبعض: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المجادلة: 11]، ولا يقيم الرجلُ الرجلَ مِن مجلسه ثمَّ يجلس فيه كما يفعل بعضُ المتغطرِسين الذين يظنُّون أنَّ لهم فوق الناس درجةً؛ لأنَّهم أكثر مالاً، أو أبهى مظهرًا؛ فإنَّ سماحة الإسلام وهو دِين المساواة تأبى هذا الشُّذوذ الذي تتألَّم مِنه النَّفس وينكسر القلب.
 
ومن أدب المجالس: ألاَّ يستبدَّ أحدٌ بالكلام وحدَه دون الحاضرين كما نراه من بعض الثُّقلاء المتفيهقين الثَّرثارين، وليجلس كلُّ واحدٍ في المكان اللاَّئق به؛ فإنَّ ذلك أحفظ للكرامة والتَّقدير، وليكن حيثُ انتهى به المجلس؛ فإنَّه سائغٌ وجميل.
 
ومن الأدب الإسلامي: إذا كنتم ثلاثةً وضمَّكم مجلسٌ واحد، فلا يتسارَّ اثنان ويقتصرا على الحديث ويهمِس كلٌّ في أذن صاحبه دون الثالث؛ فإنَّ ذلك ممَّا لا تحتمله النَّفس الأبيَّة، ولا يلائم الذَّوق الإنساني بحالٍ، من أجل ذلك قال المربِّي الأعظم سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثةً، فلا يتناجى اثنانِ دون الآخر حتى تختلِطوا بالنَّاس؛ أجل أنَّ ذلك يحزنه))، وأيُّ حُزن ذلك الذي تَنفعل به نفس الحرِّ حينما يُبتلى في مجلسٍ باثنين من أنطاع البشَر، فيومئ كلٌّ منهما للآخر، ويتَّخذانه في مجلسهما هدفًا أو حجرًا؟ إنَّ هذه لإحدى الكُبَر، فإذا كان ولا بدَّ بينهما كلام خاص، فليُمسِكا عنه حتى يختلطوا بالنَّاس؛ فإنَّ ذلك من الذَّوق ومكارِم الأخلاق.
 
هذه بعض وصايا الإسلام الحكِيمة في آداب المجتمعات والأندِية والطُّرقات، وهي كما ترى دقِيقة المبنى، جزيلة المعنى، توافِق الفِطَر السَّليمة وتأخذ بها إلى المثَل الأعلى من الكمال، فلو أنَّ النَّاس أخذوا أنفسَهم بها لكنَّا اليوم خيرَ أمَّة أُخرجَت للناس، كما هو وضعنا الذي خُلِقنا لأجله، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ورحم الله امرأً سمِع الحكمةَ فوعاها، وحفظها وعمل بها وعلَّمها غيرَه، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، والسلام على من اتبع الهدى.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣