الدعوة إلى الله وسنة الابتلاء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

إخوتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن لله تعالى حكماً، وله في خلقه شئون، وهذه الشئون والحكم صادرة عن حكمه وعلمه، فهو سبحانه العليم الحكيم، وإن من حكمه أنه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، فلذلك خلق هذا الخلق وأحصاهم عدداً، واختار من بينهم خيرته من خلقه، وجنده وحزبه، وجعلهم طبقات؛ أعلاها طبقة الأنبياء الذين اختارهم، واستخلفهم واجتباهم لنفسه، ثم يليهم الصديقون الذين هم في المنزلة الثانية، ثم الشهداء الذين استشهدهم على خلقه، ورضي منهم بأن قدموا أرواحهم بين يديه، تعظيماً لشأنه، وإعلاء لكلمته، وإعزازاً لدينه، ثم أردف هؤلاء ببقية الصالحين الذي اتصفوا بأوصاف جليلة يجمعها هذا الاسم العظيم.

وإن من معاملة الله تعالى لهؤلاء الخيرة من خلقه: أنه يبتليهم، ويجعل لهم في المحن منحاً، فكل محنة لهؤلاء في طيها منحة، وهذا من غريب الاتفاق بين اللفظين، وإحداهما ظرف للأخرى.

فلذلك فإن الله عز وجل ابتلى هؤلاء الرسل، وهؤلاء الصديقين، وهؤلاء الشهداء، وهؤلاء الصالحين بحكم ونعم عجيبة يجدونها في ذلك البلاء.

تحقق الإقبال على الله والالتجاء إليه

ومن أهم هذه المحن وهذه النعم: أنهم يجدون في صدورهم الإقبال على الله، ويجدون بغية الالتجاء إليه، ولا يتحقق هذا إلا في حال المحنة، وكثير من الناس لا يدرك حلاوة الصلة بالله تعالى، ولا حلاوة الفقر إليه. والمؤمنون الموحدون هم الذين إذا انقطعت صلاتهم بخلق الله، واتصلت صلتهم بالله، وجدوا حلاوة ذلك في نفوسهم، ووصلوا إلى قمة السعادة، وعندما تنقطع أسباب الدنيا، وتغلق أبوابها، ويفتح باب الحي القيوم، يجدون السعادة الكاملة التي لا يعدلها شيء، وفي ذلك يقول أحد الحكماء:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

وكذلك يقول أحد علماء هذا البلد، وهو: مولود بن أحمد الجواد رحمه الله تعالى:

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب قوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

لذلك فإن هذه النعمة العظيمة التي تباشر بشاشة قلوبهم، ويجدونها هي سعادة الدنيا والآخرة. سعادة الدنيا بقطع الصلات عن غير الله، والشواغل عنه، فينشغلون بالله، ويقبلون عليه، فيخلصون له الدعاء، ويرفعون أكفهم بين يديه بالضراعة، وهذا أشرف أحوال العبد، فإن أشرف أحوال العبد: إذا تحققت فيه صفة الفقر، وتحقق بذلك إيمانه بصفة جلال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فإذا عرف المؤمن حقاً صفاته هو، فإنه بذلك يعرف ربه بضد هذه الصفات، ولهذا يقول أحد علمائنا، وهو: محمد بن فال بن سال رحمه الله تعالى:

بالذل والفقر تحقق تظفر بالعز والغنى من المقتدر

فهنا صفات خاصة بالمخلوق؛ وصفات مضادة لها خاصة بالخالق، فالمخلوق يتصف بهذه الصفات: بالذل والفقر، فيقتنع على أن البارئ سبحانه وتعالى متصف بالغنى والقدرة والعزة، ولذلك تحقق عزة المؤمنين عندما يلتجئون إلى الله تعالى، وينفردون.

ولاحظوا مواقع النصر التي حددها الله تعالى في كتابه، فاذكروا قول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]؛ لذلك فإن هذه هي النعمة الأولى من نعم البلاء.

رفع الدرجات

أما النعمة الثانية فهي: أن الله عز وجل عندما يبتلي عبداً فيصبر، فإنه يعلي له الدرجة، ويثبت قدمه، ويكتب له البقاء، ومن المعلوم أن هذه الدنيا دار تقلب، وأنها لا تدوم على حال، وأن كل أمورها أعراض إلى الزوال، ولذلك لا تزن عند الله جناح بعوضة، أما الدار الآخرة فهي دار البقاء والخلود، وأنها لا تنال إلا بهذه العقبات، وأن سبيل الجنة محفوف بالأشواك، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )؛ ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل لما خلق الجنة، وبارك فيها، وجعل فيها من الأرزاق والأقوات أرسل إليها جبريل قبل أن يحفها بالمكاره، فقال: ( وعزتك وجلالك لا يراها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، ولما خلق النار أرسل إليها جبريل فقال: وعزتك وجلالك لا يراها أحد، أو يسمع بها فيدخلها، فحفها بالشهوات، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يبقى عنها أحد )؛ لذلك فإن هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الصالحين يعلي الله تعالى منزلتهم في الآخرة لما يتعرضون له من البلاء، وأما في الدنيا فإن الله عز وجل متصف بصفة تسمى: اللطف، واللطف: إدراج الأمور في صور أضدادها.

فمثلاً: حين رمي يوسف وهو ولد صغير قبل أن يبلغ الحلم في جب، أي: في بير، واستخرجته تلك السيارة، وباعته في مصر بثمن بخس بعيد عن أهله، واشتغل في الخدمة، فلما وصل إلى الحلم، وبلغ أشده، وقوته امتحن بامرأة العزيز، ثم بعد ذلك أودع في السجن فترة طويلة، ليخرج منه وهو عزيز مصر وواليها، والمشرف على وضع الخطة التي دامت خمس عشرة سنة، وهذه الخطة الاقتصادية المحكمة أنتجها يوسف من خلال وضعه في السجن، يقول تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49] فهذه خطة اقتصادية لمدة خمس عشرة سنة، وهي خطة متكاملة بكل ما فيها من نقاط القوة، ونقاط الضعف، ومن الوجوه المتاحة، ومن التلبيات المفتوحة، وقد وضعها يوسف للملك.

وأخرج من هذا السجن عزيزاً منتصراً، وكتب الله له البراءة على لسان من اتهمته، يقول تعالى: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52]، وهذه البراءة التي كتب الله ليوسف على لسان هذه المرأة التي ادعت عليه زوراً وبهتاناً ما برأه الله منه، وحال بينه وبينه لذتها مثل لذة الوجدان، لو لم يكن يوسف في قفص الاتهام لما نال لذة البراءة، ولذة البراءة أمر عظيم، ونعمة جلى من رب العالمين.

تثبيت الأقدام

وكذلك من هذه النعم: أن الله عز وجل يثبت أقدام هؤلاء، فيعلي منزلتهم، ويقربهم على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، ولا شك أن العبد الموحد يلاحظ صفات الله عز وجل المتداولة، وهي صفات الأفعال، وصفات الأفعال منها اشتقت الأسماء، فتجدون من صفاته: القابض الباسط، وتجدون النافع الضار، وتجدون المعز المذل.

وهكذا من صفات الأفعال التي فيها تقابل، والتي استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعضها ببعض، إلى أن وصل إلى ما لا بد له وهو الله، فاستعاذ به منه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم والموطأ أنه كان يقول في سجوده: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )، فهؤلاء العباد الذين اختارهم الله تعالى ليقدرهم ويقويهم على الأذى؛ ليعلي بذلك منزلتهم، فيجعلهم وجهاء، ولاحظوا قول الله تعالى في موسى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

ولا شك أن كل أمر بذل في سبيله الكثير لا بد أن يخلد الأزمنة المتطاولة، وأما الأمر الذي لم يضح في سبيله، وإنما نيل بأبسط الأسباب، فإنه عرضة للزوال، وإن هؤلاء الذين امتن الله تعالى عليهم ببراءتهم وتبرئتهم من الناس سيبقى ذكرهم خالداً تتداوله الألسنة، ويعلي به الله تعالى منزلتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولاحظوا قول إبراهيم عندما طرده أبوه وقومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:78-84]، وهذا اللسان أعطاه الله تعالى لإبراهيم وقد أمر محمداً صلى الله عليه وسلم، وأتباعه أن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.

تثبيت القلوب والركون إلى الله وحده

كذلك من هذه النعم التي من أجلها امتحن الله تعالى هؤلاء العباد: نعمة التثبيت، وأنتم تعرفون أن الناس يركنون إلى أولي الشجاعة والثبات، ويصفونهم بأوصاف الكمال؛ ولذلك فإن الشجاعة مرتبطة بالرجولة، ولا شك أنها وصف حميد حتى في الحيوانات البهيمية، ولا شك أن كثيراً منكم يميز بين الأرنب والأسد، فالأسد متصف بوصف شريف، وهو الشجاعة، والأرنب تتصف بوصف مخالف لذلك، وهو عدم الشجاعة والجراءة، فجرأة الأسد وصف حميد يتصف به الرجال الأشداء عندما يمتحنون فيثبتون، أما قبل المحنة فإنهم لا يدرون هل هم متصفون بهذا الوصف أو لا.

أنتم اليوم قبل أن تمتحنوا لعل فيكم كثيراً من الشجعان، كثيراً من الأقوياء، كثيراً من ذوي الجلد والجراءة، ولكن ذلك مستور بستار لا نطلع عليه اليوم؛ لأنه إنما يكون تحت المحك، فإذا جاء المحك فسيبرز أهل الجلد والقوة والشجاعة، لكن قبل أن يأتي هذا المحك لا يمكن لنا أن نمدح أحداً بأنه شجاع من بين الحاضرين؛ لأننا لا ندري لعلنا نمدحه بخلاف ما فيه، فنكون متهكمين، لكنه إذا وقف تلك الوقفة الشجاعة، وثبت في ذلك الموقف العظيم كما وقف أبو بكر الصديق عندما ارتد العرب عن دين الله، فقال: ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم قام خطيباً على المنبر، وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، ثم كسر قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي ) أي: لا يمكن أن يتعرض لهذا الدين أحد وأنا معافى في بدني، وفي صحتي، وفي كل أموري، فهذا الموقف الذي ظهر منه لو لم يمتحن الله تعالى هذه الأمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفته، ولما سجله التاريخ لـأبي بكر الصديق ، فإنه لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لما عرفنا شجاعة أبي بكر الصديق ، ولا كتب له هذا الموقف المشرف الذي ما زال يذكر على رءوس الملأ فيشكر، وهو الذي يعلي الله به منزلته في الدار الآخرة.

وكذلك موقف ذلك الطفل الصغير الذي اتسع فمه من ثدي أمه، فقال: يا أماه! نار الدنيا خير من نار الآخرة، قال لها ذلك عندما كانت تعرض على الأخدود لترمى فيه، وتفتن عن دينها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل جاء إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فأضجعه فذبحه )، فهذا سيد الشهداء، وأفضلهم بعد حمزة بن عبد المطلب ؛ لأنه قد امتحن فصبر، وبان جلده، وبانت شجاعته، فلذلك هانت عليه الدنيا في سبيل مرضاة الله.

وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدجال عندما يأتي، يخرج له رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إنك للدجال الذي أخبرنا عنك رسولنا صلى الله عليه وسلم، فيأمر به فيفلق، ويجعل فلقتين، ويمر الدجال بينهما ثم يدعوه فيقوم ما به بأس، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيضجعه ويريد أن يذبحه، فيجعل الله ما بين ذقنه إلى ترقوته من النحاس، فلا يستطيع ذبحه )، وهذا من أولى الناس بالشهادة، ومن أفضلهم.

ولذلك نوه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن ثبات مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، فهذا الموقف الشريف الذي سجله الله لهذا الرجل في كتابه، وبقي يتلى إلى أن يرفع القرآن، هو بسبب تلك الشجاعة التي لم تكن لتظهر ما دام مختفياً.

وكثير من الناس اليوم متصف بصفات جميلة، ومتصف بصفات يمكن أن تؤدي إلى الأجر، وإلى الذكر، وإلى الشكر، ولكنها لا تبدو ولا يطلع عليها؛ لأنها بمثابة الكبريت الأحمر، والصورة بالفكر أنه ناقص الثقة في نفسه فلا يجربها، ولا يضعها على المحك، ولكنه عندما ينفي الأوهام عن نفسه، ويبرز للبارئ الذي فطره وسواه، ويحقق إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، يمكن أن يقول ما قال نوح : فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56].

ويمكن أن يقول ما قال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174].

ويمكن أن يقول ما قال إبراهيم عندما رمي بالمنجنيق في النار، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، ولا شك أن هذه من النعم العظيمة في هذا البلاء.

وهذا الامتحان مدعاة للتأثير في حياة أصحابه، وفي حياة أعدائهم أيضاً، فلا شك أن الذي يبتلى فيصبر في ذات الله، ويرضى بقدر الله، ويعلم أن ما أصابه من عند الله، فإنه يحب البلاء بسبب كونه من عند الله.

ومن أهم هذه المحن وهذه النعم: أنهم يجدون في صدورهم الإقبال على الله، ويجدون بغية الالتجاء إليه، ولا يتحقق هذا إلا في حال المحنة، وكثير من الناس لا يدرك حلاوة الصلة بالله تعالى، ولا حلاوة الفقر إليه. والمؤمنون الموحدون هم الذين إذا انقطعت صلاتهم بخلق الله، واتصلت صلتهم بالله، وجدوا حلاوة ذلك في نفوسهم، ووصلوا إلى قمة السعادة، وعندما تنقطع أسباب الدنيا، وتغلق أبوابها، ويفتح باب الحي القيوم، يجدون السعادة الكاملة التي لا يعدلها شيء، وفي ذلك يقول أحد الحكماء:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

وكذلك يقول أحد علماء هذا البلد، وهو: مولود بن أحمد الجواد رحمه الله تعالى:

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب قوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

لذلك فإن هذه النعمة العظيمة التي تباشر بشاشة قلوبهم، ويجدونها هي سعادة الدنيا والآخرة. سعادة الدنيا بقطع الصلات عن غير الله، والشواغل عنه، فينشغلون بالله، ويقبلون عليه، فيخلصون له الدعاء، ويرفعون أكفهم بين يديه بالضراعة، وهذا أشرف أحوال العبد، فإن أشرف أحوال العبد: إذا تحققت فيه صفة الفقر، وتحقق بذلك إيمانه بصفة جلال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، فإذا عرف المؤمن حقاً صفاته هو، فإنه بذلك يعرف ربه بضد هذه الصفات، ولهذا يقول أحد علمائنا، وهو: محمد بن فال بن سال رحمه الله تعالى:

بالذل والفقر تحقق تظفر بالعز والغنى من المقتدر

فهنا صفات خاصة بالمخلوق؛ وصفات مضادة لها خاصة بالخالق، فالمخلوق يتصف بهذه الصفات: بالذل والفقر، فيقتنع على أن البارئ سبحانه وتعالى متصف بالغنى والقدرة والعزة، ولذلك تحقق عزة المؤمنين عندما يلتجئون إلى الله تعالى، وينفردون.

ولاحظوا مواقع النصر التي حددها الله تعالى في كتابه، فاذكروا قول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40]؛ لذلك فإن هذه هي النعمة الأولى من نعم البلاء.

أما النعمة الثانية فهي: أن الله عز وجل عندما يبتلي عبداً فيصبر، فإنه يعلي له الدرجة، ويثبت قدمه، ويكتب له البقاء، ومن المعلوم أن هذه الدنيا دار تقلب، وأنها لا تدوم على حال، وأن كل أمورها أعراض إلى الزوال، ولذلك لا تزن عند الله جناح بعوضة، أما الدار الآخرة فهي دار البقاء والخلود، وأنها لا تنال إلا بهذه العقبات، وأن سبيل الجنة محفوف بالأشواك، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )؛ ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل لما خلق الجنة، وبارك فيها، وجعل فيها من الأرزاق والأقوات أرسل إليها جبريل قبل أن يحفها بالمكاره، فقال: ( وعزتك وجلالك لا يراها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، ولما خلق النار أرسل إليها جبريل فقال: وعزتك وجلالك لا يراها أحد، أو يسمع بها فيدخلها، فحفها بالشهوات، فأرسله إليها، فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يبقى عنها أحد )؛ لذلك فإن هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الصالحين يعلي الله تعالى منزلتهم في الآخرة لما يتعرضون له من البلاء، وأما في الدنيا فإن الله عز وجل متصف بصفة تسمى: اللطف، واللطف: إدراج الأمور في صور أضدادها.

فمثلاً: حين رمي يوسف وهو ولد صغير قبل أن يبلغ الحلم في جب، أي: في بير، واستخرجته تلك السيارة، وباعته في مصر بثمن بخس بعيد عن أهله، واشتغل في الخدمة، فلما وصل إلى الحلم، وبلغ أشده، وقوته امتحن بامرأة العزيز، ثم بعد ذلك أودع في السجن فترة طويلة، ليخرج منه وهو عزيز مصر وواليها، والمشرف على وضع الخطة التي دامت خمس عشرة سنة، وهذه الخطة الاقتصادية المحكمة أنتجها يوسف من خلال وضعه في السجن، يقول تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:47-49] فهذه خطة اقتصادية لمدة خمس عشرة سنة، وهي خطة متكاملة بكل ما فيها من نقاط القوة، ونقاط الضعف، ومن الوجوه المتاحة، ومن التلبيات المفتوحة، وقد وضعها يوسف للملك.

وأخرج من هذا السجن عزيزاً منتصراً، وكتب الله له البراءة على لسان من اتهمته، يقول تعالى: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52]، وهذه البراءة التي كتب الله ليوسف على لسان هذه المرأة التي ادعت عليه زوراً وبهتاناً ما برأه الله منه، وحال بينه وبينه لذتها مثل لذة الوجدان، لو لم يكن يوسف في قفص الاتهام لما نال لذة البراءة، ولذة البراءة أمر عظيم، ونعمة جلى من رب العالمين.

وكذلك من هذه النعم: أن الله عز وجل يثبت أقدام هؤلاء، فيعلي منزلتهم، ويقربهم على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له )، ولا شك أن العبد الموحد يلاحظ صفات الله عز وجل المتداولة، وهي صفات الأفعال، وصفات الأفعال منها اشتقت الأسماء، فتجدون من صفاته: القابض الباسط، وتجدون النافع الضار، وتجدون المعز المذل.

وهكذا من صفات الأفعال التي فيها تقابل، والتي استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعضها ببعض، إلى أن وصل إلى ما لا بد له وهو الله، فاستعاذ به منه، كما ثبت عنه في صحيح مسلم والموطأ أنه كان يقول في سجوده: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )، فهؤلاء العباد الذين اختارهم الله تعالى ليقدرهم ويقويهم على الأذى؛ ليعلي بذلك منزلتهم، فيجعلهم وجهاء، ولاحظوا قول الله تعالى في موسى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

ولا شك أن كل أمر بذل في سبيله الكثير لا بد أن يخلد الأزمنة المتطاولة، وأما الأمر الذي لم يضح في سبيله، وإنما نيل بأبسط الأسباب، فإنه عرضة للزوال، وإن هؤلاء الذين امتن الله تعالى عليهم ببراءتهم وتبرئتهم من الناس سيبقى ذكرهم خالداً تتداوله الألسنة، ويعلي به الله تعالى منزلتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولاحظوا قول إبراهيم عندما طرده أبوه وقومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:78-84]، وهذا اللسان أعطاه الله تعالى لإبراهيم وقد أمر محمداً صلى الله عليه وسلم، وأتباعه أن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.

كذلك من هذه النعم التي من أجلها امتحن الله تعالى هؤلاء العباد: نعمة التثبيت، وأنتم تعرفون أن الناس يركنون إلى أولي الشجاعة والثبات، ويصفونهم بأوصاف الكمال؛ ولذلك فإن الشجاعة مرتبطة بالرجولة، ولا شك أنها وصف حميد حتى في الحيوانات البهيمية، ولا شك أن كثيراً منكم يميز بين الأرنب والأسد، فالأسد متصف بوصف شريف، وهو الشجاعة، والأرنب تتصف بوصف مخالف لذلك، وهو عدم الشجاعة والجراءة، فجرأة الأسد وصف حميد يتصف به الرجال الأشداء عندما يمتحنون فيثبتون، أما قبل المحنة فإنهم لا يدرون هل هم متصفون بهذا الوصف أو لا.

أنتم اليوم قبل أن تمتحنوا لعل فيكم كثيراً من الشجعان، كثيراً من الأقوياء، كثيراً من ذوي الجلد والجراءة، ولكن ذلك مستور بستار لا نطلع عليه اليوم؛ لأنه إنما يكون تحت المحك، فإذا جاء المحك فسيبرز أهل الجلد والقوة والشجاعة، لكن قبل أن يأتي هذا المحك لا يمكن لنا أن نمدح أحداً بأنه شجاع من بين الحاضرين؛ لأننا لا ندري لعلنا نمدحه بخلاف ما فيه، فنكون متهكمين، لكنه إذا وقف تلك الوقفة الشجاعة، وثبت في ذلك الموقف العظيم كما وقف أبو بكر الصديق عندما ارتد العرب عن دين الله، فقال: ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم قام خطيباً على المنبر، وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، ثم كسر قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي ) أي: لا يمكن أن يتعرض لهذا الدين أحد وأنا معافى في بدني، وفي صحتي، وفي كل أموري، فهذا الموقف الذي ظهر منه لو لم يمتحن الله تعالى هذه الأمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفته، ولما سجله التاريخ لـأبي بكر الصديق ، فإنه لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لما عرفنا شجاعة أبي بكر الصديق ، ولا كتب له هذا الموقف المشرف الذي ما زال يذكر على رءوس الملأ فيشكر، وهو الذي يعلي الله به منزلته في الدار الآخرة.

وكذلك موقف ذلك الطفل الصغير الذي اتسع فمه من ثدي أمه، فقال: يا أماه! نار الدنيا خير من نار الآخرة، قال لها ذلك عندما كانت تعرض على الأخدود لترمى فيه، وتفتن عن دينها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل جاء إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فأضجعه فذبحه )، فهذا سيد الشهداء، وأفضلهم بعد حمزة بن عبد المطلب ؛ لأنه قد امتحن فصبر، وبان جلده، وبانت شجاعته، فلذلك هانت عليه الدنيا في سبيل مرضاة الله.

وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدجال عندما يأتي، يخرج له رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: ( إنك للدجال الذي أخبرنا عنك رسولنا صلى الله عليه وسلم، فيأمر به فيفلق، ويجعل فلقتين، ويمر الدجال بينهما ثم يدعوه فيقوم ما به بأس، فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيضجعه ويريد أن يذبحه، فيجعل الله ما بين ذقنه إلى ترقوته من النحاس، فلا يستطيع ذبحه )، وهذا من أولى الناس بالشهادة، ومن أفضلهم.

ولذلك نوه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن ثبات مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، فهذا الموقف الشريف الذي سجله الله لهذا الرجل في كتابه، وبقي يتلى إلى أن يرفع القرآن، هو بسبب تلك الشجاعة التي لم تكن لتظهر ما دام مختفياً.

وكثير من الناس اليوم متصف بصفات جميلة، ومتصف بصفات يمكن أن تؤدي إلى الأجر، وإلى الذكر، وإلى الشكر، ولكنها لا تبدو ولا يطلع عليها؛ لأنها بمثابة الكبريت الأحمر، والصورة بالفكر أنه ناقص الثقة في نفسه فلا يجربها، ولا يضعها على المحك، ولكنه عندما ينفي الأوهام عن نفسه، ويبرز للبارئ الذي فطره وسواه، ويحقق إيمانه بالله سبحانه وتعالى، ويعلم علم اليقين أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، يمكن أن يقول ما قال نوح : فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56].

ويمكن أن يقول ما قال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:173-174].

ويمكن أن يقول ما قال إبراهيم عندما رمي بالمنجنيق في النار، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، ولا شك أن هذه من النعم العظيمة في هذا البلاء.

وهذا الامتحان مدعاة للتأثير في حياة أصحابه، وفي حياة أعدائهم أيضاً، فلا شك أن الذي يبتلى فيصبر في ذات الله، ويرضى بقدر الله، ويعلم أن ما أصابه من عند الله، فإنه يحب البلاء بسبب كونه من عند الله.

هناك فرق فيما يتعلق بالإيمان بالقدر، وما يتعلق بالرضا بقضاء الله تعالى، فالإيمان بالقدر شامل لخيره وشره، وأما الرضا بقضاء الله تعالى فإنما يجب بعد أن يكون، ولا يجب بالكفر، وإنما يجب الرضا بقضاء الله تعالى إذا كان في الإيمان وغيره، أما في الكفر فليس الرضا به مطلوباً؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].

فإذاً هذا الفرق الدقيق في ما يتعلق بين الرضا بقضاء الله وقدره، وبين الإيمان بقدر الله تعالى، وهذا هو الذي يلاحظه أهل اليقين من المؤمنين الذين يحبون الله عز وجل حباً شديداً، فإنهم إذا أتاهم أمر من عند الله تعالى رضوا به وأحبوه؛ لأنهم لا ينظرون إلى ذات الأمر، وإنما ينظرون إلى من أتى هذا الأمر من قبله؛ فلذلك يحبونه؛ لأنهم يرضون بكل ما قدره الله سبحانه وتعالى لهم.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع