التجارة مع الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى دعانا في محكم التنزيل إلى المبايعة معه، وإلى صفقة مربحة، وقد بين طرفيها فقال جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13].

وهذه الصفقة قد دعا الله إليها المؤمنين جميعاً ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، فناداهم نداء كريماً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يصرفك عنه. فكلما جاء هذا النداء في القرآن، فعلينا أن ننتبه، وأن نعلم أن وراءه إرشاداً ربانياً من الله جل جلاله، لامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه، وأن ذلك خير لنا في شأننا كله.

علة النداء بوصف الإيمان

وعندما نادانا باسم يحرك الضمائر للاستجابة، لم يقل: يا أيها الناس.. في هذا المقام، ولم يقل: يا بني الإنسان، ولم يقل: يا بني آدم، في هذا المقام، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فسمانا بهذا الموصول الذي صلته هي أشرف أفعالنا، وأشرف ما يمكن أن يصدر عنا، فإن إنسانيتا، أو كوننا بني آدم، أو بشريتنا، أو غير ذلك من الأوصاف، ليس راجعاً إلى فعلنا، وإنما هو من فعله جل جلاله، ليس لنا فيه شيء، فكل ما يرجع إلى الخلقة لا يمدح به الإنسان؛ لأنه ليس من فعله، ولا من تدبيره، وإنما ينسب إليه ما فعله، وما كان من كسبه واجتهاده، ولذلك نادانا بأشرف أوصافنا وأشرف أفعالنا، وهو الإيمان به جل جلاله، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وأتى بهذا؛ للشمول أيضاً، فإنه لو قال: يا أيها الذين أحسنوا، أو يا أيها الذين جاهدوا، أو يا أيها الذين عملوا الصالحات، لاقتصر هذا النداء على بعضنا دون بعض، وهم المحسنون أو العاملون أو المجاهدون، فلما كان الإيمان مطلوباً من جميعنا، ولم يكن لأحدٍ عذر في تركه، وكان أشرف أعمال أي إنسان منا، نادانا به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

مفهوم الإيمان

وهذا الإيمان هو منهج حياة، فيشمل اعتقاداً بالجنان، ونطقاً باللسان، وعملاً بالأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالعصيان، وهو الذي تدخل به الجنة، وهو الذي يباعد به الإنسان من النار، وهو الذي يتقبل به العمل، فمن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يكون من أهل التقوى، ولا من أهل الإحسان، ولا يمكن أن يتقبل الله منه أي عمل، فقبول العمل وإحسانه كل ذلك من توابع الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( إن عبد الله بن جدعان كان يطعم الفقير، وللمسكين وابن السبيل، أفيغني ذلك عنه من الله شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، ومن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يوثق به في أي عملٍ يقوم به، فأعمال الإنسان أصلها التزاماته، كبيعاته، وأنكحته وأكريته وتجاراته، وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها، وهذه مشتركة بينه وبين غيره، لكن لا يمكن أن يثق الطرف الآخر بالإنسان، إذا كان مفرطاً في علاقته بالله، فيكون العمل كله مختلاً، حتى لو عرف من الإنسان أنه حريص على الثقة في مؤسسته، أو تجارته، ومع ذلك تعلم أنه أخل بالعهد الذي بينه وبين الله جل جلاله، فإنك لا تثق أن يبدل عهدك في أي وقت من الأوقات.

ومن المؤسف أن كثيراً من أهل الإيمان الآن، يرون أن كثيراً من الكفار أجدر بالثقة وإحسان المعاملة من المسلمين؛ لأنهم يرون منهم التزاماً وأخلاقاً، ومع ذلك فهذا الالتزام والأخلاق إنما هو أمر ظاهري فقط؛ لأنهم لا يخافون عقوبة أخروية، ولا يرجون لله وقاراً، وليس لهم وازع من إيمانهم، ولا من ضميرهم يحول بينهم وبين الإخلاف والنقض، إذا خلوا بأنفسهم، وإنما يفعلون كل هذه الأخلاقيات، ويحسنون المعاملة؛ من أجل مصالحهم وتجاراتهم، ولذلك إذا كانت مصالحهم على العكس، فإنهم لن يقوموا بهذه الأخلاق، وقد شاهدنا تصرفاتهم في البلاد التي احتلوها، ونحن نشاهد في كل لحظة ما يفعلونه في العراق، وفي أفغانستان، وفي أماكن كثيرة، وما نبش في البوسنة من مقابر المسلمين، مقبرة واحدة فيها ثمانية آلاف قتيل، قتلوا جميعاً بدم بارد، ذبحوا بالسكاكين، ودفنوا في مقبرة واحدة جماعية.

فهؤلاء لا يمكن أن يوثق بإنسانيتهم، ولا بأخلاقهم، ولا بمعاملتهم، وإنما يظهرون ذلك عند ضعفهم وعند حاجتهم، وعندما يريدون الربح، ويريدون استغلال الآخرين، والحصول على ما بأيديهم من المال، أو الحصول على إحسان معاملتهم، ومن كان من أهل الإيمان والتقوى فإنه يعلم أن الله رقيب على تصرفاته، وأنه يعلم السر وأخفى، فإذا خلا بنفسه، لم يقل: خلوت؛ لأنه يعلم أن الله رقيب لا يغيب، وإذا كان في أي مكان، فإنه يعلم أن الله يراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومن هنا فإحسانه للمعاملة ليس خوفاً من سلطة القانون، ولا خوفاً من العقوبة، ولا طمعاً في مصلحة دنيوية، وإنما هو خوف من الله جل جلاله؛ لأنه يراه.

وهنا نذكر قصة الفتاة الصغيرة التي جاءت مع أمها من البادية إلى المدينة، وكانت أمها تبيع اللبن، فلما خلت بابنتها في الليل، مزجت اللبن بالماء، فقالت لها بنيتها الصغيرة: يا أماه! إن هذا حرام، وهو غش للمسلمين، قالت: إن عمر لا يرانا الآن، قالت: إن لم يكن عمر يرانا، فالله يرانا. وكان عمر يمر حول النافذة فسمع هذا الكلام، فأعجب بضمير هذه البنت الصغيرة وإيمانها، فخطبها لابنه، وزوجها أحد أولاده، ويقال: إنها كانت جدة عمر بن عبد العزيز ، أم أمه مباشرةً، فعمر بن عبد العزيز أمه فاطمة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وهذه البنت يقال: هي زوجة عاصم ، وتكون بهذا جدة عمر بن عبد العزيز .

مقتضيات الوازع الإيماني

وهذا الوازع الإيماني يقتضي من الإنسان الخوف من الله في كل أحيانه، حتى في حال إحسانه، فهو في صلاته والناس نيام، يخاف أن لا يتقبل الله منه فيبكي خوفاً من الله.

ترى الحبر بالأسحار تهمي دموعه وترفث في أسحارها الدأثاء

في الوقت الذي يقبل فيه على الله سبحانه وتعالى يعلم أنه عرضة لعدم القبول، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وإذا كان يبكي من خوف الله سبحانه وتعالى في صلاته وخشوعه وسجوده، فكيف لا يبكي منه ويخافه في حال معصيته ومخالفته، فهو بذلك حي الضمير والقلب، مقبل على الله سبحانه وتعالى في شأنه كله، مطلع على خبايا خدائع النفس والشيطان، ومطلع أيضاً على ما فرط فيه في جنب الله، وعلى إساءاته، فهو يخاف أن يؤخذ بها في كل وقت، ولا يأمن مكر لله، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ومع ذلك لا يحمله ما يرى من خطاياه وسوابقه على أن ييأس من روح الله، فقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فهو يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ومن هنا فإن وفاءه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، وصدقه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، فإذا خلا الخوف من المخلوقين، أو الطمع فيهم لم يحمله ذلك على كذب ولا إخلاف، ولا مخالفة؛ لأنه يعلم أن عليه رقيباً، وأن الله سبحانه وتعالى لعباده بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

أثر الإيمان في أصحابه

ثم بعد هذا من كان من أهل الإيمان فإنه دائماً راغب في الازدياد لعلمه تفاوت درجات المؤمنين، وتباعد منازلهم، فهو يرغب في زيادة إيمانه، وفي رفع مستواه، وعلو شأنه، في كل أوقاته، فيعلم أن أهل الإيمان درجات عند الله سبحانه وتعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163]، وأن الإنسان كلما ازداد إيماناً وتقوى وإخلاصاً وعبادة، كلما ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وكلما كانت تجارته مع الله أربح، وكانت صفقاته في ازدياد، ويكون كذلك مختصراً المسافات، ويقطعها في الأوقات القليلة، فالمؤمن الصادق تختصر له المسافات، ويطويها فيقربه الله سبحانه وتعالى، وكلما تقرب هو إلى الله تقرب الله منه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الشريف، أن الله تعالى يقول: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )، وبهذا يكون في قرب من الله سبحانه وتعالى وازدياد من الطاعات والخيرات، كلما تقدم به العمر، حتى تكون خاتمته أحسن أوقاته، فيكون اليوم الذي يلقى الله فيه خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه، واليوم الذي قبله هو خير مما قبله، وهكذا، فيومه خير من أمسه، وغده خير من يومه، وهو في تقدم ورقي مستمر إلى الله جل جلاله.

وبهذا استحق أهل الإيمان التشريف والتكريم، فناداهم الله هذا النداء الكريم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

وعندما نادانا باسم يحرك الضمائر للاستجابة، لم يقل: يا أيها الناس.. في هذا المقام، ولم يقل: يا بني الإنسان، ولم يقل: يا بني آدم، في هذا المقام، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فسمانا بهذا الموصول الذي صلته هي أشرف أفعالنا، وأشرف ما يمكن أن يصدر عنا، فإن إنسانيتا، أو كوننا بني آدم، أو بشريتنا، أو غير ذلك من الأوصاف، ليس راجعاً إلى فعلنا، وإنما هو من فعله جل جلاله، ليس لنا فيه شيء، فكل ما يرجع إلى الخلقة لا يمدح به الإنسان؛ لأنه ليس من فعله، ولا من تدبيره، وإنما ينسب إليه ما فعله، وما كان من كسبه واجتهاده، ولذلك نادانا بأشرف أوصافنا وأشرف أفعالنا، وهو الإيمان به جل جلاله، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وأتى بهذا؛ للشمول أيضاً، فإنه لو قال: يا أيها الذين أحسنوا، أو يا أيها الذين جاهدوا، أو يا أيها الذين عملوا الصالحات، لاقتصر هذا النداء على بعضنا دون بعض، وهم المحسنون أو العاملون أو المجاهدون، فلما كان الإيمان مطلوباً من جميعنا، ولم يكن لأحدٍ عذر في تركه، وكان أشرف أعمال أي إنسان منا، نادانا به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

وهذا الإيمان هو منهج حياة، فيشمل اعتقاداً بالجنان، ونطقاً باللسان، وعملاً بالأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالعصيان، وهو الذي تدخل به الجنة، وهو الذي يباعد به الإنسان من النار، وهو الذي يتقبل به العمل، فمن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يكون من أهل التقوى، ولا من أهل الإحسان، ولا يمكن أن يتقبل الله منه أي عمل، فقبول العمل وإحسانه كل ذلك من توابع الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( إن عبد الله بن جدعان كان يطعم الفقير، وللمسكين وابن السبيل، أفيغني ذلك عنه من الله شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، ومن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يوثق به في أي عملٍ يقوم به، فأعمال الإنسان أصلها التزاماته، كبيعاته، وأنكحته وأكريته وتجاراته، وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها، وهذه مشتركة بينه وبين غيره، لكن لا يمكن أن يثق الطرف الآخر بالإنسان، إذا كان مفرطاً في علاقته بالله، فيكون العمل كله مختلاً، حتى لو عرف من الإنسان أنه حريص على الثقة في مؤسسته، أو تجارته، ومع ذلك تعلم أنه أخل بالعهد الذي بينه وبين الله جل جلاله، فإنك لا تثق أن يبدل عهدك في أي وقت من الأوقات.

ومن المؤسف أن كثيراً من أهل الإيمان الآن، يرون أن كثيراً من الكفار أجدر بالثقة وإحسان المعاملة من المسلمين؛ لأنهم يرون منهم التزاماً وأخلاقاً، ومع ذلك فهذا الالتزام والأخلاق إنما هو أمر ظاهري فقط؛ لأنهم لا يخافون عقوبة أخروية، ولا يرجون لله وقاراً، وليس لهم وازع من إيمانهم، ولا من ضميرهم يحول بينهم وبين الإخلاف والنقض، إذا خلوا بأنفسهم، وإنما يفعلون كل هذه الأخلاقيات، ويحسنون المعاملة؛ من أجل مصالحهم وتجاراتهم، ولذلك إذا كانت مصالحهم على العكس، فإنهم لن يقوموا بهذه الأخلاق، وقد شاهدنا تصرفاتهم في البلاد التي احتلوها، ونحن نشاهد في كل لحظة ما يفعلونه في العراق، وفي أفغانستان، وفي أماكن كثيرة، وما نبش في البوسنة من مقابر المسلمين، مقبرة واحدة فيها ثمانية آلاف قتيل، قتلوا جميعاً بدم بارد، ذبحوا بالسكاكين، ودفنوا في مقبرة واحدة جماعية.

فهؤلاء لا يمكن أن يوثق بإنسانيتهم، ولا بأخلاقهم، ولا بمعاملتهم، وإنما يظهرون ذلك عند ضعفهم وعند حاجتهم، وعندما يريدون الربح، ويريدون استغلال الآخرين، والحصول على ما بأيديهم من المال، أو الحصول على إحسان معاملتهم، ومن كان من أهل الإيمان والتقوى فإنه يعلم أن الله رقيب على تصرفاته، وأنه يعلم السر وأخفى، فإذا خلا بنفسه، لم يقل: خلوت؛ لأنه يعلم أن الله رقيب لا يغيب، وإذا كان في أي مكان، فإنه يعلم أن الله يراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومن هنا فإحسانه للمعاملة ليس خوفاً من سلطة القانون، ولا خوفاً من العقوبة، ولا طمعاً في مصلحة دنيوية، وإنما هو خوف من الله جل جلاله؛ لأنه يراه.

وهنا نذكر قصة الفتاة الصغيرة التي جاءت مع أمها من البادية إلى المدينة، وكانت أمها تبيع اللبن، فلما خلت بابنتها في الليل، مزجت اللبن بالماء، فقالت لها بنيتها الصغيرة: يا أماه! إن هذا حرام، وهو غش للمسلمين، قالت: إن عمر لا يرانا الآن، قالت: إن لم يكن عمر يرانا، فالله يرانا. وكان عمر يمر حول النافذة فسمع هذا الكلام، فأعجب بضمير هذه البنت الصغيرة وإيمانها، فخطبها لابنه، وزوجها أحد أولاده، ويقال: إنها كانت جدة عمر بن عبد العزيز ، أم أمه مباشرةً، فعمر بن عبد العزيز أمه فاطمة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وهذه البنت يقال: هي زوجة عاصم ، وتكون بهذا جدة عمر بن عبد العزيز .

وهذا الوازع الإيماني يقتضي من الإنسان الخوف من الله في كل أحيانه، حتى في حال إحسانه، فهو في صلاته والناس نيام، يخاف أن لا يتقبل الله منه فيبكي خوفاً من الله.

ترى الحبر بالأسحار تهمي دموعه وترفث في أسحارها الدأثاء

في الوقت الذي يقبل فيه على الله سبحانه وتعالى يعلم أنه عرضة لعدم القبول، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وإذا كان يبكي من خوف الله سبحانه وتعالى في صلاته وخشوعه وسجوده، فكيف لا يبكي منه ويخافه في حال معصيته ومخالفته، فهو بذلك حي الضمير والقلب، مقبل على الله سبحانه وتعالى في شأنه كله، مطلع على خبايا خدائع النفس والشيطان، ومطلع أيضاً على ما فرط فيه في جنب الله، وعلى إساءاته، فهو يخاف أن يؤخذ بها في كل وقت، ولا يأمن مكر لله، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ومع ذلك لا يحمله ما يرى من خطاياه وسوابقه على أن ييأس من روح الله، فقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فهو يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ومن هنا فإن وفاءه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، وصدقه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، فإذا خلا الخوف من المخلوقين، أو الطمع فيهم لم يحمله ذلك على كذب ولا إخلاف، ولا مخالفة؛ لأنه يعلم أن عليه رقيباً، وأن الله سبحانه وتعالى لعباده بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

ثم بعد هذا من كان من أهل الإيمان فإنه دائماً راغب في الازدياد لعلمه تفاوت درجات المؤمنين، وتباعد منازلهم، فهو يرغب في زيادة إيمانه، وفي رفع مستواه، وعلو شأنه، في كل أوقاته، فيعلم أن أهل الإيمان درجات عند الله سبحانه وتعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163]، وأن الإنسان كلما ازداد إيماناً وتقوى وإخلاصاً وعبادة، كلما ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وكلما كانت تجارته مع الله أربح، وكانت صفقاته في ازدياد، ويكون كذلك مختصراً المسافات، ويقطعها في الأوقات القليلة، فالمؤمن الصادق تختصر له المسافات، ويطويها فيقربه الله سبحانه وتعالى، وكلما تقرب هو إلى الله تقرب الله منه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الشريف، أن الله تعالى يقول: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )، وبهذا يكون في قرب من الله سبحانه وتعالى وازدياد من الطاعات والخيرات، كلما تقدم به العمر، حتى تكون خاتمته أحسن أوقاته، فيكون اليوم الذي يلقى الله فيه خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه، واليوم الذي قبله هو خير مما قبله، وهكذا، فيومه خير من أمسه، وغده خير من يومه، وهو في تقدم ورقي مستمر إلى الله جل جلاله.

وبهذا استحق أهل الإيمان التشريف والتكريم، فناداهم الله هذا النداء الكريم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].