التجارة الرابحة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أحمد الله تعالى على هذه الفرصة الطيبة، وأسأله المزيد من فضله، لجميع المستمعين، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وها نحن نجتمع في بيت من بيوت الله تعالى، تطبيقاً لما أمرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، وما أخبرنا عن الوعد عليه في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه )، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه الآيات العظيمات من سورة الصف يخاطب الله تعالى بها خيرته من خلقه وهم المؤمنون، ويناديهم في افتتاحها بهذا النداء العظيم، فيقول جل من قائل سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

مزايا حرف النداء (يا)

افتتح بهذا الحرف العظيم الذي هو أشرف حروف النداء، وهو (يا)، وهذا الحرف له مزايا متعددة:

أول هذه المزايا: أنه حرف النداء الوحيد الذي ينادى به اسم الله تعالى، فلا تدخل أحرف النداء الأخرى، وهي: تسعة أحرف، لا ينادى بها اسم الله عز وجل، وإنما ينادى بهذا الحرف وحده من بين هذه الأحرف، مع ذلك شرف الله تعالى المؤمنين بندائهم بهذا الحرف الذي اختص اسمه بندائه، وأتى بهذا الاسم المرشح للنداء، وهو: أَيُّهَا [الصف:10].

خصائص (أيها وأيتها) في النحو والإعراب

وأيها وأيتها اسمان يتوصل بهما لنداء ما فيه أل؛ لأن حرف النداء حرف وأل حرف، ولا يجتمع حرفان في مقدمة كلمة، فلذلك لا بد من الفصل بين الحرفين، وهذا أبلغ الأساليب وأرجحها، فيؤتى للمذكر بأيها، ويؤتى للمؤنث بأيتها، والمنادى بعد (أيها وأيتها) يأتي موافقاً للصيغة، فإن كان المنادى مذكراً سواءً كان مفرداً أو جمعاً، أوتي بها بصيغة التذكير، وإن كان مؤنثاً، أوتي بها بصيغة التأنيث.

وأيها وأيتها في النداء دائماً يلزم رفعها، وهي من المواضع الأربع التي يجب فيها رفع المنادى، فالله تعالى هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وهذا الاسم الموصول متعرف بصلة وهي آمنوا، وذلك أن الله عز وجل إذا وجه هذا النداء العظيم الذي نطق الله تعالى به، وخاطب به عباده، فهذا أبلغ تشريف ترتفع له الآذان، وتشرئب له القلوب، فهذا رب العزة والجلال ينادي من فوق عرشه ويخاطب بعض خلقه، وهذا الخطاب لا يكون إلا لمصلحة خلقه، فهو تعالى الغني الحميد ولا حاجة به إلى شيء من خلقه، ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سمعت الله يدعوك، فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يخرجك عنه).

وإن من نعمة الله تعالى على عباده أن يختار منهم من يدخله في هذا النداء العظيم، فلذلك أشرف شرف يتصف به المخلوق، هو أن يدخل في عموم قول الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهذا النداء العظيم كثير من الناس حرمهم الله تعالى منه ولم يدخلهم فيه، فلم يرزقهم الإيمان ولن يكتبه لهم، لذلك لا يستحقون هذا التشريف العظيم، ولا يدخلون في نداء الرب الكريم، وما ذلك إلا لقدر الله تعالى وعدله، عاملنا الله وإياكم بفضله.

إذاً هذا الشرف العظيم ينبغي للمؤمنين أن يبوءوا به، وأن ينظروا هل يستحقون هذا اللقب الكريم أو لا، فإن كانوا يستحقونه فهي نعمة من نعم الله تستحق الشكر، ومن كان يعلم من نقصه قصوراً في الإيمان، أو شكاً أو ريباً فعليه أن يراجع نفسه، وليعلم أن هذا الشرف العظيم لا ينال إلا بالعمل.

القيمة البلاغية والمعنوية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)

لذلك فإن هذا النداء العظيم جاء بإثبات الوصف كأنه قد حصل، فعبر عنه بالفعل الماضي، ولم يقل: يا أيها الذين يؤمنون، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهذا الإيمان قدر أنه قد سبق، وقد كتب الله في الأزل كل من يؤمن، لذلك حصل الخطاب بصيغة الماضي، كأن هؤلاء قد آمنوا فعلاً، ومع ذلك سيأمرهم بالإيمان؛ لأنه يقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ما هي التجارة؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، إذاً فالإيمان المذكور في مقدمة الآية هو الإيمان الأزلي المكتوب قبل خلق السموات وقبل خلق الأرضين، فعندما خلق الله القلم، فقال له: ( اكتب ما هو كائن، فكتب كل شيء يكون، فذلك هو في صحف عند الله فوق عرشه ).

فهذا الإيمان السابق هو المزية الحميدة التي وفق الله لها من اختار من خلقه، وذكرهم بهذا الوصف الحميد، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، (آمنوا) هنا تطلب مفعولاً، وهذا المفعول حذف للاختصار وللعلم به؛ لأن الإيمان له أركان لا يتم دونها، وهذه الأركان هي أركان الإيمان وهي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وهذه هي الست المذكورة في حديث جبريل في سؤالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ركن سابع متمم، وهو الإيمان بالبعث بعد الموت، فقد جاء ذكره في سبعمائة وسبع وستين آيةً من كتاب الله تعالى، كل هذه الآيات مثبتة للبعث بعد الموت، فكان متمماً لأركان الإيمان، فكانت أركان الإيمان بهذا سبعة، وبذلك تكون أركان الإيمان مساوية لأركان الإسلام وأركان الإحسان، فأركان الإسلام أيضاً:

الركن الأول: أن تشهد أن لا إله إلا الله، هذا وأن محمداً رسول الله، وهذا الركن الثاني، وأن تقيم الصلاة: هذا الثالث، وتؤتي الزكاة: هذا الرابع، وتصوم رمضان: هذا الخامس، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، هذا السادس، والجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه سبعة.

فبهذا ست هي الأصل الذي لا يعذر منها أحد فيه، والسابع مكمل لمن استطاع إليه سبيلاً، وكذلك هنا في تمام هذه الأركان، فحذف المفعول؛ لعموم جميع هذه الأركان، فلم يقل: يا أيها الذين آمنوا بالله، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا برسول الله، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وحذف المفعول؛ ليشمل الجميع، ليكون الإيمان كاملاً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، هنا تبدأ القلوب في الإقبال على الله تعالى، عندما تسمع نداءه من فوق سبع سموات، وهي مؤمنة جازمة محققة، فحينئذٍ تقبل على الله تعالى وتعرض عما سواه؛ لأن الله تعالى يستحق الإقبال عليه من غير نداء، حتى ولو لم يناد، فإن الإقبال عليه مطلوب، ولذلك قال الله تعالى كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته مالم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير ممن التفت إليه )، فإذاً الإقبال على الله تعالى مانع من الإقبال على غيره، ومقتضٍ للحرية الكاملة، والحرية الكاملة هي: الحرية من الأغيار والأكدار، أن يكون الشخص خالياً من الأغيار، لا يزن أي اعتبار لغير الباري جل وعلا، الذي فطره وسواه، ويتذكر قول إبراهيم الخليل فيما قص الله عنه في كتابه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:78-82].

فالذي يعلم أن كل هذه النعم واصلة إليه من قبل الله تعالى الذي خلقه وسواه، والذي سيعيده ويحاسبه على كل ما أعطاه، لا بد أن يقبل عليه، وأن يتذكر أن الخوف والرجاء محصوران إليه، وأنه لا يصمد إلى شيء من دونه، وأنه وحده المستحق لأن يقصد في جميع الحوائج، وأن يعبد بمختلف أنواع العبادات، وأن يقبل عليه على مختلف الأحيان.

لذلك فإن هذا الوصف الحميد الذي تشمئز له النفوس، تكرر في القرآن النداء به، في أكثر من ستين موضعاً في القرآن، بينما جاء النداء بصيغ أخرى، فمثلاً: (( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ )) لم تأتِ في القرآن إلا في ثلاثة مواضع تقريباً، (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) ما جاءت في القرآن إلا في ثلاثة عشر موضعاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا جاءت في أكثر من ستين موضعاً في كتاب الله تعالى، وذلك لشرف هذا النداء وعظمته؛ ولأن الذين يستحقون هذا التشريف كثير، فلهذا تكرر نداؤهم، وهم الذين يزنون ويقدرون، ويعلمون أن هذا الخطاب المنزل إليهم من ربهم جل وعلا، يصدق على أولهم وآخرهم على حد السواء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره ).

فنحن اليوم في القرن الخامس عشر من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقرأ هذه الآيات، أو نسمعها، فتشمئز قلوبنا، وترتفع آذاننا لسماع خطاب ربنا، كأنه يخاطبنا كفاحاً دون ترجمان، ونعلم أنه قصدنا في هذا الخطاب، وأن الله لا يفوته شيء من علم أمورنا، وأنه مطلع على أحوالنا الآن، وأن علمه لم يتغير ولم يزدد، فعلمه بنا الآن مثل علمه بنا قبل أربعة عشر قرناً، وهكذا من يأتي بعدنا، وكل من يتصف بقيد التكليف، ومن يتصف بهذا الوصف الكريم الذي هو الإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، هنا يأتي الاستعداد بعد أن سمعنا هذا النداء العظيم، ماذا عسانا نكون، حينئذٍ ينبغي أن نكون كما قال الشاعر:

وإن نطقت ليلى فكلي مسامع.

حينئذٍ ينبغي أن يتشرف الناس المخاطبون بهذا النداء العظيم، وأن يستمعوه استماعاً كاملاً، لا يشوشه أي شيء ولا ينقصه، وبذلك يتلقون عن ربهم فيحصل لهم شرف المناجاة، ونحن نعلم أن من أشرف الناس وأعظمهم نعمةً موسى، وما ذلك إلا بسبب أن الله كلمه، وأنتم اليوم معاشر المؤمنين يكلمكم الله تعالى، أليس هذا وصفاً عظيماً حميداً؟ بلى، فهذا أعظم الأوصاف أن يكلم الله عبده، والله تعالى امتن على موسى بكلامه وشرفه بذلك، فلماذا لا نتشرف نحن بهذا الوصف العظيم: أن الله يخاطبنا ويكلمنا، لا شك أن هذا نعمة عظيمة، ولكن لا يستحضرها إلا المؤمنون، فإذا سمعت هذا النداء فاعلم أن الله قد خاطبك وكلمك، وبذلك حصلت على وصف عظيم، وهو أنك كليم الله في هذا الوقت، ما دمت مقبلاً على الله، تستمع إلى ندائه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وتعلم أنك داخل في عموم الخطاب فتكون كليم الله في هذا الوقت، فالله قد كلمك بهذا وخاطبك به وشرفك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

هنا من لطف الله عز وجل وكرمه ومنه، أنه بعد هذا النداء العظيم الذي تعطرت به آذاننا، واستعدت قلوبنا بعده لكل الأوامر، لن نقول إلا كما أمرنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، مهما جاء الأمر بعدها، ولن نكون كبني إسرائيل الذين لما أمرهم بأبسط الأشياء وأسهلها، طلبوا ما هو أسفل منها وما هو أدنى، فلذلك أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، وامتحنهم بذلك، ونحن كما قال البوصيري :

لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهن

لم يمتحنا إلا بأمور واضحة وسهلة.

الأسلوب الرقيق والمعجز في قوله: (هل أدلكم على تجارة)

جاء الخطاب هنا بأسلوب لبقٍ جداً مهذب، وهو قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، هذا الباري جل وعلا يسألنا: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10] هل أنتم مستعدون للتلقي عن الله؟ وهل أنتم مستعدون للمتاجرة مع الله؟ وهل أنتم تستحقون هذا الوصف الحميد؟ هذا السؤال المطروح، هل؟ وهل هنا حرف استفهام للتصديق، والاستفهام قسمان: استفهام للتصور، واستفهام للتصديق.

أما الاستفهام للتصور فهو ما يأتي بلفظ من؟ وبلفظ ما؟ مثلاً قول فرعون لـموسى : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، هذا الاستفهام هو للتصور وليس للتصديق، معناها: أي شيء هو؟ هل هو حجر أو مدر أو شجر؟ أو غير ذلك.

أما الاستفهام للتصديق، فهو الذي يسأل به عن النسبة، وعن الحال، وعن ثبوت شيء أو نفيه؟ ومنه هل؟ فهل يستفهم بها عن التصديق، فلذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10]، هذا الباري جل وعلا يخاطبنا بهذا الخطاب، الذي هو غاية التشريف لنا، أن يسألنا هل نحتاج إلى أن يوجهنا هذا التوجيه العظيم؟ وأن يرشدنا هذا الإرشاد الكريم، ونحن نقول: نحن نحتاج إلى ذلك، ونحن إن شاء الله تعالى مستعدون لأمر ربنا، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [البقرة:285]، فينبغي لكل مؤمن إذا سمع هذا، أن يقول ما أمره الله: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [البقرة:285]، فهنا يقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ [الصف:10]، معناه أرشدكم، وهذه الدلالة هي الهداية، والهداية قسمان: هداية إرشاد، وهداية توفيق.

أما هداية الإرشاد: فهي المذكورة هنا، وهي المذكورة في قول الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، (هديناهم) ليس معناها هداية توفيق، بل معناها هداية الإرشاد، ومعناها أرسلنا إليهم رسولاً؛ لإقامة الحجة عليهم، ولكنهم لم يهتدوا هداية التوفيق، ولذلك قال: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

ولذلك فإن قول الله تعالى الذي نقرأه في كل ركعة من الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، المقصود به: هداية التوفيق؛ لأن هداية الإرشاد قد حصلت بهذا القرآن الناطق علينا، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية:29]، وبهذا الرسول الكريم الذي قال الله تعالى فيه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الشورى:52-53].

وهنا يأتي سؤال واعتراض: ما هو هذا السؤال والاعتراض؟ يقال: قد أثبت الله الهداية لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، ونفاها عنه بقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فما الجمع بين الآيتين؟

والجواب: أن الهداية المنفية هي هداية التوفيق، والهداية المثبتة هي هداية الإرشاد، وإنك لتهدي، معناها: هداية إرشاد، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وهذه هداية التوفيق والأمر واضح، إذاً فهداية الإرشاد مثبتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يرشد الناس، ولكن من شاء الله له الهداية اهتدى، هداية التوفيق.

وأما هداية التوفيق: وهي أن يأخذ الله بناصية العبد إلى الخير، وأن يستعمله في طاعته، وأن يعصمه من الوقوع في الزلل والخطأ، فهذه من عند الله ولا دخل لمخلوق فيها، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لغيره، فلذلك قال: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، وفي الآية الأخرى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، إِنَّكَ لا تَهْدِي [القصص:56]، هداية إرشاد، ترشده وتدله على الصراط المستقيم، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتبين له مراد الله منه، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، معناها: لا يمكن أن توفقه، وأن تأخذ بناصيته حتى تدخله الجنة، أي: لا نستطيع ذلك، فهذا من عند الله.

لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، انظروا إلى هذا الأسلوب الرقيق العجيب المعجز، يقول الله فيه: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، الناس قد ابتلوا بحب الدنيا، والإقبال عليها والإغراق في الماديات، فكل أمر لا يجنون منه نفعاً عاجلاً، لا يولونه أي اعتبار، ومع هذا راعى الله تعالى ظروفهم وقدر حاجتهم وقدر أمورهم، فلم يخاطبهم بما يخالف ميلهم وإنما قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، لأن الناس كلهم يحبون التجارة، فاختار لهم هذا الأسلوب العجيب، فقال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، التجارة: فعالة بمعنى الحرفة، ومعناها حرفة يحترفها الشخص، حتى ولو لم يكن له رأس مال، فهذا الشخص مثلاً يكون تاجراً، بمعنى: أن فطرته وتكوينه ومسلكياته تتناسب مع التجارة، حتى ولو لم يكن صاحب رأس مال، ولذلك قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، لما أتى إلى المدينة مهاجراً، قال: دلوني على السوق، لماذا؟ لأن لديه عقليةً تجارية، فهذه العقلية التجارية ينبغي أن تكون لدى كل المؤمنين، يبحثون عن الصفقات المربحة مع الله تعالى، فيبادرون إليها.

إذاً التجارة حرفة وليست نوعاً من الكسب، فهي حرفة وفطرة يفطر الناس عليها، ولذلك تعرفون الآن في تعامل الناس أن بعض الناس لديه عقلية تجارية وهذا يشمل الرجال والنساء، ولذلك كان الخطاب هنا شاملاً للجميع في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وهذا الاسم يشمل الجميع، يشمل الذكور والإناث والبالغين وغير البالغين، ويشمل المتقدمين والمتأخرين على حد السواء.

الفرق بين التجارة مع الله تعالى وتجارة الدنيا

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، هذه التجارة ما فائدتها؟ التجارة في بعض الأحيان لا يكون الربح فيها مضموناً، بل الأصل الشرعي أن التجارة لا يجوز فيها ضمان الربح، فمثلاً المضاربة والقرض، كلاهما نوع من التجارة، وهو أن تدفع مالاً لمن يتجر به بجزء من ربحه، فهذه المضاربة من شروطها: ألا يكون الربح مضموناً؛ لأن ضمان الربح محظور وهو من أمهات الربا، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه نهى عن ربح ما لم يضمن )، إذاً هذا الربح المضمون محرم شرعاً، لكن هذه التجارة مع الله تختلف عن تجارة الدنيا فالربح فيها مضمون، لذلك قال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، وتجارة هنا: نكرة، فعرفها ووصفها ونعتها بقوله: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، فهذه التجارة ليست مثل التجارات العادية وإنما هي مضمونة الربح وربحها عظيم جداً، وهو النجاة من العذاب الأليم، وهذا العذاب الأليم نكرة؛ ليشمل عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب الآخرة، وهذا كله من أنواع العذاب الذي عند الله تعالى، فمنها: عذاب الدنيا.

افتتح بهذا الحرف العظيم الذي هو أشرف حروف النداء، وهو (يا)، وهذا الحرف له مزايا متعددة:

أول هذه المزايا: أنه حرف النداء الوحيد الذي ينادى به اسم الله تعالى، فلا تدخل أحرف النداء الأخرى، وهي: تسعة أحرف، لا ينادى بها اسم الله عز وجل، وإنما ينادى بهذا الحرف وحده من بين هذه الأحرف، مع ذلك شرف الله تعالى المؤمنين بندائهم بهذا الحرف الذي اختص اسمه بندائه، وأتى بهذا الاسم المرشح للنداء، وهو: أَيُّهَا [الصف:10].

وأيها وأيتها اسمان يتوصل بهما لنداء ما فيه أل؛ لأن حرف النداء حرف وأل حرف، ولا يجتمع حرفان في مقدمة كلمة، فلذلك لا بد من الفصل بين الحرفين، وهذا أبلغ الأساليب وأرجحها، فيؤتى للمذكر بأيها، ويؤتى للمؤنث بأيتها، والمنادى بعد (أيها وأيتها) يأتي موافقاً للصيغة، فإن كان المنادى مذكراً سواءً كان مفرداً أو جمعاً، أوتي بها بصيغة التذكير، وإن كان مؤنثاً، أوتي بها بصيغة التأنيث.

وأيها وأيتها في النداء دائماً يلزم رفعها، وهي من المواضع الأربع التي يجب فيها رفع المنادى، فالله تعالى هنا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وهذا الاسم الموصول متعرف بصلة وهي آمنوا، وذلك أن الله عز وجل إذا وجه هذا النداء العظيم الذي نطق الله تعالى به، وخاطب به عباده، فهذا أبلغ تشريف ترتفع له الآذان، وتشرئب له القلوب، فهذا رب العزة والجلال ينادي من فوق عرشه ويخاطب بعض خلقه، وهذا الخطاب لا يكون إلا لمصلحة خلقه، فهو تعالى الغني الحميد ولا حاجة به إلى شيء من خلقه، ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سمعت الله يدعوك، فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يخرجك عنه).

وإن من نعمة الله تعالى على عباده أن يختار منهم من يدخله في هذا النداء العظيم، فلذلك أشرف شرف يتصف به المخلوق، هو أن يدخل في عموم قول الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فهذا النداء العظيم كثير من الناس حرمهم الله تعالى منه ولم يدخلهم فيه، فلم يرزقهم الإيمان ولن يكتبه لهم، لذلك لا يستحقون هذا التشريف العظيم، ولا يدخلون في نداء الرب الكريم، وما ذلك إلا لقدر الله تعالى وعدله، عاملنا الله وإياكم بفضله.

إذاً هذا الشرف العظيم ينبغي للمؤمنين أن يبوءوا به، وأن ينظروا هل يستحقون هذا اللقب الكريم أو لا، فإن كانوا يستحقونه فهي نعمة من نعم الله تستحق الشكر، ومن كان يعلم من نقصه قصوراً في الإيمان، أو شكاً أو ريباً فعليه أن يراجع نفسه، وليعلم أن هذا الشرف العظيم لا ينال إلا بالعمل.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4061 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع