كيف نعيش مع القرآن


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق على فترة من الرسل، واقتراب من الساعة، وجهالة من الناس، فأنزل إليه خير الكتب، وشرع له خير شرائع الدين، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وقفى به على آثار الرسل، فجعل ما أنزل إليه مصدقاً لما بين يديه من الحق، وناسخاً لكل الشرائع التي قبله، وأنزل إليه هذا القرآن الذي هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، فيه خبر ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وفصل ما بيننا، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقد أنزله الله سبحانه وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وضمن له بيانه، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].

وأمره ببيان ما أنزل إليه للناس، فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، وأقواله التي بينه بها منها ما هو وحي منزل إليه كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وكما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ).

فما أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن هو السنة النبوية المنزلة بمعناها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم بها صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن الذي أنزل إليه من ربه.

الإعجاز اللفظي

وهذا القرآن الذي اختاره الله لهذه الأمة، ونسخ به كل الكتب السابقة خصه الله تعالى عن سائر الكتب بكثير من الخصائص، فمنها: إعجازه اللفظي، فإن الله تحدى به الثقلين: الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سوره ثلاث آيات وهي: سورة الكوثر تحدى الله الثقلين: الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، وهذا التحدي باق إلى يوم القيامة، قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].

نزول القرآن بالتدريج

وكذلك من خصائصه: أن الله سبحانه وتعالى نزله بالتدريج في ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء:106].

وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان:32-33].

فقد نزله الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وبداية نزوله إلى السماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، ثم كذلك بداية نزوله إلى الأرض كانت في ليلة القدر في رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بغار حراء بمكة، بعد أن مكث ستة أشهر ( لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو تعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، فجاءه الملك وهو في غار حراء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:1-3] فرجع بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده).

فتور الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم

وفتر الوحي ثلاث سنين بعد نزول سورة العلق، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين وهو موكول إلى إسرافيل يعلمه أمور الدين، ولكنه لم ينزل إليه شيء من القرآن، ولم ير جبريل في هذه الفترة، فبينما هو ذات يوم يسير في شعب أجياد بمكة إذ سمع صوتاً من فوقه فرفع بصره إلى السماء، فإذا الملك الذي جاءه بحراء على كرسي بين السماء والأرض، قال: فرعبت منه فرجعت إلى أهلي فقلت: (زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7]).

ثم بعد ذلك حمي الوحي وتتابع فكثر نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر في التتابع يأتي في بعض الأحيان فتور فيه فيتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأطول ذلك خمسون يوماً، فقد فتر الوحي خمسين يوماً في قصة الإفك امتحاناً للمؤمنين لما جاءت العصبة بالإفك وكان ذلك خيراً للمؤمنين، وامتحاناً من الله تعالى لهم، ففتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً، ثم أنزل الله تعالى سورة النور سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]، وبين الله تعالى فيها قصة الإفك وما يتعلق بها، وحذر المؤمنين من العود إلى مثلها، وبرأ عائشة أم المؤمنين برأها الله وطهرها، ونوه بشرف آل أبي بكر ومنزلتهم في الإسلام، ونوه بـأبي بكر نفسه، فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، ووعد عائشة رضي الله عنها بوعد الحق الذي حققه لها بالمغفرة والرزق الكريم في الحياة الدنيا، وحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك رفع منزلته وإعلاء كلمة الله له، وبين منزلته في الإسلام، ومنزلة خطابه للمؤمنين، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:62-63].

ثم بعد ذلك فتر الوحي أيضاً في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك لما جاءه الأعراب يعتذرون إليه، وجاءه ثلاثة من المؤمنين خلفوا، فخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم، فالأعراب لم يتورعوا عن الأيمان الكاذبة بالاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل سرائرهم إلى الله، وقبل منهم علانياتهم، وسمح لهم، وهؤلاء الثلاثة من أهل الإيمان لم يكونوا ليكذبوا على الله ورسوله، فلم يعتذروا بالكذب، وإنما صدقوا الله سبحانه وتعالى، فامتحنهم الله بفتور الوحي خمسين يوماً، ومكثوا هذه الفترة وهم في أشد الضيق، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين باعتزالهم، لا يرد عليهم أحد السلام، ولا يكلمهم، وأمر زوجاتهم باعتزالهم، فطال عليهم ذلك، ( قال كعب بن مالك : كان أخواي كبيران لا يخرجان من بيتهما، وكنت شاباً في قوتي، فكنت أخرج في الصباح إلى السوق ثم أخرج في المساء، فلما طال علي ذلك تسورت على ابن عمي أبي قتادة وكان أحب الناس إلي، فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فوقفت طويلاً أنتظره فلم يرد علي شيئاً، فدمعت عيناي فقلت: أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فرجعت عنه فبينما على ذلك إذا بمناد في السوق ينادي: أين كعب بن مالك ؟ فأشار إليه بعض أهل السوق إلي فأتاني، فإذا هو يحمل كتاباً من ملك غسان يقول: قد سمعنا أن صاحبك جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان فالحق بنا نواسك، فقلت: وهذه أخرى عرف أنها امتحان آخر من الله سبحانه وتعالى، فرماها في التنور في موقد النار، ومكث على ذلك، فبينما هو في وقت الضحى إذ أنزل الله سبحانه وتعالى التوبة عليه وعلى أخويه، فقال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة:117-118]، فنادى المنادي بهذه التوبة، وصعد رجل على جبل سلع فنادى وانطلقت فرس إلى كعب تبشره، قال: فكان الصوت أسرع من الفرس، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسلمت عليه فقال: يا كعب بن مالك ! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )، فقد رضي الله عنهم رضاه الأكبر الذي لا سخط بعده، فلا تقع ذنوبهم إلا مغفورةً قد سبقت المغفرة وقوع الذنب منهم.

وهذه الفترة كانت امتحاناً من الله تعالى للمؤمنين، وما بعد ذلك حمي الوحي وتتابع فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي أشد ما يكون تتابعاً.

آخر ما أنزل من القرآن

وقد ختمه الله سبحانه وتعالى ببيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دنا أجله، فجاء ذلك في سورة النصر وهي آخر سورة بكاملها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3]، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد دنا أجله بذلك، ومن آخر ما أنزل من الأحكام ما جاء في سورة المائدة، وقد ختم نزول آيات الأحكام فيها ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة يوم جمعة وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم باثنين وتسعين يوماً، فأنزل الله عليه في ذلك اليوم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

وقد صح في صحيح البخاري وغيره: أن حبراً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معاشر اليهود أنزلت لجعلنا ذلك اليوم عيداً، فقال: وما هي؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، فقال عمر : أما إني لأعرف متى نزلت، وفي أي يوم نزلت، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وهو يوم عرفة.

وآخر آية نزلت على الراجح منه هي قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] في سورة البقرة، وقد جاء عرضه فكان جبريل يعرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل رمضان، وفي رمضان الذي قبل موته عرضه عليه مرتين، وكان ذلك بآخر ترتيب له، وما قبل ذلك كان ترتيب مختلفاً عما لدينا الآن، وهذا الترتيب الذي نقرأه في المصاحف كان في العرضة الأخيرة.

اشتمال القرآن على كل ما يحتاجه البشر

وقد رتبه الله على أحسن ترتيب وأصدقه وبينه أحسن بيان، وفصله بعد الإجمال، ولذلك قال فيه في سورة هود: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1]، فجاء التفصيل بعد الإجمال والإحكام، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيه كل ما يحتاج إليه الناس، وبين فيه ما ينظم علاقاتهم بربهم سبحانه وتعالى عقيدةً وعبادةً، وبين فيه ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم عقوداً وآداباً، وبين فيه كذلك علاج ما يحصل من المشكلات كالحدود والقصاص وغير ذلك، وبين فيه الأقضية أتم بيان، وبين فيه الفرائض والتركات أتم بيان، فهو في الحقيقة دستور هذا الإسلام الحاوي لهذا الدين، والحاوي لمرضاة الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يعرض عنه إلا من صرفه الله تعالى عن طريق الحق.

صرف الله عن آياته من لم يستحق الهدى

وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بصرف الذين لا يرتضي خدمتهم للدين عن طريق الحق، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

وقد بين الله تعالى صرف أقوام عن هذا القرآن في الحياة الدنيا فقال: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي: يصرف عنه في الحياة الدنيا من صرف يوم القيامة عن الجنة، فهم الذين يؤفكون عن القرآن، فهو بين أيديهم وفي مكاتبهم وبيوتهم لا يقرءونه، ولا يتدبرونه، ولا يفتحون المصاحف، ولا يهتمون بها، فهم معرضون عنه تمام الإعراض؛ لأنهم قد أفكوا في هذه الحياة عن القرآن ويؤفكون عن الجنة يوم القيامة.

وكذلك بين سبحانه وتعالى طرد أقوام آخرين عن طريق الحق بعد أن أخذوا بها، فأولئك قامت عليهم الحجة بما قرءوا من القرآن، ثم بعد ذلك نسوه فكان حجةً عليهم وعمىً يوم القيامة، فقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، فأولئك المصروفون عن القرآن، المطرودون عنه قد ختم الله على قلوبهم فأصم آذانهم عن سماعه، وأعمى أعينهم عن آياته ومواعظه، فلا يصل إلى قلوبهم، ولا يفهمونه، ولا يتأثرون به، مع أنه بالغ التأثير حتى في الجمادات والحجارة، قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى [الرعد:31] لكان هذا القرآن.

القرآن كتاب هداية ونور

ثم إن الله سبحانه وتعالى جعله نوراً وهدايةً، فهو هدىً للمتقين، كما قال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، يهدي الناس إلى طريق الحق، فيرون فيه آيات الله المسطورة، ويطلعون في الكون وفي أنفسهم على آيات الله المنظورة، فتتعاضد الآيات المسطورة مع الآيات المنظورة، فيدرك الإنسان الإيمان إدراكاً يقينياً لا يمكن أن يأتي بعده الشك كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، أي: حتى يتبين لهم أنه هو أي: القرآن، الحق، فلا يمتروا فيه ولا يشكوا، ولذلك فإن كثيراً من الذين كانوا من أهل الكفر ولم يكونوا من أهل الإيمان ولا من أهل القرآن بعد أن اطلعوا على بعض الآيات الكونية في هذا العالم أو في أنفسهم، فرأوا مصداقها في القرآن بادروا إلى الإيمان، ولذلك فإن كثيراً منهم إذا قسم الله له الهداية يتأثر تأثراً بالغاً عجيباً جداً بهذا القرآن.

وقد كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أهل الكتاب معتزلاً الناس في صومعة له باليمن، فبينما هو ذات ليلة إذ أخذه السهر فلم يستطع النوم، فأوقد قنديله فإذا راكب يمر حوله فإذا هو يقرأ سورة النساء، فتسلى بسماع صوت ذلك القارئ حتى إذا وصل إلى قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [النساء:47] زال فؤاده لسماع هذا القرآن، وعرف أنه يخاطبه، فنزل من صومعته مسرعاً واتجه إلى المدينة وهو يضع يده على وجهه يخاف أن يطمس إلى قفاه قبل أن يؤمن، فآمن وحسن إسلامه.

وكذلك حصل نظير هذا لـكعب الأحبار رضي الله عنه فقد كان ابن راهب من علماء اليهود باليمن، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده والد كعب حسداً شديداً، وهذا الحسد هو صفة اليهود يحسدون أنبياء الله جميعاً، ويحسدون النبي صلى الله عليه وسلم حسداً خاصاً، ( حسداً من عند أنفسهم )، فحسد النبي صلى الله عليه وسلم، فكتم ما يتعلق بوصفه في التوراة، فجعله في صندوق وأغلق هذا الصندوق وأحكم إغلاقه وقال لابنه كعب : إياك يا بني أن تفتح هذا الصندوق؛ فإنه الهلكة عليه، فما زال كعب يقرأ التوراة ولا يجد فيها وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولا شيئاً يتعلق به حتى مات أبوه، فرجع من جنازته حزيناً فقال: اليوم أفتح هذا الصندوق الذي منعني أبي من فتحه طيلة حياته، فلما فتحه إذا أوراق من التوراة قد أخرجها أبوهم فإذا الحق واضح وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الوصف، فزال عنه الحزن الذي كان يملأ فؤاده على أبيه، وعرف أن أباه غاش له، فخرج إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه، وكان من علماء هذه الأمة من التابعين.

تأثر الناس بسماع القرآن الكريم

وكذلك حتى لدى المتأخرين فإن كثيراً من الأطباء سبب إسلامهم بعض ما يشهدونه من الآيات العجيبة في هذا القرآن، فقد اشتهر في زماننا هذا طبيب في الولايات المتحدة الأمريكية من أطباء القلب المشاهير يزرعون القلب، ويعالجون قصور عضلته، وقد تخصص فيه واشتهر في العالم كله بذلك، ولكنه كان ينوع العلاج، فيعالج الناس بسماع أنواع الأصوات والنغمات، فيسجل أصوات الطيور، وأصوات المعازف، وأصواف الغناء والأناشيد وغير ذلك، ويسمعها للمرضى، وكان يجمع أنواع الأشرطة فاجتمع لديه حشد منها، فاشترى شريطاً من القرآن، فأسمعه بعض المرضى فرأى وهو يراقب نبضات القلب تأثيراً عجيباً عند سماع هذا القرآن، ولاحظ أن ذروة ذلك التأثر تحصل عند آية منه فعرف مكانها من الشريط، وطلب ترجمة ذلك المكان فإذا الشريط في سورة الرعد وإذا الموضع التي تتأثر له قلوب المرضى تأثراً بالغاً هو قول الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فأسلم وحسن إسلامه بهذا، وهكذا عدد كبير من الذين شاهدوا بعض ما في القرآن من العجائب أسلموا وحسن إسلامهم.

ومنهم في القرن الماضي الرحالة محمد أسد الأسباني الذي اشتهر بالتأثر بالقرآن، وعدد آخر كثير جداً من الذين يتأثرون به تأثراً بالغاً، حتى لو لم يسمعوه بمجرد الحديث عنه وذكره يتأثرون تأثراً بالغاً، وأذكر أن امرأةً من الروس كان أجدادها من المسلمين، ولكنها هي خضعت للشيوعية فترةً طويلة، وحيل بينها وبين الإسلام، ولكنها كانت تحب القرآن حباً عجيباً، فحدثني بعض الإخوة أنها ذكرت أن من أراها المصحف مجرد رؤية ستعطيه كل مصوغاتها وما معها من الذهب، ولما أردت أن أهدي إليها مصحفاً منعني بعض الشباب من ذلك، وقالوا: لو فعلت لماتت من حينها؛ محبةً له، وقد عرفت ذلك؛ لأنني قرأت عليها الفاتحة وبعض الآيات فبكت بكاءً شديداً خفت عليها منه الموت، وهي لا تفهم كلمةً من ذلك، ولكن محبتها للقرآن وتعلقها به أوصلها إلى هذا الحد، وأعرف كثيراً من الأعاجم في الحرم عندما يسمعون قراءة القرآن يبكون بكاءً عجيباً ويتأثرون تأثراً بالغاً وهم لو سلمت عليهم بالعربية لما استطاعوا رد السلام، لا يفهمون كلمةً واحدةً من العربية، ولكنهم يتأثرون بهذا القرآن تأثراً بالغاً.

وهذا القرآن الذي اختاره الله لهذه الأمة، ونسخ به كل الكتب السابقة خصه الله تعالى عن سائر الكتب بكثير من الخصائص، فمنها: إعجازه اللفظي، فإن الله تحدى به الثقلين: الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سوره ثلاث آيات وهي: سورة الكوثر تحدى الله الثقلين: الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، وهذا التحدي باق إلى يوم القيامة، قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع