كان خلقه القرآن [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فلا بد أن يكون من خلق طالب القرآن.

الحرص عليه وتعظيمه وإجلاله

أولاً: الحرص عليه وتعظيمه وإجلاله، فهذا القرآن هو أشرف ما على وجه الأرض الآن؛ لأنه كلام الملك الديان جل جلاله، فلا بد من توقيره وإجلاله وتعظيمه، وهذا التعظيم يقتضي من الإنسان أن يكون وقافاً عنده، كما كان عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : أن عيينة بن حصن الفزاري وكان سيداً مطاعاً في قومه ولكنه أحمق، جاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان أهل القرآن أهل مجلس عمر ، حفظة القرآن، والمتدبرون له، والعالمون بتفسيره هم أهل مجلس عمر الذين يدنيهم، كباراً كانوا أو صغاراً، فجاء إلى ابن أخيه فقال: اشفع لي عند هذا الرجل حتى أخلو به، فذهب به الحر بن قيس إلى عمر فأدخله عليه وحده، فقال فيه: يا ابن الخطاب ! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر لذلك، فرفع الدرة، والدرة هي العصا الصغيرة التي يرفعها عمر لتأديب الناس إذا سمع منهم الكذب أو مخالفة الشرع، فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فسقطت يد عمر ، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، إذا سمع أي حد من حدود القرآن وقف عنده، فهذا خلق من أخلاق حملة القرآن، لا بد أن يتحلوا به، وقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن ) وقافاً عند كتاب الله إذا سمع أية آية وعليه أنزل أثرت فيه تأثيراً بالغاً، انظروا إلى إجلاله وتعظيمه للقرآن.

في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله! كيف أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تهملان )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى إجلاله في القرآن!

وكذلك ( فإنه خرج ليلةً في المدينة في آخر الليل، فمر أمام دار عجوز من الأنصار، فسمعها تقرأ سورة الغاشية، فقالت: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي على بابها )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن الآن نسمع هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فلا يؤثر هذا فينا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفعه الله فوق السموات السبع حتى بلغ مكاناً يسمع فيه صريف القلم، وكلمه الله، واصطفاه خليلاً من خلقه، وأنزل إليه هذا الكتاب المبين مع ذلك إذا سمع هذه الجملة بكى لها بكاءً شديداً، وجلس يستمع إليها من امرأة عجوز وهي تقرؤها، ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، نعم أتاني )، (الغاشية): القيامة، وأسماؤها في القرآن كبيرة: الغاشية، الآزفة، الطامة، الصاخة، أسماء كبيرة مروعة مرعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة وقوفه عند كتاب الله، في بعض الأحيان يقوم الليل بآية واحدة يكررها ويبكي، يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يكرر هذه الآية وهي خطاب من الله جل جلاله خاطب به من قبل عيسى ابن مريم عليه السلام فأنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الليل يتدبره، ونحن الآن نقرأ بسرعة هائلة كالبرق الخاطف، وهو يكرر آيةً واحدةً في ليلة كاملة يقوم بها الليل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].

وقد ربى أصحابه على هذا الخلق من أخلاق حملة القرآن فكانوا جميعاً يقفون عند كتاب الله ويحترمونه احتراماً شديداً، حتى إن امرأةً من الأنصار وهي فتاة صغيرة لم تكن من أهل العلم ولا من أهل الثقافة، وقد تزوجها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فرأته يعاشر جاريةً له فغارت وغضبت، فسألته فأنكر أن يكون قد أتى تلك الجارية، فقالت: قد علمت أنك لم تكن لتقرأ القرآن وأنت جنب، فإن كنت صادقاً فاقرأ علي من القرآن، فوقع في موقف حرج لا يستطيع أن يقرأ القرآن وهو جنب، وهو يجوز له الكذب لإرضاء زوجته، فأنشأ أبياتاً فيها توحيد لله جل جلاله فقال:

شهدت شهادةً لا ريب فيها بأن الله ليس له شريك

وأن محمداً عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك

فقالت: صدقت الله وكذبت عيني، رضيت؛ لأنهم تربوا على أن هذا القرآن عظيم، وأنه لا يمكن أن يقرأه جنب، ولا يمكن أن تقع فيه مغامرة من أي أحد.

وهذا الخلق من أخلاق حملة كتاب الله نجده أيضاً مع أئمتنا الأعلام من أمثال مالك بن أنس رحمه الله، فقد كان مالك رحمه الله لا يرى ندب صلاة ركعتين قبل المغرب، لأنه يتأول الحديث الوارد في ذلك وهو ما أخرجه البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال في الثالثة: لمن شاء )، و مالك رحمه الله رأى أن قوله: ( صلوا قبل المغرب ركعتين ) لم يكن للوجوب وإنما كان للندب، فلما قال: ( لمن شاء ) نزل عن الندب، وإذا نزل عن الندب لم يصل إلا إلى الكراهة؛ لأن أحكام التكليف عند مالك خمسة فقط هي: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.

والإباحة المستوية الطرفين لا يمكن أن تنزل بها العبادة، فالعبادة إما واجبة، وإما مندوبة، وإما حرام، وإما مكروهة، لكن لا يمكن أن تكون مباحةً مستوية الطرفين؛ لأن المباح لا ثواب فيه، ولا عقاب في تركه، والعبادة لا بد أن يثاب صاحبها أو يعاقب، ففهم مالك هذا الفهم ورأى أن أحكام التكليف مقصورة على الخمس.

وبعض أهل العلم يرى أن أحكام التكليف أكثر من ذلك، فيرى أن المأمور به أمراً غير جازم ينقسم إلى أقسام: فمنه السنة، ومنه المندوب، ومنه المستحب، ومنه التطوع، ومنه النافلة.

والنفل والسنة والتطوع والمستحب البعض قد نوعوا

والخلف لفظي ..

كما قال السيوطي في الكوكب، فلذلك رأى غير مالك أن الأمر نزل من أعلى درجات الندب، ولم يتجاوز أدناها، فبقي في إطار المندوب لكن لم يبق في أعلى درجات المندوب، و مالك يرى أنه نزل عن الندب فلم يكن ليصل إلا إلى الكراهة، فكان يرى أن الصلاة ركعتين قبل المغرب فيهما كراهة، فجاء إلى المسجد وتأخر المؤذن لم يقم، فوقف مالك ، فأتاه صبي صغير فقال: يا أبا عبد الله ! ألا تركع؟ قال: الله أكبر، وصلى ركعتين، فنظر إليه أهل المدينة يستغربون، فقد رأوه يفعل فعلاً مخالفاً لمذهبه المعروف من علمه، فلما سلم سألوه قالوا: رأيناك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، ولا رأينا أحداً من أهل العلم في بلدك يفعله، فقال: إن هذا الطفل قال لي: ألا تركع؟ فخشيت أن أكون من الذين وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]؛ لأنه وقاف عند كتاب الله، حتى لو كان مخالفاً للمذهب، مخالفاً لما لديه من الفقه جاءت آية من كتاب الله فلا بد من المبادرة إليها، وكثير من الناس اليوم تركوا هذا الخلق، فإذا قيل لأحدهم: قال الله تعالى كذا، يقول: قرأت في كتاب كذا، فيعدل عن القرآن إلى أي كتاب آخر، وهذا مخالف لهذا الخلق والهدي.

عدم الغلو فيه

ثم بعد ذلك لا بد من أخلاق حملة كتاب الله: أن يكونوا غير غالين فيه، فالغلو مذموم، والغلو معناه: مجاوزة الحد، فالإنسان المتعصب المتصلب المحتكر للحق، الذي يرى أن الحق هو ما لديه وأن كل ما سواه باطل، وأن الأمور كلها قسمان فقط أبيض وأسود، فالأبيض ما لديه هو، والأسود ما لدى خصمه أو ما لدى غيره فهذا غال في القرآن، والعكس الجافي عنه الذي يهمله، ولا يتدبره، ولا يهتم به، ولا يلازمه فهذا جاف عنه، والحد الأوسط هو لزوم المحجة، لا إفراط ولا تفريط، فهذا خلق من أخلاق حملة كتاب الله، وهو الاعتدال فيه كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الاعتدال في الأخذ به، وأن يأخذه الإنسان بقوة، وأن يوغل فيه بلطف، وأن يعلم ( أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى )، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر على الغالين، فقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يقوم الليل كله: ( إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه )، وبين له: ( أن أفضل القيام قيام داود ، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه )، فهذا أفضل القيام.

وكذلك ( دخل على عائشة وعندها الحولاء بنت تويت وهي امرأة من بني تيم بن مرة قريبة لـعائشة بالنسب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: فلانة، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه! اكلفوا من العمل ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا ).

وكذلك ( جاء نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن قيامه وصيامه فكأنهم تقالوا ذلك، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونهى عن هذه المبالغة فقال: ( إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا )، وبين اعتداله في منهجه صلى الله عليه وسلم، وعمله بالقرآن يعطي كل ذي حق حقه.

وفي المقابل كذلك نجد في حديث حفصة رضي الله عنها في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الله بن عمر فقال: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله قيام الليل بعد ).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، فمن ليس له حظ من قيام الليل، ولا من صيام النفل، ولا من الذكر، ولا من العبادة، فهذا جاف عن القرآن، وليس من أهله أصلاً، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر من هذا الحال، ( لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وقد رأيتم هذا الخلق المعتدل الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط، ليس فيه مبالغة ولا تقصير، وإنما هو معتدل متوسط.

الحرص على توصيله للناس جميعاً

كذلك فإن من أخلاق حملة القرآن: حرصهم على الناس جميعاً فهم حملة هذه الرسالة الشريفة، وهم وراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فمن كان سالكاً لطريقه، وكان متخلقاً بأخلاقه لا بد أن يحرص على هداية الناس، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).

الفراش هو الذي يجتمع على الضوء ليس بينه وبين الإنسان نسب ولا صلة، لكن لرحمته به يخاف عليه أن يقع في النار، فيحاول أن يرده، (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فكذلك حامل القرآن لا بد أن يحرص على أن يكون إسوةً صالحةً ومثلاً يحتذى به ويقتدى، وذلك يقتضي منه حرصاً على هداية الناس، ويبدأ بنفسه أولاً، ثم بعد ذلك يسعى لهداية الآخرين، وليبدأ بأهل بيته كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ثم بعد ذلك بالجيران والأقربين كما قال الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].

مراجعته ومدارسته في كل الأوقات

من أخلاق حملة القرآن كذلك: أنهم يراجعونه في كل الأوقات، فهم معه ويعيشون في ظلاله آناء الليل وأطراف النهار، يفرحون به فرحاً شديداً، إذا ازدادوا علماً منه، أو جاءتهم بشارة فيه أخذوها، إذا فهموا آيةً منه فرحوا بها فبادروا إلى تطبيقها، وهكذا فهم يعيشون معه وتحت ظلاله في كل أوقاتهم، ولذلك قال الله تعالى في المنافقين وإعراضهم عنه: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].

وقال تعالى في فرح المؤمنين به: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، (( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ )) وهو القرآن، (( وَبِرَحْمَتِهِ )) وهي السنة، (( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) أي: من حطام الحياة الدنيا، ففرحهم بفهم آية من كتاب الله شيء كبير، وقد كانوا يعيشون في ظلاله في كل الأوقات، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه ختم البقرة -أي: تدبراً وفهماً واستيعاباً لكل معانيها- في ثمان سنوات، و عبد الله بن عمر ختمها في اثنتي عشرة سنة، وكلاهما نحرا جزوراً لما أكملها فرحاً بفهمه للبقرة بكاملها، وكانوا يفرحون بما فهموه منه، وبما فهموا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان شيئاً يسيراً، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجلس من أصحابه، فأتي بجمار نخل، فقال: إن من الشجر شجرةً لا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن فأخبروني ما هي؟ فضرب الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر : فوقع في وهلي أنها النخلة، فلما طال ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي النخلة، فلما خرجت قلت لـعمر : لقد وقع في وهلي أنها النخلة، قال: لو كنت قلتها لكان أحب إلي من ملء الأرض )، وفي رواية: ( لكان أحب إلي من حمر النعم )، فـعمر يفرح كثيراً أن يفهم عبد الله مراد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فرح عمر كثيراً بفهم ابن عباس وموافقته له في تفسير سورة النصر، فـابن عباس كان فتىً صغيراً توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولكنه كان من ذوي الهمم العالية، قال: ( لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله توفى رسوله، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا تحتاج إلينا الأمة؛ لعلنا نسد لأمته مسداً تحتاج إليه، قال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته )، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح ابن عباس ترجمان القرآن، وأصبح عمر يلقبه: فتى الكهول، ويدنيه ويدخله بين مشيخة أهل بدر وهم أعلى طبقات الصحابة، فكلمه بعضهم في ذلك فقالوا: ( إن لنا أولاداً هم أكبر منه صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلا تدنيهم كما تدنيه، فدعاه عمر بحضرة شيوخ أهل بدر، فسألهم عن تفسير قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فقالوا: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتوبة إذا فتحت الأمصار وفتحت مكة، وجاءت الأفواج، ودخل الناس في الدين، فقال: لم تفهموها، فسأل ابن عباس عن تفسيرها، فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، هذا نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، فقال: لهذا أدنيته؟ ) ترجيح بلا مرجح من المستحيلات و عمر يدني ابن عباس لهذه الحكمة؛ لأنه يفهم القرآن. وهذا الفرح بالقرآن وبفهمه نجده عند عدد من سلفنا الصالح في تراجمهم، ونرى كيف يؤثر عليهم، وكيف يعيشون في ظلاله.

وكذلك في السنة، فهذا البخاري رحمه الله أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه كان يضطجع للنوم، وعنده الدواة والقلم، وحوله المصباح، فيطفئه ويشرع في أذكار النوم، فتظهر له فائدة من تدبره، فيقوم فيوقد السراج ويكتبها، ثم يطفئ السراج ويضطجع لينام حتى يتكرر ذلك عليه اثنتي عشرة مرةً قبل النوم، اثنتا عشرة مرة وهو يقوم إلى السراج يوقده ويكتب ثم يطفئه وينام، يعيشون في ظلال القرآن ومعهم في كل أوقاتهم، فهم يتدبرونه.

وقد أدركنا عدداً من أهل القرآن الذين لديهم باع عجيب جداً في التدبر، فيأخذون المسائل من قرب.

فهذا عبد الله البحر بن محمد علي بن عبدود رحمة الله عليهم أجمعين، دعاني يوماً فسألني فقال: من أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكرت قلت: تعرف الخلاف في هذه المسألة: هل خديجة ، أو أبو بكر الصديق ، أو علي بن أبي طالب ، أو زيد بن حارثة ، فقال: كل هذه الأقوال باطلة، قلت: سبحان الله! ذكرها أهل العلم جميعاً في كتبهم وهي منقولة، قال: لكن الله يقول: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو أول من آمن بنفسه، فقد ادخر الله له هذا التدبر الذي لم نجده لدى غيره من أهل العلم، قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو أول من آمن بعد ذلك وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285]، ويحدث بنكات عجيبة في القرآن يقول: الإيثار قيمة من قيم الإنسانية الكبرى، والناس في عرفنا يسمونها ... الداخل، الإيثار عندهم باللهجة الحسانية يسمونها ... الداخل، دعاني يوماً فقال: ما رأيت أحداً أبلغ إيثاراً من موسى بن عمران ، دعاه الله لكلامه ورسالاته، فقال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي [القصص:34]، هذا غاية الإيثار، فهم يعيشون مع القرآن يتدبرونه، ويستنبطون منه أشياء لم تخطر على بال أحد؛ ولذلك يفتح لهم فيه الفتوح العجيبة، فينظرون إلى كثير من الغيوب النسبية من وراء ستر رقيق؛ لأن البصائر صافية، فهم يعيشون مع هذا القرآن، فيدلهم ويسددهم ويوفقهم.

أولاً: الحرص عليه وتعظيمه وإجلاله، فهذا القرآن هو أشرف ما على وجه الأرض الآن؛ لأنه كلام الملك الديان جل جلاله، فلا بد من توقيره وإجلاله وتعظيمه، وهذا التعظيم يقتضي من الإنسان أن يكون وقافاً عنده، كما كان عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : أن عيينة بن حصن الفزاري وكان سيداً مطاعاً في قومه ولكنه أحمق، جاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان أهل القرآن أهل مجلس عمر ، حفظة القرآن، والمتدبرون له، والعالمون بتفسيره هم أهل مجلس عمر الذين يدنيهم، كباراً كانوا أو صغاراً، فجاء إلى ابن أخيه فقال: اشفع لي عند هذا الرجل حتى أخلو به، فذهب به الحر بن قيس إلى عمر فأدخله عليه وحده، فقال فيه: يا ابن الخطاب ! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر لذلك، فرفع الدرة، والدرة هي العصا الصغيرة التي يرفعها عمر لتأديب الناس إذا سمع منهم الكذب أو مخالفة الشرع، فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فسقطت يد عمر ، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، إذا سمع أي حد من حدود القرآن وقف عنده، فهذا خلق من أخلاق حملة القرآن، لا بد أن يتحلوا به، وقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن ) وقافاً عند كتاب الله إذا سمع أية آية وعليه أنزل أثرت فيه تأثيراً بالغاً، انظروا إلى إجلاله وتعظيمه للقرآن.

في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله! كيف أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تهملان )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى إجلاله في القرآن!

وكذلك ( فإنه خرج ليلةً في المدينة في آخر الليل، فمر أمام دار عجوز من الأنصار، فسمعها تقرأ سورة الغاشية، فقالت: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي على بابها )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن الآن نسمع هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فلا يؤثر هذا فينا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفعه الله فوق السموات السبع حتى بلغ مكاناً يسمع فيه صريف القلم، وكلمه الله، واصطفاه خليلاً من خلقه، وأنزل إليه هذا الكتاب المبين مع ذلك إذا سمع هذه الجملة بكى لها بكاءً شديداً، وجلس يستمع إليها من امرأة عجوز وهي تقرؤها، ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، نعم أتاني )، (الغاشية): القيامة، وأسماؤها في القرآن كبيرة: الغاشية، الآزفة، الطامة، الصاخة، أسماء كبيرة مروعة مرعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة وقوفه عند كتاب الله، في بعض الأحيان يقوم الليل بآية واحدة يكررها ويبكي، يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يكرر هذه الآية وهي خطاب من الله جل جلاله خاطب به من قبل عيسى ابن مريم عليه السلام فأنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الليل يتدبره، ونحن الآن نقرأ بسرعة هائلة كالبرق الخاطف، وهو يكرر آيةً واحدةً في ليلة كاملة يقوم بها الليل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].

وقد ربى أصحابه على هذا الخلق من أخلاق حملة القرآن فكانوا جميعاً يقفون عند كتاب الله ويحترمونه احتراماً شديداً، حتى إن امرأةً من الأنصار وهي فتاة صغيرة لم تكن من أهل العلم ولا من أهل الثقافة، وقد تزوجها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فرأته يعاشر جاريةً له فغارت وغضبت، فسألته فأنكر أن يكون قد أتى تلك الجارية، فقالت: قد علمت أنك لم تكن لتقرأ القرآن وأنت جنب، فإن كنت صادقاً فاقرأ علي من القرآن، فوقع في موقف حرج لا يستطيع أن يقرأ القرآن وهو جنب، وهو يجوز له الكذب لإرضاء زوجته، فأنشأ أبياتاً فيها توحيد لله جل جلاله فقال:

شهدت شهادةً لا ريب فيها بأن الله ليس له شريك

وأن محمداً عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك

فقالت: صدقت الله وكذبت عيني، رضيت؛ لأنهم تربوا على أن هذا القرآن عظيم، وأنه لا يمكن أن يقرأه جنب، ولا يمكن أن تقع فيه مغامرة من أي أحد.

وهذا الخلق من أخلاق حملة كتاب الله نجده أيضاً مع أئمتنا الأعلام من أمثال مالك بن أنس رحمه الله، فقد كان مالك رحمه الله لا يرى ندب صلاة ركعتين قبل المغرب، لأنه يتأول الحديث الوارد في ذلك وهو ما أخرجه البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال في الثالثة: لمن شاء )، و مالك رحمه الله رأى أن قوله: ( صلوا قبل المغرب ركعتين ) لم يكن للوجوب وإنما كان للندب، فلما قال: ( لمن شاء ) نزل عن الندب، وإذا نزل عن الندب لم يصل إلا إلى الكراهة؛ لأن أحكام التكليف عند مالك خمسة فقط هي: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.

والإباحة المستوية الطرفين لا يمكن أن تنزل بها العبادة، فالعبادة إما واجبة، وإما مندوبة، وإما حرام، وإما مكروهة، لكن لا يمكن أن تكون مباحةً مستوية الطرفين؛ لأن المباح لا ثواب فيه، ولا عقاب في تركه، والعبادة لا بد أن يثاب صاحبها أو يعاقب، ففهم مالك هذا الفهم ورأى أن أحكام التكليف مقصورة على الخمس.

وبعض أهل العلم يرى أن أحكام التكليف أكثر من ذلك، فيرى أن المأمور به أمراً غير جازم ينقسم إلى أقسام: فمنه السنة، ومنه المندوب، ومنه المستحب، ومنه التطوع، ومنه النافلة.

والنفل والسنة والتطوع والمستحب البعض قد نوعوا

والخلف لفظي ..

كما قال السيوطي في الكوكب، فلذلك رأى غير مالك أن الأمر نزل من أعلى درجات الندب، ولم يتجاوز أدناها، فبقي في إطار المندوب لكن لم يبق في أعلى درجات المندوب، و مالك يرى أنه نزل عن الندب فلم يكن ليصل إلا إلى الكراهة، فكان يرى أن الصلاة ركعتين قبل المغرب فيهما كراهة، فجاء إلى المسجد وتأخر المؤذن لم يقم، فوقف مالك ، فأتاه صبي صغير فقال: يا أبا عبد الله ! ألا تركع؟ قال: الله أكبر، وصلى ركعتين، فنظر إليه أهل المدينة يستغربون، فقد رأوه يفعل فعلاً مخالفاً لمذهبه المعروف من علمه، فلما سلم سألوه قالوا: رأيناك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، ولا رأينا أحداً من أهل العلم في بلدك يفعله، فقال: إن هذا الطفل قال لي: ألا تركع؟ فخشيت أن أكون من الذين وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]؛ لأنه وقاف عند كتاب الله، حتى لو كان مخالفاً للمذهب، مخالفاً لما لديه من الفقه جاءت آية من كتاب الله فلا بد من المبادرة إليها، وكثير من الناس اليوم تركوا هذا الخلق، فإذا قيل لأحدهم: قال الله تعالى كذا، يقول: قرأت في كتاب كذا، فيعدل عن القرآن إلى أي كتاب آخر، وهذا مخالف لهذا الخلق والهدي.

ثم بعد ذلك لا بد من أخلاق حملة كتاب الله: أن يكونوا غير غالين فيه، فالغلو مذموم، والغلو معناه: مجاوزة الحد، فالإنسان المتعصب المتصلب المحتكر للحق، الذي يرى أن الحق هو ما لديه وأن كل ما سواه باطل، وأن الأمور كلها قسمان فقط أبيض وأسود، فالأبيض ما لديه هو، والأسود ما لدى خصمه أو ما لدى غيره فهذا غال في القرآن، والعكس الجافي عنه الذي يهمله، ولا يتدبره، ولا يهتم به، ولا يلازمه فهذا جاف عنه، والحد الأوسط هو لزوم المحجة، لا إفراط ولا تفريط، فهذا خلق من أخلاق حملة كتاب الله، وهو الاعتدال فيه كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الاعتدال في الأخذ به، وأن يأخذه الإنسان بقوة، وأن يوغل فيه بلطف، وأن يعلم ( أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى )، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر على الغالين، فقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يقوم الليل كله: ( إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه )، وبين له: ( أن أفضل القيام قيام داود ، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه )، فهذا أفضل القيام.

وكذلك ( دخل على عائشة وعندها الحولاء بنت تويت وهي امرأة من بني تيم بن مرة قريبة لـعائشة بالنسب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: فلانة، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه! اكلفوا من العمل ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا ).

وكذلك ( جاء نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن قيامه وصيامه فكأنهم تقالوا ذلك، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونهى عن هذه المبالغة فقال: ( إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا )، وبين اعتداله في منهجه صلى الله عليه وسلم، وعمله بالقرآن يعطي كل ذي حق حقه.

وفي المقابل كذلك نجد في حديث حفصة رضي الله عنها في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الله بن عمر فقال: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله قيام الليل بعد ).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، فمن ليس له حظ من قيام الليل، ولا من صيام النفل، ولا من الذكر، ولا من العبادة، فهذا جاف عن القرآن، وليس من أهله أصلاً، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر من هذا الحال، ( لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وقد رأيتم هذا الخلق المعتدل الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط، ليس فيه مبالغة ولا تقصير، وإنما هو معتدل متوسط.

كذلك فإن من أخلاق حملة القرآن: حرصهم على الناس جميعاً فهم حملة هذه الرسالة الشريفة، وهم وراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فمن كان سالكاً لطريقه، وكان متخلقاً بأخلاقه لا بد أن يحرص على هداية الناس، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).

الفراش هو الذي يجتمع على الضوء ليس بينه وبين الإنسان نسب ولا صلة، لكن لرحمته به يخاف عليه أن يقع في النار، فيحاول أن يرده، (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فكذلك حامل القرآن لا بد أن يحرص على أن يكون إسوةً صالحةً ومثلاً يحتذى به ويقتدى، وذلك يقتضي منه حرصاً على هداية الناس، ويبدأ بنفسه أولاً، ثم بعد ذلك يسعى لهداية الآخرين، وليبدأ بأهل بيته كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ثم بعد ذلك بالجيران والأقربين كما قال الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].