عظمة الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

فما أحوج المخلوق إلى أن يدرك جزءاً من عظمة خالقه ديّان السماوات والأرض، الملك الجبار، ما أحوج المخلوق لهذا لأنه محتاج إلى معرفة الله، محتاج إلى أن يتعرف عليه في الرخاء ليعرفه في الشدة، محتاج إلى أن لا يشرك به شيئاً ولا يجعل له نداً، محتاج لأن يقصده في كل أموره، محتاج إلى أن يتعبده العبادة التي من أجلها خلقه.

ما أحوج المخلوق لأن يتدبر في هذا الكون العجيب حتى يدرك بعض عجائب عظمة الجبار الذي أبدعه من غير مثال سابق، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، خلق هذا الكون العجيب فأبدعه وصوره تصويراً.

ما أحوج المخلوق لأن يمتلئ قلبه من عظمة الله عز وجل حتى يحول ذلك بينه وبين معصيته. ما أحوج المخلوق أن تباشر عظمة الله شغاف قلبه حتى يحبه حق محبته. إننا محتاجون إلى استشعار هذه العظمة، وإن الله عز وجل قد بين لنا كثيراً من تجلياتها ومظاهرها في عجائب خلقه حين علم أنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103]، وأننا لا يمكن أن نعرفه من خلال مثال نراه فـ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11]، أبدع هذا الكون ليكون دليلاً على عظمته وجلاله:

ففي كل شيء له آية تدل على أن واحد

إن هذا الكون بكل ما فيه؛ بكل جزئية منه؛ كبيرة كانت أو صغيرة، تدل على مبدع أحاط علمه بجميع الكائنات على وجه الإجمال والتفصيل، ورتب هذا الكون بتدبير عجيب، لا اختلال فيه ولا انفطار؛ ولهذا فإن نظرت إلى أبسط جزئية منه وجدتها تدلك على هذه العظمة العجيبة.

ولتبدأ بنفسك التي هي أقرب شيء إليك؛ فإنا ستجد فيها عظمة الله عز وجل، ستجد ذلك في كل أجهزتك المختلفة، ستجده في مفاصلك التي تنيف على ثلاثمائة مفصل، وستجده في عروقك التي تزيد على ثلاثة آلاف عرق، وتجده في نبضات قلبك التي لا تتوقف إلا بالموت، وتجده في دمك المؤلف من سبعة عشر عنصراً، وتجده في هذا الهواء الذي يدخل نقياً عن طريق معدة له فيدخل الأكسجين إلى الرئتين، ويخالط جميع الدم حتى لا تبقى شعرة واحدة من البدن إلا ودخل فيها، ثم يعود هواءً ملوثاً ويخرج بهواء الزفير الذي صار ثاني أكسيد الكربون.

من مظاهر عظمة الله في أجهزة جسم الإنسان وحواسه

تجد هذه العظمة في بصرك الذي تدرك به دقائق الأشياء وترى جزئيات هذه العين العجيبة التي جعل الله تعالى النظر فيها في هذه القرنية المحتوية على ماء سيال، وهذا الماء به إدراك هذه الأشياء الدقيقة، تجده في سمعك الذي تسمع به هذه الأصوات التي تنقلها هذه الأمواج المعدة لها التي تحيط بهذه الأرض وتسير وترتفع حتى تخرق الفضاء الخارجي.

إن هذه الأمواج عجيبة جداً، ولا يمكن إدراكها إلا إذا كثفت وكانت مضمنة بالأصوات، فهي قادرة بإذن الله تعالى على نقل الأصوات ونقل الإشارات الكهربية لمسافات بعيدة شاسعة، ولهذا فإن السنة الضوئية تنقل هذه الإشارات الكهربية في مسيرة ألف سنة من سنوات الزمان في دورة دائمة، وكل هذا لا توقف فيه ولا انقطاع، وهذا يدل على عظمة الباري سبحانه وتعالى حين أبدعه ورتبه هذا الترتيب العجيب، حين جعل هذه الأمواج تنقسم إلى أمواج أرضية وأمواج سماوية أو أمواج عرضية وأمواج طولية، وجعل الأمواج الطولية تنقسم إلى قسمين: أمواج تردها طبقة من الفضاء هي طبقة اليونيسفير، فترجع إلى الأرض مضمنة بما فيها ويحصل الفوت في الصوت بين هذا وهذا، وأمواج سماوية تخترق اليونيسفير ولا يردها إلا جسم في الفضاء الخارجي. تجد هذا العجب العجاب، في عقلك الذي تفكر به من أين أتى؟ وكيف تفاوت الناس فيه؟ وكيف رضي كل شخص عن الله بعقله؟ وكان يظن أنه أكمل الناس عقلاً، تجده في هذا البدن المليء بالأجهزة، الذي فيه جهاز للذاكرة، وجهاز للمفكرة، وجهاز مرتب للتوازن حتى تستطيع المشي به، وجهاز مرتب للسيطرة على الجوارح وجهاز مرتب لحركة العضلات بالجسم، وجهاز مرتب لتقويم العظام، وتركيبها، وجهاز مسيطر على أجهزة الهضم، وأجهزة العمليات الأخرى التي تؤدي إلى الإفرازات في الجسم، وهذا كله محصور في أم الدماغ الصغيرة، تجد صورة من جسمك في كل ذرة من ذراتك، فلو أخذت جزءاً ولو بسيطاً من جلدك أو من عظمك أو من شعرك ستجد فيه صورة كاملة لك، ستجد خلية في داخلها نواة وفي داخلها أجسام مختلفة، مثل أجسام جولجي ومثل غشاء سيتوبلازم وغير هذا فتكون مثالاً كاملاً للإنسان، تجد هذه الجزئيات الدقيقة في كل جهاز من هذه الأجهزة.

فمثلاً: في الجهاز الهضمي تجد هذه الأضراس المعدة لتدقيق الطعام وإذابته حتى يتهيأ لأن يذاب بالأحماض التي في داخل المعدة، بعد هذا تعد له الطريق الموصلة عبر هذه الأنبوبة إلى مستقر في المعدة، بعد هذا تأتي هذه الأحماض التي تتقلب في الثانية الواحدة ثلاثة ملايين مرة في داخل معدة كل إنسان، فتذيب كل ما يأتي فيها حتى العظام القوية التي لا تستطيع الأضراس كسرها، فإنها إذا وصلت إلى المعدة أذابتها؛ لئلا يحصل الضرر بابن آدم، تجد بعد هذا طريقاً لإخراج هذا من أسفل بعد أن يُستغنى عنه ويأخذ البدن ما فيه من الخير، يخرج الله تعالى ما لا نفع فيه منه ويجعل له طريقاً للخروج.

كذلك تجد في عضلاتك ترتيباً عجيباً لتحريك هذا الجسم الثقيل الذي هو محتاج للحركة فتجده موثقاً للسير إلى جهتين فقط إلى الأمام وإلى الخلف، ولا يمكّن من السير إلى اليمين ولا إلى الشمال ليتم توازنه؛ لأن الثقلين في التنفس في جهازي الرئة؛ فالرئة قسمان: قسم إلى اليمين، وقسم إلى الشمال، فلو سار الشخص إلى أحدهما لاختل توازن تنفسه، وكان ذلك خطيراً في حياته، فلهذا جُعل ذهابه إلى الأمام أو إلى الخلف فقط.

تجد هذه الأجهزة الأخرى التي تتابع هذه الأجهزة وتنظفها مثل هذا الجفن، الذي يفيض بدمعٍ لا يُدرك ولا يخرج من العين إلا عند التأثر بالحزن أو بالسرور، وتجد حركته الدائمة تنظف هذه العين المعرضة لكثير من الأوساخ في هذا الأكسجين الذي نتنفسه، فلولا هذا الغسيل الدائم لاتسخت كما تتسخ المرآة إذا كانت بالشارع، حيث تمر بها الأوساخ وتلتصق بها وبالأخص إذا كانت مبللة، لكن الله جعل لها هذا الجفن الذي يتحرك بصفة دائمة؛ ليستخرج كل وسخ مضر عنها ويزيله.

تجد كذلك هذه التجاعيد العجيبة في هذه الأذن، ويظن كثير من الناس أنها لا فائدة فيها والواقع أنها لو قطعت لكان الصوت مضراً؛ لأنه لو يصل بالمباشرة فيقرع السمع فيؤثر في الدماغ ويوبس بعض مكوناته، فهذه التجاعيد العجيبة تمر معها الأصوات حتى تصل إلى مستقرها بالتدريج؛ فلا تأتي الأصوات أكبر من طاقة السمع.

كذلك تجد هذه التراكيب الرقيقة جداً في داخل الأنف ليمر معها التنفس حتى يوصل ذرات الأكسجين إلى الدم، فيوصله إلى كل مكان في الجسم، حتى الشعرة الواحدة تتنفس عن طريقها، فلو كان الأنف مخروقاً خرقاً كبيراً لوصل هذا الهواء بصفة لا يمكن التحكم بها، ولكن الله جعل ذلك في منخرين يستقبلان الهواء في وقت واحد، ويخرجانه أيضاً في وقت واحد، بعملية عجيبة لا يشعر بها الشخص إلا إذا أصيب بزكام أو نازلة، فإن إحداهما ستنسد وسيجد أنه يعاني تعباً شديداً؛ لأن بعض مواقع الدماغ لا يصل إليها نصيبها من الأكسجين.

كذلك في هذا النخاع العجيب الذي يسيل من أم الدماغ حتى يصل إلى نهاية العصعص الذي هو عجب الذنب، ومنه خلق الإنسان ومنه يركب، وهو الذي لا يبلى، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فهذا النخاع أمره عجيب جداً، فالأسلاك الدقيقة فيه تخرج من بين فقرات الظهر، ولو انقطع واحد منها لحصل الشلل لأجهزة الحركة في الإنسان، ومع ذلك أحيطت بهذا العظم المركب تركيباً ليناً يستطيع معه الإنسان أن ينثني وأن يستقيم، ليرعى هذا العظم المركب بهذا التقطيع العجيب طريقة انحناء هذا النخاع وطريقة استمراره في البدن، فلو كان عظم الظهر كمخ الساق أو كمخ الفخذ مثلاً لكان الإنسان لا يستطيع المحافظة على هذا النخاع، ولما استطاع أيضاً الانثناء والحركة على المستويات المختلفة التي يحتاج إلى الخروج منها والدخول.

كذلك فإن هذا الإحساس الذي جعله الله في الطبقة العليا من الجسم التي تمارس الأشياء وتمسها إحساس عجيب، وقد ركزه الله في اليدين فقط، ففي بياض اليدين -أي: في باطنهما- تجد هذا الإحساس مركزاً جداً، فتدرك به البرودة والسخونة والنعومة والخشونة، وتدرك به مقادير الأشياء ضخامة وصغراً، وهذا الإحساس كذلك يوجد في الطبقة العليا من الجسم، فتحس به بالألم، فإذا قرصك قارص أو أمسكك شيء أحسست به؛ لأن هذا الإحساس في الطبقة العليا من الجسم، ولو سلخ شيء من الجلد لزال الإحساس عما تحته.

وكذلك تجد تقوية الأطراف لتحمل الدفاع عن الجسم، فاليدان فيهما قوة ليست فيما تحتهما من الأضلاع، والجنب والفخذان والرجلان والساقان في هذه المجموعة فيها من القوة ما ليس في البطن والأمعاء، فهي مقصودة للدفاع عنها ترد عنها المهاجم أياً كان. كذلك في باطن الرجل تقوية عجيبة من أمر الله تعالى، تجعل الإنسان يتحمل التركيز عليها، فإن الإنسان لو ضغط على أذنه ضغطة شديدة لتألم منها، ولو ضغط على أنفه ضغطة شديدة لتألم منها، لكنه إذا وطئ رجله بكل ثقله لا يتألم من ذلك؛ لأن الله قوى هذه الرجل لتكون محل ارتكاز الإنسان ومحل قوة الثقل فيه، كل هذا من عجائب صنع الله تعالى في الإنسان.

من مظاهر عظمة الله في الروح

ما سبق كان في الأمور الظاهرة التي ليست من عالم الغيب ونحن نراها ونشاهدها فكيف بالأمور الغيبية العجيبة؟ الأمور المتعلقة بالروح، فهذه الأرواح أمرها عجيب جداً، ولا نطلع من علمها إلا على الشيء القليل كما قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]. هذه الأرواح نفخة من أمر الله تعالى يرسل بها ملكاً إلى الجنين في بطن أمه، فيأمره أن ينفخ فيه بمقدار علمه الله تعالى من هذه النفخة من أمر الله، وهذا المقدار متفاوت تفاوتاً عجيباً، فمن الناس من تكون روحه كبيرة فيمكن أن يستوعب كثيراً من المعلومات، ويمكن أن يستغل كثيراً من الطاقات، ويمكن أن يؤثر في نفسيات الآخرين، ومنهم من تكون روحه صغيرة فتكون همته متدنية ويكون ناقص التحمل، فهذا كله من أمر الله العجيب.

تجد هذه الروح عندما تنفخ في هذا البدن تكون الحياة في البداية تابعة للبدن فقط -أعني الروح تابعة للبدن- والبدن هو المؤثر عليها في حياة الجنين في بطن أمه، ثم إذا خرج الجنين من بطن أمه كذلك كانت حياة الأبدان غالبة على حياة الأرواح، فإذا مات الإنسان ووضع في قبره وانفصلت روحه عن جسمه كانت حياته حياة روحية وكان الجسم تابعاً للروح فقط، ثم بعد ذلك إذا حشر في اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين تكون الحياة حقيقية يستوي فيها الجسم والروح، فالحياة الأولى الغالب فيها الجسم، والحياة الثانية في البرزخ الغالب فيها الروح، والحياة الأخروية يستوي فيها الأمران: الجسم والروح، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، فهي الحياة الحقيقية التي يقع فيها التوازن بين هذين الشقين.

كذلك من هذه العجائب الباطنة هذه الأرواح التي تحس باللذة والألم بحيث لا يشعر الشخص بذلك، فتجد شخصين قد ناما في فراش واحد، وأحدهما بات في غاية اللذة والآخر بات في غاية الحزن والألم، ولا يصل شيء من لذة هذا إلى هذا، ولا شيء من حزن هذا إلى هذا، بل أعجب من ذلك أن القبر الواحد تختلط فيه عظام المنعمين والأشقياء، فيكون مستقراً لأهل الجنة وأهل النار، وتختلط عظامهم وذرات أبدانهم، ويكون أحدهم في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، فلا هذا يدرك شيئاً من عذاب هذا حتى ينغص ذلك عليه عيشه، ولا هذا يصل إليه شيء من نعيم هذا حتى ينقص ذلك عذابه في قبره، بل الجميع لا يدرك إلا ما هيئ له فقط.

ولهذا تجد الشخصين يجلسان في الصف أطرافهما متماسة، المنكب إلى المنكب والساق إلى الساق، لكن أحدهما مغضب إلى النهاية والآخر مسرور إلى النهاية، تجد أحدهما يخشع لله تعالى وقلبه منشغل عن هذه الدنيا، لا يدرك شيئاً مما فيها؛ لأنه قد غاب في ذات الله، والآخر يفكر في أبسط شيء من أمور الدنيا وتفاهاتها، ومع ذلك لا يصل شيء من حال هذا إلى هذا، ولا شيء من حال هذا إلى هذا؛ فهذه الأحوال نفسية مقسومة هذه القسمة العجيبة.

كذلك في التأثرات التي ندركها من أحوال النفوس ما يرتبط بالأبدان وهذا أمر عجيب جداً، فإن الغضب الذي ترونه من العوارض الآدمية، وقد حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً أتاه فقال: ( يا رسول الله! أوصني؟ فقال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب )، تجد أن في الإنسان غدة تسمى: الغدة الكظرية، وهي في الخصر، وهذه الغدة إذا تأثرت النفس من أمر تكرهه أفرزت سائلاً بسيطاً جداً هو الذي يسميه أهل العلوم بسائل الأدرينالين، وهذا السائل يخالط الدم فيجعله يغلي، وكأن الدم أشعل بشعلة، فتجد وجه الإنسان يحمر، وأوداجه تنتفخ، ولا يتمكن من تركيز أطرافه حيث ترتعش ويرتعد، هذه عوارض رتبها الله تعالى على انبعاث هذا الجزء البسيط من سائل الأدرينالين في دمه.

من مظاهر عظمة الله في الكبد

كذلك من هذه العجائب العجيبة هذا الكبد الذي يصفي كثيراً مما يحتاج الإنسان إليه، فهو بمثابة النار التي يوضع عليها الطعام فتنضجه، هذا الكبد جزئياتها مركبة من ألياف دموية وفي داخلها أوردة تنقل الدماء من مكان إلى مكان وترجع معها الدماء بصفة عكسية، فتجد العرق الواحد فيه أنبوبان: أحدهما ينقل الدم والآخر يرده في نفس الوقت، وليس بينهما حاجز إلا برزخ من علم الله تعالى، برزخ من علم الله تعالى يقسم كل عرق مهما كانت دقته حتى يستخدم لخروج الدم إلى جهة ورجوعه إلى جهة، فيجتمع الضدان فيه.

مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل

يجتمع الضدان في كل جزئية من جزئيات الإنسان.

وكذلك في هذه الكلى ذات الأمر العجيب التي يمر بها البول، فيخرج ما فيه ضرر على الإنسان وتصفي الدم منه وفي داخلها هذه الألياف العجيبة المترددة، فأنت عندما تقطعها تجد ألوانها مختلفة وأنت لا تدرك أنها تراكيب متباينة، فتصفي هذا البول وتخرجه إلى المثانة عبر الحالب الأيمن والحالب الأيسر، فيخرج وفق تقدير أعده الله تعالى له بصورة عجيبة جداً، وينعزل الدم فيرجع إلى مكانه ويذهب البول في مكانه، وإذا أراد الله تعالى تعطيل هذه الكلى بقي الدم ملوثاً بالبول، فكان ذلك تسمماً للإنسان يؤدي إلى مرض شديد فيه، وكذلك لو حصل شق بسيط -حين يريده الله تعالى- في أي عرق من عروق الكلى، فيتسرب منه ذرات قليلة من البول داخل الدم فيتسمم الإنسان بها فيحتاج إلى عملية غسيل للدم.

من مظاهر عظمة الله في الأجنة

وكذلك في الأجنة -وحدث ولا حرج عن الأجنة- فإن الله عز وجل ذكر لنا تسع مراحل يمر بها الجنين عجيبة جداً، فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ[المؤمنون:12]، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:14]، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ[المؤمنون:15]، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:16]، هذه تسع مراحل عجيبة جداً:

أولها: ما خُلق منه آدم من هذا التراب اللزج الممزوج بالماء حتى تخثر، وحتى صار صلصالاً منتناً، ثم خلق منه هذا الإنسان وبقي عنصراً أساسياً في تركيبه، وأنت لو نظرت إلى الحيوان المنوي الذي لا يرى بالعين المجردة -ففي القطرة الواحدة ملايين من الحيوانات- فستجد فيه كل خصائص الإنسان بكامله وأصل تركيبه كاملاً، وكل عناصر الوراثة التي فيه حتى الألوان وطول القامة وقصرها، والفهم والذكاء والبلادة وحتى النهم وحب الأكل، وغير ذلك من الخصائص الوراثية ستجدها جميعاً ملتئمة في هذا الحيوان البسيط، الذي لا يرى بالعين المجردة.

وكذلك بعد هذا تأتي المرحلة الثانية: وهي قوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، هذه (النطفة) الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، إذا أراد الله تعالى تكوينه فإنه عندما يصل إلى المهبل ينتقل بواسطة قناة هي قناة فالوب، حتى تنقله إلى البويضة التي تنزل من عنق الرحم، والرحم له عنقان عنق في اليمين وعنق في الشمال، وفي كل شهر ينتج عنق الرحم بيضة واحدة، فإذا تم تكاملها نزلت إلى قاع الرحم، فحينئذٍ إما أن تلقح إذا علم الله أنها مخلقة، وإما أن تصير دماً إذا علم الله أنها غير مخلقة، وحينئذٍ يأتي الحيض بهذا، ثم يبدأ الطرف الآخر وهو عنق الرحم الآخر في تكوينه البويضة الأخرى بأمر الله، ثم يكتب عليها هل هي مخلقة أم غير مخلقة؟ فإذا كانت مخلقة فستلقح حينما تصل إلى قاع الرحم عن طريق هذا الحيوان الذي يصل عبر المهبل، ثم عبر قناة فالوب حتى يصل إلى هذه البويضة ويدخل فيها أو يعلق بها، فيكون علقة فترة معينة، ثم يدخل بها ثم يتكون، وإذا علم الله أنها غير مخلقة، وكتب عليها ذلك فستصير دماً وهو الحيض، وهكذا ففي كل شهر يشتغل أحد المصنعين ويستريح الآخر، فهما مصنعان كاملان لإنتاج البيض، مصنع في اليمين ومصنع في الشمال.. وهكذا.

ثم إذا قدر الله أن هذه النطفة مخلقة فستمكث أربعين يوماً نطفة، ثم بعد ذلك تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم تكون بعد ذلك في بداية الخلق عظاماً، وتكسى هذه العظام بلحم ويبدأ تكوين الإنسان بالتدريج، فيكون في الأصل ذا فرعين أي طرفين فقط، ويلتوي هذان الجذعان إلى الأمام فيتكون الظهر من العصعص، وهو أول ما يتكون من الإنسان، فأول ما يتكون في الرحم العصعص أي آخر الظهر، وهو آخر ما يبقى في القبر من الإنسان، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فيبدأ هذا في التمدد، وإذا أراد الله أن يكون الجنين توأماً فإنه يدخل حيوانات منوية في نفس الوقت إلى البويضة أو أكثر، فإذا دخلا تكونا في داخلها، فتنشطر هذه البويضة ويحول بينها حاجز من أمر الله تعالى، فتكون البيضة الواحدة بيضتين بحيث لا يشعر بذلك ولا يدرك إلا بعد انفصالهما تماماً.

وكذلك مما هو أعجب من هذا أن هذا الملك الذي ينفخ فيه الروح سيكتب هل هو شقي أو سعيد؟ وسيكتب رزقه وأجله وعمله، يكتب ذلك فيبقيه معه، وهذا بعد أن يطلع عليه الملك المرسل لذلك، أما علم الله تعالى فهو سابق، فقد علم في الأزل وكتب في الصحف التي عنده فوق عرشه كل ما هو كائن إلى نهاية الكون كله، لا يختلط عليه شيء من المعلومات، ولا يمكن أن يلتبس عليه جل وعلا هذه الحيوانات الدقيقة التي تكون في القطرة الواحدة من المني مثلاً وهي عشرة ملايين حيوان منوي فلا يلتبس عليه الحيوان الذي قدر أنه سيخلق منه بشر والحيوان الذي لا يخلق منه شيء، والحيوان الذي يخلق منه سعيد والحيوان الذي يخلق منه شقي.. إلى آخره، لا يلتبس عليه هذا أبداً، ولهذا قال الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، إن هذا من علمه وقدرته أمر عجيب جداً، فمن الناس من يهب له الإناث فقط، ولا يرزقه بالذكور لحكمة بالغة علمها الجبار جل وعلا، ومنهم من يرزقه الذكور ولا يرزقه الإناث لحكمة بالغة كذلك، ومنهم من يرزقه القسمين جميعاً ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يجعله عقيماً، وهذه أربع صور حاصرة لا يمكن أن تجد قسماً خامساً من البشر، إما أن يكون ممن رزق ذكوراً، أو ممن رزق الإناث، أو ممن رزق الجميع، أو ممن منع الجميع، لا يمكن الاجتماع؛ ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى: إن من حنث لا كلم ذكراً ولا أنثى، يحنث إذا كلم الخنثى؛ لأن الله عز وجل جعل الإنسان إما ذكراً أو أنثى، فهي في علم الله إما ذكر وإما أنثى، ولهذا قال أحد علمائنا:

وحالف لا كلم الذكور أو الإناث أمداً مذكوراً

قال الجلال: حانث بالخنثى إذ هي إما ذكر أو أنثى

ولهذا فإن من العجائب في هذا المجال أن يكون التوأم آخذاً لبعض صفات الوراثة، والتوأم الآخر آخذاً لبعض صفات الوراثة الأخرى، فلو كان الجنين واحداً لأخذ جميع خصائص الوراثة، لكن عندما تنشطر هذه البويضة ويذهب طرف في اليمين وطرف في الشمال، فإن هذه البويضة ستكون خصائص الوراثة منقسمة بينها، فتجد التوأمين بينهما مشابهة، لكن كثيراً ما تجد أحدهما ذكياً والآخر بليداً، أو تجد أحدهما قوي الجسم والآخر ضعيفاً، وكل هذا من تدبير الله تعالى حين انشطرت هذه الوظائف وقسمها بينهما، وتجد أحدهما ذكراً والآخر أنثى وهما من بطن واحد.. وهكذا.

من مظاهر عظمة الله في القلب

كذلك من عجائب هذا الباطن أمر هذا القلب، هذه المضغة التي جعل الله فيها تياراً كهربائياً متحركاً بقدر الله تعالى وأمره، وهذا التيار لا يستوي فيه اثنان من البشر، والبشر الآن أربعة مليارات وزيادة، ومع ذلك لا يشتبه اثنان منهم في دقات القلب أبداً، فكل شخص منهم له دقة مختصة به، ومثل ذلك البصمات في الأصابع، فإن الله تعالى لم يجعل اثنين متشابهين في بصمات الأصابع أبداً، وهذا العالم كله كل شخص فيه قدر على هيئة معينة تختلف عن ما سواه، وهذا أمر عجيب جداً، فدقات القلب مثلاً مؤثرة حتى في حركات الإنسان، فإذا أردت أن تكتب كتابة معينة فإن دقات القلب تؤثر في هذه الكتابة، فإذا كتبت الألف من (الناس) يكون (الألف) إذا كتبته في أعلاه تركيز وفي أسفله تركيز ومنهم من يكون في وسطه تركيز فقط أي نقطة واحدة من تركيز دقات القلب، ومنهم من يكون فيه ثلاثة مواضع من التركيز، ومنهم من يكون فيه أربعة، ولهذا أصبح بالإمكان الآن أن يكتشف صاحب الخط من خلال دقات القلب فقط، فبالإمكان أن يعرف خط من هذا؛ لأن الخطوط تتشابه؛ لكن المميز بينها هو دقات القلب، فإذا كتبت كتابة فكل شخص كتب حرفاً واحداً يتميز هذا الحرف عن غيره من الحروف؛ لأن فيه تركيزاً في دقات القلب في مواطن معينة، لا يمكن أن يحاكيه فيها من سواه.

هذا القلب فيه أذينان يتحركان بهذا التيار الكهربائي دائماً، يرتفع أحدهما فينخفض الآخر، وينخفض هذا فيرتفع الآخر بصفة دائمة، لا يمكن أن ينخفضا جميعاً ولا أن يرتفعا جميعاً، وعلى هذا يكون سير الدم في الإنسان في دورته الكاملة حتى يغذي كل شعرة من شعره، وكل ظفر من أظافره، وكل ذرة من ذراته يصل إليها حظها من الرزق.

كثير من الناس إذا فكر في رزق الله تعالى ظن أن الرزق هو ما ينتفع به في الظاهر فقط مثل المأكولات والمشروبات والملبوسات، فظن أن تقسيم الرزق يكون بين الناس فقط، هذا مرزوق وهذا محروم، لكن الواقع أن الإنسان الواحد يقسم عليه الرزق على مستوى شعره وعلى مستوى ذراته، فكل نسيج منه مكتوب له رزق يختلف عن رزق النسيج الآخر، وكل خلية من خلايا النسيج الواحد يكتب لها رزق يختلف عن رزق الخلية الأخرى، وكل جزء من تلك الخلية أيضاً له رزق يختلف عن رزق بقية أجزائها كالنواة أو أجسام جلجلي، أو السيتوبلازم، أو غير ذلك من مكونات الخلية الواحدة، فهذا من عجائب تقسيم الله تعالى للرزق، فمثلاً تغذية هذا الدم، هذا الدم الذي يغذي أطراف البدن يوزعه الله تعالى توزيعاً عجيباً بقدره، فيكون نصيب بعض الأطراف منه أكبر فينتفخ ويقوى، ونصيب بعض الأطراف أقل، فيبقى على حاله، ولذلك تجدون بعض الناس تتضخم رءوسهم فيكون الإنسان ذا رأس كبير وذا هامة كبيرة، وبعضهم يكون رأسه صغيراً، وبعضهم يكون رأسه مستطيلاً، وبعضهم يكون معترضاً، وبعضهم يكون مدوراً، كل هذا بقسمة رزق قسمه الله تعالى بينهم في القدر الذي يصل إليه الدم من تكوين هذه العظام؛ لأن هذه العظام الرقيقة جداً، أعني: غشاء الرأس عظام رقيقة جعلها الله تعالى متفاصلة، ليس بينها رابط من العظم يربطها، وإنما بينها عصب دقيق وعضلات ضئيلة فهي قابلة للحركة فتتحرك وتتمدد، ولهذا تجدون أن الناس يسمونها: دمحايض، أي أن كل واحدة ذات كيان مستقل يمكن أن تتحرك، والعجيب في هذا أن هذا التكوين الذي نجده لرأس الإنسان هو نفس التكوين للكرة الأرضية، فالكرة الأرضية عبارة عن دمحايض، كل واحدة تتحرك دائماً، وقد جعل الله بينها برزخاً من البحار، وهذه البحار تضيق وتتسع، ويكون ذلك في كل سنة بمقدار معين مثل متر واحد أو خمسين سنتيمتراً إلى آخره.

فهذه القارات التي ترونها دائماً في حركة دائمة، مثلاً: أفريقيا تقترب إلى المشرق، والجزيرة العربية أيضاً تتحرك إلى المشرق والهند تتحرك إلى المغرب.. وهكذا، فهذه أمور عجيبة جداً نلاحظها في هذا الكون.

إننا لو ذهبنا نتابع أي مخلوق من مخلوقات الله تعالى مهما كان هذا المخلوق فسنجد فيه من العجائب أكثر من هذا مما يدلنا على عظمته سبحانه وتعالى دلالة قاطعة.

تجد هذه العظمة في بصرك الذي تدرك به دقائق الأشياء وترى جزئيات هذه العين العجيبة التي جعل الله تعالى النظر فيها في هذه القرنية المحتوية على ماء سيال، وهذا الماء به إدراك هذه الأشياء الدقيقة، تجده في سمعك الذي تسمع به هذه الأصوات التي تنقلها هذه الأمواج المعدة لها التي تحيط بهذه الأرض وتسير وترتفع حتى تخرق الفضاء الخارجي.

إن هذه الأمواج عجيبة جداً، ولا يمكن إدراكها إلا إذا كثفت وكانت مضمنة بالأصوات، فهي قادرة بإذن الله تعالى على نقل الأصوات ونقل الإشارات الكهربية لمسافات بعيدة شاسعة، ولهذا فإن السنة الضوئية تنقل هذه الإشارات الكهربية في مسيرة ألف سنة من سنوات الزمان في دورة دائمة، وكل هذا لا توقف فيه ولا انقطاع، وهذا يدل على عظمة الباري سبحانه وتعالى حين أبدعه ورتبه هذا الترتيب العجيب، حين جعل هذه الأمواج تنقسم إلى أمواج أرضية وأمواج سماوية أو أمواج عرضية وأمواج طولية، وجعل الأمواج الطولية تنقسم إلى قسمين: أمواج تردها طبقة من الفضاء هي طبقة اليونيسفير، فترجع إلى الأرض مضمنة بما فيها ويحصل الفوت في الصوت بين هذا وهذا، وأمواج سماوية تخترق اليونيسفير ولا يردها إلا جسم في الفضاء الخارجي. تجد هذا العجب العجاب، في عقلك الذي تفكر به من أين أتى؟ وكيف تفاوت الناس فيه؟ وكيف رضي كل شخص عن الله بعقله؟ وكان يظن أنه أكمل الناس عقلاً، تجده في هذا البدن المليء بالأجهزة، الذي فيه جهاز للذاكرة، وجهاز للمفكرة، وجهاز مرتب للتوازن حتى تستطيع المشي به، وجهاز مرتب للسيطرة على الجوارح وجهاز مرتب لحركة العضلات بالجسم، وجهاز مرتب لتقويم العظام، وتركيبها، وجهاز مسيطر على أجهزة الهضم، وأجهزة العمليات الأخرى التي تؤدي إلى الإفرازات في الجسم، وهذا كله محصور في أم الدماغ الصغيرة، تجد صورة من جسمك في كل ذرة من ذراتك، فلو أخذت جزءاً ولو بسيطاً من جلدك أو من عظمك أو من شعرك ستجد فيه صورة كاملة لك، ستجد خلية في داخلها نواة وفي داخلها أجسام مختلفة، مثل أجسام جولجي ومثل غشاء سيتوبلازم وغير هذا فتكون مثالاً كاملاً للإنسان، تجد هذه الجزئيات الدقيقة في كل جهاز من هذه الأجهزة.

فمثلاً: في الجهاز الهضمي تجد هذه الأضراس المعدة لتدقيق الطعام وإذابته حتى يتهيأ لأن يذاب بالأحماض التي في داخل المعدة، بعد هذا تعد له الطريق الموصلة عبر هذه الأنبوبة إلى مستقر في المعدة، بعد هذا تأتي هذه الأحماض التي تتقلب في الثانية الواحدة ثلاثة ملايين مرة في داخل معدة كل إنسان، فتذيب كل ما يأتي فيها حتى العظام القوية التي لا تستطيع الأضراس كسرها، فإنها إذا وصلت إلى المعدة أذابتها؛ لئلا يحصل الضرر بابن آدم، تجد بعد هذا طريقاً لإخراج هذا من أسفل بعد أن يُستغنى عنه ويأخذ البدن ما فيه من الخير، يخرج الله تعالى ما لا نفع فيه منه ويجعل له طريقاً للخروج.

كذلك تجد في عضلاتك ترتيباً عجيباً لتحريك هذا الجسم الثقيل الذي هو محتاج للحركة فتجده موثقاً للسير إلى جهتين فقط إلى الأمام وإلى الخلف، ولا يمكّن من السير إلى اليمين ولا إلى الشمال ليتم توازنه؛ لأن الثقلين في التنفس في جهازي الرئة؛ فالرئة قسمان: قسم إلى اليمين، وقسم إلى الشمال، فلو سار الشخص إلى أحدهما لاختل توازن تنفسه، وكان ذلك خطيراً في حياته، فلهذا جُعل ذهابه إلى الأمام أو إلى الخلف فقط.

تجد هذه الأجهزة الأخرى التي تتابع هذه الأجهزة وتنظفها مثل هذا الجفن، الذي يفيض بدمعٍ لا يُدرك ولا يخرج من العين إلا عند التأثر بالحزن أو بالسرور، وتجد حركته الدائمة تنظف هذه العين المعرضة لكثير من الأوساخ في هذا الأكسجين الذي نتنفسه، فلولا هذا الغسيل الدائم لاتسخت كما تتسخ المرآة إذا كانت بالشارع، حيث تمر بها الأوساخ وتلتصق بها وبالأخص إذا كانت مبللة، لكن الله جعل لها هذا الجفن الذي يتحرك بصفة دائمة؛ ليستخرج كل وسخ مضر عنها ويزيله.

تجد كذلك هذه التجاعيد العجيبة في هذه الأذن، ويظن كثير من الناس أنها لا فائدة فيها والواقع أنها لو قطعت لكان الصوت مضراً؛ لأنه لو يصل بالمباشرة فيقرع السمع فيؤثر في الدماغ ويوبس بعض مكوناته، فهذه التجاعيد العجيبة تمر معها الأصوات حتى تصل إلى مستقرها بالتدريج؛ فلا تأتي الأصوات أكبر من طاقة السمع.

كذلك تجد هذه التراكيب الرقيقة جداً في داخل الأنف ليمر معها التنفس حتى يوصل ذرات الأكسجين إلى الدم، فيوصله إلى كل مكان في الجسم، حتى الشعرة الواحدة تتنفس عن طريقها، فلو كان الأنف مخروقاً خرقاً كبيراً لوصل هذا الهواء بصفة لا يمكن التحكم بها، ولكن الله جعل ذلك في منخرين يستقبلان الهواء في وقت واحد، ويخرجانه أيضاً في وقت واحد، بعملية عجيبة لا يشعر بها الشخص إلا إذا أصيب بزكام أو نازلة، فإن إحداهما ستنسد وسيجد أنه يعاني تعباً شديداً؛ لأن بعض مواقع الدماغ لا يصل إليها نصيبها من الأكسجين.

كذلك في هذا النخاع العجيب الذي يسيل من أم الدماغ حتى يصل إلى نهاية العصعص الذي هو عجب الذنب، ومنه خلق الإنسان ومنه يركب، وهو الذي لا يبلى، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فهذا النخاع أمره عجيب جداً، فالأسلاك الدقيقة فيه تخرج من بين فقرات الظهر، ولو انقطع واحد منها لحصل الشلل لأجهزة الحركة في الإنسان، ومع ذلك أحيطت بهذا العظم المركب تركيباً ليناً يستطيع معه الإنسان أن ينثني وأن يستقيم، ليرعى هذا العظم المركب بهذا التقطيع العجيب طريقة انحناء هذا النخاع وطريقة استمراره في البدن، فلو كان عظم الظهر كمخ الساق أو كمخ الفخذ مثلاً لكان الإنسان لا يستطيع المحافظة على هذا النخاع، ولما استطاع أيضاً الانثناء والحركة على المستويات المختلفة التي يحتاج إلى الخروج منها والدخول.

كذلك فإن هذا الإحساس الذي جعله الله في الطبقة العليا من الجسم التي تمارس الأشياء وتمسها إحساس عجيب، وقد ركزه الله في اليدين فقط، ففي بياض اليدين -أي: في باطنهما- تجد هذا الإحساس مركزاً جداً، فتدرك به البرودة والسخونة والنعومة والخشونة، وتدرك به مقادير الأشياء ضخامة وصغراً، وهذا الإحساس كذلك يوجد في الطبقة العليا من الجسم، فتحس به بالألم، فإذا قرصك قارص أو أمسكك شيء أحسست به؛ لأن هذا الإحساس في الطبقة العليا من الجسم، ولو سلخ شيء من الجلد لزال الإحساس عما تحته.

وكذلك تجد تقوية الأطراف لتحمل الدفاع عن الجسم، فاليدان فيهما قوة ليست فيما تحتهما من الأضلاع، والجنب والفخذان والرجلان والساقان في هذه المجموعة فيها من القوة ما ليس في البطن والأمعاء، فهي مقصودة للدفاع عنها ترد عنها المهاجم أياً كان. كذلك في باطن الرجل تقوية عجيبة من أمر الله تعالى، تجعل الإنسان يتحمل التركيز عليها، فإن الإنسان لو ضغط على أذنه ضغطة شديدة لتألم منها، ولو ضغط على أنفه ضغطة شديدة لتألم منها، لكنه إذا وطئ رجله بكل ثقله لا يتألم من ذلك؛ لأن الله قوى هذه الرجل لتكون محل ارتكاز الإنسان ومحل قوة الثقل فيه، كل هذا من عجائب صنع الله تعالى في الإنسان.

ما سبق كان في الأمور الظاهرة التي ليست من عالم الغيب ونحن نراها ونشاهدها فكيف بالأمور الغيبية العجيبة؟ الأمور المتعلقة بالروح، فهذه الأرواح أمرها عجيب جداً، ولا نطلع من علمها إلا على الشيء القليل كما قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]. هذه الأرواح نفخة من أمر الله تعالى يرسل بها ملكاً إلى الجنين في بطن أمه، فيأمره أن ينفخ فيه بمقدار علمه الله تعالى من هذه النفخة من أمر الله، وهذا المقدار متفاوت تفاوتاً عجيباً، فمن الناس من تكون روحه كبيرة فيمكن أن يستوعب كثيراً من المعلومات، ويمكن أن يستغل كثيراً من الطاقات، ويمكن أن يؤثر في نفسيات الآخرين، ومنهم من تكون روحه صغيرة فتكون همته متدنية ويكون ناقص التحمل، فهذا كله من أمر الله العجيب.

تجد هذه الروح عندما تنفخ في هذا البدن تكون الحياة في البداية تابعة للبدن فقط -أعني الروح تابعة للبدن- والبدن هو المؤثر عليها في حياة الجنين في بطن أمه، ثم إذا خرج الجنين من بطن أمه كذلك كانت حياة الأبدان غالبة على حياة الأرواح، فإذا مات الإنسان ووضع في قبره وانفصلت روحه عن جسمه كانت حياته حياة روحية وكان الجسم تابعاً للروح فقط، ثم بعد ذلك إذا حشر في اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين تكون الحياة حقيقية يستوي فيها الجسم والروح، فالحياة الأولى الغالب فيها الجسم، والحياة الثانية في البرزخ الغالب فيها الروح، والحياة الأخروية يستوي فيها الأمران: الجسم والروح، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، فهي الحياة الحقيقية التي يقع فيها التوازن بين هذين الشقين.

كذلك من هذه العجائب الباطنة هذه الأرواح التي تحس باللذة والألم بحيث لا يشعر الشخص بذلك، فتجد شخصين قد ناما في فراش واحد، وأحدهما بات في غاية اللذة والآخر بات في غاية الحزن والألم، ولا يصل شيء من لذة هذا إلى هذا، ولا شيء من حزن هذا إلى هذا، بل أعجب من ذلك أن القبر الواحد تختلط فيه عظام المنعمين والأشقياء، فيكون مستقراً لأهل الجنة وأهل النار، وتختلط عظامهم وذرات أبدانهم، ويكون أحدهم في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، فلا هذا يدرك شيئاً من عذاب هذا حتى ينغص ذلك عليه عيشه، ولا هذا يصل إليه شيء من نعيم هذا حتى ينقص ذلك عذابه في قبره، بل الجميع لا يدرك إلا ما هيئ له فقط.

ولهذا تجد الشخصين يجلسان في الصف أطرافهما متماسة، المنكب إلى المنكب والساق إلى الساق، لكن أحدهما مغضب إلى النهاية والآخر مسرور إلى النهاية، تجد أحدهما يخشع لله تعالى وقلبه منشغل عن هذه الدنيا، لا يدرك شيئاً مما فيها؛ لأنه قد غاب في ذات الله، والآخر يفكر في أبسط شيء من أمور الدنيا وتفاهاتها، ومع ذلك لا يصل شيء من حال هذا إلى هذا، ولا شيء من حال هذا إلى هذا؛ فهذه الأحوال نفسية مقسومة هذه القسمة العجيبة.

كذلك في التأثرات التي ندركها من أحوال النفوس ما يرتبط بالأبدان وهذا أمر عجيب جداً، فإن الغضب الذي ترونه من العوارض الآدمية، وقد حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح البخاري أن رجلاً أتاه فقال: ( يا رسول الله! أوصني؟ فقال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب )، تجد أن في الإنسان غدة تسمى: الغدة الكظرية، وهي في الخصر، وهذه الغدة إذا تأثرت النفس من أمر تكرهه أفرزت سائلاً بسيطاً جداً هو الذي يسميه أهل العلوم بسائل الأدرينالين، وهذا السائل يخالط الدم فيجعله يغلي، وكأن الدم أشعل بشعلة، فتجد وجه الإنسان يحمر، وأوداجه تنتفخ، ولا يتمكن من تركيز أطرافه حيث ترتعش ويرتعد، هذه عوارض رتبها الله تعالى على انبعاث هذا الجزء البسيط من سائل الأدرينالين في دمه.

كذلك من هذه العجائب العجيبة هذا الكبد الذي يصفي كثيراً مما يحتاج الإنسان إليه، فهو بمثابة النار التي يوضع عليها الطعام فتنضجه، هذا الكبد جزئياتها مركبة من ألياف دموية وفي داخلها أوردة تنقل الدماء من مكان إلى مكان وترجع معها الدماء بصفة عكسية، فتجد العرق الواحد فيه أنبوبان: أحدهما ينقل الدم والآخر يرده في نفس الوقت، وليس بينهما حاجز إلا برزخ من علم الله تعالى، برزخ من علم الله تعالى يقسم كل عرق مهما كانت دقته حتى يستخدم لخروج الدم إلى جهة ورجوعه إلى جهة، فيجتمع الضدان فيه.

مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل

يجتمع الضدان في كل جزئية من جزئيات الإنسان.

وكذلك في هذه الكلى ذات الأمر العجيب التي يمر بها البول، فيخرج ما فيه ضرر على الإنسان وتصفي الدم منه وفي داخلها هذه الألياف العجيبة المترددة، فأنت عندما تقطعها تجد ألوانها مختلفة وأنت لا تدرك أنها تراكيب متباينة، فتصفي هذا البول وتخرجه إلى المثانة عبر الحالب الأيمن والحالب الأيسر، فيخرج وفق تقدير أعده الله تعالى له بصورة عجيبة جداً، وينعزل الدم فيرجع إلى مكانه ويذهب البول في مكانه، وإذا أراد الله تعالى تعطيل هذه الكلى بقي الدم ملوثاً بالبول، فكان ذلك تسمماً للإنسان يؤدي إلى مرض شديد فيه، وكذلك لو حصل شق بسيط -حين يريده الله تعالى- في أي عرق من عروق الكلى، فيتسرب منه ذرات قليلة من البول داخل الدم فيتسمم الإنسان بها فيحتاج إلى عملية غسيل للدم.

وكذلك في الأجنة -وحدث ولا حرج عن الأجنة- فإن الله عز وجل ذكر لنا تسع مراحل يمر بها الجنين عجيبة جداً، فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ[المؤمنون:12]، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:14]، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ[المؤمنون:15]، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:16]، هذه تسع مراحل عجيبة جداً:

أولها: ما خُلق منه آدم من هذا التراب اللزج الممزوج بالماء حتى تخثر، وحتى صار صلصالاً منتناً، ثم خلق منه هذا الإنسان وبقي عنصراً أساسياً في تركيبه، وأنت لو نظرت إلى الحيوان المنوي الذي لا يرى بالعين المجردة -ففي القطرة الواحدة ملايين من الحيوانات- فستجد فيه كل خصائص الإنسان بكامله وأصل تركيبه كاملاً، وكل عناصر الوراثة التي فيه حتى الألوان وطول القامة وقصرها، والفهم والذكاء والبلادة وحتى النهم وحب الأكل، وغير ذلك من الخصائص الوراثية ستجدها جميعاً ملتئمة في هذا الحيوان البسيط، الذي لا يرى بالعين المجردة.

وكذلك بعد هذا تأتي المرحلة الثانية: وهي قوله: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ[المؤمنون:13]، هذه (النطفة) الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، إذا أراد الله تعالى تكوينه فإنه عندما يصل إلى المهبل ينتقل بواسطة قناة هي قناة فالوب، حتى تنقله إلى البويضة التي تنزل من عنق الرحم، والرحم له عنقان عنق في اليمين وعنق في الشمال، وفي كل شهر ينتج عنق الرحم بيضة واحدة، فإذا تم تكاملها نزلت إلى قاع الرحم، فحينئذٍ إما أن تلقح إذا علم الله أنها مخلقة، وإما أن تصير دماً إذا علم الله أنها غير مخلقة، وحينئذٍ يأتي الحيض بهذا، ثم يبدأ الطرف الآخر وهو عنق الرحم الآخر في تكوينه البويضة الأخرى بأمر الله، ثم يكتب عليها هل هي مخلقة أم غير مخلقة؟ فإذا كانت مخلقة فستلقح حينما تصل إلى قاع الرحم عن طريق هذا الحيوان الذي يصل عبر المهبل، ثم عبر قناة فالوب حتى يصل إلى هذه البويضة ويدخل فيها أو يعلق بها، فيكون علقة فترة معينة، ثم يدخل بها ثم يتكون، وإذا علم الله أنها غير مخلقة، وكتب عليها ذلك فستصير دماً وهو الحيض، وهكذا ففي كل شهر يشتغل أحد المصنعين ويستريح الآخر، فهما مصنعان كاملان لإنتاج البيض، مصنع في اليمين ومصنع في الشمال.. وهكذا.

ثم إذا قدر الله أن هذه النطفة مخلقة فستمكث أربعين يوماً نطفة، ثم بعد ذلك تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم تكون بعد ذلك في بداية الخلق عظاماً، وتكسى هذه العظام بلحم ويبدأ تكوين الإنسان بالتدريج، فيكون في الأصل ذا فرعين أي طرفين فقط، ويلتوي هذان الجذعان إلى الأمام فيتكون الظهر من العصعص، وهو أول ما يتكون من الإنسان، فأول ما يتكون في الرحم العصعص أي آخر الظهر، وهو آخر ما يبقى في القبر من الإنسان، ( كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً منه خلق ومنه يركب )، فيبدأ هذا في التمدد، وإذا أراد الله أن يكون الجنين توأماً فإنه يدخل حيوانات منوية في نفس الوقت إلى البويضة أو أكثر، فإذا دخلا تكونا في داخلها، فتنشطر هذه البويضة ويحول بينها حاجز من أمر الله تعالى، فتكون البيضة الواحدة بيضتين بحيث لا يشعر بذلك ولا يدرك إلا بعد انفصالهما تماماً.

وكذلك مما هو أعجب من هذا أن هذا الملك الذي ينفخ فيه الروح سيكتب هل هو شقي أو سعيد؟ وسيكتب رزقه وأجله وعمله، يكتب ذلك فيبقيه معه، وهذا بعد أن يطلع عليه الملك المرسل لذلك، أما علم الله تعالى فهو سابق، فقد علم في الأزل وكتب في الصحف التي عنده فوق عرشه كل ما هو كائن إلى نهاية الكون كله، لا يختلط عليه شيء من المعلومات، ولا يمكن أن يلتبس عليه جل وعلا هذه الحيوانات الدقيقة التي تكون في القطرة الواحدة من المني مثلاً وهي عشرة ملايين حيوان منوي فلا يلتبس عليه الحيوان الذي قدر أنه سيخلق منه بشر والحيوان الذي لا يخلق منه شيء، والحيوان الذي يخلق منه سعيد والحيوان الذي يخلق منه شقي.. إلى آخره، لا يلتبس عليه هذا أبداً، ولهذا قال الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، إن هذا من علمه وقدرته أمر عجيب جداً، فمن الناس من يهب له الإناث فقط، ولا يرزقه بالذكور لحكمة بالغة علمها الجبار جل وعلا، ومنهم من يرزقه الذكور ولا يرزقه الإناث لحكمة بالغة كذلك، ومنهم من يرزقه القسمين جميعاً ذكوراً وإناثاً، ومنهم من يجعله عقيماً، وهذه أربع صور حاصرة لا يمكن أن تجد قسماً خامساً من البشر، إما أن يكون ممن رزق ذكوراً، أو ممن رزق الإناث، أو ممن رزق الجميع، أو ممن منع الجميع، لا يمكن الاجتماع؛ ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى: إن من حنث لا كلم ذكراً ولا أنثى، يحنث إذا كلم الخنثى؛ لأن الله عز وجل جعل الإنسان إما ذكراً أو أنثى، فهي في علم الله إما ذكر وإما أنثى، ولهذا قال أحد علمائنا:

وحالف لا كلم الذكور أو الإناث أمداً مذكوراً

قال الجلال: حانث بالخنثى إذ هي إما ذكر أو أنثى

ولهذا فإن من العجائب في هذا المجال أن يكون التوأم آخذاً لبعض صفات الوراثة، والتوأم الآخر آخذاً لبعض صفات الوراثة الأخرى، فلو كان الجنين واحداً لأخذ جميع خصائص الوراثة، لكن عندما تنشطر هذه البويضة ويذهب طرف في اليمين وطرف في الشمال، فإن هذه البويضة ستكون خصائص الوراثة منقسمة بينها، فتجد التوأمين بينهما مشابهة، لكن كثيراً ما تجد أحدهما ذكياً والآخر بليداً، أو تجد أحدهما قوي الجسم والآخر ضعيفاً، وكل هذا من تدبير الله تعالى حين انشطرت هذه الوظائف وقسمها بينهما، وتجد أحدهما ذكراً والآخر أنثى وهما من بطن واحد.. وهكذا.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع