مراعاة التيسير ورفع الحرج في فقه الأقليات المسلمة
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
مراعاة التيسير ورفع الحرج في فقه الأقليات المسلمةإن التيسير والرحمة والسماحة ورفع الحرج من خصائص شريعة الإسلام الخالدة، وقد دل على ذلك كثير من نصوص القرآن والسنة المطهرة، وكذلك استقراء جملة من الأحكام الشرعية يحصل من مجموعها القطع بأن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، فمن النصوص الدالة على يسر الشريعة ورفع الحرج قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وكذلك حديث: "ما خُيِّر رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه"[1].
وما أروع ما قاله الإمام الشاطبي (ت 790 هـ) في موافقاته حين قال:
إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]، وقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286]، وفى الحديث: ((قال الله تعالى: قد فعلت))[2]، وجاء: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، وفي الحديث: ((بُعثت بالحنيفية السمحة))[3]، و"ما خُير بين أمرين، أحدهما أيسر من الآخر، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا"[4]، وإنما قالت: ما لم يكن إثمًا، لأن ترك الإثم لا مشقة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى، ولو كان قاصدًا للمشقة، لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر، وذلك باطل.
والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورة؛ كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا النمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال، ولو كان الشارع قاصدًا للمشقة في التكليف، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.
والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها، فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، وهي منزهة عن ذلك[5].
فإذا طالبنا الفقيه والعالم بمراعاة التيسير ورفع الحرج مع المسلمين كافة، فإن هذا آكد في حق الأقليات المسلمة التي تعيش ظروفًا أكثر تعقيدًا، وتواجه تحديات قاسية تهدد هويتها الإسلامية، فإذا عرضت للفقيه مسألة أو نازلة يصح فيها بعض الآراء المختلفة، فإن عليه أن ينتقي ويختار ما يحقق التيسير ويرفع الحرج، خاصة في النوازل والمسائل العامة التي تؤثر بشكل بالغ في حياة المجتمعات والجاليات المسلمة بالغرب أو الشرق، فإن كان في المسألة رخصة أو تخفيف، فعلى الفقيه ألا يشدد على أبناء الجالية المسلمة؛ كما في الحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته))[6].
ولهذا يحسن بالخطاب الفقهي للأقليات المسلمة ألا يتبنى الآراء المتشددة التي تضيق على الناس معايشهم، وتجنح إلى التحريم أكثر من التحليل، وتعسر ولا تيسر، وتنزل الحرج ولا ترفعه في القضايا والنوازل في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وليكن شعار من يتصدى للخطاب الفقهي للأقليات في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ الأمة المسلمة قول الإمام سفيان الثوري: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد"[7].
الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى يوضح أن الله عز وجل وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وحببها لهم بذلك، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة، لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم، من ثم رفع الله الحرج عن المكلفين، يقول الشاطبي:
فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:
أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله، أو ماله أو حاله.
والثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد، المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلًا عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنهما[8].
وهنا أذكر - على سبيل المثال - أن العشرات من الأسئلة وردت إلينا بموقع إسلام أون لاين.
نت (صفحة اسألوا أهل الذكر باللغة الإنجليزية)، وكذا بموقع أون إسلام.
نت تسأل عن حكم جمع صلاة العشاء مع المغرب ببعض البلدان الأوربية في فصل الصيف بسبب تأخر وقت العشاء حتى يصل إلى منتصف الليل أو يتعداه، أو بسبب انعدام العلامة الشرعية لوقت العشاء، فكنا نؤثر أن نحيل السائل إلى القرار التالي للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث[9]:
حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء لتأخر وقت العشاء أو انعدام علامته الشرعية في بعض البلاد:
انتهى المجلس إلى جواز الجمع بين هاتين الصلاتين في أوروبا في فترة الصيف حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل، أو تنعدم علامته كليًّا؛ دفعًا للحرج المرفوع عن الأمة بنص القرآن، ولما ثبت من حديث ابن عباس في صحيح مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر،قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته".
كما يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضًا بين الظهر والعصر؛ لقِصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم إلا بمشقة وحرج.
وينبه المجلس على أن لا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى أن لا يتخذه له عادة[10].
وينبغي أيضًا على الفقيه أن يراعي التدرج، خاصة مع المسلم الجديد، ولا يعني هذا إن سأل عن حكم شيء أن يخالف المقطوع به شرعًا، ولكن المقصود أن يراعي التدرج في تعليم أمور الشرع الحنيف بشكل لا يصد عن دين الله، ولا ينفِّر من اتباع هدي الإسلام وتعاليمه.
[1] رواه مسلم في الصحيح، رقم 6047.
[2] رواه مسلم في الصحيح، رقم 180.
[3] رواه أحمد في المسند، رقم 21260.
[4] رواه مسلم في الصحيح، رقم 6047.
[5] أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4 مجلدات، تحقيق عبدالله دراز (بيروت: دار المعرفة، د.ت.)، ج 2، ص، ص 122 - 123.
[6] رواه أحمد وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، وهو في صحيح الجامع الصغير، رقم 1886.
[7] أبو عمرو يوسف بن عبدالبر، جامع بيان العلم وفضله، جزآن، تحقيق أبي الأشبال الزهري (الدمام: دار ابن الجوزي، 1414 هـ - 1994 م)، ج 1، ص 784 (رقم 1467).
[8] الشاطبي، الموافقات، ج 2، ص 136.
[9] المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: هو هيئة علمية إسلامية متخصصة مستقلة، يتكون من مجموعة من العلماء، تأسس عام 1997 م، ومقره الحالي بدبلن بالجمهورية الأيرلندية، انظر التعريف بالمجلس في: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعتان الأولى والثانية (القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002 م)، ص - ص 11 - 18.
[10] قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ص 24.