بناء شخصية المسلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن كل ملة ونحلة وكل أيدولوجية لها قيم وأسس، تبنيها وتميزها عما سواها، وإن هذا الدين الذي هو الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى له ميزات هي التي تميزه عما سواه، وهي التي يزداد بها منسوب الإيمان في قلوب ذويه، وهي التي يحسن الإنسان بها إيمانه فيصبح حسن الإسلام، من عدمها- ولو كان مؤمناً بقلبه ولسانه وبعض جوارحه- فإن إسلامه غير حسن.

وحسن الإسلام هو الذي شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم في تكفير الحسنات للسيئات، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسس حسن الإسلام في قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

وعلى هذا الأساس فإن المؤمن مطالب بأن يعرف أسس شخصيته التي يرتضيها له بارئه سبحانه وتعالى، فيتخلق بهذه الأسس ويزيدها في نفسه، وما كان عادماً له منها تاب واستغفر، وتدارك التفريط فيما مضى، وما كان متصفاً به بفطرته أو بتربيته حمد الله عليه ورسخه وزاد فيه.

إن الأسس التي تميز بناء شخصية المسلم متعددة المشارب، فأعظمها وأقدمها الأساس العقدي، فعقيدة المؤمن المقتضية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره تميز تصوره لهذا الكون والحياة، وتميز كذلك تصرفه في حياته هذه، فإن الذي لا يحدد مبادئه في الإيمان يبقى ضائعاً في هذه الحياة يتذبذب، فحاله كحال المنافقين الذين يقولون عندما يسألون في قبورهم: لا ندري. المنافق والمرتاب إذا سئل قال: لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، والمؤمن الصامد السالك إذا سئل في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ يقول: الله ربي والإسلام ديني، والرسول المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد (ثلاثاً)، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، ولذلك يجيبه الملائكة بقولهم: قد علمنا إن كنت لموقناً.

فهذا الأساس العقدي يميز شخصية المسلم، ويلزمه بكثير من الأعمال، وكثير من الأخلاق، وكثير من التصرفات، ويرد عنه كذلك ما يقابلها.

ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان لمحبة الله سبحانه وتعالى، والتوكل عليه وحده، ورجائه وخوفه، والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه. هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.

ولذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر، والثبات وعدم التزحزح، الذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن بقدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه ولا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف ولا أن يطمع إلا بالله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته أن الله هو ديان السموات والأرض الحي القيوم ، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الملك الحق المبين، لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء لا يعجزه شيء، وأنه هو المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة.

ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به، والتوكل عليه ورجاءه وخوفه، وعدم رجاء من سواه، وعدم خوفه، وعدم الاعتماد عليه في أي شيء، لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً، ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه، ولا أن يرجى نفعه، ولا أن يخاف ضرره؛ لأنه لا يملك لنفسه شيئاً من ذلك، وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، علمه سابق لكل خلقه، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[العنكبوت:62]، والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يريدها، وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم.

كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لن يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيء منها للمخلوق، ولا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت، لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية للمخلوق فلا يرائي ولا يسمّع، ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية،(لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته مالم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلام تلتفت أنا خير مما التفت إليه).

وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق ولا رجاء لما يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ولا خوف كذلك لما يأتي منه إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه، وأحبهم إلى الناس وأنفعهم له، فرسل الله عليهم السلام، وملائكته المقربون عليهم السلام هم أملأ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة، ولهذا قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، ويقول في وصف الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

ويقول في وصف من ارتضى عملهم ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:16-18]، هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، يجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب حال المنافقين الذين قال الله فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:143].

الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي.

عبودية الفطرة وانتكاسها

من شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإن عرف من يستحق العبادة، وعرف الله أفرده بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، لا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لكنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم أنه هو الإله من البشر منتكس الفطرة مكذب لنفسه، ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا.

ومن الغريب أن هذه الفطرة: فطرة العبودية التي فطر الله عليها بني آدم أجمعين في بعض الأحيان إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه يعبد شيئاً هو في الواقع أشرف منه، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها، ولهذا نبههم إبراهيم خليل الله على أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها، وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب: أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدو حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.

وهذا من انتكاس الفطرة، لكن عموماً الموافق للفطرة: العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، فالذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية، ولهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى، وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء هي ما ينفع فيه، فهذا الجهاز المسجل قيمته سببها أنه وضع للتسجيل فما دام أنه يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور هل يبقى له ثمن؟ لا يبقى له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

فإذا فقد الإنسان هذه القيمة، ولم يؤد هذه العبادة، أو كان يؤديها بدور ناقص مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن يسجل بتشويش وأصوات مزعجة فأداؤه ناقص، وعلى أساس ذلك تنحط قيمته ويقل سعره، وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

رتب العبادات ودرجاتها

وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت، والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل، لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.

أثر النية في العبادات

والله تعالى بفضله وكرمه أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير، لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، أو اثنتي عشرة نية، أو أربع عشرة نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيل من الرمل، فتمنى لو كان له مثله سويقاً ينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا؟ وما أبصرته عيناي قط. فقال: إنك مررت كثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويقاً فتنفقه في سبيل الله، فقد قبلته منك )، و( نية المؤمن أبلغ من عمله )، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى لأن أرجى شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن تكون خطاه إلى المسجد لا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها سيئة، وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة واحدة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18]، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالح الإنس والجن فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب، كما في الحديث الصحيح: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته. فيقول: هم الرهط، أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وكذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك، كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي يوزن فيه أصغر شيء بمقاييس الذر، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

أركان نماء العبادات

كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع.

وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل، الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وسكناته وعباداته لله وحده ديان السموات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين، الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك)، ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثير من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة فخرج من أجله وتذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه أو قصر عنها تفكيره رجع إلى الوراء حتى يبتدأ العمل بهذه النية المخلصة كلها.

والركن الثاني من أركان صلاح العمل: أن تكون هذه العبادات موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون فلا يستريحون ولا يفترون، لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7]، هؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم، ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن تكون جنايته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله.

فإذا كانت الصلاة التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب، ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على إقامتها والمحافظة عليها.

ومن أمثلة ذلك ونماذجه في هذه الصلاة فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة، التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعمل هيئة الركوع مثلاً ولكنه لا يعطيه وقتاً، ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع، فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنيه، ويمس جنبيه بضبعيه، ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها، فإن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يتقن هذه العبادة التي هي قيمته، وهي أساس شخصيته.

ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في مجال العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين ابن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد، فحاول فيه أن يجمع الهدي النبوي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ؛ ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله، فقد ألف كتابه: مصابيح السنة، ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين: الفصل الأول ما جاء في الصحيحين، والفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم، وسمى الأول الصحاح، والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن، ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:

والبغوي إذ قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا

أن الحسان ما رووه في السنن رُد عليه إذ بها غير الحسن

لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر المصابيح، واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب لكتابه مشكاة المصابيح، وهذا الكتاب متيسر سهل في متناول الناس، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً في يديه يرجع إليه، في إحسان عباداته لله وحده.

منزلة العبادة للمسلم

إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليها، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله، إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته، تستنير بها بصيرته، ويستنير بها وجهه وقلبه، ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة حتى لو أفنى عمره في الدراسات لن ينل وقار العلم ولا هيبته، ولن يستشعر هذه العظمة، والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.

من شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإن عرف من يستحق العبادة، وعرف الله أفرده بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، لا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لكنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم أنه هو الإله من البشر منتكس الفطرة مكذب لنفسه، ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا.

ومن الغريب أن هذه الفطرة: فطرة العبودية التي فطر الله عليها بني آدم أجمعين في بعض الأحيان إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه يعبد شيئاً هو في الواقع أشرف منه، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها، ولهذا نبههم إبراهيم خليل الله على أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها، وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب: أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدو حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.

وهذا من انتكاس الفطرة، لكن عموماً الموافق للفطرة: العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، فالذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية، ولهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى، وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء هي ما ينفع فيه، فهذا الجهاز المسجل قيمته سببها أنه وضع للتسجيل فما دام أنه يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور هل يبقى له ثمن؟ لا يبقى له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

فإذا فقد الإنسان هذه القيمة، ولم يؤد هذه العبادة، أو كان يؤديها بدور ناقص مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن يسجل بتشويش وأصوات مزعجة فأداؤه ناقص، وعلى أساس ذلك تنحط قيمته ويقل سعره، وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13].

وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت، والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل، لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.

والله تعالى بفضله وكرمه أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير، لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، أو اثنتي عشرة نية، أو أربع عشرة نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيل من الرمل، فتمنى لو كان له مثله سويقاً ينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا؟ وما أبصرته عيناي قط. فقال: إنك مررت كثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويقاً فتنفقه في سبيل الله، فقد قبلته منك )، و( نية المؤمن أبلغ من عمله )، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى لأن أرجى شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن تكون خطاه إلى المسجد لا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها سيئة، وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة واحدة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18]، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالح الإنس والجن فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب، كما في الحديث الصحيح: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته. فيقول: هم الرهط، أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

وكذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك، كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي يوزن فيه أصغر شيء بمقاييس الذر، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].

كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع.

وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل، الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وسكناته وعباداته لله وحده ديان السموات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين، الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك)، ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثير من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة فخرج من أجله وتذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه أو قصر عنها تفكيره رجع إلى الوراء حتى يبتدأ العمل بهذه النية المخلصة كلها.

والركن الثاني من أركان صلاح العمل: أن تكون هذه العبادات موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون فلا يستريحون ولا يفترون، لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:2-7]، هؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم، ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن تكون جنايته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله.

فإذا كانت الصلاة التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب، ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على إقامتها والمحافظة عليها.

ومن أمثلة ذلك ونماذجه في هذه الصلاة فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة، التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعمل هيئة الركوع مثلاً ولكنه لا يعطيه وقتاً، ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع، فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنيه، ويمس جنبيه بضبعيه، ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها، فإن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يتقن هذه العبادة التي هي قيمته، وهي أساس شخصيته.

ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في مجال العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين ابن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد، فحاول فيه أن يجمع الهدي النبوي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ؛ ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله، فقد ألف كتابه: مصابيح السنة، ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين: الفصل الأول ما جاء في الصحيحين، والفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم، وسمى الأول الصحاح، والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن، ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:

والبغوي إذ قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا

أن الحسان ما رووه في السنن رُد عليه إذ بها غير الحسن

لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر المصابيح، واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب لكتابه مشكاة المصابيح، وهذا الكتاب متيسر سهل في متناول الناس، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً في يديه يرجع إليه، في إحسان عباداته لله وحده.

إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليها، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله، إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته، تستنير بها بصيرته، ويستنير بها وجهه وقلبه، ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة حتى لو أفنى عمره في الدراسات لن ينل وقار العلم ولا هيبته، ولن يستشعر هذه العظمة، والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.

الأساس الثالث من أسس شخصية المسلم: أساس المعاملة، وهذا أساس عظيم جداً كذلك فيه الجانب الخلقي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وفيه جانب التعاون بين الناس الذي قال الله فيه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ[المائدة:2]، وفيه جانب الاكتساب والسعي في الأرض، الذي يقول الله فيه: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].

كل هذه الجوانب داخلة في هذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم وهو أساس التعاون.

أساس التعامل مع الله

وهذا الأساس يقوم على أن الإنسان مضطر للتعامل مع غيره، وأولى من يتعامل معه ربه سبحانه وتعالى فعليه أن يحسن المعاملة معه، وأهم ضوابط إحسان المعاملة مع الله الصدق في التوجه إليه، فهذا الأساس الأول، إذا علم الله الصدق من عبده في التوجه إليه هداه سبله، وأراه طريق الحق، وأخذ بناصيته إلى ذلك، وأما إذا رأى منه كذباً في التوجه إليه ولم يكن صادقاً في ذلك، فإن الله يغويه ويضله، كما قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].

أسس التعامل مع نعم الله

إن صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يقتضي من الإنسان أن يتأدب معه، وأن يتأدب في التلقي، وفي الأخذ أولاً، فيعرف نعمة الله ويعرف من أين أتت ويقيدها بشكرها، وهذا أساس في التعامل مع النعم، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة في وجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا فقدوا النعمة تذكروا أنهم كانوا في خير وعافية، وأن ذلك قد فارقهم تأسفوا وندموا، وهذا مخالف لأساس شخصية المسلم لقول الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].

فعلى هذا لا بد أن نعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها.

ثم لا بد أن نعرف من أين أتت هذه النعمة، فكثير من الناس تطغيه النعمة فينسى من أين أتت، والله تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصدر نعمته عليه فيقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4]، ويقول في السورة التي قبلها: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:1-8]، فيذكره بمصدر النعمة، وكثير من الناس يجهل مصدر النعمة بسبب الطغيان، يطغى بالنعمة فينسى مصدرها، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، ولهذا فإن قارون حين أغناه الله نسي مصدر النعمة، فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[القصص:78].

الأساس الثالث في التعامل مع نعمة الله: هو تقييدها بالشكر، معناه أن كثيراً من الناس ينكر هذه النعمة بعد معرفته بها ومعرفته من أين أتت، يعرف النعمة ويعرف مصدرها، لكنه ينكرها كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83]، وأهل الإيمان يعرفون نعمة الله ويقيدونها بالشكر، فإذا شرب الإنسان أو أكل قال : الحمد لله، تذكر هذه النعمة عليه, وإذا استيقظ من نومه ورد الله عليه روحه تذكر هذه النعمة فقال: (الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره). وإذا من الله عليه بالعبادة حمد الله على ذلك، سمع الله لمن حمده، فيقول: ربنا لك الحمد، وهكذا فالنعم المتسلسلة يصاحبها ويحاذيها الحمد الذي هو قيدها، والشكر الذي هو سبب زيادتها: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

التعرف إلى الله في الرخاء

كذلك في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، من أسس المعاملة أن يتعرف الإنسان إليه في الرخاء، وهذا مقتض لأن يكون الإنسان راغباً إلى الله في كل أحواله، فكثير من الناس لا يعرفون الدعاء إلا في وقت الشدة، أما في وقت الراحة والسعادة والطمأنينة والصحة فإنهم يبطرون بتلك النعمة فلا يدعون الله، وكثير من الناس إذا رأى من تسيل دمعته وتفيض عيناه يمد يديه إلى بارئ السموات والأرض يقول: هذا في مشكلة أو مصاب بمصيبة؛ لتصور الناس أنه لا يدعى الله إلا في وقت المشكلات، والواقع خلاف هذا.

وعلى الإنسان أن يتعرف على الله في الرخاء، وأن يكثر من دعائه، وأن يعلم أن هذا الدعاء هو حقيقة المذلة بين يدي الله، فحقيقة التذلل لله إنما تكون بدعائه، والإنسان محتاج إلى هذا في كل أوقاته، وهذا الدعاء هو مخ العبادة، وهو مقتض لأن يثني الإنسان على الله بالمحامد والثناء الذي هو أهله ومستحقه، وهي فرصة عجيبة تتاح للإنسان للثناء على الله.

ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يهمل هذا الجانب من شخصية المؤمن، فلو عرضت عليه صحيفة كلامه لوجد فيها كثيراً من الثناء على المخلوقين، ولما وجد فيها من الثناء على الخالق إلا الشيء اليسير، مع أن الله هو الذي يستحق الثناء، وألسنة كثير من الناس لا تتعود الثناء على الله بصفاته ونعمه وأياديه وآلائه الجسيمة، وهو أهل للثناء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أعرابياً قام في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج إلى بيته فجاء بذهبية: -قطعة من الذهب- فقال:( خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، هذه جائزة حسن ثنائه على الله.

وكذلك ثبت في صحيح البخاري ( أن رجلاً من الأنصار خرج في سرية فكان يؤمهم، فكان إذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها سورة: (قل هو الله أحد). ثم يقرأ سورة أخرى، فأنكر عليه أصحابه ذلك، فلما أتى شكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال: (قل هو الله أحد) صفة الرحمن فأجدني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة)، يحب الثناء على الله فأدخله ذلك الجنة.

كذلك فإن الدعاء مقتض لأن يتذكر الإنسان مذلته وفقره وعجزه، فتذكر ما يقابل ذلك من صفات الله المخالف للحوادث، يتذكر غنى الله المطلق، يتذكر دوامه وقيوميته التي لا انتهاء لها ولا انقضاء، يتذكر كرمه وجوده وسخاءه، يتذكر فضله وأن يديه سبحانه وتعالى سحاء لا تغيضان الليل والنهار، ويتذكر حلمه ورأفته ولطفه، فهو الذي يرى الناس على المعصية فيغفر ويستر.

ما من أحد منا إلا وهو يتذكر مواقف بينه وبين الله يخجل منها، ويستحي أن الله يطلع عليه وهو على المعصية، يراه لا يخفيه عنه شيء، ولكنه يستره ويسامحه، وهو قادر على أخذه أخذاً وبيلاً في تلك اللحظة، لكنه ستره! نسأل الله أن يتبع الستر بالمغفرة، وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا، فإذا تذكر الإنسان ذلك عرف أنه محتاج إلى هذا الدعاء، وأنه أساس من أسس شخصيته التي تميزه، فغير المسلم يدعو غير الله ويكثر من دعائه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].

وهذا الدعاء لله سبحانه وتعالى هو حقيقة الغنى بالله عما سواه، الذي إذا أصابته أي مصيبة أو احتاج إلى أية حاجة، أو تذكر فقراً أو تذكر ذنباً أو تذكر فاقة في أي وجه من الوجوه بادر إلى باب الدعاء، فسيغلق الله عنه باب الفقر، ويفتح له باب الغنى، فيستغني بالله عمن سواه، والذي إذا تذكر حاجة أو فاقة علقها بالمخلوق فبدأ يسأل الناس، وكلما سأل فتح له أبواب أخرى من الفقر نسأل الله السلامة والعافية، فيجعل الله فقره بين عينيه، ويجعله متعلقاً بالآخرين دائماً، وهذا الذي كتبه الله على اليهود، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، فهم دائماً يريدون من يحميهم، ويريدون من ينفق عليهم، ويريدون من يبدي لهم جانب الرحمة؛ لأنهم مفطورون على الذلة للمخلوق، بخلاف أهل الإيمان فإن من أساس شخصيتهم أنهم يسألون الله الذي رضي لهم أن يسألوه فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

ولهذا يعلقون آمالهم ودعاءهم في حوائجهم كلها بالذي يقدر على قضائها، الذي لو اجتمعت الخلائق كلها في صعيد واحد، فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، الذي لا يعجزه قضاء حوائج عباده، ولا تغيض يداه بل هما سحاءان الليل والنهار. هذا الذي يستحق أن يسأل وأن يدعى، ومن سواه لا يستحق ذلك، بل العباد مفطورون على البخل في الأصل، ولهذا يقول أحد الحكماء:

لا تسألن بني آدم حـــــــــــــاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

ويقول المكودي رحمه الله:

إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد

وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد

ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

التعرف على عجائب خلق الله وتدبيره

ثم إن التعامل مع الله سبحانه وتعالى مقتض كذلك لأن يتعرف الإنسان على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه، فإن الإنسان إذا لم يدرك هذه الحقائق يبقى جانب عظيم من تعلقه بالله مهملاً مغلقاً، لكن إذا رأى تصرف الله في هذا الكون الذي يخرج فيه النقيض من نقيضه والضد من ضده.. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم:19]، ويرى هذه العجائب العجيبة فإن ذلك مقتض منه لزيادة التعلق به وزيادة محبته، وزيادة الإيمان به وزيادة الرجاء، وعدم الانقطاع مطلقاً، من رأى عجائب كون الله سبحانه وتعالى ودقائق ملكوته لم ينزعج ولم تسد أمامه الأبواب، ولم يقنط ولم ييأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

فإذا تعالى الباطل وعلت صيحاته وانتفش وانتفخ فإن أهل الإيمان يعلمون أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر، وأن الذي أهلك قوم نوح فأمر السماء ففتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً حتى التقى الماء على أمر قد قدر، وأهلك عاداً بالريح التي سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا[الحاقة:7]، وأهلك ثمود بالصيحة التي لم تبق لهم باقية، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [النجم:51]، وأهلك قوم لوط بالحاصب الذي قلب مدينتهم، وأهلك أصحاب فرعون و فرعون بالتطام البحر والتقائه عليهم غير عاجز عن أن يهلك أعداءه في أي زمان وأي مكان، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:43-45].

فمن هنا لا ييأس الإنسان ولا يحزن إذا رأى انتفاش الباطل لعلمه أن له صولة فيضمحل.

التعامل مع الله عند المصائب

كذلك فإن من واقع التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يكون حاضراً في أذهان المؤمنين أن المؤمن إذا أصابته أية مصيبة، أو نفذ فيه أي قدر من أقدار الله تعالى تذكر الكلمة البليغة التي هي الأدب الشرعي في التعامل مع الله عند المصائب، وهي: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، إِنَّا لِلَّهِ [البقرة:156]: فنحن مملوكون له سبحانه وتعالى، وتصرفه فينا نافذ ماض لا معقب لحكمه، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156]: فنحن جميعاً راجعون إليه حتى لو تتعددنا المصائب الآن وتجاوزتنا فلا بد أن نصل إلى الرجوع إليه، لأن مصير الأمور كلها إليه أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53].

أسس التعامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم

ثم في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمن الخلق على الناس، وقد شرط الله عليهم محبته في الإيمان، (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، ( لا حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك)، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة في الإيمان، والتعامل معه صلى الله عليه وسلم مقتضٍ للتأدب معه تمام الأدب، كما قال سبحانه وتعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:1-5].

فالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أساس التقدير والتوقير الذي شرطه الله سبحانه وتعالى وأمر به من مميزات شخصية المسلم في مجال التعامل، أما من لم يأخذ بهذه القيمة من قيم شخصية المسلم فسيكون ما بين مفرط أو مفرط، فالمفرط سيحل الرسول صلى الله عليه وسلم في غير منزلته، وفي الحديث: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )، ولن يعرفه على حقيقته، بل سيحجب عن صفاته الحقيقية وعن الأدب معه بمجرد خرافات وأقوال اختلقها أقوام ليس لها أساس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غنى عنها، قد شرفه الله وكرمه بتشريف كاف، ولا يحتاج إلى الإطراء بالباطل، ولا يحتاج إلى الخرافات، بل آتاه الله المعجزات الحقيقية التي هي مقنعة لكل من سمع وبلغ.

أما النوع الثاني وهم المفرطون الذين يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يوقرونه ولا يقدرونه خلافاً لما أمر الله به، ويعتدون على جانب النبوة فينسبون إليه بأفهامهم الزالقة خلاف الواقع، ويظنونه كرجالاتهم وليس كذلك! بل هو المعصوم الذي شرفه الله على سائر الناس وكرمه، والمؤمن بين هاتين الرذيلتين بين الإفراط والتفريط.

كيفية التعامل مع المؤمنين

كذلك فإن الإنسان المؤمن من قيم ومقومات شخصيته في مجال تعامله مع إخوانه المؤمنين الذين وصف الله تعاملهم فيما بينهم بالرحمة والشفقة، فقال سبحانه وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، ويقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54].

ومن هنا فالصفة العظيمة التي كتبها الله على نفسه وأمر بها عباده هي صفة الرحمة، فيتصف بها المؤمنون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين يرحمهم الله، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يرحم لا يرحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وهذه الرحمة يحتاج الناس إليها في تعاملهم فيما بينهم، وإذا انعدمت فإن الخيرية سترفع، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها وصغيرها يوقر كبيرها)، فإذا نزعت الرحمة من بين الناس زالت الخيرية منهم، وعدموا هذا الخير الذي اختارهم الله له، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].

كذلك في التعامل مع الناس لا بد أن يتذكر الإنسان أنه مخلوق مثلهم، وأنه ليس محصياً لذنوبهم، ولا مكلفاً بذلك، وأنه عليهم ملائكة يحصون أعمالهم لا يفوتهم شيء منها، وأنه هو لا يكلف إلا نفسه، ويؤمر بتحريض الآخرين فقط، يأمر وينهى لكن ليس حسيباً ولا مسيطراً ولا مهيمناً، إنما هو شاهد فقط، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

تفاوت الدرجات في التعامل مع الناس

وهذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم في التعامل مع الناس مقتض كذلك لتفاوت درجات الناس باعتبار الحقوق الشرعية، فأحق الناس بحسن صحابة الإنسان أمه، ثم بعدها أبوه، ثم أدناه فأدناه، وكذلك حقوق الجار، الذي حض النبي صلى الله عليه وسلم على أداء حقوقه، وحقوق الضيف، وحقوق ذي الشيبة في الإسلام، وحقوق أهل العلم والدين، فهذه الحقوق أعلى مما سواها من حقوق عوام المسلمين، ثم بعد ذلك حقوق الداعين إلى الله والساعين في طريق الحق، وأدنى من ذلك حقوق عوام المسلمين الذين لا يلتزمون بجزئيات الإسلام ولا يتبعون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفصيلاته، لكن مع ذلك فإن حق الأخوة لا ينصرم ولا ينقطع إلا بالكفر بالله، ولهذا فقد أثبت الله الأخوة بين المؤمنين مع وجود الظلم والبغي في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[الحجرات:9-10]، من هم الإخوان هنا؟ الباغي والمبغي عليه فكلاهما أخوان لنا، فالأخوة الإيمانية لا ينقضها البغي والظلم، بل هي موجودة على ذلك، لكن حقوق أهلها متفاوتة على ترتيب الحقوق الشرعية.

كيفية التعامل مع طلب الرزق

وكذلك فالجانب الآخر من جوانب التعامل هو جانب الاكتساب، فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، ومن حكمته فيما يقتضي حصول الترابط بينهم أن يعطي هذا ما هو في غنىً عنه ويحتاج إليه غيره، ويعطي الآخر ما هو في غنىً عنه ويحتاج إليه غيره، حتى يقع التكامل بينهم وحتى يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض فيقع التبادل بينهم، ولهذا شرع لهم البيع وحرم عليهم الربا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] ليقع التكامل فيما بينهم، وهذا التكامل لا بد أن يكون وفق الشرع، فميزة المسلم المؤمن فيه المحق أنه يميز بين دائرتين متباينتين هما دائرة الحلال ودائرة الحرام، ففي طلب الرزق والاكتساب يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل له دائرة هي دائرة الحلال، وأجاز له التصرف فيها، والسعي الموافق للشرع بما ليس فيه مذلة ولا إساءة في الطلب، بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن رزقه مضمون، وأنه لا ينال بالحيلة، كم رأينا من الناس من يبذل جهده ووقته طيلة عمره في محاولة جمع المال ويموت فقيراً لا يملك شيئاً، وكم رأينا من الناس من لم يتعب في هذه الدنيا ولم يبذل فيها جهداً يذكر، ومع ذلك مات غنياً وعاش غنياً غير محتاج إلى الناس، فالقضية هنا ليست باتباع الحيل، بل يقول أحد الحكماء:

مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك

ويقول الآخر:

باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما

تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما

فكلها وفق قسمة الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فعلى الإنسان أن يجمل في الطلب، وأن لا يذل نفسه، وأن لا يجعل نفسه خادماً للدنيا، بل المطلوب أن تكون الدنيا خادمة له هو.

كذلك في هذا المجال عليه أن يعلم أن الدائرة الأخرى -وهي دائرة الحرام- دائرة مسدودة حرمها الله عليه، ولا خير له فيها، وإذا زين له الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء أو إخوان السوء أن يتزود من هذه الدائرة التي حرم الله فليتذكر قصة إبليس مع آدم وحواء حين أخرجهما من الجنة، ليتذكر أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة وعليها ستور ووراء كل باب داع يدعو للولوج وفوقه داعي الله ينادي فيقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه.

ليتذكر الإنسان إذا عرضت عليه صفقة أو أي مكسب مما حرم الله عليه أنه يمكن أن يستدرج بهذا حتى يهوي في النار، فيحاول الابتعاد عن دائرة الحرام ما تيسر له ذلك، وليعلم أن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، وأن ضعاف الإيمان هم الذين يخشون الدوائر، ويريدون أن يسدوا هذه الدوائر، ويتزودوا من هذا الحرام، ولهذا فولاؤهم المنبني على أساس العقيدة غير صحيح، يوالون الكفار لا رغبة في دينهم ولا في قيمهم، ولكن لأنهم يخشون الدوائر فيريدون أن يغنيهم الكفار مما تحت أيديهم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51-52].

كذلك في هذا المجال على الإنسان أن يتعلم حدود الحلال والحرام، ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى، وقال: من لم يكن فقيهاً فليخرج من سوقنا.

لأنه يخاف أن يكون غير الفقهاء يغلبون على الأسواق فيتعاملون بمعاملات محرمة، فتنتشر تلك المعاملات وهي الغبار الذي ينال الناس من الربا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (في آخر الزمان سيعم الربا فمن لم ينل منه ناله من غباره).

وهذا واقعنا اليوم، فالاقتصاد العالمي اليوم كله يقوم على الربا المؤدي إلى حرب الله ورسوله، ومن لم ينل منه ناله من غباره، وعلى المؤمن وهو يسعى لبناء شخصيته أن يعلم أن مقومات شخصيته الابتعاد عن الحرام.

وهذا الأساس يقوم على أن الإنسان مضطر للتعامل مع غيره، وأولى من يتعامل معه ربه سبحانه وتعالى فعليه أن يحسن المعاملة معه، وأهم ضوابط إحسان المعاملة مع الله الصدق في التوجه إليه، فهذا الأساس الأول، إذا علم الله الصدق من عبده في التوجه إليه هداه سبله، وأراه طريق الحق، وأخذ بناصيته إلى ذلك، وأما إذا رأى منه كذباً في التوجه إليه ولم يكن صادقاً في ذلك، فإن الله يغويه ويضله، كما قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].

إن صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يقتضي من الإنسان أن يتأدب معه، وأن يتأدب في التلقي، وفي الأخذ أولاً، فيعرف نعمة الله ويعرف من أين أتت ويقيدها بشكرها، وهذا أساس في التعامل مع النعم، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة في وجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا فقدوا النعمة تذكروا أنهم كانوا في خير وعافية، وأن ذلك قد فارقهم تأسفوا وندموا، وهذا مخالف لأساس شخصية المسلم لقول الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:23]، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].

فعلى هذا لا بد أن نعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها.

ثم لا بد أن نعرف من أين أتت هذه النعمة، فكثير من الناس تطغيه النعمة فينسى من أين أتت، والله تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصدر نعمته عليه فيقول: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4]، ويقول في السورة التي قبلها: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:1-8]، فيذكره بمصدر النعمة، وكثير من الناس يجهل مصدر النعمة بسبب الطغيان، يطغى بالنعمة فينسى مصدرها، إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، ولهذا فإن قارون حين أغناه الله نسي مصدر النعمة، فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[القصص:78].

الأساس الثالث في التعامل مع نعمة الله: هو تقييدها بالشكر، معناه أن كثيراً من الناس ينكر هذه النعمة بعد معرفته بها ومعرفته من أين أتت، يعرف النعمة ويعرف مصدرها، لكنه ينكرها كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل:83]، وأهل الإيمان يعرفون نعمة الله ويقيدونها بالشكر، فإذا شرب الإنسان أو أكل قال : الحمد لله، تذكر هذه النعمة عليه, وإذا استيقظ من نومه ورد الله عليه روحه تذكر هذه النعمة فقال: (الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره). وإذا من الله عليه بالعبادة حمد الله على ذلك، سمع الله لمن حمده، فيقول: ربنا لك الحمد، وهكذا فالنعم المتسلسلة يصاحبها ويحاذيها الحمد الذي هو قيدها، والشكر الذي هو سبب زيادتها: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].