معرفة الله في الرخاء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

حاجة العباد إلى التعرف إلى الله

فإن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لا يحتاج إلى شيء من عباده، والعباد جميعاً مفتقرون إليه خلقاً ورزقاً وتدبيراً، لا يمكن أن يستغني أحد عنه في طرفة عين، وقد قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[فاطر:15-17]، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، ولا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضر؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى[الحج:36-37]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح أنه قال فيما رواه عن ربه عز وجل: ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني )، فلا يمكن أن يبلغه عباده بنفع ولا بضر؛ ولذلك فهم الفقراء إليه المحتاجون إليه في كل أوقاتهم، فلا بد إذاً أن يدركوا ذلك وأن يتقربوا إليه، وأن يعلموا أن غناه عنهم سبق وجودهم وسيعقبهم، فيحتاجون إلى التعرف إليه في الرخاء ليعرفهم في الشدة، وهذه نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نصح بها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهي نصيحة لكل مؤمن؛ فكل مؤمن عليه أن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة.

المقصود بالتعرف إلى الله

والمقصود بالتعرف إلى الله: التقرب إليه بالأعمال الصالحة وإقراضه قرضاً حسناً؛ فليس المقصود به أن تزداد معرفته بعبده؛ فهو العالم بجزئيات حياة كل عبد، فلا يمكن أن يتنفس تنفساً إلا بأمره، ولا يمكن أن يفكر تفكيراً إلا بعد إذنه؛ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29]، لكن التعرف إليه سبحانه وتعالى إنما هو بإقراضه قرضاً حسناً، وقد دعا إلى ذلك في كتابه فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً[البقرة:245]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ[الحديد:11]، فعند الله سبحانه وتعالى الخير الجزيل والثواب العظيم لكل من تقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالأخص في وقت عدم الدواعي؛ فالإنسان في وقت الكرب تدعوه الدواعي للإنابة إلى الله والتوبة إليه والعمل الصالح، إذا أحس بأن أجله قد دنا وقد ارتفعت الروح من أسفل بدنه ووصلت إلى صدره وحشرجت فيه، وبلغت التراقي والتف الساق بالساق؛ فحينئذ يحتاج الإنسان إلى المبادرة إلى التوبة والمبادرة بالأعمال الصالحة، وكثيراً ما يوصي ببعض ماله في ذلك الوقت الذي كان محباً له، ولكن هذا الحال إنما هو من التعرف إليه في حال الشدة وقد وصل الإنسان إلى اليقين.

وكذلك إذا كان في جوف البحر وقد اغتلم فجاءه من كل مكان ورأى الموت بعيني رأسه؛ كثيراً ما يلجأ إلى الله في ذلك الوقت حتى لو كان مشركاً، ثم إذا نجا من ذلك عاد إلى شركه؛ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:67]، وكثيراً ما يكون الإنسان كذلك في وقت كرب آخر من مرض أو ألم أو فقد قريب أو حبيب أو حاجة إلى أمر ما يتذكر اللجأ إلى الله فيدعوه ويمد إليه أيدي الضراعة، ويعاهده على التوبة والرجوع والإنابة، لكن ذلك إذا كان في وقت الكرب بعد أن أتاه اليقين لا يغني ولا ينفع؛ فإن المشركين جميعاً يفعلونه؛ فالمشركون جميعاً يعرفون الله في وقت الشدة؛ ولذلك فإن فرعون عندما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:90-92]، فلم يغن عنه اعترافه بربوبية الله وألوهيته في وقت الشدة شيئاً؛ لأنه كان يقول في وقت الرخاء: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24].

عاقبة الغفلة عن التعرف إلى الله في وقت الرخاء

إن حاجة الإنسان إلى معرفة الله والتقرب إليه في وقت الرخاء حاجة ماسة ولا يمكن أن يستغني عنها؛ لأنه بمجرد إغفاله لها يكتب من الغافلين ويزداد في الطغيان ويملى له، فالغافلون عن الله سبحانه وتعالى الذين لا يتعرفون إليه ولا يتقربون إليه بالأعمال الصالحة في وقت الصحة والعافية وفي وقت الوفرة في الأرزاق هؤلاء لا يزدادون إلا طغياناً وبعداً من الله؛ لأن الله يملي لهم فيقيض لهم الغنى والصحة والعافية حتى يزدادوا غفلة وبعداً عن الله تعالى، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وبذلك يختم على قلوبهم فيطبع عليها بطابع النفاق، نسأل الله السلامة والعافية!

تعرف أهل الإيمان إلى الله بنعمه

أما من كان من أهل الإيمان فإنه يعرف الله في الرخاء فيتعرف إليه بنعمه التي أنعم عليه بها؛ فيتذكر في صحته وفراغه علاقته بالله، فإذا خلا وحده في غرفته وأخلد إلى الراحة والهدوء ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، يتذكر جلال الله وعظمته وكبرياءه، ويتذكر نعم الله عليه، ويتذكر أنه رقيب له في هذا الوقت لا تخفى عليه منه خافية؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، وكذلك إذا كملت قواه ذكر أن الله هو الذي أنعم عليه بهذه القوى؛ فإذا نجح في أي أمر من الأمور التي تقتضي القوة لم يتكبر بذلك ولم يفخر به ولم يتسور به على عباد الله، بل كان من المبادرين إلى الاعتراف لله تعالى بالجميل.

قال موسى بن عمران عليه السلام لما قواه الله فوكز رجلاً قوياً فقضى عليه، فإن موسى عليه السلام اعترف لله تعالى بهذه النعمة فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17].

وكذلك إذا تكاملت لديه النعم من السلطان والمال والجاه وغير ذلك، إذا كان من أهل الإيمان والتقوى زاده ذلك من الله قرباً وإنابة وشكراً، ولذلك فإن الله تعالى ألهم داود وآل بيته شكر نعمه لما أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فأعطاه الله الملك والعلم والحكمة، وأعطاه سليمان نبياً مؤازراً له مساعداً له في ملكه، ثم أسبغ على سليمان نعمه بعد ذلك ففهمه كل ما تسمعه الأذن، حتى أصوات الطير وأصوات الرياح وأصوات الحشرات والنمل، كل ما تسمعه الأذن يفهمه سليمان عليه السلام؛ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:79].

وعندما توفى الله داود عليه السلام وجعل سليمان في خلافته لم يطغ بالنعمة بل شكرها لله؛ ولذلك قال الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ[النمل:16]، واعترف بالنعمة لله فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ[النمل:16]، فكان شاكراً لله تعالى على هذه النعمة، واعترف بذلك في كل أوقاته؛ ففي دعائه لله تعالى يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19]، لم يتكبر ولم يتجبر وهو نبي ملك جمع الله له خيري الدنيا والآخرة، ومع ذلك يسأل الله أن يلحقه بالصالحين؛ لأن الحي يخاف الفتنة دائماً ويخاف سوء الخاتمة، ويخاف الشرك في كل أوقاته، فينبغي للحي أن لا يغتر بصلاح حاله؛ لأنه لا يدري عاقبة مآله هل هي صلاح أو فساد.

ولذلك فإن أنبياء الله كانوا يسألونه الصلاح؛ فقد سمعتم في دعاء سليمان: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101].

وفي دعاء يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101]، بعد أن أنعم الله عليه بهذه النعم الجليلة العظيمة، فملكه على مصر وجمع شمله بأبويه وإخوته ورفعهم على العرش وسجدوا له جميعاً، وحقق الله له تأويل رؤياه التي كان أراه من قبل، في كل ذلك شكر هذه النعمة لله تعالى ودان له بشكرها وسأله أن يلحقه بالصالحين.

فأنبياء الله هم المثل والقدوات التي ينبغي أن يقتدي بها أهل الإيمان.

فإن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لا يحتاج إلى شيء من عباده، والعباد جميعاً مفتقرون إليه خلقاً ورزقاً وتدبيراً، لا يمكن أن يستغني أحد عنه في طرفة عين، وقد قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[فاطر:15-17]، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، ولا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضر؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى[الحج:36-37]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح أنه قال فيما رواه عن ربه عز وجل: ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني )، فلا يمكن أن يبلغه عباده بنفع ولا بضر؛ ولذلك فهم الفقراء إليه المحتاجون إليه في كل أوقاتهم، فلا بد إذاً أن يدركوا ذلك وأن يتقربوا إليه، وأن يعلموا أن غناه عنهم سبق وجودهم وسيعقبهم، فيحتاجون إلى التعرف إليه في الرخاء ليعرفهم في الشدة، وهذه نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نصح بها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهي نصيحة لكل مؤمن؛ فكل مؤمن عليه أن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة.

والمقصود بالتعرف إلى الله: التقرب إليه بالأعمال الصالحة وإقراضه قرضاً حسناً؛ فليس المقصود به أن تزداد معرفته بعبده؛ فهو العالم بجزئيات حياة كل عبد، فلا يمكن أن يتنفس تنفساً إلا بأمره، ولا يمكن أن يفكر تفكيراً إلا بعد إذنه؛ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29]، لكن التعرف إليه سبحانه وتعالى إنما هو بإقراضه قرضاً حسناً، وقد دعا إلى ذلك في كتابه فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً[البقرة:245]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ[الحديد:11]، فعند الله سبحانه وتعالى الخير الجزيل والثواب العظيم لكل من تقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالأخص في وقت عدم الدواعي؛ فالإنسان في وقت الكرب تدعوه الدواعي للإنابة إلى الله والتوبة إليه والعمل الصالح، إذا أحس بأن أجله قد دنا وقد ارتفعت الروح من أسفل بدنه ووصلت إلى صدره وحشرجت فيه، وبلغت التراقي والتف الساق بالساق؛ فحينئذ يحتاج الإنسان إلى المبادرة إلى التوبة والمبادرة بالأعمال الصالحة، وكثيراً ما يوصي ببعض ماله في ذلك الوقت الذي كان محباً له، ولكن هذا الحال إنما هو من التعرف إليه في حال الشدة وقد وصل الإنسان إلى اليقين.

وكذلك إذا كان في جوف البحر وقد اغتلم فجاءه من كل مكان ورأى الموت بعيني رأسه؛ كثيراً ما يلجأ إلى الله في ذلك الوقت حتى لو كان مشركاً، ثم إذا نجا من ذلك عاد إلى شركه؛ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:67]، وكثيراً ما يكون الإنسان كذلك في وقت كرب آخر من مرض أو ألم أو فقد قريب أو حبيب أو حاجة إلى أمر ما يتذكر اللجأ إلى الله فيدعوه ويمد إليه أيدي الضراعة، ويعاهده على التوبة والرجوع والإنابة، لكن ذلك إذا كان في وقت الكرب بعد أن أتاه اليقين لا يغني ولا ينفع؛ فإن المشركين جميعاً يفعلونه؛ فالمشركون جميعاً يعرفون الله في وقت الشدة؛ ولذلك فإن فرعون عندما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:90-92]، فلم يغن عنه اعترافه بربوبية الله وألوهيته في وقت الشدة شيئاً؛ لأنه كان يقول في وقت الرخاء: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24].

إن حاجة الإنسان إلى معرفة الله والتقرب إليه في وقت الرخاء حاجة ماسة ولا يمكن أن يستغني عنها؛ لأنه بمجرد إغفاله لها يكتب من الغافلين ويزداد في الطغيان ويملى له، فالغافلون عن الله سبحانه وتعالى الذين لا يتعرفون إليه ولا يتقربون إليه بالأعمال الصالحة في وقت الصحة والعافية وفي وقت الوفرة في الأرزاق هؤلاء لا يزدادون إلا طغياناً وبعداً من الله؛ لأن الله يملي لهم فيقيض لهم الغنى والصحة والعافية حتى يزدادوا غفلة وبعداً عن الله تعالى، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وبذلك يختم على قلوبهم فيطبع عليها بطابع النفاق، نسأل الله السلامة والعافية!

أما من كان من أهل الإيمان فإنه يعرف الله في الرخاء فيتعرف إليه بنعمه التي أنعم عليه بها؛ فيتذكر في صحته وفراغه علاقته بالله، فإذا خلا وحده في غرفته وأخلد إلى الراحة والهدوء ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، يتذكر جلال الله وعظمته وكبرياءه، ويتذكر نعم الله عليه، ويتذكر أنه رقيب له في هذا الوقت لا تخفى عليه منه خافية؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، وكذلك إذا كملت قواه ذكر أن الله هو الذي أنعم عليه بهذه القوى؛ فإذا نجح في أي أمر من الأمور التي تقتضي القوة لم يتكبر بذلك ولم يفخر به ولم يتسور به على عباد الله، بل كان من المبادرين إلى الاعتراف لله تعالى بالجميل.

قال موسى بن عمران عليه السلام لما قواه الله فوكز رجلاً قوياً فقضى عليه، فإن موسى عليه السلام اعترف لله تعالى بهذه النعمة فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17].

وكذلك إذا تكاملت لديه النعم من السلطان والمال والجاه وغير ذلك، إذا كان من أهل الإيمان والتقوى زاده ذلك من الله قرباً وإنابة وشكراً، ولذلك فإن الله تعالى ألهم داود وآل بيته شكر نعمه لما أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فأعطاه الله الملك والعلم والحكمة، وأعطاه سليمان نبياً مؤازراً له مساعداً له في ملكه، ثم أسبغ على سليمان نعمه بعد ذلك ففهمه كل ما تسمعه الأذن، حتى أصوات الطير وأصوات الرياح وأصوات الحشرات والنمل، كل ما تسمعه الأذن يفهمه سليمان عليه السلام؛ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:79].

وعندما توفى الله داود عليه السلام وجعل سليمان في خلافته لم يطغ بالنعمة بل شكرها لله؛ ولذلك قال الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ[النمل:16]، واعترف بالنعمة لله فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ[النمل:16]، فكان شاكراً لله تعالى على هذه النعمة، واعترف بذلك في كل أوقاته؛ ففي دعائه لله تعالى يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19]، لم يتكبر ولم يتجبر وهو نبي ملك جمع الله له خيري الدنيا والآخرة، ومع ذلك يسأل الله أن يلحقه بالصالحين؛ لأن الحي يخاف الفتنة دائماً ويخاف سوء الخاتمة، ويخاف الشرك في كل أوقاته، فينبغي للحي أن لا يغتر بصلاح حاله؛ لأنه لا يدري عاقبة مآله هل هي صلاح أو فساد.

ولذلك فإن أنبياء الله كانوا يسألونه الصلاح؛ فقد سمعتم في دعاء سليمان: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101].

وفي دعاء يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101]، بعد أن أنعم الله عليه بهذه النعم الجليلة العظيمة، فملكه على مصر وجمع شمله بأبويه وإخوته ورفعهم على العرش وسجدوا له جميعاً، وحقق الله له تأويل رؤياه التي كان أراه من قبل، في كل ذلك شكر هذه النعمة لله تعالى ودان له بشكرها وسأله أن يلحقه بالصالحين.

فأنبياء الله هم المثل والقدوات التي ينبغي أن يقتدي بها أهل الإيمان.

فينبغي إذا أنعم الله على عبد نعمة أن يبادر بشكرها لله فذلك قيدها وزيادتها؛ فالنعم لا تدوم إلا بالقيد وقيدها الشكر لله تعالى، ومنها نعمة الإيمان ونعمة التقوى والعون على كف الجوارح عن المعصية، هذه نعم جليلة جداً قليلاً ما يتذكرها الذين أنعم الله عليهم بها.

زيادة النعم مع الشكر

ثم بعد هذا كذلك فإن الشكر سبب للزيادة من النعمة كما قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وقد صح عنه في ذلك حديثان أحدهما عن عائشة رضي الله عنها، والثاني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وقد سألته عائشة فقالت: ( ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً! )، فقوله: (أفلا أكون عبداً شكوراً!) يعني: هذه نعمة وشكرها ليس بالغفلة عنها، بل أن يشكرها الإنسان لله سبحانه وتعالى حين فضله وشرفه على الخلائق وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعله أشرف خلق الله؛ هذه نعمة عظيمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تستحق الشكر منه لله تعالى، كما تستحق علينا نحن أيضاً أن نشكرها لله تعالى، فهي نعمة على سيدنا ونبينا ينبغي أن نشكرها جميعاً.

الحياء من الله

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما أنعم الله عليه بفتح مكة دخلها وهو يلصق ذقنه بصدره حياءً من الله تعالى، فمع هذه النعمة العظيمة الجزيلة والانتصار على الأعداء وفتح موطنه الأصلي الذي كان أحب البلاد إليه، مع ذلك يلصق ذقنه بصدره حياءً من الله تعالى، وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى ذكره وهو بمكة لما صعد الصفا بنعمه عليه فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26]، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ[الأنفال:26]، وقد كان المؤمنون معه على الصفا في دار الأرقم أربعين رجلاً فقط، إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ[الأنفال:26]، وقد كانوا إذ ذاك يختفون في دار الأرقم مخافة أن يتخطفهم المشركون من قريش، فكل قبيلة تحرص على المؤمنين من أفرادهم لتعذبهم وتفتنهم عن الدين، فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد على الصفا: ( لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده )، فقوله: (أنجز وعده) أي الذي وعده الله تعالى به في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:27]، (ونصر عبده)؛ فقد نصره تعالى إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، كما امتن الله على المؤمنين بذلك وحفزهم لنصرته فقال: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[التوبة:40]، (وهزم الأحزاب وحده) فإن الله تعالى تولى رد المشركين حينما تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكفى المؤمنين القتال فقال تعالى: وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا[الأحزاب:25]، فتولى الله سبحانه وتعالى ردهم على أدبارهم خائبين بما أرسل عليهم من الريح العقيم والجنود التي لا نراها، وهي نعمة عظيمة أنعم الله بها علينا وأمرنا بشكرها وذكرها لله، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا[الأحزاب:9-10].

كثرة الثناء على الله والاعتراف بجزيل نعمه

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الثناء على الله سبحانه وتعالى وحمده على نعمه والاستغفار في كل مجلس يجلسه، وكل ذلك من الاعتراف بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه، وقد عد الله تعالى بعض النعم التي أنعم بها عليه في ثلاث سور من القرآن؛ ففي سورة الفتح يقول: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا[الفتح:1-3]، وفي سورة الضحى يقول الله تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى:1-8]، وفي سورة الشرح يقول الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[الشرح:1-4]؛ فكل ذلك امتنان من الله سبحانه وتعالى وتعريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه.

حصول الرضا من الله

وكذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التعرف إلى الله سبحانه وتعالى في الرخاء وذكر نعمته عليهم في كل الأحوال؛ فقد كان يعرفهم ذلك حتى نشئوا عليه وأصبح من خلقهم وهديهم؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رجع من حجته التي لم يعش بعدها إلا مدة يسيرة وقف على جبل في شمال مكة يسمى ضجنان فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه) ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لن تغني عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

وعندما أتاه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وقد نال ما كان يتمناه من الشهادة في سبيل الله والموت في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طعن، جاءه ابن عباس فدخل عليه فجعل يذكره ببعض مشاهده في الإسلام، فذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة وأنه شهد بدراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وأنه بايع تحت الشجرة وقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[الفتح:18]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، فلما عدد له ابن عباس ذلك قال عمر : لعل ذلك على شرط لم يقع! لم يغتر بالله سبحانه وتعالى، بل قال: لعل ذلك على شرط لم يقع.

وكذلك كان إخوانه من المهاجرين والأنصار ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً يذكرون النعمة لله تعالى فيشكرونها، وقد أعجب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما حدثه به الأحنف بن قيس لما ذهب في أحياء بني تميم يجمع ديات فيما كان بينهم وبين ربيعة، قال: (أتيت رجلاً كبير السن من بني منقر، وهو يسكن في عالية نجد، فلما جلست إليه تعرفت إليه، فقدم لي تمراً وزيتاً فقال: نحمد الله! هذا تمر العراق بزيت الشام). ثم ذكر له نعمة الله عليه وما أسبغ عليه به من العافية والمال والولد، فأعجب علي رضي الله عنه بهذه القصة لما فيها من حمد ذلك الرجل لنعمة الله تعالى ومعرفته بذلك، وليس ذلك بدعاً من علي رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يوماً في المسجد فجاء رجل من الأعراب فوقف في بعض المسجد أو في طائفة المسجد، فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فجاء بذهيبة.. )، أي: قطعة من الذهب ( فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك )، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم: ( كان يصلي بالناس في المسجد فسمع رجلاً من خلفه، قال عندما رفع من الركوع: ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. )، وهذا القدر متفق عليه رواه الجماعة جميعاً وزاد النسائي : (كما يحب ربنا ويرضى)، ( فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله.. وهو رجل من الأنصار، فقال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها )، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ( أن الله يرضى عن العبد إذا شرب الشربة فقال: الحمد لله، وإذا أكل اللقمة فقال: الحمد لله )، هذا مما يرضاه الله من عباده، مجرد حمده تعالى على النعم التي نتقلب فيها ولا نستطيع إحصاءها ولا عدها هو مما يرضي ربنا سبحانه وتعالى.

ثم بعد هذا كذلك فإن الشكر سبب للزيادة من النعمة كما قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم:7]، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وقد صح عنه في ذلك حديثان أحدهما عن عائشة رضي الله عنها، والثاني عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وقد سألته عائشة فقالت: ( ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً! )، فقوله: (أفلا أكون عبداً شكوراً!) يعني: هذه نعمة وشكرها ليس بالغفلة عنها، بل أن يشكرها الإنسان لله سبحانه وتعالى حين فضله وشرفه على الخلائق وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعله أشرف خلق الله؛ هذه نعمة عظيمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تستحق الشكر منه لله تعالى، كما تستحق علينا نحن أيضاً أن نشكرها لله تعالى، فهي نعمة على سيدنا ونبينا ينبغي أن نشكرها جميعاً.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع