أرشيف المقالات

المقارنة بين الكفار والمنافقين

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
المقارنة بين الكفار والمنافقين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
ففي هذه الكلمة بيان المقارنة بين الكفار والمنافقين، مستلهمين ذلك من الكلمتين المتقدمتين عن أبي طالب الذي مات كافرًا ورأس المنافقين عبد الله بن أُبي ابن سلول، فأقول وبالله نستعين: ذكر الله تعالى في كتابه أن عقوبته للمنافقين أشد وأعظم من عقوبة الكافرين، فقال تعالى:﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]، ورد الله وأعاد ذكرهم كثيرًا للتحذير منهم، فلماذا هذا كله وهم يشهدون أن لا إلا الله، ويصلون ويجاهدون، وغير ذلك من أعمال الإسلام الظاهرة، بينما الكفار لا شيء عندهم من ذلك؟ والجواب يعلم من مدى انطباق الصفات التالية على كل من الفريقين:
1- الصدق والكذب: المنافق بنى حياته كلها على الكذب قولًا وفعلًا وحالًا؛ قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، بينما أبو طالب أبى أن يقول الشهادة؛ لأنه يأنف أن يقولها غير صادق فيها.

وفي قصة هرقل مع أبي سفيان عندما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل: ادنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه[1].

فالنفاق أكثر إفسادًا للفطر وأشد تدميرًا للأخلاق الفاضلة ومكارم العادات.

2- الأمانة والخيانة: من أظهر علامات المنافقين خيانة الأمانات ونقض العهود، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»[2].

قال ابن رجب: الخيانة في الأمانة من خصال النفاق[3]، وقد كان العرب مع كفرهم يأنفون من ذلك ويمقتون من كانت هذه صفته، ولذلك لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وأراد أن يدخل مكة بعث إلى المطعم بن عدي ليجير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المطعم: نعم وأجابه إلى ذلك، وقال لعبد الله بن أُريقط: «قل لمحمد فليأت»، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة، فدخلوا المسجد، وقال لرسول صلى الله عليه وسلم: طف، وأمر بنيه أن يكونوا عند أركان البيت لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهنا أقبل أبو سفيان إلى المطعم بن عدي، وقال له: «أمجير أم تابع؟ فقال المطعم: بل مجير، قال أبو سفيان: إذن لا تخفر ذمتك[4]، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم انصرفوا معه، ورجع أبو سفيان إلى مجلسه»[5].

ولهذا الصنيع الذي فعله المطعم بن عدي قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى[6] تَرَكْتُهُمْ لَهُ»[7].


3- من أعظم علامات المنافقين إظهار الإسلام ظاهرًا ومعاداته باطنًا، ولذلك لما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هو وأصحابه، وبعد الهزيمة الساحقة التي تعرض لها كفار قريش في غزوة بدر الكبرى، بدأت ظاهرة النفاق تظهر، فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، وأبطنوا الكفر والحقد والكيد في قلوبهم للإسلام وأهله.

روى البخاري في صحيحه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: «فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أُبي ابن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه[8] فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا[9].

ولذلك كانوا يوالون الكفار ويعقدون معهم اللقاءات في العلن تارة وفي السر تارات؛ قال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 52].

قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾؛ أي: شك وريب ونفاق، ﴿ يُسَارِعُونَ ﴾؛ ﴿ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾ أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: ﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾؛ قال السدي: يعني فتح مكة.
وقال غيره: يعني القضاء والفصل ﴿ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ﴾؛ قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى ﴿ فَيُصْبِحُوا ﴾ يعني: الذين والَوْا اليهود والنصارى من المنافقين ﴿ عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ من الموالاة ﴿ نادمين ﴾ أي: على ما كان منهم، مما لم يجد عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم محذورًا، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم.
فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 53] [10].


4- الجبن والشجاعة: فمن أبرز علامات المنافقين اشتهارهم بالجبن والحرص على الحياة، ولذلك أسلموا ظاهرًا حتى يحقنوا دمائهم؛ قال تعالى عنهم: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4]، قال ابن كثير رحمه الله: أي كانوا أشكالًا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمع السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن، ولهذا قال:﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي كلما وقع أمر أو كارثة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم[11].

بينما الكفار يأنفون من الجبن ويُعيرون من اتَّصف به، فهذا أبو طالب وهو على فراش الموت يقول للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: «يَا عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فقال: لولا أن تعيِّرني بها قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأَقررتُ بها عينك»
[12].

قال تعالى عن المنافقين: ﴿ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [الأحزاب: 19].

قال ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى:﴿ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾؛ أي من شدة خوفه وجزعه - وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال، قوله تعالى:﴿ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾؛ أي: فإذا كان الأمن تكلموا كلامًا بليغًا فصيحًا وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك[13].

5- البخل والكرم: من صفات المنافقين الذين اتصفوا بها البخل، بخلاف الكفار فقد كانوا يعيبون من اتصف بالبخل ويعدونها منقصة في حقه، فقد كانوا يكرمون الضيف ويغيثون الملهوف ويصلون الأرحام، ولذلك قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق[14].

قال تعالى عن المنافقين:﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ﴾ الآية؛ قال السدي: أي في الغنائم، وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوؤه مقاسمة: أعطونا، أعطونا وقد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن القوم[15].

وقال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه، ﴿ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ ﴾؛ أي: لئن بسط لنا الدنيا ووسعها علينا فنصل الرحم، ونقري الضيف، ونعين على نوائب الحق، فلما آتاهم من فضله، لم يفوا بما قالوا، بل بَخِلوا وتولَّوا عن الطاعة وهم معرضون - أي غير ملتفتين إلى الخير.

فأعقبهم الله نفاقًا في قلوبهم مستمرًّا إلى يوم القيامة، وفي الصحيحين حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَّرَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»[16]، فهذا المنافق الذي وعد الله وعاهده لئن أعطاه الله من فضله ليصدقنَّ وليكوننَّ من الصالحين؛ حدث فكذب، وعاهد [فغدر]، ووعد فأخلف[17].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] صحيح البخاري برقم (7)، وصحيح مسلم برقم (1773) باختصار.

[2] صحيح البخاري برقم (33)، وصحيح مسلم برقم (59).

[3] جامع العلوم والحكم (377).

[4] لا تخفر ذمتك: أي لا تنقض ولا تغدر بجوارك وعهدك.
انظر: النهاية (2/ 50).

[5] زاد المعاد (3/ 38-40) والبداية والنهاية (3/ 147).

[6] النتن الرائحة الكريهة، والمراد بالنتن في هذا الحديث أسارى بدر من المشركين، انظر: لسان العرب (14/ 36).

[7] صحيح البخاري برقم (3139)

[8] أي : ظهر.

[9] صحيح البخاري، برقم (4566).

[10] المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثيررحمه الله (ص384-385).

[11] تفسير ابن كثيررحمه الله (6 /14).

[12] صحيح مسلم، برقم (25).

[13] تفسير ابن كثيررحمه الله (11/ 133).

[14] صحيح البخاري برقم (3)، وصحيح مسلم برقم (160).

[15] تفسير ابن كثيررحمه الله (11/ 132-133).

[16] صحيح البخاري برقم (2682)، وصحيح مسلم برقم (59) إلا أن لفظ «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» في الرواية الأخرى: « أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا».

[17] تفسير ابن سعديرحمه الله، (ص431).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣