خطب ومحاضرات
كيف نحيي العشر الأواخر
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن عمر الإنسان قصير، وإن في العمل تقصيراً، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، وإنكم وافدون إلى ربكم جل وعلا، وإن فرصتكم للنجاة بين يدي الله هي أعماركم التي هي رأس مالكم.
فما لم يقدمه الإنسان في هذا العمر المحدود فلن يجده، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].
إنها فرصة عظيمة امتن الله تعالى بها على عباده، وهي كذلك إقامة للحجة عليهم؛ ولهذا يخاطب الله يوم القيامة أهل النار فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].
إن الناس مفطورون على حب طول العمر، وما من أحدٍ في هذه الدنيا إلا يحب أن يُزاد في عمره، لكنهم يتفاوتون في إدراك فائدة هذا العمر، فاليهود الذين هم شر الخلق وأبغضهم إلى الله يحبون طول العمر في هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم يعلمون أن مصيرهم إلى النار، ولذلك قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[البقرة:96].
وأهل الإيمان يعلمون أن فائدة العمر التقوى؛ لأنهم يعلمون أن معيار الفضل بين يدي الله يوم القيامة هو تقوى الإنسان، فهذه الدنيا منقطعة وهي سويعات، فإذا وقفت على المقبرة فرأيت قبور الناس متجاورة لم تفرق في القبور بين غنيٍ وفقيرٍ، ولا بين من طال عمره وعاش مائة سنة، وبين رضيع تُوفي في سن الرضاعة. فتنقطع أخبارهم وينتقلون إلى تلك المجاورة، وأهل قرب لا يتزاورون وأسارى ذنوب لا ينفكون. وتنقطع الاتصالات بمجرد هذه النقلة التي هي القيامة الصغرى، ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، والقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
فهنالك تنقطع الأخبار والصلات، ولا يمكن أن نجد خبراً عن من انتقل إلى الدار الآخرة، إلا أننا نعلم أن القبر له حالان: إما أن يكون روضةً من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرة من حفر النار.
ونحن لا ندري متى ننتقل؛ فلذلك أحب أهل الإيمان أن تطول أعمارهم ليتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى زلفى، وليزيدوا من الخيرات قبل أن ينقطع هذا العمر وتضيع هذه الفرصة.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أن كثيراً من الناس يغبنون في الفرص، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وإذا كان الأمر كذلك فلنعلم أن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بمواسم للخيرات يزيد بها الأعمار؛ لأن فائدة زيادة العمر لدى أهل الإيمان هي التقرب إلى الله، والعمل الصالح يُضاعف في مواسم الخير، يُضاعف الله تعالى الحسنات لعباده المؤمنين إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة.
فهذا من جلائل النعم التي أنعم الله بها على عباده، وزاد بها أعمارهم، وجعلهم بذلك يتنافسون في الخير.
وإن من أعظم فرص الخير التي يُتقرب فيها إلى الله تعالى وتنتهز فيها الأعمار بالطاعات هذا الشهر الكريم، الذي شرفه الله تعالى بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة:185].
وإن أشرف أوقات هذا الشهر هذه العشر التي نحن فيها، العشر الأواخر من رمضان، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأوائل فأتاه جبريل فقال: ( إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ).
ليلة القدر من رمضان
وكذلك فإننا نجزم بنص القرآن أن ليلة القدر في رمضان؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1]، ويقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185]، فبالجمع بين هاتين الآيتين يتعين أن ليلة القدر في رمضان، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذه الليلة وحدها يزداد فيها عمرك بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر على أقل تقدير؛ لأن الله تعالى يقول: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3]، و(خير) أفعل تفضيل معناه: أخير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محدودة؛ لأن الله يضاعف لمن يشاء، فبعض الناس على أقل تقدير تزيد عمره هذه الليلة بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وبعضهم يمكن أن يضاعف الله له عمره إلى عمر الدنيا بكاملها، فإذا وفق لقيام ليلة القدر وحدها عُد كأنه عاش آلاف السنين؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.
العتق من النيران في ليالي رمضان
ومع ذلك ( فإن لله تعالى عتقاء من النار في كل ليلةٍ من ليالي رمضان )، يعتق الله تعالى رقاباً من النار يحرم عليهم النار، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في كل ليلةٍ من ليالي رمضان، فمن مستعجلٍ ومن متأخر، فمنهم من يُعتق في أول الشهر، ومنهم من يتكرر له العتق، فيُعتق في ليالي متعددة من ليالي رمضان، جعلني الله وإياكم من عتقاء الله من النار.
المغفرة في آخر ليلة من رمضان
وكذلك فإن من فضل هذه العشر أن آخر ليلةٍ منها يغفر الله فيها لعباده الصائمين، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يغفر لعباده الصائمين في آخر ليلةٍ من ليالي رمضان، قالوا: يا رسول الله! أو ليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُعطى أجرته عند نهاية عمله)؛ فلذلك ينبغي أن نتعرض في هذه الليالي للنفحات الربانية.
فضل الصيام والقيام في رمضان
فهذا الشهر ثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه).
تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان في رمضان
وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل رمضان صُفدت الشياطين)، وفي رواية: (صُفدت مردة الشياطين، وفُتحت أبواب الجنة)، وفي رواية: (فُتحت أبواب السماء)، وفي رواية أخرى: (فُتحت أبواب الرحمة وأغلقت أبواب النار، وقيل: يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر)؛ فلذلك ينبغي أن نعلم أن فتح الله سبحانه وتعالى لأبواب الجنة ولأبواب السماء ولأبواب الرحمة يقتضي أن العمل في هذا الشهر يُتقبل منه ما لا يتقبل في غيره، فأهل الإيمان يحرصون على أن يوفقوا للطاعات في كل وقت، ويحرصون كذلك على قبول الطاعات بعد صدورها، فكثير من الأعمال تُرد على أصحابها ولا يتقبلها الله منهم، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
لكن أكثر فرصة لقبول العمل هي هذه الفرصة؛ لأنه ذكر أن أبواب النار تُغلق، وأن مردة الشياطين تُصفد، وأن أبواب الجنة تُفتح، وأن أبواب الرحمة تُفتح، وأن أبوب السماء تُفتح، فهذا دليل على أن هذا أرجى وقتٍ لقبول الأعمال، فقلما يُرد عمل عبدٍ مؤمن في هذه الأيام، أما في غير ذلك فلا يكون الحال كهذا الحال الذي شرف الله به هذه الفترة.
إعانة الله على الطاعة في رمضان دون غيره من الشهور
وكذلك فإن من مزيتها أن الإنسان معان على نفسه، فهو في غير رمضان بين خمس جبهات:
بين جبهة الشيطان الذي قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6].
وجبهة النفس التي قال الله فيها: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي[يوسف:53].
وجبهة الأهل والأولاد الذين قال الله فيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن:14].
وجبهة إخوان السوء الذين قال الله فيهم: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، وقال فيهم: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29].
وجبهة حظوظ النفس التي تدعو الإنسان للانتصار لنفسه والتطفيف في حقوق الآخرين، وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: "ويُقال لكل شيءٍ وفاء وتطفيف".
وكذلك مفاتن هذه الدنيا وشهواتها، وقد حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت ثم رتعت).
وإن الإنسان الآن في هذا الشهر لا يُفتح عليه من هذه الجبهات إلا ثلاث فقط، تُفتح عليه جبهة النفس، ولكنه يُعان عليها بالصبر الذي هو مفتاح الفرج، بالصيام الذي هو مفتاح الصبر، والصبر كما تعلمون ثلاث شعب:
الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره.
فمن صبر عن معصية الله فإن ذلك مفتاح الفرج فالصبر مفتاح الفرج، والصيام مفتاح الصبر؛ لأن الإنسان به يتعود على الصبر عن ما تشتهيه نفسه من المباحات فيعينه ذلك على الصبر عن المحرمات.
وكذلك فإن الجبهة الثانية هي جبهة الأهل والأولاد، ولكن الله أعان على هذه الجبهة بالصيام أيضاً، فإن الصيام يقتضي من الإنسان نقص مخالطة الأهل؛ ولذلك كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لا يجلسون في بيوتهم في نهار رمضان، ويتركون أهاليهم ويستقرون في مساجد الله، أو في الثغور في الجهاد في سبيل الله؛ لأن ذلك معين لهم أيضاً بإغلاق هذه الجبهة.
الجبهة الثالثة: إخوان السوء، وهؤلاء هم الذين يأمرون الإنسان بالمنكر وينهونه عن المعروف، وهم كُثر، لكن الله يعين عليهم في رمضان بأن شياطينهم مصفدة، فيبقى عمل شياطين الإنس فقط وهو أهون في كثيرٍ من الأحيان من عمل شياطين الجن، إلا أن بعض شياطين الإنس -نسأل الله السلامة والعافية- يتبحر في الشيطنة حتى يفوق بعض شياطين الجن، لكن مردة الشياطين من الجن مصفدون، وكذلك فإن مفاتن هذه الدنيا قد أغلقت عليه الأبواب بالصيام؛ ولهذا بين الله حكمة الصيام بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]، (لعلكم تتقون) هذه هي الحكمة التي من أجلها شرع الله الصيام، أن نتقي الله، فهو مدرسة للتقوى، يتعود الإنسان على ترك شرب الماء وهو بحاجة إليه، وعلى ترك كل ما تشتهيه النفوس من ما يخالف الصيام، فيتعود بذلك على اجتناب ما حرم الله عليه في غير الصيام، ويكون قادراً على الانتصار على نفسه في كل الأوقات.
الحرص على حسن الخاتمة بالطاعة
إن هذه العشر التي نحن فيها هي بقية العمر والفرصة النادرة، فمن يضمن أن يعود إلى رمضان القادم؟
فيا رُب صائمه لن يصومه ويا رُب قائمه لن يقومه
ولتعلموا أن كثيراً من الصالحين قالوا: إن اشتراط الخواتيم في الأعمال الصالحة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأعمار بالخواتيم)، وقال: (اللهم اجعل خير عمري آخره)، إن كون الخاتمة هي المهمة في عمر الإنسان كله يقتضي المحافظة على كل وقتٍ يخلف وقتاً آخر؛ لأن كل وقتٍ مررت به في حياتك كان خاتمةً في الاحتمال؛ لأنك يمكن أن تموت فيه، فإذا جاء وقت بعده ينبغي أن تحافظ عليه أكثر من السابق؛ ولذلك جاء في الأثر عن الحسن البصري رحمه الله: "إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره". وما منا أحد إلا وهو يعلم ما فرط فيه في جنب الله، وما مضى من عمره لا يحب أن تعرض عليه الصحائف وهو فيه، ويتأذى بها، فإذا أتيحت له هذه الفرصة، وعلم أنه الآن ما زال أمامه وقت للتوبة، ووقت للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وإحسان العلاقة به، فليحافظ على هذا قبل فوات الأوان.
يقول أحد الحكماء:
بقية العمر عندي ما لها ثمنٌ ولو غدا غير محبوب من الزمنِ
يستدرك المرء فيه كل فائتةٍ من الزمان ويمحو السوء بالحسنِ
إن هذه العشر نعمة تفضل الله بها علينا، ولم يروَ أنها كانت للأمم السابقة، مثل ليلة القدر فهي نعمة خص الله بها هذه الأمة لزيادة أعمارهم بها.
فضل ليالي العشر الأواخر من رمضان
وكذلك فإن هذه العشر لياليها هي أفضل ليالي السنة بالإجماع، ولله تعالى عشران: العشر الأواخر من رمضان، وعشر ذو الحجة عشر مفضلات، لكن عشر ذي الحجة أيامها أفضل من لياليها، وعشر رمضان الأواخر لياليها أفضل من أيامها، وذلك أن عشر ذي الحجة أيامها فيها يوم عرفة، وعشر رمضان لياليها فيها ليلة القدر؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواترت أنها في العشر الأواخر من رمضان، فالتمسوها لسبعٍ تبقى أو لخمسٍ)، فدل هذا على أن التماس ليلة القدر أرجاه ما كان في هذه العشر الأواخر من رمضان، وقد أوريها رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ( فرأى أنه أصبح يسجد بين ماءٍ وطين، فكان ذلك ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فنزل المطر حتى استنقع الماء في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال ابن عمر : فنظرت إليه فإذا الطين على جبهته بعد صلاة الفجر ).
الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها، كما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها )، وصح عنها رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر دخل معتكفه وشد مئزره وأيقظ أهله وأحيا ليله ).
وهذه أربعة أمور كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميز بها هذه العشر، فالاعتكاف في المسجد والانشغال بالعبادة عن الناس، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلف له حصير في طرف المسجد فيعتكف فيه، وكان الناس يرونه إذا قام في الصلاة؛ لأنه أطول من الحصير، فإذا ركع أو جلس أو سجد احتجب عنهم ولم يروه في حال صلاته، وكان صلى الله عليه وسلم في هذه العشر لا يخرج من المسجد إلا لحاجته كأن يقبل أهله كما كان في بعض الأحيان تزوره بعض أمهات المؤمنين فيقلبها، أي: يوصلها إلى حجرتها.
وكان صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في حديث عائشة هذا يشد مئزره، أي: ينقطع عن مخالطة النساء بالكلية، وذلك للاعتكاف لقول الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ[البقرة:187].
وكذلك فإننا نجزم بنص القرآن أن ليلة القدر في رمضان؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1]، ويقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185]، فبالجمع بين هاتين الآيتين يتعين أن ليلة القدر في رمضان، وإذا كان الأمر كذلك فإن هذه الليلة وحدها يزداد فيها عمرك بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر على أقل تقدير؛ لأن الله تعالى يقول: خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ[القدر:3]، و(خير) أفعل تفضيل معناه: أخير من ألف شهر، وهذه الخيرية غير محدودة؛ لأن الله يضاعف لمن يشاء، فبعض الناس على أقل تقدير تزيد عمره هذه الليلة بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وبعضهم يمكن أن يضاعف الله له عمره إلى عمر الدنيا بكاملها، فإذا وفق لقيام ليلة القدر وحدها عُد كأنه عاش آلاف السنين؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.
ومع ذلك ( فإن لله تعالى عتقاء من النار في كل ليلةٍ من ليالي رمضان )، يعتق الله تعالى رقاباً من النار يحرم عليهم النار، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في كل ليلةٍ من ليالي رمضان، فمن مستعجلٍ ومن متأخر، فمنهم من يُعتق في أول الشهر، ومنهم من يتكرر له العتق، فيُعتق في ليالي متعددة من ليالي رمضان، جعلني الله وإياكم من عتقاء الله من النار.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |