ذكر الله تعالى


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فالذكر قد أمر الله به في كتابه، وبالإكثار منه في عدد كثير من الآيات، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].

وقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

وقال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].

وقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الله، فذكر سبب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال للذي طلب ذلك: ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ).

والذكر في اللغة خلاف النسيان؛ ولهذا قال أهل العلم: كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاك، فالذكر ضد النسيان، ومن تقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأية طاعة فهو ذاكر له غير غافل عنه في ذلك الوقت.

الذكر أقسام، أكملها وأعظمها كما قال سهل بن عبد الله التستري : ذكر الله عند أمره ونهيه، يعني: أن يتذكر الإنسان أمر الله ونهيه، فإذا أراد أن يطبق الأمر كان ذاكراً لله، متقرباً به إلى الله عز وجل، مخلصاً فيه، غير مراء ولا مسمع، وكان حاضر القلب عند أدائه للعبادة والنسك، وفي وقت النهي كذلك في وقت إقلاعه واجتنابه لما نهى الله عنه يكون متذكراً لعظمة الله وجلاله ليكون ذلك راجعاً له زاجراً له على اقتراف ما نهى الله عنه، وهذا الذكر هو الاستجابة للموعظة، فقد قال الله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].

فالله سبحانه وتعالى يعظ عباده بالأوامر والنواهي، فمن استجاب للأوامر وانزجر عن النواهي فهو متعظ بموعظة الله سبحانه وتعالى منتفع بها، ومن ليس كذلك لم ينتفع بتلك الموعظة ولم يقبل هدي الله سبحانه وتعالى الذي وجه إليه، وكذلك منه ذكر اللسان والقلب وأفضله ما جمع بينهما، أن يكون الإنسان ذاكراً بلسانه حاضراً بقلبه، فاللسان يتلفظ بالثناء على الله وبذكره، والأذن عند النطق تسمع ما ينطق به الإنسان فتنقله إلى القلب، والقلب يحضره ويخشع له، فهذا هو أكمل الذكر؛ لأن الجوارح الثلاث مشتغلة به، فاللسان يشكر لقضاء الله على أساس الدافع الذي دفعته إليه عقيدته، والأذن تستمع إلى اللسان فتنقل ما ينطق به بأمانة إلى القلب، والقلب يتأثر به فيحيله إلى الجوارح عملاً وطاعةً وقربةً إلى الله سبحانه وتعالى؛ وبهذا يكون الإنسان مشتغلاً في دورة كاملة في ذكر الله سبحانه وتعالى قلباً ولساناً وأذناً، ثم يفيض الذكر على الجوارح، وإذا فاض الذكر على الجوارح فإنها ستستقيم للطاعة والعبادات كلها، وتكون قابلةً لذلك.

ترويض الإنسان نفسه على الذكر القلبي

ومن هنا احتاج الإنسان إلى رياضة نفسه على الذكر القلبي، فيسهل على الإنسان أن يروض نفسه على ذكر الله باللسان، وهذا سائر دارج على ألسنة الناس، لكن يصعب عليه أن يروض قلبه على الاشتغال بالذكر في وقته؛ ولهذا قال القشيري رحمه الله: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير، فالاستغفار من قلب غافل لاه صاحبه لا يقصد به استغفاراً يشهد الله على أمر ليس في قلبه، فلذلك يحتاج الذاكر إلى أن يرد نفسه إلى معنى الذكر كلما شردت عنه، وبالأخص في حال الذكر المكرر، فالذكر المكرر قد يحضر الإنسان مرةً واحدةً أو مرتين، ثم يغيب ذهنه بعد ذلك وينشغل بالعدد أو بالسبحة أو بغير ذلك، ومن هنا ينتقص أجره نقصاً عظيماً بيناً، فيحتاج إلى رد قلبه إلى معنى ما يقول، وإلى استحضاره، فالله سبحانه وتعالى أثنى على المؤمنين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم عد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، وهذا لا يمكن أن يتم إلا باشتغال القلب الاشتغال الكامل بالله سبحانه وتعالى، أما إذا كان القلب غافلاً عن الله ولو اشتغل اللسان بذكره فإن صاحبه لا يتأثر به هذا التأثر أبداً؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى رياضة قلبه على تدبر ما يقول، وعلى الانتفاع بذكر الله سبحانه وتعالى في وقت الذكر سواءً كان سامعاً له من غيره، أو كان متدبراً له في نفسه، أو حتى بالنظر إلى عجائب خلق الله، فكل الخلائق مسبحة بحمد الله سبحانه وتعالى، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فالسموات السبع والأرضون السبع، والبهائم والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى وتسبح بحمده، وإذا تذكر الإنسان ذلك فلينظر إلى أقرب شيء إليه، فكل شعرة من جسمه أو بشرة أو ذرة من ذراته أو حتى خيط من لباسه هو ساجد لله ذاكر، وعلى الإنسان إذا علم أن ملابسه ذاكرة لله ساجدة له مسبحة بحمده أن يكون منافساً لها في ذلك، وأن يكون -على الأقل- خيراً من ملابسه، فهل يرضى أحد أن تكون ملابسه خيراً منه؟ فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان معنى هذا الذكر، وأن يرد إليه نفسه.

استحضار الذاكر لله أن الله يذكره

ثم بعد ذلك لا بد في رياضة الإنسان على ذكر القلب أن يستحضر أن الله سبحانه وتعالى يذكر الذاكرين، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وهذا الذكر الموعود به لا يكون إلا على أساس الحضور؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الأشكال والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب، فإذا كان الإنسان غافلاً لاهياً وهو يذكر بلسانه، فلا يمكن أن يكون في مقام الذين يذكرهم الله عز وجل من خاصته من خلقه، إنما الذين يستحقون ذلك المقام العالي هم الذين يشتغلون بقلوبهم بذكر الله والإقبال عليه؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولاً ).

سبحان ربنا ما أحلمه وأكرمه، فهو الغني الحميد، لكنه هو الشكور، فيشكر لعباده ما يتقربون به إليه من الأعمال الصالحة التي هو وفقهم إليها، وهو تقبلها منهم، وهو أعانهم عليها، وهو أرشدهم إليها، وهو علمهم إياها، ومع ذلك يشكرها لهم ويتقبلها منهم، فيذكرهم سبحانه وتعالى بحضرة القدس، ويذكرهم في نفسه، فهذا تشريف عظيم، سبحان ربنا ما أكرمه وأحلمه.

أهمية معرفة معنى الذكر لحضور القلب

ثم على الإنسان كذلك في رياضته لنفسه بحضور قلبه عند الذكر أن يذكر بما يعرف معناه، فكثير من الناس يذكر بأذكار لم يتعب نفسه ولم يكلفها يوماً من الأيام أن يبحث في معنى هذا الذكر الذي يقوله، ومن هنا فإن كثيراً من المصلين لا يعرف معنى كثير من أذكار الصلاة، كثير من المصلين لا يعرف معنى (التحيات لله) ولا يعرف معنى (ربنا ولك الحمد) ولا يذكر معنى العطف في: (ربنا ولك الحمد)، وهذه الأمور لا بد من دراستها؛ لأن الإنسان لا يكون متدبراً لها بقلبه ما لم يكن عارفاً بمعناها.

علاقة الدعاء بالذكر

كذلك ذكر الإنسان بقلبه ولسانه داخل في الدعاء، وهو متحمل له بقضاء حوائجه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ). وقد سئل سفيان بن عيينة رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقيل له: لا إله إلا الله ليست دعاءً، فقال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضك الثناء

هذا ثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو تعرض إلى مجده وكرمه، وهو الكريم.

ومن هنا احتاج الإنسان إلى رياضة نفسه على الذكر القلبي، فيسهل على الإنسان أن يروض نفسه على ذكر الله باللسان، وهذا سائر دارج على ألسنة الناس، لكن يصعب عليه أن يروض قلبه على الاشتغال بالذكر في وقته؛ ولهذا قال القشيري رحمه الله: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير، فالاستغفار من قلب غافل لاه صاحبه لا يقصد به استغفاراً يشهد الله على أمر ليس في قلبه، فلذلك يحتاج الذاكر إلى أن يرد نفسه إلى معنى الذكر كلما شردت عنه، وبالأخص في حال الذكر المكرر، فالذكر المكرر قد يحضر الإنسان مرةً واحدةً أو مرتين، ثم يغيب ذهنه بعد ذلك وينشغل بالعدد أو بالسبحة أو بغير ذلك، ومن هنا ينتقص أجره نقصاً عظيماً بيناً، فيحتاج إلى رد قلبه إلى معنى ما يقول، وإلى استحضاره، فالله سبحانه وتعالى أثنى على المؤمنين بأنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، والنبي صلى الله عليه وسلم عد في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، وهذا لا يمكن أن يتم إلا باشتغال القلب الاشتغال الكامل بالله سبحانه وتعالى، أما إذا كان القلب غافلاً عن الله ولو اشتغل اللسان بذكره فإن صاحبه لا يتأثر به هذا التأثر أبداً؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى رياضة قلبه على تدبر ما يقول، وعلى الانتفاع بذكر الله سبحانه وتعالى في وقت الذكر سواءً كان سامعاً له من غيره، أو كان متدبراً له في نفسه، أو حتى بالنظر إلى عجائب خلق الله، فكل الخلائق مسبحة بحمد الله سبحانه وتعالى، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فالسموات السبع والأرضون السبع، والبهائم والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى وتسبح بحمده، وإذا تذكر الإنسان ذلك فلينظر إلى أقرب شيء إليه، فكل شعرة من جسمه أو بشرة أو ذرة من ذراته أو حتى خيط من لباسه هو ساجد لله ذاكر، وعلى الإنسان إذا علم أن ملابسه ذاكرة لله ساجدة له مسبحة بحمده أن يكون منافساً لها في ذلك، وأن يكون -على الأقل- خيراً من ملابسه، فهل يرضى أحد أن تكون ملابسه خيراً منه؟ فلذلك لا بد أن يستشعر الإنسان معنى هذا الذكر، وأن يرد إليه نفسه.

ثم بعد ذلك لا بد في رياضة الإنسان على ذكر القلب أن يستحضر أن الله سبحانه وتعالى يذكر الذاكرين، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وهذا الذكر الموعود به لا يكون إلا على أساس الحضور؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الأشكال والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب، فإذا كان الإنسان غافلاً لاهياً وهو يذكر بلسانه، فلا يمكن أن يكون في مقام الذين يذكرهم الله عز وجل من خاصته من خلقه، إنما الذين يستحقون ذلك المقام العالي هم الذين يشتغلون بقلوبهم بذكر الله والإقبال عليه؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولاً ).

سبحان ربنا ما أحلمه وأكرمه، فهو الغني الحميد، لكنه هو الشكور، فيشكر لعباده ما يتقربون به إليه من الأعمال الصالحة التي هو وفقهم إليها، وهو تقبلها منهم، وهو أعانهم عليها، وهو أرشدهم إليها، وهو علمهم إياها، ومع ذلك يشكرها لهم ويتقبلها منهم، فيذكرهم سبحانه وتعالى بحضرة القدس، ويذكرهم في نفسه، فهذا تشريف عظيم، سبحان ربنا ما أكرمه وأحلمه.

ثم على الإنسان كذلك في رياضته لنفسه بحضور قلبه عند الذكر أن يذكر بما يعرف معناه، فكثير من الناس يذكر بأذكار لم يتعب نفسه ولم يكلفها يوماً من الأيام أن يبحث في معنى هذا الذكر الذي يقوله، ومن هنا فإن كثيراً من المصلين لا يعرف معنى كثير من أذكار الصلاة، كثير من المصلين لا يعرف معنى (التحيات لله) ولا يعرف معنى (ربنا ولك الحمد) ولا يذكر معنى العطف في: (ربنا ولك الحمد)، وهذه الأمور لا بد من دراستها؛ لأن الإنسان لا يكون متدبراً لها بقلبه ما لم يكن عارفاً بمعناها.

كذلك ذكر الإنسان بقلبه ولسانه داخل في الدعاء، وهو متحمل له بقضاء حوائجه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ). وقد سئل سفيان بن عيينة رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقيل له: لا إله إلا الله ليست دعاءً، فقال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضك الثناء

هذا ثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو تعرض إلى مجده وكرمه، وهو الكريم.

ثم بعد ذلك لا بد أن يتذكر الإنسان أن الله سبحانه وتعالى خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بخصائص متعلقة بالذكر، فهذا الذكر نوعه الله سبحانه وتعالى ولم يجعله على وتيرة واحدة، ونوع أوقاته وفاضل بينها.

فوقت السجود نهينا فيه أن نقرأ القرآن، ووقت الركوع كذلك، فنهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما شرع لنا الله من التسبيح في الركوع والسجود، وما شرع لنا من الدعاء في ذلك، ومثل ذلك أذكار ما بعد الصلاة، فقد حددها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لأصحابه: أنهم إذا فعلوا لا يكون أحد خيراً منهم إلا من فعل مثلما فعلوا أو من زاد.

الأذكار الواردة في الصباح والمساء

وكذلك بين فضل بعض الأذكار بخصوصها كأذكار الصباح والمساء، والنوم والاستيقاظ، وهذه الأذكار توقيفية، أي: بين النبي صلى الله عليه وسلم الأجر المترتب على بعضها، وهذا الأجر لا يمكن أن يؤخذ بالقياس ولا بالاجتهاد، بل المرجع فيه إلى الوحي، ومن هنا فلا يعدل عنه لأنه لا يمكن أن يقوم غيره مقامه، فمثلاً: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في الصباح والمساء، بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب عليها من الوعد العظيم والأجر الكثير الذي لا يمكن أن يقاس غيرها مقاسها، أو أن يقبل عليها فيه؛ لأن هذا مما لا يعرف إلا بالوحي، ومثل ذلك سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ). وكذلك ( من قالها مائة مرة في اليوم والليلة، أو في الصباح ثم في المساء لم يأت أحد بمثل ما جاء به إلا من زاد ).

ومثل ذلك أذكار أخرى حددها النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأجر العظيم فيها، فهذه الأذكار لخصوصها اختيرت اختياراً ربانياً لهذا الوقت بخصوصه، وما مثالها إلا ركعات الصلاة، فقد حدد الله لنا عند طلوع الفجر هاتين الركعتين لصلاة الصبح، وعند زوال الشمس الركعات الأربع لصلاة الظهر، وعند دلوكها أربعاً للعصر، وعند غروبها ثلاثاً للمغرب، وعند غروب شفقها أربعاً للعشاء، فهذا التحديد لا يمكن أن نبلغه نحن بعقولنا، وإنما يقتصر فيه على ما بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكذلك هذه الأذكار المخصوصة التي جاء عليها وعد بخصوصها لا يمكن أن يدرك ذلك بالعقل وإنما يرجع فيه إلى النص.

ثم بعد هذا الأوقات التي حض الله على الذكر فيها فهي أوقات فاضلة مخصوصة، والذكر فيها لا يعدل بغيره، وهذه الأوقات منها: الصباح والمساء، وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، فالصباح والمساء وقتان عظيمان من أوقات الذكر يغفل عنهما الغافلون؛ ولذلك يتنافس فيهم المتنافسون في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يذكرونه فيهما من أنواع الذكر وذلك تقرب إليه، وانتساب إلى جنابه العالي، ومنافسة لعباده الذاكرين في ذلك الوقت، وبراءة من كل ما يذكر من دونه، فعباد الطواغيت يعبدونها من دون الله في هذه الأوقات، والذين يسجدون للشمس يسجدون لها عند طلوعها وعند غروبها، وهذه الأوقات خصها الله بفضيلة الذكر فيها.

الذكر في أدبار الصلوات

ومثل ذلك ما كان في أدبار الصلوات، ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).

وكذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه من الأذكار في أدبارها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد السلام من كل صلاة مكتوبة: ( أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، وكان يقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، ( لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة والفضل وله الثناء الحسن )، ( لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ).

وكذلك كان يقول بعد صلاة الصبح وصلاة المغرب وهو جاث على ركبتيه قبل أن يتكلم: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات ).

وقد أخرج النسائي كذلك في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يحل بينه وبين الجنة إلا الموت ) وذلك ذكر لله؛ لأن آية الكرسي فيها ثناء على الله وتمجيد له بأوصافه، وهي أعظم آية في كتاب الله.

فهذه الأوقات المخصوصة ميزها الله سبحانه وتعالى عن غيرها بفضل الذكر فيها.

الذكر في الثلث الأخير من الليل

ومنها الثلث الأخير من الليل الذي هو وقت النزول، فإن الله سبحانه وتعالى يحض على دعائه في ذلك الوقت، ( ينزل إلى سماء الدنيا، فلا يزال يقول: ألا من يدعوني فأستجيب له؟ ألا من يسألني فأعطيه؟ ألا من يستغفر لي فأغفر له؟ )، فهذا الوقت وقت استجابة لا محالة؛ ولذلك قال أهل التفسير في وعد يعقوب عليه السلام لأبنائه بالاستغفار لهم: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:97-98]، وعدهم بالتسويف ينتظر هذا الوقت الذي هو وقت النزول وقت الاستجابة، فأخر الدعاء لأولاده إلى هذا الوقت؛ لأنه مظنة الاستجابة.

أوقات أخرى للذكر

ومثل ذلك الأوقات الأخرى التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الذكر فيها، فمنها الذكر عند الصف، أي: عند التقاء الصفين، عند التحام المعركة بين المسلمين والكفار، فهذا الوقت من أوقات الذكر الفاضلة، ولا تكاد ترد فيه دعوة للمؤمن، ومثل ذلك الذكر عند سماع صوت الرعد، وكذلك عند أصوات الديكة فإنها ترى الملائكة، وكذلك عند حضور الإنسان للمصائب، وعند حصول الزلازل والآيات، فهذا وقت فاضل للذكر قد شرع الله الذكر فيه.

الذكر في الخلوات

كذلك لا بد أن يتعود الإنسان على أن يكون له من الذكر في أوقات خلواته ما يشغل به ذلك الوقت، فإذا خلا الإنسان بنفسه فهذا وقت لأن يذكر الله خالياً، وعليه أن يدرب نفسه على التأثر بذلك الذكر حتى تفيض عيناه حتى يدخل في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

التأثر بالذكر

وعليه كذلك أن يحاول أن يكون من الذين إذا سمعوا الذكر من غيرهم تأثروا له، فليس الذاكر لله بالذي يتأثر بذكر نفسه فقط، بل الذي إذا سمع الذكر تأثر به أيضاً، فالذين إذا سمعوا ذكر الله عز وجل هيجهم إلى محبته وذكره ودعائه، هؤلاء من الذاكرين الله؛ ولذلك شرع رفع الصوت بالذكر في بعض المواضع ليكون ذلك تنبيهاً للغافلين وتعليماً للجاهلين، وقد شرع الله عز وجل رفع الصوت بالتلبية ليكون ذلك تذكيراً للغافل وتعليماً للجاهل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن أفضل أعمال الحج: الثج والعج )، فالثج: إراقة الدماء بالنحر، والعج: رفع الصوت بالتلبية والذكر، وبين كذلك أن الأنبياء السابقين كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية، ففي حديث جابر في حجة الوداع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقبل فج الروحاء رأى وادياً فسأل: ما اسم هذا الوادي؟ فقيل: الأزرق، فقال: لكأني بـموسى بن عمران يقطع بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية، ولما مر بثنية قال: ما اسم هذه الثنية؟ فقيل: هرش، فقال: لكأني بـيونس بن متى على ناقة له حمراء يقطع هذه الثنية له عجيج بالتلبية ).

الذكر في السفر وعند الصعود والهبوط

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يبين لأصحابه إذا كانوا في سفر أن يذكروا الله سبحانه وتعالى، فإذا هبطوا الأودية سبحوا، وإذا ارتفعوا على التلال والجبال كبروا، وكان يوصيهم بذلك فيقول: ( أوصيكم بتقوى الله، والتكبير على كل شرف )، والشرف ما ارتفع من الأرض مطلقاً ومنه قول لبيد :

آتي النبي فلا يقرب مجلسي وأقود للشرف الرفيع حماري

(أقود للشرف الرفيع) يعني: ما ارتفع من الأرض. والتكبير على كل شرف هو من الذكر اللساني والذكر القلبي معاً؛ لأن الإنسان إذا رأى شيئاً مرتفعاً من الأرض أعجبه وعظم في نفسه، فإذا عظم في نفسه شيء مما في الأرض من جبالها وشعابها فليذكر عظمة الله وجلاله؛ وذلك مزيل لاستعظام المخلوق مطلقاً، فاستعظام المخلوق وصف ذميم على الإنسان أن يتخلص منه؛ ولهذا لا بد أن يستحضر الإنسان كلما عظم في نفسه مخلوق عظمة الله وجلاله وكبرياءه، وهذا هو من الذكر القلبي المطلوب.

وكذلك التسبيح في بطون الأودية فهو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، وثناء عليه بالعلو، وأيضاً بالإحاطة والعلم، فإنه سبحانه وتعالى لا يحجز عنه مكان مكاناً، ولا يشغله شأن عن شأن، محيط بالخلائق جميعاً، علمه قد أحاط بكل شيء، ولذلك قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].

فلا بد من استحضار ذلك إذا رأى الإنسان شيئاً من عجائب خلق الله، ومثل ذلك كل موعظة يراها الإنسان من عجائب الكون فهي مقتضية منه لتمجيد الله سبحانه والثناء عليه.

وإذا رأى الإنسان إبداعاً من خلق الله سبحانه وتعالى فذلك مقتض منه للذكر في تلك اللحظة حين رأى بديع صنعة الله في الكون، فعليه أن يشكره وأن يذكره بما هو أهله من الثناء، فهو أهل الثناء والمجد.

التشبه بالملائكة الكرام الذاكرين لله

كذلك فإن هذا الذكر مقتض من الإنسان للتشبه بالملائكة الكرام، فالله سبحانه وتعالى عندما أمرنا به في سورة الأعراف فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، ذكر حال الملائكة فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ [الأعراف:206]، فبين هنا أن الملائكة يشغلون أوقاتهم كلها بذكر الله عز وجل؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، فهذه السماء ذات السعة العظيمة ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع