دور العلماء في الإصلاح


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أسباب العلم التي أعطاها الله للإنسان

فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لعباده الخيرة، وقد اختار أن يخلق الإنسان فخرجه من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئاً، ولكنه آتاه أسباب العلم: فخلق له السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه العقل الذي يدرك به محيطه ويفهم به واقعه، ثم بعد ذلك سدده بالوحي الذي هو خارج عنه، يرى به ما قبله وما بعده؛ ولهذا قال الغزالي رحمه الله: (العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج)، ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بهذين الموجهين العظيمين، أحدهما: داخلي: وهو من عند الله، لا يناله الإنسان إلا بقدرة الله وإلهامه، وهو العقل، والثاني: تسديد خارجي، خارج عن طوق الإنسان لا يستطيع الوصول إليه بوجه من الوجوه، وإنما اختيار الله تعالى، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، وهو هذا الوحي الذي ينير للناس طريق الحق، ويدلهم على مراد الله تعالى منهم، ويبين لهم أخبار الأمم السابقة التي لم يدركوها، ويبين لهم ما يأتي بعدهم من مشاهد القيامة وما دونها من الأمور التي يحتاجون إلى التنوير فيها؛ فكان جماع ذلك جميعاً هو العلم.

تفاوت الناس في العلم

وهذا العلم لم يرد الله تعالى أن يجعله للبشر جميعاً، بل جعلهم متفاوتين فيه متفاضلين، وقد جعلهم الله تعالى على درجات كثيرة، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ[آل عمران:163]، وجعل الأمم تتفاوت فيما آتاها الله منه؛ فقد ذكر الله تعالى أنه أنعم على اليهود بكثير من أنواع العلوم؛ ففصل لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه في التوراة التي كتبها بيمينه لموسى في الألواح، ولكنهم غضب الله عليهم حين تركوا علم الله وأهملوه، وقد ذكر مثالاً من أمثلتهم، وهو قصة الرجل الذي في سورة الأعراف، فهذا الرجل آتاه الله من أنواع العلم الذي آتى بني إسرائيل ما آتاهم، وعلمه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، ولكنه أعرض عن كل ذلك وأخلد إلى الأرض، وطلب الدنيا بما آتاه الله؛ فخسر الدنيا والآخرة معاً؛ فضرب الله له أخس الأمثلة وأقذرها، وهو المثال بالكلب الذي يلهث فيسيل ريقه، إذا زجره الناس لهث، وإذا تركوه لهث؛ فلا خير فيه على كل حال، سواء عرض له مطمع أو هدد كذلك بتخويف.

وضرب الله لهم جميعاً مثلاً آخر هو أيضاً غاية في الإعراض عما حملوا، فقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ[الجمعة:5]؛ فضرب الله المثل لذلك العالم منهم بالكلب، وضرب لهم جميعاً مثلاً بالحمار الذي تحمل عليه الكتب، وهو لا يفقه شيئاً منها؛ فهو في غاية الجهل وفي غاية المذلة والهوان، وجهله بسيط؛ فهو جاهل ولا يمكن أن يدعي أنه عالم؛ فجهله على وفق حاله.

حصول الإعراض عن العلم والعمل به في هذه الأمة

وهذا المثل الذي ضربه الله لهم لا يختص بهم وحدهم، بل هو لكل من أعرض عما علم، وتركه ظهرياً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيحصل أيضاً في هذه الأمة المشرفة المعظمة، وقد ذكر الله ذلك فقال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان:30]، وقد اختلف أهل التفسير في المقصود بهذه الآية: فقالت طائفة منهم: إنما كان ذلك لإعراض أهل الطائف عن دعوته حين عرض القرآن على عبد ياليل بالطائف، فأعرض عنه، وقالت طائفة أخرى: بل يكون هذا في آخر الزمان عندما تعرض هذه الأمة عن التحاكم إلى كتاب الله، فلا يقوم به الناس في الليل، ولا يحكم به الحاكمون في النهار؛ فيكون ذلك سبباً لرفعه؛ فيقف بثنية الوداع مودعاً، وحينئذ يتركه الناس ظهرياً وراء ظهورهم، وهو أشرف ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض.

وقد ذكر الله تعالى أن حال النصارى دون حال اليهود؛ فإنهم ضلوا على جهل؛ فاليهود عندهم العلم ولكنهم تركوه وأهملوه، والنصارى لم يكونوا على علم، وإنما تخبطوا في الجهل والظنون، واكتفوا بأقل ما بقي مما كان لدى الحواريين: أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى: ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]؛ فقال: المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى )، فالمغضوب عليهم هم الذين حل عليهم غضب الله حين آتاهم العلم فأهملوه وتركوه، والضالون هم النصارى الذين عملوا على غير علم، وإنما اتخذوا رهبانية من عند أنفسهم، لم يكتبها الله عليهم، ثم لم يقوموا بحقها ولم يؤدوها على وجهها؛ فكانوا بذلك ضالين عن طريق الحق.

وهذه الأمة ستتبع سنن من قبلها من الأمم؛ كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتتبعن سنن من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً! )، فلا بد أن تتبع هذه الأمة مسالك اليهود والنصارى؛ فيكون منها من يتحملون العلم، ويعرضون عنه ولا يقومون بحقه، ويكون منها من يعرض عنه فلا يتعلمه أصلاً فيعمل على جهل.

فإن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لعباده الخيرة، وقد اختار أن يخلق الإنسان فخرجه من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئاً، ولكنه آتاه أسباب العلم: فخلق له السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه العقل الذي يدرك به محيطه ويفهم به واقعه، ثم بعد ذلك سدده بالوحي الذي هو خارج عنه، يرى به ما قبله وما بعده؛ ولهذا قال الغزالي رحمه الله: (العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج)، ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بهذين الموجهين العظيمين، أحدهما: داخلي: وهو من عند الله، لا يناله الإنسان إلا بقدرة الله وإلهامه، وهو العقل، والثاني: تسديد خارجي، خارج عن طوق الإنسان لا يستطيع الوصول إليه بوجه من الوجوه، وإنما اختيار الله تعالى، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، وهو هذا الوحي الذي ينير للناس طريق الحق، ويدلهم على مراد الله تعالى منهم، ويبين لهم أخبار الأمم السابقة التي لم يدركوها، ويبين لهم ما يأتي بعدهم من مشاهد القيامة وما دونها من الأمور التي يحتاجون إلى التنوير فيها؛ فكان جماع ذلك جميعاً هو العلم.

وهذا العلم لم يرد الله تعالى أن يجعله للبشر جميعاً، بل جعلهم متفاوتين فيه متفاضلين، وقد جعلهم الله تعالى على درجات كثيرة، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ[آل عمران:163]، وجعل الأمم تتفاوت فيما آتاها الله منه؛ فقد ذكر الله تعالى أنه أنعم على اليهود بكثير من أنواع العلوم؛ ففصل لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه في التوراة التي كتبها بيمينه لموسى في الألواح، ولكنهم غضب الله عليهم حين تركوا علم الله وأهملوه، وقد ذكر مثالاً من أمثلتهم، وهو قصة الرجل الذي في سورة الأعراف، فهذا الرجل آتاه الله من أنواع العلم الذي آتى بني إسرائيل ما آتاهم، وعلمه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، ولكنه أعرض عن كل ذلك وأخلد إلى الأرض، وطلب الدنيا بما آتاه الله؛ فخسر الدنيا والآخرة معاً؛ فضرب الله له أخس الأمثلة وأقذرها، وهو المثال بالكلب الذي يلهث فيسيل ريقه، إذا زجره الناس لهث، وإذا تركوه لهث؛ فلا خير فيه على كل حال، سواء عرض له مطمع أو هدد كذلك بتخويف.

وضرب الله لهم جميعاً مثلاً آخر هو أيضاً غاية في الإعراض عما حملوا، فقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ[الجمعة:5]؛ فضرب الله المثل لذلك العالم منهم بالكلب، وضرب لهم جميعاً مثلاً بالحمار الذي تحمل عليه الكتب، وهو لا يفقه شيئاً منها؛ فهو في غاية الجهل وفي غاية المذلة والهوان، وجهله بسيط؛ فهو جاهل ولا يمكن أن يدعي أنه عالم؛ فجهله على وفق حاله.

وهذا المثل الذي ضربه الله لهم لا يختص بهم وحدهم، بل هو لكل من أعرض عما علم، وتركه ظهرياً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا سيحصل أيضاً في هذه الأمة المشرفة المعظمة، وقد ذكر الله ذلك فقال: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[الفرقان:30]، وقد اختلف أهل التفسير في المقصود بهذه الآية: فقالت طائفة منهم: إنما كان ذلك لإعراض أهل الطائف عن دعوته حين عرض القرآن على عبد ياليل بالطائف، فأعرض عنه، وقالت طائفة أخرى: بل يكون هذا في آخر الزمان عندما تعرض هذه الأمة عن التحاكم إلى كتاب الله، فلا يقوم به الناس في الليل، ولا يحكم به الحاكمون في النهار؛ فيكون ذلك سبباً لرفعه؛ فيقف بثنية الوداع مودعاً، وحينئذ يتركه الناس ظهرياً وراء ظهورهم، وهو أشرف ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض.

وقد ذكر الله تعالى أن حال النصارى دون حال اليهود؛ فإنهم ضلوا على جهل؛ فاليهود عندهم العلم ولكنهم تركوه وأهملوه، والنصارى لم يكونوا على علم، وإنما تخبطوا في الجهل والظنون، واكتفوا بأقل ما بقي مما كان لدى الحواريين: أصحاب عيسى بن مريم عليه السلام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى: ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]؛ فقال: المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى )، فالمغضوب عليهم هم الذين حل عليهم غضب الله حين آتاهم العلم فأهملوه وتركوه، والضالون هم النصارى الذين عملوا على غير علم، وإنما اتخذوا رهبانية من عند أنفسهم، لم يكتبها الله عليهم، ثم لم يقوموا بحقها ولم يؤدوها على وجهها؛ فكانوا بذلك ضالين عن طريق الحق.

وهذه الأمة ستتبع سنن من قبلها من الأمم؛ كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتتبعن سنن من قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً! )، فلا بد أن تتبع هذه الأمة مسالك اليهود والنصارى؛ فيكون منها من يتحملون العلم، ويعرضون عنه ولا يقومون بحقه، ويكون منها من يعرض عنه فلا يتعلمه أصلاً فيعمل على جهل.

هذه الأمة فيها الخير أيضاً، وفيها القائمون لله بالحجة، وقد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبعث لهذه الأمة على رأس كل أمة، أي: كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها، و(من) من ألفاظ العموم، وهي تشمل الجمع والتثنية والمفرد، وراجح إطلاقها وتفسيرها هنا أن المقصود بهم: جمع يجددون أمر الدين، ويحييون ما درس منه؛ فيعلمون الناس ويعيدونهم إلى السنة، ويكافحون ما ظهر من البدع؛ فهؤلاء هم المجددون المحيون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثناء الكثير في القرآن والسنة على العلماء

ولقد جاء الثناء الكثير عليهم في القرآن؛ فقد قال الله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، فاستشهدهم على أعظم شهادة، بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، وقد حكم الله لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته؛ فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلام الله؛ فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم ومكانتهم؛ فقد صح عنه في صحيح البخاري من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً؛ فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

منزلة العلماء والوظائف التي يقومون بها

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العلماء في هذه الأمة: فبين أنهم كأنبياء بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما تجدد أمر من أمورهم، وكلما أحدثوا حدثاً بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يجدد لهم أمر دينهم، ويغير ذلك الحدث الذي أحدثوه ويعيدهم إلى المحجة.

وهذا ما لا يمكن أن يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خاتم الأنبياء كما قال الله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40]، وإنما يخلفه ورثته من العلماء، فهم الذين يرثون ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى، ويرثون علمه الذي هو ميراثه؛ فيوزعونه ويحملونه بحقه؛ ولذلك قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، ثلاثة أمور هي مما يتجدد كثيراً في هذه الأمة، وهي من المحذور الذي يغير الشرع ويقضي على السنة، وهذه الأمور الثلاثة هي عدو العلماء، وهي التي يكافحونها ويغيرونها.

معنى قوله: (تحريف الغالين)

قوله: (ينفون عنه تحريف الغالين)، والتحريف هو: وضع النصوص في غير مواضعها؛ فإن كثيراً من الذين ينتسبون للعلم أو يوهمون أنهم ينتسبون إليه يضعون نصوص الوحي في غير مواضعها، كما كان علماء بني إسرائيل يفعلون؛ فيوهمون الناس أن الحلال حرام ببعض النصوص التي لا تتعلق به، ويوهمونهم أن الحرام حلال ببعض النصوص التي لا تتعلق به، ويوهمونهم أن لبعض الأشخاص من الاعتبار في الشرع ما ليس لهم، ويعتمدون على نصوص لا تتعلق بهم؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في قادة زمانه: (إن قياسهم على الخلفاء هو قياس خمر على لبن)، فرد على أولئك العلماء أو المنتسبين إلى العلم الذين يظنون أن لهم من الحق ما كان لـأبي بكر و عمر و عثمان و علي ؛ فهيهات وشتان! والحال مفترق تماماً، فلا يمكن أن تكون أحكام أولئك لهؤلاء، ولا يجمعهم أي جامع مشترك، ولا يمكن أن يجتمعوا في أي جامع مشترك. ومن المعلوم أن القياس أركانه أربعة:

أولها: الأصل المقيس عليه، والثاني: الفرع المقيس المجهول حكمه، والثالث: الحكم الشرعي الذي هو حكم الأصل، والرابع: المعنى الجامع بين الأصل والفرع، وهو العلة التي تجمع بين الطرفين؛ فإذا عدمت العلة فهذا قياس فاسد قطعاً؛ لأن أحد أركانه معدوم، وهذه العلة لا تكون إلا وصفاً جامعاً بين الطرفين، ولينظر الإنسان ما الوصف الجامع مثلاً بين أي شخص من الذين يعرفهم وبين أبي بكر مثلاً؟ ما هو الوصف الجامع الواضح الذي يمكن أن يقاس عليه؟

لذلك كان وضع النصوص في غير مواضعها أول ما يتجه العلماء إليه من الأعداء؛ فيعيدونها إلى نصابها ومواضعها حتى يأخذ القوس باريها، وحتى يعلم الموضع الذي خاطب الله فيه عباده بالحكم، والموضع الذي خاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالحكم.

معنى: (وانتحال المبطلين)

العدو الثاني هو قوله: (وانتحال المبطلين).

كثير هم أولئك الذين يزعمون زيادات في النصوص لم يأذن بها الله، فيضعون الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبون إليه ما لم يقله، وينسبون إلى الشرع ما ليس فيه، وهؤلاء هم المنتحلون المبطلون الوضاعون الكذابون، وهم بلاء في هذه الأمة، وقد انتشر في كل عصورها، وقد قام العلماء الجهابذة بكفاح هؤلاء؛ ولذلك فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من أشهر الوضاعين في الصدر الأول من هذه الامة لما حكم عليه الخليفة العباسي بالقتل وأراد صلبه وقتله قال: لئن قتلتني لقد تركت فيكم أربعمائة حديث، وفي رواية: أربعة آلاف حديث، أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويلك! يعيش لها الجهابذة، أين أنت من عبد الله بن المبارك و عبد الرحمن بن مهدي يبقران عنها حتى يخرجاها، فلما قتله دعا عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن المبارك فسألهما: هل تعرفان محمد بن سعيد ؟ فقالا: نعم، هو كذاب وضاع، فقال: ماذا وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعلا يتذاكران: وضع حديثاً يقول فيه: حدثنا فلان عن فلان بكذا، ووضع حديثاً يقول فيه: حدثنا فلان عن فلان بكذا، والرجال يكتبون حتى حصروا؛ فكان على العدد الذي قاله؛ ولذلك فإن البخاري رحمه الله قال: (والله لو هم رجل بالصين من الليل بوضع حديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس ببغداد يقولون: فلان كذاب وضاع)، فهذا من حفظ الله لشريعته، ومن حفظه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال العراقي في الألفية رحمه الله:

فقيض الله لها نقادها

أي: قيض الله لهذه السنة بعد أن ظهرت تلك الطائفة الوضاعة نقادها.

فأوضحوا ببحثهم فسادها

أي: بينوا فساد تلك الأحاديث الموضوعة التي وضعها أولئك القوم، وبينوا فسادها، وأنها ليست عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى: (وتأويل الجاهلين)

والعدو الثالث هو قوله: (وتأويل الجاهلين).

كثير هم أولئك الذين يفسرون النصوص على غير معناها، ويشرحونها بما لا تقتضيه، ويحملونها على محامل شتى؛ فيفهمون منها ما لا تدل عليه بوجه من الوجوه، وهؤلاء يتوسعون في التأويلات حتى يخرجوا النصوص عن مرادها، وحتى تتضارب فيما بينها؛ فيضربون بعض القرآن ببعض، وبعض السنة ببعض، ويوهمون الناس التعارض بينها، وأنهم يريدون الجمع، وهذا غاية في الضلال والإضلال، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، وهذا القرآن جعله الله متشابهاً كله، أي: يصدق بعضه بعضاً ويفسره، كما قال الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا[الزمر:23]، وقال أهل العلم في التشابه العام معناه: أن بعضه يفسر بعضاً ويصدقه؛ فما من قصة طوي فيها موضع من المواضع إلا نشر في موضع آخر؛ فيصدق بعض القرآن بعضاً ويفسره.

السلاح الذي يدفع به العلماء تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

هذه الوظائف الثلاث لابد أن يقوم بها أهل العلم، وهي مقتضية منهم لثلاثة أوصاف هي العدة قبل الإقدام على هذه:

الوصف الأول هو: الإخلاص لله والصدق، فمن لم يتحل بذلك لا يمكن أن يقف في وجه تحريف الغالين؛ فأهل الغلو والمبالغة لا يمكن أن يقف في وجوههم إلا من كان من أهل الصدق والإخلاص؛ لأنهم الذين يستطيعون الصبر على الأذى، ويستطيعون الإعلان بقول الحق لا يخافون في الله لومة لائم.

والوصف الثاني هو: الحفظ للشرع، فمن لم يكن حافظاً للشرع أمكن أن يزاد عليه في الشرع ما ليس منه؛ ولذلك لابد أن يكون الذي يتصدى لرد ما يزيده الناس ويضيفونه إلى الشرع مما ليس منه حافظاً لنصوص الشرع مطلعاً عليها، وهذا الحفظ أساس للإفتاء وأساس للتوقيع عن رب العالمين، وهو الذي يكون الإنسان به من أمناء الله على وحيه، وقد أخرج أصحاب السنن و أحمد في المسند و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الحاكم في المستدرك بأسانيد صحاح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).

والوصف الثالث هو: الفهم، فمن ليس من أهل الفهم والاستيعاب لا يمكن كذلك أن يرد التأويلات الباطلة، ولا يمكن أن يرد على الاعتراضات والمماحكات التي يأتي بها المتأولون المبطلون، فلابد أن يكون ذو الصدق والإخلاص والحفظ للنصوص من أهل الفهم لها، فالذي يحفظ النصوص ولا يفهمها، والذي يحفظها ويفهمها ولكنه غير صادق وغير مخلص لله تعالى لا يمكن أن يكون من أمناء الله على الوحي؛ فلابد إذاً من تحقيق هذه الصفات الثلاث، وهذه الصفات كل صفة منها تقابل نوعاً من المفسدين في الحديث السابق.

ولقد جاء الثناء الكثير عليهم في القرآن؛ فقد قال الله تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18]، فاستشهدهم على أعظم شهادة، بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، وقد حكم الله لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته؛ فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلام الله؛ فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم ومكانتهم؛ فقد صح عنه في صحيح البخاري من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )، وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً؛ فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به )، وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العلماء في هذه الأمة: فبين أنهم كأنبياء بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما تجدد أمر من أمورهم، وكلما أحدثوا حدثاً بعث الله فيهم نبياً من الأنبياء يجدد لهم أمر دينهم، ويغير ذلك الحدث الذي أحدثوه ويعيدهم إلى المحجة.

وهذا ما لا يمكن أن يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه خاتم الأنبياء كما قال الله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب:40]، وإنما يخلفه ورثته من العلماء، فهم الذين يرثون ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى، ويرثون علمه الذي هو ميراثه؛ فيوزعونه ويحملونه بحقه؛ ولذلك قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا هذا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ). أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، ثلاثة أمور هي مما يتجدد كثيراً في هذه الأمة، وهي من المحذور الذي يغير الشرع ويقضي على السنة، وهذه الأمور الثلاثة هي عدو العلماء، وهي التي يكافحونها ويغيرونها.