الانتكاس


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة الكرام: إنما يعرف قدر خطر العلة بشدة فتكها وكثرة ضحاياها المبتلين بها، فالطاعون -مثلاً- وهو (الكوليرا) من أخطر الأمراض وإن لم تكن أخطرها إطلاقاً؛ لكثرة ضحاياها، وإن الذين يموتون بها ألوف من البشر، وإنما قام العلاج أصلاً على دفع العلة لاستبقاء الإنسان، فإذا مات هذا الإنسان لم يعد للعلاج موضع ولا للنظر فيه محل.

وإن من أخطر الأمراض على الإطلاق لشدة فتكها وكثرة ضحاياها: مرض الانتكاس بشعبتيه:

الشعبة الأولى: الردة عن الدين كليةً،

والشعبة الأخرى: ضعف الالتزام والتقهقر في التمسك بتعاليم الدين.

والارتداد هو أعظم الانتكاس، والنكس: أن ينقلب الشيء على رأسه، وتخيل رجلاً وضع رأسه مكان قدمه، فهو يمشي على رأسه، فأنى يفلح مثل هذا الإنسان وهو منكوس مقلوب، فلم يعد لعقله موضع يسترشد به!!

إن الارتداد عن دين الله تبارك وتعالى أعظم الانتكاسات جميعاً، وضعف التمسك بتعاليم الدين هو المرض الفاشي في عموم المسلمين.

إن الثبات على الأمر هو رأس العلاج كله .. إن الصحابة الأوائل كانوا مستمسكين بهذا الدين، ويرون أن دينهم أولى بالحفاظ من دمائهم ولحومهم.

وقد أخذوا هذا التمسك وعدم التفريط من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث الحديبية -وهو حديث عظيم اشتمل على حكم باهرة ويحتاج أن يذكر به المسلمون دائماً- لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر هو وأصحابه وصدتهم قريش عن البيت، وحصلت المفاوضات، جاء بديل بن ورقاء مندوباً عن قريش يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام كلاماً فصلاً واضحاً، قال: (إنا لم نجئ لقتال)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأوفياء، لا يغدر ولا يعرف الغدر أبداً، قال: (ما جئنا لقتال، إنما جئنا آمّين البيت، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة)، وإنما قال هذا وهو واثق من أصحابه، إن قريشاً برغم كثرة عددها وعدتها وأموالها قد أنهكتهم الحرب، والذي أنهكهم هم هؤلاء الذين قال فيهم عروة بن مسعود : ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، لقد كانوا قلة، فقراء، جوعى.. ومع ذلك أدبوا قريشاً، ونحن على استعداد أن ندخل مع قريش في جولات وجولات إذا صدونا عن البيت. (إن قريشاً قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فقد جموا -أي: تعبوا- وليس لهم بنا طاقة، فإن أظهر -أي: يظهر أمري- فإن شاءوا دخلوا مع الناس، وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على هذا الأمر حتى تنفرج سالفتي)، والسالفة: صفحة العنق، أي: سأقاتلهم حتى لو بقيت وحدي ولا أدع هذا الأمر.

هذا هو الثبات الذي ورثه أصحابه منه، ففي نفس الحديث لما جاء سهيل بن عمرو وأراد أن يكتب مع النبي صلى الله عليه وسلم صيغة الكتاب، كان من جملة ما كتب: وإذا جاءك رجل منا وإن كان على دينك رددته إلينا، وإن جاءنا رجل منكم ترك دينه لا نرده إليك، فصاح الصحابة وقالوا: سبحان الله! كيف يأتينا مسلم فنرده؟! فلم يكد يكتب هذا الشرط حتى جاء أبو جندل ، وهو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الكتاب مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد أسلم، فعذبه أبوه عذاباً شديداً في الله، ولم يترك دينه، ولم ينكث على عقبيه، ولم يتخلَّ عن دينه، فقيده بالحديد ورماه في سجن، فاستطاع أبو جندل أن يفك بعض قيوده، ولكنه لم يستطع أن يفك الحديد كله، وجاء من أسفل مكة إلى الحديبية -وهي مسافة بعيدة- يجر أغلاله وقيوده، حتى جاء فألقى نفسه بين أيدي المسلمين، وكان قد عُذب في الله عذباً شديداً، فعندما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل قال: يا محمد! هذا أول ما أقاضيك به، أي: نحن لازلنا نتكلم: إذا جاءك رجل منا وكان على دينك ترده إلينا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لم نفض الكتاب بعد -أي: ما كتبناه- قال: لا. قال: فأجده لي -أي: اتركه لي نستثنيه من الكتاب- قال: لا أفعل، إذاً: لا نكتب كتاباً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع).

فحينئذٍ صاح المسلمون وقالوا: سبحان الله! يأتينا مسلماً ونرده إلى الكافرين! وانبرى عمر وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، ولم يقتنع عمر بهذا، فحار، وهذا موقف يدع الحليم حيران.

وفي الصحيح أيضاً من حديث سهل بن سعد أنه قال للناس يوم صفين في قتال علي بن أبي طالب : (أيها الناس! اتهموا رأيكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفعلت)؛ لأنه قال له: ارجع.

ضع نفسك مكان الصحابة: رجل جاء من أسفل مكة يجر قيوده مسلماً، وقد عذب العذاب الأليم في الله فلم يترك، بل دفعه قلبه وهمته العالية أن يتخلص من بعض أغلاله ويمشي هذه المسافة الطويلة يجرها، إن الإسلام تغلغل حتى مس شغاف قلبه؛ فرأى أن هذا الدين لا يباع، وأنها ساعة بعدها يحط المسلم رحله في الجنة وينسى بؤسه قط، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الأرض فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط).

لو كنت مكان هؤلاء الصحابة ولم يعصمك الله عز وجل بالإيمان، لرغبت أن ترد كلام النبي صلى الله عليه، فقد راجع عمر النبي عليه الصلاة والسلام وكان الجواب واضحاً: (أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري)، فذهب عمر إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر ! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له: هو رسول الله، وليس يعصيه، وهو ناصره فالزم غرزه)، أي: لا تبرح كلامه قيد أنملة، وأُمر أبو جندل بأن يرجع.

ثم فر رجل آخر يقال له أبو بصير ، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت قريش رجلين وراءه، فلما وصل أبو بصير -وكان قد عذب أيضاً- إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا بالرجلين على إثره، فقالوا: يا محمد! العهد الذي بيننا، يريدون أن يرجع معهم، فقال: كيف ترجعوني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع)، فرجع أبو بصير ، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا يأكلون التمر وأبو بصير معهم، وكان مع أحدهما سيف، فجعل يتحدث عن سيفه، وأن هذا السيف جديد، وأنه قتل به كثير من الناس، وأخرج السيف من غمده يلمع مصقولاً، فقال له أبو بصير : ما أجود سيفك! هذا سيف جيد فعلاً، أرينيه! فأمكنه الرجل منه، فضرب عنقه، وفر الآخر راجعاً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، فقال أبو بصير : (يا رسول الله! قد وفى الله ذمتك، قلت لي: أرجع فرجعت، ولكن خلصني الله منهم)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فلحق أبو بصير بسيف البحر. أي: ذهب إلى شاطئ البحر هو وأبو جندل ، وكان كل رجل من المسلمين يسلم من قريش يلحق بهم؛ حتى أصبحوا عصابة على شاطئ البحر، فلا يسمعون بعير لقريش إلا هاجموهم وقتلوهم وأخذوا العير.

فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أنه إذا خرج رجل مسلم من قريش فلا يرده؛ حتى يجنبوا قريشاً هذه الهلكة، وأنزل الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24].

إننا نحتاج إلى هذه الدروس كي نثبت على دين الله عز وجل.

من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد

إن من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد، وإن الذي لا يحقق هذا الدين يضعف أمام الضغط المتواصل للمجتمع الفاسد، سواء كان الضغط من قبل الحكومات أو من قبل الأسر، والصحابة رضي الله عنهم في مسألة الإيمان والاعتقاد لم يكونوا يقيمون لأهليهم وزناً.

فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان من أبر الناس بأمه، بل كان يضرب به المثل في البر بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟! لا آكل ولا أشرب حتى ترجع عن دينك فأموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمك! وفعلاً امتنعت من الأكل يومين أو ثلاثة، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فغروا فمها بالعصا حتى تأكل، فقال لها سعد كلاماً واضحاً، معناه: (يا أماه! والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، كلي أو دعي)، فلما لم تجد مناصاً أكلت.

وكثير من الأهل يقاومون أولادهم مقاومة شديدة .. إذا أعفى الولد لحيته يحلف على أمه بالطلاق أو يطرده من البيت، وأنا أقول لك: اخرج من البيت، فهذه هجرة واجبة لا تنقطع إلى يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، قال ابن جرير الطبري : ومعنى الآية: يا عبادي الذين آمنوا اعبدوني ولا تتركوا عبادتي، واخرجوا عمن منعكم مني، وقال: ويدل عليه قوله: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] أمر بتحقيق العبادة.

إن خروجك من البيت هجرة لا تفرط فيها، وإن الأرض إذا ضاق منها موضع ففي الآخر متسع، ولا عذر له: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول

فالأرض واسعة، والمهم هو تحقيق عبودية الله عز وجل، ولا تنكث على عقبيك ولا تفرط، وافعل كما فعل الصحابة الأوائل فقد كانوا ثابتين على الحق المبين.

أنموذج للمنتكسين الذين خالفوا تقاليد مجتمعهم

لقد رأينا الذين دعوا إلى تحرير المرأة، أمثال هدى شعراوي ، ودرية شفيق ، وأمينة سعيد ، وكل هؤلاء خالفوا المجتمع، وكان المجتمع يومئذٍ عليهم، ليس لأن المجتمع كان ملتزماً، ولكن لمخالفة العادات والتقاليد، فـهدى شعراوي لما ذهبت إلى باريس وانحلت من العادات والتقاليد التي كان المجتمع متحلياً بها، وكان من ضمن تلك العادات آنذاك النقاب، وهو البرقع الذي تستر به المرأة وجهها، ولا زالت هذه العادات موجودة في بعض البلاد العربية، أن المرأة لا يراها أحد من أهل بلدها، فإذا ذهبت إلى لندن أو واشنطن أو باريس خلعت نقابها؛ لأنه عيب أن تُرى المرأة متنقبة في غير بلدها، لاسيما إذا كانت امرأة أمير، فلا تُرى أبداً في بلدها ولكن تتعرى في الخارج، فالمسألة مسألة عادات وليست مسألة التزام.

فهذه المرأة عندما ذهبت إلى باريس وأثناء عودتها ذهب أبوها -وكان من الأثرياء- ومجموعة من الأثرياء ليستقبلوها وهي راجعة في السفينة، فإذا بالمرأة تنزل من السفينة سافرة الوجه، مكشوفة الشعر .. لقد ذهبت متنقبة ورجعت سافرة، فعندما رآها أبوها غضب ولم يتحمل هذا الموقف وانصرف وتركها، وكان المجتمع كله ضد هؤلاء، حتى إن واحدة ممن سميتهن أدلت بحديث وهي مفتخرة، أنها أول بنت لبست (شورتاً) في الجامعة! قالت: فاجتمع كل من في الجامعة ينظرون إليَّ، فقد كانت مسألة غريبة وعجيبة!!

ورغم ذلك صبرن هؤلاء النساء على هذا بدعوى تحرير المرأة، وتحقيق مكاسب، وهي في الشرع آثام وليست مكاسب: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، هذه آثام مركبة على صاحبها، جنى سيئة لم يعملها بيديه، فصبرن هؤلاء النسوة، وكن طلائع هذا السفور المزري الموجود في بلاد المسلمين، أفلا يكون في مقابل هؤلاء نساء صالحات يدعون النساء إلى الرجوع إلى البيت مرة أخرى، ويفدين هذا المبدأ بأنفسهن، ويكن طلائع هذا الفتح، لاسيما والشرع وكلام الله ورسوله يعطيهن من القوة ما لا يمكن أن تحرزه امرأة من هؤلاء اللواتي دعون إلى التبرج؟!

ثم البائعون أصاحب المحلات، ألا يكون منهم من يكتب في وقت الصلوات (مغلق للصلاة) ويغلق الباب، ويأمر الذين يعملون معه أن يذهبوا إلى المسجد؛ لعله يفتتح هذه السنة على كل المحلات التي حوله! من الذي يفتتح مثل هذا ويجعله حسبة لله عز وجل، ويعلم أن الرزق لن يفوته على الإطلاق، وأن ما قدره الله كائن له لا محالة؟! من الذي يفتتح مثل هذا الباب ويفعله، ويكون على ثقة أن الله لن يضيعه، وأن رزقه لن ينقص ريالاً واحداً؟!

إن الثبات على المبدأ لا يكون إلا بعد أن تعتقد هذا الدين، فإن كثيراً من الناس قد يلتزم؛ لأنه يحب الداعية الفلاني، فهو التزم لأجله، فإذا عامله -مثلاً- هذا الداعية بقسوة أو غلظة، فإن كان ملتحياً حلق لحيته، وإن كان يقيم الصلاة في المسجد ترك الصلاة فيه .. هذا انتكاس؛ لأنه ليس له مبدأ، فلم يثبت أبداً.

إن بعض الناس لا يلتزم بهذا الدين إلا إذا أعطي شيئاً من متاع الدنيا، فإن أعطي شيئاً رضي والتزم بهذا الدين، وإن لم يعط ما يريد انتكس مرة أخرى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].

وفي أمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما من حديث أبي هريرة : (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يصف شريحة من الناس لا يرجعون إلى الالتزام إلا بالمال.

وهناك سهم في الزكاة هو سهم المؤلفة قلوبهم، فالرجل قد يأتي ليسلم لأجل المال، ولا مانع أن يعطى أمثال هؤلاء من أموال الزكاة، ولكن لابد أن يُتعاهدوا بالأمر والنهي، وهذا السهم لا زال قائماً، ولابد أن يمتحن ما بين الفينة والأخرى كي يُعلم التزامه.

قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار)، ولم يقل: مالك الدينار، ولا مالك الدرهم، ولا مالك الخميصة، إنما قال: عبد، إشارة إلى هوانه، وأنه لا قيمة له، وأنه صار مملوكاً، وإذا كان عبد الدينار فلا بد أن يكون هناك مالك لهذا العبد، فمن الذي ملكه إذاً؟! إن الدرهم هو الذي ملكه، والخميصة هي التي ملكته، إذاً: صار الشيء مالكاً وصار هذا المالك عبداً: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس)، أي: نكص على عقبيه ورجع، (وإذا شيك فلا انتقش)، وهذا دعاء عليه، أي: إذا دخلت في قدمه شوكة فيا رب لا تخرجها، فلا انتقش ولا أخذ الشوكة أحد بالمنقاش، فهذا نمط من الناس إنما يرجع إلى الالتزام بالمال.

وهناك نمط آخر يرجع إلى الالتزام بالمصيبة، فإذا أصيب رجع، ولكن سرعان ما ينتكس أمثال هؤلاء.

إذاً: حسن التصور وأن تعرف أين موضع قدميك يعينك على الثبات، وضغط المجتمع المخالف من أقوى أسباب الوهن، وينتكس به كثير من الذين لم يتحققوا بواقع هذا الدين، أما الذين آمنوا به فإن هذا لا يزيدهم إلا ثباتاً، كما في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في صحيحه لما سأل هرقل أبا سفيان عن الذين دخلوا في الإسلام أول ما ظهر، فقال: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد إذ دخل فيه؟ قال له: لا. فعلق هرقل قائلاً: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب).

فإذا دخل الإيمان وتخلل القلب فإنه يصير ملازماً له، لا يتركه، كذلك الذي يدخل في هذا الإسلام ولا يتركه سخطة لدينه، سواء ضرب، أو أخذ ماله، أو جلد، أو عذب.. كل هذا لا يكون حاملاً له على أن يترك دينه.

من أسباب الانتكاس: الكبر والغطرسة

هناك رجل اسمه جبلة بن الأيهم ، وكان آخر ملوك غسان من النصارى، وكان في الشام، جاء مسلماً في زمان عمر على قول؛ لأنه مختلف في إسلامه، فـابن عساكر وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما يقولان: لم يسلم قط، وآخرون قالوا: بل أسلم! فبينما كان جبلة يمشي إذ وطئ ثوبه رجل من بني فزارة، فاستدار جبلة ولكمه لكمة هشمت أنفه، فما كان من الرجل إلا أن بادله اللكمة بلكمة، فجاءوا إلى عمر بن الخطاب يحتكمون .. وهما روايتان:

الرواية الأولى: أن جبلة وطئ ثياب رجل من بني فزارة، فاستدار هذا الرجل الفزاري ولكمه لكمة في وجهه، فجاء جبلة بهذا الرجل إلى عمر بن الخطاب وقال له: لقد ضربني هذا، فقال له عمر : (الطمه بدلها، فقال: بل يقتل. قال: لا. قال: أو تقطع يده. قال: لا. فقال: بئس هذا الدين)، إنه يريد أن يجعل الدين تابعاً لهواه، والله تبارك وتعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، ولأجل هذه الآية دارت رحا الحرب بين العرب وبين المسلمين: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] فما جاء الدين خاضعاً لهوى أحد، إنما جاء الدين ليَحكم لا ليُحكم، فالذين يلتزمون بهذا الدين ويريدون أن يفصلوه عن حاجاتهم وأهوائهم ومزاجهم لم يسلموا بعد، فلن يسلم الرجل حتى يستسلم، فهذا ضُرب وقد كان ملكاً عندما كان نصرانياً، وعقوبة من يضرب الملك معروفة، فهو يعترض ويقول: لم لا يقتل لأجل هذه الضربة أو تقطع يده؟! أقل القليل أن تقطع يده التي لطمني بها، فلما قال له عمر : لا، قال: بئس هذا الدين، وتنصّر.

والرواية الثانية: أن جبلة وهو يطوف بالبيت داس على ثيابه رجل، فاستدار جبلة ولكمه، فذهب الرجل المظلوم الملكوم إلى عمر وقال: أقدني منه! فقال عمر: الطمه بدلها، فقال جبلة : أنا أضرب! قال عمر: نعم، تضرب. قال: أوجهي كوجه هذا المازني؟! أي: هل وجوهنا سواء؟! فأنا ضربته وهو ليس له قيمة، أما أنا فقد كنت ملكاً، فخدي ليس كخده حتى تستوي الضربتان، فقال له عمر : دع عنك هذا، إن الإسلام سوى بينك وبينه، ولا فضل لك عليه ولا له عليك إلا بالتقوى، فقال: ما كنت لأفعل هذا أبداً، قال: إن لم تفعل أخذت أنا منك، فلما رأى أن الأمر جدّ وأنه لا هزل فيه، قال: دعني أفكر، فلما كان في نصف الليل هرب والتحق بالروم وارتد.

إذاً: على أي أساس أسلم جبلة إن كان أسلم؟! لقد دخل في الإسلام وهو يلبس ثوب الملوكية وثوب الكبر، وكان لابد عليه أن يطرح هذا الثوب، فإن هذا دين لا نظير له قط، دين سوى بين الناس جميعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، لا فضل لأمير على مأمور، الدماء كلها عند الله واحدة، فلو أن الأمير قتل كنَّاساً في الشارع فإنه يقتل به، فعلى أي أساس أسلم هذا الرجل؟!

لقد أسلم على هوى وطمع، وأنه ملك ويريد أن يكون ملكاً، كمثل بعض الناس أصحاب الوجاهات حينما يلتزم بالدين يريد أن يكون وجيهاً أيضاً بين الملتزمين.

مثلاً: بعض الفنانين والفنانات والمغنيين والمغنيات التائبين وأنا لا أقلل من توبتهم أو من رجوعهم، لكن هذا مرض فتاك وداء عضال ينبغي أن نظهره ولا نجامل في إخفائه، قبل توبتهم تعودوا على الشهرة، فإذا دخل أحدهم في مكان تعود على الحفاوة وأن كل الناس يقومون له ويحترمونه ويجلونه، ثم منَّ الله عليه بترك هذا المستنقع ونظف نفسه، وبدأ يدخل في دائرة الملتزمين، فيريد أن يكون مشهوراً أيضاً في دائرة الملتزمين، ويريد أن يقوم له الناس ويحترموه، ويضعوه في مكانه أيضاً.

وهذا من عوامل الانتكاس، فإنه لم يتحقق بحقيقة الإيمان، والمفروض لأجل واقعه الأليم المرير الفائت أن يظل منكس الرأس طيلة عمره؛ ندماً على ذنبه الذي اقترفه، لاسيما أنه ذنب عظيم نسأل الله العافية، فكم من ممثلة تابت وقد كانت أيام التمثيل تمثل أفلام الجنس والدعارة والعشق على أقذر مستوى، ثم تابت، فما هو الحل وهي عارية في كل البيوت، فكل الناس عندهم الفيديو ويتفرجون على الأفلام؟! أرأيت إلى هذا الذنب ما أبشعه!!

ربما لو زنى الرجل أو المرأة في حجرة مغلقة ثم تاب لكان أيسر؛ إنما التبعة إذا كان في بلد لا تقيم الحدود أو يستغفر ويفعل من البر ما يستطيع لعل الله أن يسقط الذنب عنه، وإذا كان في بلد تقيم الحدود وعرض نفسه للحد فقد طهر نفسه، لكن امرأة عارية في كل بيت فإن ذنبها عظيم، فكان من المفروض بمقتضى هذا الذنب أن تظل مطأطأة الرأس طيلة عمرها أو طيلة عمره، فكيف يريد أن يكون مشهوراً في الوسط الجديد الملتزم؟!! هذه آثام ينبغي للمرء أن يتخلص منها.

من أسباب الانتكاس: النظر المحرم

إنك لا تدري بأي شيء تنتكس، فقد تنتكس بنظرة، كما حدث لـبرطيطة، وقصته عبرة لكل من أراد أن يعتبر، فقد هلك وكفر بالله العظيم بسبب نظرة واحدة فقط.

ذكر أهل التفسير: أن إبليس جمع المردة -وهم أعتى الشياطين وأقواهم إغواءً لبني آدم- فقال: لقد تعبت من برطيطة ، فمنذ أربعين سنة وأنا أحاول أن أضله فلا أستطيع، فمن يكفيني أمر هذا؟! فانبرى له مارد يقال له: الأبيض، وكان صاحب الأنبياء، أي: الذي يتبع الأنبياء، فقال: أنا أكفيك، فقال له: انطلق، فانطلق هذا الأبيض ولبس لباس الرهبان وذهب إلى صومعة برطيطة ، وكان برطيطة يدخل في الصلاة فما يخرج منها إلا بعد عشرة أيام يصلي باستمرار، وكان يصوم في هذه العشرة الأيام، فعندما ذهب هذا المارد الأبيض نادى برطيطة فلم يلتفت إليه، فكبر وأخذ يصلي، وبعد عشرة أيام عندما خرج برطيطة من الصلاة نظر من الصومعة فإذا رجل له سمت حسن، ولحية جميلة، وعيونه مسبلة، وهو واقف لا يتحرك، فأعجبه سمته، فنادى عليه: من أنت؟ قال: أنا رجل أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فقال: إني عنك في شغل، ودخل الصومعة وجلس عشرة أيام جديدة، وبعد العشرة الأيام نظر من الصومعة وإذا بالرجل واقف يصلي، فقال له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أتبعك فأقتبس من علمك، فكان برطيطة قد رآه عشرين يوماً يصلي، وهكذا.. ثم قال له: اصعد، فصعد، فدخلا في سباق العبادة فكان برطيطة يخرج من الصلاة كل عشرة أيام، أما ذلك المارد فقد نوى ألا يخرج من الصلاة أربعين يوماً، فكان برطيطة يصلي عشرة أيام ويسلّم، فيجد هذا ما زال واقفاً لا يتحرك، فيدخل في الصلاة مرة أخرى .. وهكذا، فاحتقر برطيطة نفسه أمام هذا الرجل وأمام عبادته، فقال له: أنت إذاً الأستاذ، فقال: لا. أنت الأستاذ، وأنا جئت كي أتعلم منك، قال: لا. بل أنت أجد وأشد وأعبد.. إلى آخره.

فقال له المارد: أنا الآن مضطر لأنصرف عنك؛ لأن لي صاحباً آخر مثلك، فسأذهب لكي أعتكف معه عدة أيام، ولكن سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، فقال: لا تعلمني، فأنا في شغل، ولا أريد أن يأتي الناس إليَّ، قال: لابد أن أعلمك، وفعلاً علمه اسماً معيناً، وقال له: هذا اسم الله الأعظم!

ثم بدأ الأبيض يصرع الناس، فيذهب إلى رجل فيصرعه فيصبح مريضاً، فيبحث أهله عن طبيب، فيأتي هذا المارد ويلبس لباس الأطباء ويذهب ويقول: أنا طبيب! ثم ينظر إلى المريض، فيقول: هذا مرض خطير ليس له علاج إلا عند شخص يدعى برطيطة ، والشيطان يتلبس به ولا يتركه حتى يذهب المريض إلى برطيطة ، فأول ما يقول كلمة السر يخرج الشيطان ويتركه مباشرة، ويرجع سليماً.

ثم بدأ الأبيض يصرع الناس واحداً بعد الآخر، ويرشد كل واحد ليذهب إلى برطيطة ، فعرف الناس كلهم برطيطة ، وانشغل عن العبادة بالمال.

فذهب هذا الأبيض إلى بنت ملك من الملوك وصرعها، وعمل نفسه طبيباً وذهب إليهم، وقال لهم: المرض صعب جداً، وهو مرض عضال، ولا يصلح له إلا برطيطة ، فذهبوا إلى برطيطة، فقال: أنا لا أعالج النساء، وكان المارد قد أخبرهم بأنه سيرفض، قال: ولكن قولوا له: أقل الأحوال أن يضعها في هذا الغار بجانبك وتعهدها، وفعلاً وضعوها بجانبه في الغار، وتلبس بها الشيطان فسقط عنها ثوبها، فنظر إليها برطيطة فإذا هي من أجمل النساء، فوقع حبها في قلبه، ثم وقع عليها فحملت ... إلخ القصة.

إذاً: لقد أهلكته نظرة واحدة .. لماذا؟!

لأن الإنسان لا يدري متى ينفتح على الذنوب والمعاصي، فالقلب كالصندوق، وهو مِلْك الرب، فمن الممكن أن ينفتح على هذه الصورة ويغلق فتكون الفتنة، والعياذ بالله.

سبحان الله! رجل يضع جهاز التلفاز يبث ليل نهار في بيته صور النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وينظر الساعات الطويلة إلى هذا التلفاز، ويمشي في غاية الأمان، فمن الذي أعطاه كل هذا الأمان؟! كيف يمشي هكذا وهو آمن على قلبه؟! هل هو ملك أم نبي مرسل؟! فهذا يوسف عليه السلام قال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

يأتي أحدهم ويشتكي قسوة قلبه وجهاز التلفاز عنده في البيت ليل نهار، هذا داء، والدواء أن تحطمه وتخرجه من البيت، ولا تمكن نظرك ولا نظر أولادك من أن يقع عليه ..

يا إخواننا! إن العلاج يحتاج إلى حزم، ولا تنظر ولا تسمع إلى لوم الناس؛ فإنهم لن ينفعوك أمام الله عز وجل.

لما مات الملك حسين في الأيام الماضية، وهو الذي بقي أطول مدة في الحكم، فقد حكم ستاً وأربعين سنة، فقلت في نفسي: هل ستقوم هذه السنين أمام أول ليلة في قبره؟ ست وأربعون سنة وهو ملك، لو وضعت في كفة فهل ستقوم بمبيت أول ليلة في قبره؟!

إن الناس لن ينفعوك فانظر إلى الذي ينفعك، استعن بالله ولا تعجز، ولا يكونن أحدكم إمعة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

إن من أسباب الانتكاس: الخضوع لضغط المجتمع الفاسد، وإن الذي لا يحقق هذا الدين يضعف أمام الضغط المتواصل للمجتمع الفاسد، سواء كان الضغط من قبل الحكومات أو من قبل الأسر، والصحابة رضي الله عنهم في مسألة الإيمان والاعتقاد لم يكونوا يقيمون لأهليهم وزناً.

فهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان من أبر الناس بأمه، بل كان يضرب به المثل في البر بأمه، فلما أسلم قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟! لا آكل ولا أشرب حتى ترجع عن دينك فأموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمك! وفعلاً امتنعت من الأكل يومين أو ثلاثة، حتى كانوا إذا أرادوا أن يطعموها فغروا فمها بالعصا حتى تأكل، فقال لها سعد كلاماً واضحاً، معناه: (يا أماه! والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، كلي أو دعي)، فلما لم تجد مناصاً أكلت.

وكثير من الأهل يقاومون أولادهم مقاومة شديدة .. إذا أعفى الولد لحيته يحلف على أمه بالطلاق أو يطرده من البيت، وأنا أقول لك: اخرج من البيت، فهذه هجرة واجبة لا تنقطع إلى يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، قال ابن جرير الطبري : ومعنى الآية: يا عبادي الذين آمنوا اعبدوني ولا تتركوا عبادتي، واخرجوا عمن منعكم مني، وقال: ويدل عليه قوله: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] أمر بتحقيق العبادة.

إن خروجك من البيت هجرة لا تفرط فيها، وإن الأرض إذا ضاق منها موضع ففي الآخر متسع، ولا عذر له: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

أميطوا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول

فالأرض واسعة، والمهم هو تحقيق عبودية الله عز وجل، ولا تنكث على عقبيك ولا تفرط، وافعل كما فعل الصحابة الأوائل فقد كانوا ثابتين على الحق المبين.