خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفاوت الناس في النظر إلى وجه الله يوم القيامة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أول واجب على الإنسان هو معرفته بالله جل جلاله، وزيادة إيمانه، وتصحيح عقده، والإنسان قابل لتقوية الإيمان، وتفاضل الناس في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنما هو بحسب تفاضل إيمانهم، فالإيمان يجد ويخلق في النفوس، ويقوى ويضعف، وكل من كان أقوى إيماناً فهو أقرب إلى الله جل جلاله، وذلك أدعى لخشيته لله جل جلاله، ولطاعته له، ولهذا حرص إبراهيم خليل الله بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض أن يزداد إيماناً ويقيناً، فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فلذلك علينا نحن جميعاً أن نحرص على أن نزيد إيماننا، وأن نقوي عقد الإيمان لدينا، حتى نموت ونحن مؤمنين، فهي وصية أبينا إبراهيم وابنه إسحاق وابنه يعقوب، فإنهم أوصوا جميعاً أولادهم فقالوا: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، فلذلك لا بد أن نحرص على تقوية إيماننا، وإن تقوية الإيمان تحتاج إلى مجاهدة للنقوس، فأنتم تقرءون هذا القرآن وتسمعونه، وتعلمون بالفطرة أنه الحق، لكن تتفاوتون في إدراك معنى الحق.
فلا بد عند تدبرنا للقرآن أن نراجعه حتى نجعله حاكماً على أسماعنا، وأبصارنا، وقوانا كلها، وأن نعلم أن ما يخبر به هو أصدق وأقوى الأخبار: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا [النساء:87]، فلذلك لا بد عند مراجعتنا للقرآن، وعند سماعنا له، وعند قراءتنا له، أن نستشعر أنه هو أصدق حديث، وأنه أصدق كلام، وأن كل ما فيه فهو الفصل ليس بالهزل، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
وإذا راجعنا أنفسنا في ذلك، فتحصل لدينا القناعة التي تقتضي أن نصل إلى علم اليقين، وأن نوقن بكل ما فيه، فنحن عندما نقرأ وصف جهنم أعاذني الله وإياكم منها، وقد ذكر الله جل جلاله أطباقها، فمن كان منا أقوى إيماناً بهذا القرآن وتصديقاً له، فكأنما ينظر إلى جهنم وهي ثلاث شعب، ويراها: تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ [المرسلات:32-33]، فكأنها بين يديه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبره.
فقد كان يخطب فتقدم فتناول شيئاً، ثم تأخر وتكعكع حتى وصل إلى الصف، فلما سلم سألوه عن ذلك، فقال: ( ما رأيت كاليوم، لقد مثلت لي الجنة في عرض الحائط فأقبلت لآخذ منها عنقوداً، ولو أخذته لنلتم منه حتى تنتهي الدنيا )، (ونلتم منه) معناه: أنفقتم منه، ( ثم مثلت لي جهنم في عرض الحائط، فما رأيت كاليوم أبشع منظراً )، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر كأنه يراه رأياً يقينياً، فلذلك يتقدم ويتأخر بين يديه.
والإنسان المؤمن يجزم بأن ما يقوله الله جل جلاله هو الحق، فيقرأ هذه الآيات ولا ينظر إلى مشاهداته ومحسوساته ومألوفاته، بل يقدر أن هذا هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يعتريه الريب، فكأنه يرى جهنم عياناً بين يديه، وينظر إلى موقفه هو، إذا عرض عليها وسنعرض عليها جميعاً، ونجدها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71-72]، فالورود مجزوم به، والصدور غير مجزوم به، فالصدور إنما هو لأهل التقوى فقط، وأما من سواه فهم يردون لا محالة، لكن ورودهم إنما يأتي بالتسابق إلى الصراط: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ [يس:66]، وهو ينصب على متن جهنم، ويستبق الناس عليه، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، وإذا تذكر الإنسان ذلك وأيقنه، فإنه يرى المتساقطين كأنما يمر بعضهم بين يديه، وبعضهم من خلفه، وهو يراهم معه، يزدحمون معه على الصراط، ويرى الذين يقعون على وجوههم ويكبون في النار، ويرى الذين ينجون ويمرون، وهو بين الخوف والرجاء، يخاف أن يكون كأولئك الذين وقعوا على وجوههم في قعر جهنم، وهو يراهم يتردون، تمر عليهم آلاف السنين، وهم ينزلون في قعرها، ما وصلوا إليها، أعاذني الله وإياكم منها، ويرى الذين نجوا كالبرق الخاطف وهم على موعدٍ مع تحية وسلام، مع تحية الملائكة الذين يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، ومع سلام الملك الديان الذي يناديه فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].
كلنا يعلم تفاوت الناس في النظر يوم القيامة، وقد ورد ذلك في سورة القيامة عند قول الله جل ذكره: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ومعنى: ((نَاضِرَةٌ )) بالضاد: أن الله جل جلاله يحسنها ويجملها، فتهب عليهم رياح الجمال والبهاء، فيزدادون حسناً على حسنهم، وتكون وجوههم على هيئة القمر ليلة البدر، ثم بعد ذلك يناديهم الجبار جل جلاله ليكرمهم ويكسوهم جمالاً على جمالهم، فتهيأ وجوههم للنظر إلى وجه الله الكريم جل جلاله، فينظرون إلى الله عياناً لا يضامون في رؤيته، كما ينظر أهل الأرض إلى القمر ليلة البدر، ( إنكن سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ).
ويتفاوتون في رؤية الله جل جلاله بحسب حضورهم وخشوعهم في الصلاة، فمن كان أخشع في صلاته وأحضر فيها تكون رؤيته أطول، ويكون أسعد بهذه الرؤية، وكذلك تفاوت أوقاتها، فمنهم من لا يحجب عن الله جل جلاله، ويراه في كل أوقاته، ومنهم من يراه في أوقات الصلوات فقط، ومنهم من يراه من الجمعة إلى الجمعة، ومنهم من يراه من وقت رمضان إلى رمضان، بحسب مقاماتهم في الإيمان ومستواهم فيه.
وإذا أدرك الإنسان ذلك فإنه لا محالة سيحرص على أعلى الدرجات ولا يرضى بالدون أبداً؛ لأنه يعلم أن المجال مفتوح للتنافس والتسابق، وأن لحظةً واحدةً من هذا العمر الدنيوي يمكن أن ترفعه الدرجات العلى من الجنة، كما أن لحظة واحدة منه يمكن أن تنزل به وتهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم، فالكلمة الواحدة من رضوان الله ترفع الإنسان في المقامات العلى من الجنة، والكلمة الواحدة من سخط الله يهوي بها الإنسان سبعين خريفاً في قعر جهنم.
فلذلك لا بد ونحن نسمع ونتلقى كثيراً من وسائل التلقي، فنسمع الإذاعات، ونرى التلفزيونات، ونقرأ الجرائد، ونسمع رجل الشارع، ونسمع الأخبار، أن نمكث وقتاً لسماع كلام الله جل جلاله، فهو الفصل ليس بالهزل، لا بد أن يكون سماعنا سماعاً لكلام الله أولاً، وأن يكون حاكماً عل كل ما سواه، وأن يكون مقدماً على كل الأخبار الأخرى، فهذا هو الخبر الحقيقي الذي أيقن به سحرة فرعون في لحظة واحدةٍ عندما قذف الله النور والإيمان في قلوبهم، فعلمهم الله خلاصة علم الأولين والآخرين، فقالوها في جملتين، قالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76]، فهذه خلاصة علم الأولين والآخرين، فما يدرسه العلماء، وما يكتبه المؤلفون، وما يوجد في جميع الجامعات والدراسات، خلاصته: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:74-75].
وانظروا إلى الفرق هنا، فإنه في بداية الأولى قال: مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74]، معناه: يموت على الإجرام، والإجرام أن يكون الإنسان ظالماً لنفسه معتدياً على حرمات الله جل جلاله، مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]، وفي المقابل قال: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:74-75].
فالإيمان يقتضي العمل، وهو جزء منه فلا فائدة في القناعة إذا لم يصحبها عمل، فلذلك في المقام الأول قال: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا [طه:74]، لكن في المقام الثاني قال: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75]، وهنا لم يقل: فأولئك لهم الجنة كما قال في الآية الأولى، بل قال: فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75]، ثم أبدل من الدرجات العلى فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76]، فهؤلاء تزكوا، أي: تطهروا وازدادوا إيماناً، فالزكاة في هذه الآية تشمل معنيين: تشمل التخلية والتحلية، فالتخلية: تقتضي أن يتخلوا عن كل الصفات الذميمة، كصفات المشركين والمنافقين، وأن يتحلوا بالصفات الحميدة، وهي صفات أهل الإيمان، فيزدادون خشية لله جل جلاله، وإقبالاً عليه، وأنساً به، وتطبيقاً لما جاء من عنده، ويجزمون بأنه الحق جزماً كاملاً يقتضي منهم أن يتصرفوا على أساسه.
وذلك يقتضي منا تحقيق هذا اليقين، وأن نضع برامج لأنفسنا، للترقي في درجات الإيمان، وهي من الأمور الشاقة الصعبة، لكن من المعلوم أن الولد إذا ولد، وقد أخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وضع له والداه، أو المدارس والمعاهد برامج تربويةً يترقى بها حتى يصل إلى الدكتوراه، وحتى يتعداها إلى الأستاذية، في كل تخصص من التخصصات، ونحن نريد أن نترقى في تخصص الإيمان، فلا بد أن نضع برنامجاً كفيلاً بذلك، وهذا البرنامج لا بد فيه من الأمور الأربعة التي هي أعمالنا:
الازدياد من العلم
الأمر الأول: العلم، فلا بد أن نحرص أن نزداد علماً بالله جل جلاله، ومعرفة به، ومعرفة برسوله، ومعرفة بما جاء به، ومعرفة بهذا القرآن، والمعرفة به إنما هي بالتطفل على الله، فهو مائدة الله جل جلاله، فأنت عندما تتوضأ وتأتي إلى المسجد، وتمد يمينك إلى المصحف فأنت تتطفل على الله وترغب في فضله، وهذه فائدته بين يديك تمد يمينك لها، وتتناولها، وقد يسره الله للذكر، فتحرص على أن تزداد منه كل مرة تفتحه، فترداده لا يمل منه، وكل حديث إذا كرر كثيراً يمله الناس، إلا كتاب الله جل جلاله، فكل مرةٍ إذا قرأت عليكم هذه الآيات تزداد حسناً، تزدادون فهماً لها، واستيعاباً، مرة بعد مرة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله:
وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهباً متفضلا
وخير جليس لا يمل سماعه وترداده يزداد فيه تجملا
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يهنيه سناً متهللا
هنالك يهنيه مقيلاً وروضةً ومن أجله في ذروة العز يجتلا
يناشد في إرضائه لحبيبه وأخلق به سؤلاً إليه موصلا
فيا أيها القاري به متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا
هنيئا مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلى
فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك حزب الله والصفوة الملا
أولو البر والإحسان والجود والتقى حلاهم بها جاء القران مفصلا
عليك بها ما دمت فيها منافساً وبع نفسك الدنيا من أنفاسها العلا
المحافظة على الأعمال المنجية من النار
ثم بعد ذلك العمل، فلا بد أن نجعل وقتاً من أوقاتنا لعمل ينجينا عند العرض على جهنم، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فإن كل من عرضت عليه جهنم فراءها بين يديه يتمنى أن يرد إلى الحياة الدنيا؛ ليعمل عملاً ينجيه منها، فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [الأنعام:27]، وهذا موقف من المواقف المنطِقة، أي: التي لا بد أن ينطق صاحبها، مهما كان صمته وسكوته، إذا رأى جهنم لا بد أن يقول: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
فلذلك لا بد أن نحرص الآن على عمل ينجينا من أهوالها وحرها، ومن هوان أهلها، فأبلغ ما فيها من الأذى هوان أهلها على الله، أي: أن الله لا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وانظروا إلى الفرق بين الذين ينظرون إلى وجه الله الكريم جل جلاله يوم القيامة، والذين هم محجوبون عنه أبد الآبدين، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، هذا الرب الرحيم جل جلاله الذي رحمته وسعت كل شيء، ما لهم أدنى حظ من رحمته، حجبوا عن رحمته بالكلية، لا يكلمهم كلام رحمة، بل لا يقول لهم إلا قوله: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، نسأل الله السلامة والعافية.
والعمل الذي ينجيه من جهنم ويقرب من الجنة، هو العمل الصالح الذي جمع شهادة أن لا إله إلا الله، بالإخلاص لله جل جلاله فيه، وشهادة أن محمداً رسول الله بمتابعة هذا الرسول الكريم فيما جاء به من عند الله.
فإذا أدى الإنسان العمل على وفق ما شرع له، وكان مخلصاً فيه لله، فصلى صلاةً أخلص فيها لله جل جلاله ولم يشرك معه فيها غيره، وأتى بها على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فهذا عمل صالح مقرب من الجنة مباعد من النار، وليستقم على ذلك ويستمر عليه، وهكذا في كل أعماله الأخرى، فيحرص على تحقيق الشهادتين في كل عمل يعمله، سواءً أكان صلاةً أو نسكاً، أو صياماً أو غير ذلك، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]، وقال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
والإنسان إذا تذكر أن الملهيات والشواغل التي تصرفه عن العمل الذي يباعده عن النار، ويدخله الجنة، هي منقضية منتهية لا خير فيها، فكلها يندم الإنسان عليها غاية الندم، فالوقت الذي يمكثه الإنسان في معصية الله والتمتع بشهواته المحرمة، سيكون حسرةً وندامةً عليه، ولذلك تنقطع ملذاتها وتبقى تبعاتها، فتنتهي الملذات وتبقى التبعات بعد ذلك تزداد عليه وتتراكم.
والوقت الذي ينفقه الإنسان في ما يقربه من الله وفي طاعته لا يمكن أن يندم عليه أبداً؛ لأنه وقت مبارك يبارك الله فيه، فلا نظن أنه فقط مثل هذه الليلة التربوية من أول الليل إلى ثلثه، أو أقل من ذلك، بل هذا القدر يضاعفه الله ويباركه بحسب إخلاصنا، ونحن متفاوتون في الإخلاص، لكن من كان منا أكثر إخلاصاً فسيبارك الله في ليلته هذه، فتكون كل لحظة منها ليالٍ كثيرةً، حتى تكتب له بالسنوات أو بآلاف السنوات، والله يضاعف لمن يشاء، فالله غني عن عبادتنا، وغني عن صلاتنا، وعن ذكرنا، وعن دعائنا، وهو الغني الحميد جل جلاله، ولكنه الشكور.
فالعبادة اليسيرة الصغيرة يشكرها فيبارك فيها، ويضاعفها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق امرئ من كسب طيب، إلا كان كأنما وضعها في يمين الرحمن، فلا يزال ينميها له، كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون كالجبل )، وليتذكر كل إنسان منا أن العمل الذي يعمله هو رسالة يضعها في يمين الرحمن جل جلاله.
وهذه الرسالة لا بد أن تكون كل إتقان وتقدير، فالإنسان إذا أراد أن يرسل رسالة إلى إنسان يحترمه، وهو يعلم أنه لا يملك له نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولكنه محترم لديه، فلا بد أن يحرص أن تكون تلك الرسالة معبرةً عن شخصه ومستواه، فكيف إذا كان يضعها في يمين الرحمن جل جلاله، لا بد أن تكون محل تقدير وإتقان وهيبة، وهو يرسلها إلى الله جل جلاله ويجعلها في يمينه.
ثم بعد ذلك تقع المضاعفة العجيبة، فبينها فقال: (كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله)، والفلو: ولد الفرس، ويربيه الإنسان من صغره حتى يكون كبيراً، وكذلك الفصيل وهو ولد الناقة، حتى تكون كالجبل.
وهذا العمل أبوابه كثيرة، وفيها مجال للتنافس، فالإنسان قد لا يتيسر له ختم القرآن، وقد لا يتيسر له طلب العلم في بعض الأوقات، وقد لا تتيسر له الصدقة، لكن أبواب الخير كثيرة، ليست محصورةً فيما ذكر، بل يتيسر له ذكر الله، ويتيسر له التدبر والتفكر في عجائب خلق الله، ويتيسر له أن ينفع المسلمين بأي وجه من الوجوه، ويتيسر له أن يدعو لهم بظهر الغيب، ويتيسر له أنواع كثيرة من الطاعات والقربات، وأفضل ذلك أقله مشاركاً، فالإنسان تاجر، والتاجر إذا أراد أن يستأثر بالأرباح، يبحث عن سوق صافية له ليس فيها منافس، ومكان ليس فيه منافس، فإذا قام الإنسان والناس نيام، وهم يغطون في نومهم، فأقبل على الله فذكر الله وتوضأ واستاك وصلى، وأحسن صلاته بين يدي الله، فإنه يعلم أن المنافسين في هذا الوقت قليل، وأن بين يديه وخلفه ويمينه وشماله كثير من الذين حجبوا في هذه الساعة، وعن هذه الرحمات، والله جل جلاله ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة، فلا يزال يقول: ( ألا من يسألني فأعطيه، ألا من يستغفرني فأغفر له، ألا من يسألني فأستجيب له، ألا من يناديني فأستجيب له، حتى يطلع الفجر )، وهكذا في كل الأعمال الأخرى، فكل عمل يعرف الإنسان أن المنافسين فيه أقل، وهو من القربات التي يتقرب بها إلى الله، فعلى الإنسان أن يبادر الفرصة قبل فواتها.
توصيل الدعوة والخير إلى الناس
ثم بعد ذلك الأمر الثالث: هو توصيل هذا الخير إلى الناس، فالخير الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، والإيمان الذي نحرص على زيادته لا بد أن نتحمل مسئوليتنا في إيصاله إلى الناس، فنحن نؤمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أدى الرسالة وبلغها، وأنه نصح للأمة، وأنه ما من خير إلا دلنا عليه، وما من شر إلا حذرنا منه، فلا بد إذاً أن ننوب عنه، وأن نتحمل مسئوليتنا في إبلاغ رسالته، ولو إلى أهل بيوتنا الذين يسكنون معنا، ويعيشون معنا ونتألم لآلامهم، ونؤمل لهم آمالهم، ونخطط لهم مستقبلهم، لا بد أن نبلغهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبلغها من واقع الحرص على محبتنا للقيام بوظيفته وعمله.
الصبر على طريق الحق
ثم بعد ذلك يأتي الأمر الرابع: وهو العمل الرابع من هذه الأعمال، وهو الصبر على طريق الحق، فنحن سائرون في طريق محفوف بالمكاره، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وهذه المكاره لا بد أن يدرك الإنسان فيها أنه لا بد أن يفتن، أَلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، والفتن أنواع كثيرة، منها: فتنة السراء وفتنة الضراء، وفتنة الإنسان في أهله وماله، وفتنته في بدنه، وفتنته في عقله وثقافته، وفهمه، وفتنته في جيرانه، وفتنته في بلده، فالفتن كثيرة جداً، وأنتم الآن في زمان الفتن، وآخر هذه الأمة تتكاثر فيها الفتن فتكون كقطع الليل المظلم تموج موجاً، وهذا الزمان الذي نحن فيه هو زمن الفتن، فلا بد أن نحرص على النجاة من هذه الفتن، والنجاة منها إنما هي بالفرار إلى الله جل جلاله، ولزوم المنهج الصحيح، والتمسك بحبل الله المتين، بهذا القرآن والاعتصام به، والاحتفاظ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعوذ من الفتن، والنصيحة، وسماعها من الغير، فأوسع أبواب الفتنة: هو إعجاب الإنسان برأيه وبنفسه، فالمعجب برأيه وبنفسه قد دخل الفتنة من أوسع أبوابها، وستكثر عليه الفتن وتتكاثر، والإنسان يعلم ما فيه من النقص، ويعلم أن الله ستر عيوبه الكثيرة عن الناس، فلولا ستر الله الجميل، لما استطاع أحد منا أن يجالس أحداً لنتن الذنوب وقبحها، ولكن الله سترها باسمه الجميل، فجعل بعضنا يستطيع أن ينظر إلى بعض، وأن يجالسه، من فضله ورحمته.
ونعرف في نفوسنا ما لا يعرفه غيرنا، فلدينا من التقصير والقصور والإفراط والتفريط والتقصير في جنب الله الشيء الكثير جداً، ونعرف إسرافنا في أمرنا، ومجاوزتنا لحدودنا، ونعرف أننا نعيش في الأوهام والتمني، والتظني، ونفكر أننا سنعيش لغدٍ وستمر علينا السنة القادمة، والسنة الأخرى، وقد يأتي الموت قبل ذلك، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، فكل ذلك من العيوب نشعر نحن به في خاصة أنفسنا، فكيف يكون من يشعر بهذه العيوب في خاصة نفسه، معجباً بنفسه، كيف يكون معجباً بنفسه، وهو يعرف ما فيه من النقص الذي لا يطلع عليه سواه، إلا الله جل جلاله.
ثم بعد ذلك لا بد أن نحاول في وضع برنامجنا لزيادة إيماننا، أن يكون هذا البرنامج خاضعاً للتجربة في كل وقت، فالإنسان قد يصبر في برنامجه، فيقطع فيه أشواطاً ولكن لا يزداد إيمانه بسبب خطته، أو بسبب طعامه الذي يتناوله، أو بسبب صحبته، فإذا صحب الصالحين الذين يدلون على الله جل جلاله، واتخذ هذا البرنامج الذي يزيده في الإيمان، فإن ذلك مما ينفعه، وقد قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمدٍ عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.