أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

هداية الناس إلى دين الله وحزبه

فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأرض مسرحاً للخلاف بين حزبين هما: حزب الله وحزب الشيطان، وسر الخلاف بينهما هو الهداية والضلالة، فحزب الله يسعون لهداية أكبر قدر ممكن من الناس، وحزب الشيطان يسعون لإغواء أكبر قدر ممكن من الناس.

والله سبحانه وتعالى قد كتب الهداية لمن يهديه، وكتب الضلال على من يضله؛ فمن اهتدى فبفضل الله ومن ضل فبعدل الله سبحانه وتعالى؛ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[الرعد:41]، ولكنه رتب المسببات على الأسباب؛ فجعل من أسباب الهداية: دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فذلك مما يهدي الله تعالى به الناس، ومن أسباب الهداية كذلك: سماعهم لوحي الله وعلمه؛ فهذا القرآن هدىً للمتقين كما وصفه الله بذلك.

ومن أسباب هدايتهم كذلك: ما يقيمه الله تعالى عليهم من الحجج البينات، سواءً كان ذلك في الآيات المسطورة أو في الآيات المنظورة، ومن أسباب هدايتهم كذلك: ما يبتليهم الله به من أنواع البلاء؛ فإن من حكمة الله في البلاء أن يهتدي به أقوام لم يكونوا ليروا طريق الحق والنور إلا بعد أن يستمعوا ويتعقلوا، ولا يمكن أن يتم منهم ذلك ما دام طغيانهم في أشده وذروة سنامه؛ فيحتاجون إلى بلاء يرد طغيانهم إلى أسفل درجاته ليستمعوا إلى الحق فينتفعوا به فيما بعد.

الاستجابة لأمر الله تعالى

فلذلك شرع الله سبحانه وتعالى الدعوة إليه، ووصف بها نفسه تقديساً وتعظيماً لها؛ فقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ[البقرة:221]، ووصف بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأنها طريقهم فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، وأخبر أنها أرضى الأقوال وأحسنها عند الله فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].

رفع البلاء عن الناس

وقد جعلها الله تعالى سبباً لرفع البلاء عن الناس؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تحقق مع وجود المنكر فإن عقوبته لا تعجل، بل يؤخرها الله سبحانه وتعالى فما دام المنكر ينكر فلا تعجل عقوبته، لكن إذا رضي الناس بالمنكر؛ فشهدوه ولم يغيروه؛ فإن العقوبة تشمل مقترفه والساكت عليه؛ فهما في الإثم سواء.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام

ولذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام؛ فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم في شعائر الإسلام مع الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أن عناصر الإسلام الكبرى هي: الإسلام والصلاة والصوم والزكاة وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فعد ثمانية أجزاء بين أنها هي الشعب الكبرى للإسلام، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام) في عده لشعب الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهي الإسلام في هذا المقام، ومعها الصلاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.

وقد فرض الله سبحانه وتعالى على العباد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله شعاراً للمؤمنين وواجباً عليهم وجوباً لا بد من أدائه؛ فهو فرض عين في حق بعضهم وفرض كفاية في حق البقية؛ فمن كان تحت يده أهل أو أولاد أو له جيران يسمعون منه فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فرض عين في حقه؛ لأن حق أولئك متعين عليه كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم:6]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )، وكما قال: ( ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم، فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو لأعاجلنهم العقوبة )؛ فلذلك لا بد من القيام بفرض العين إذاً في حق كل من رزقه الله أهلاً أو أولاداً أو جعل له جيراناً يمكن أن يستمعوا منه؛ فالدعوة حينئذ فرض عين في حقه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين في حقه.

وكذلك من شهد المنكر أو شهد التقصير في المعروف فإنه يجب عليه تغييره إن كان فرداً؛ فهو متعين عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم في الصحيح: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه )؛ فلذلك تكون الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين في حق من تعين عليه ذلك؛ كالحاضر إذا لم يكن معه غيره أو لم يقدر غيره على التغيير أو ترك الغير؛ فكل ذلك يعين عليه القيام بهذه الشعيرة، أما ما سوى ذلك فإن الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق غير المتعين عليه ذلك فرض كفاية، وفرض الكفاية عند كثير من أهل العلم أفضل من فرض العين لأن ثوابه أكبر؛ فثوابه ثواب الناس جميعاً؛ لأنهم إذا تركوه أثموا جميعاً، فكذلك إذا فعله واحد منهم نال أجرهم جميعاً؛ لأنه رفع الإثم عنهم جميعاً.

خطر التفريط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولا يمكن أن يترك هذا الفرض المتعين أو الكفائي إلا ترتب عليه الخطر والضرر؛ فإن الله تعالى غني عن عباده، وإذا أمرهم بأمر ففرطوا فيه فلديه من العقوبات الرادعة ما يصرفهم عما فعلوا؛ ولذلك فإنه يظهر البلاء والعصيان في الأرض ليكون ذلك تذكيراً للناس بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].

وكذلك فإن كثيراً من أنواع الذنوب إذا حصلت فلم تنكر فإن البلاء يترتب عليها كما أخرج ابن ماجه في السنن و أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً، فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض والأوجاع التي لم تكن في من مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه أنواع من البلاء رتبها الله على أنواع من الذنوب، فإذا نهي عن هذه الأنواع فإن البلاء سيتأخر، وإذا لم ينه عنها فكانت عرفاً بين الناس؛ فجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ فإن ذلك إيذان بحصول عقاب الله سبحانه وتعالى فتحق كلمته على الناس بالعذاب العاجل، نسأل الله السلامة والعافية!

خصوصية الأمة المحمدية بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وإن هذه الفريضة العظيمة التي هي الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة المحمدية التي مجدها الله بها وشرفها على غيرها من الأمم؛ فقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:104-110]، وقال تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].

ارتباط استجابة الدعاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ربط الوعيد بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى يمنع استجابة الدعاء؛ ففي حديث حذيفة بن اليمان في سنن الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتأمرن بالمعروف ولتنهوهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يصب عليكم عذاباً من عنده فتسألونه فلا يستجيب لكم )؛ فلذلك ما يشهده الناس اليوم من التأخر في استجابة الدعاء وهم يلحون على الله تعالى وهو الكريم الحليم سببه من عند أنفسهم وليس من عند الله تعالى؛ فالله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإنما سببه تباطؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم استجابة الدعاء بذلك.

ولذلك لا بد أن نعلم أن سببين يرفعان استجابة الدعاء ويمنعان ذلك:

السبب الأول: أكل الحرام؛ فالإنسان إذا كان يأكل الحرام ويعيش به؛ فينبت لحمه من الحرام ويجري دمه من الحرام؛ فإن دعاءه لا يستجاب، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب.. يا رب! وملبسه حرام ومطعمه حرام وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك )، فمن كان مطعمه حراماً وملبسه حراماً وقد غذي من قبل - قبل اجتهاده هو وإدراكه - بالحرام؛ فلا يمكن أن يستجاب له، وهنا لاحظوا الفرق بين قوله: (مطعمه حرام) وقوله: (وغذي بالحرام)، فمطعمه حرام أي: ما كان من كسبه هو وعمله بعد بلوغه وقيامه بمصالحه، وقوله: (وغذي بالحرام) أي: في صباه وصغره؛ فقد نبت لحمه من حرام عندما كان صغيراً وكان أهله ينفقون عليه من حرام؛ فهذا غير مؤهل أصلاً لاستجابة الدعاء.

والسبب الثاني: هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، كما سمعتم في حديث حذيفة بن اليمان .

فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأرض مسرحاً للخلاف بين حزبين هما: حزب الله وحزب الشيطان، وسر الخلاف بينهما هو الهداية والضلالة، فحزب الله يسعون لهداية أكبر قدر ممكن من الناس، وحزب الشيطان يسعون لإغواء أكبر قدر ممكن من الناس.

والله سبحانه وتعالى قد كتب الهداية لمن يهديه، وكتب الضلال على من يضله؛ فمن اهتدى فبفضل الله ومن ضل فبعدل الله سبحانه وتعالى؛ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ[الرعد:41]، ولكنه رتب المسببات على الأسباب؛ فجعل من أسباب الهداية: دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فذلك مما يهدي الله تعالى به الناس، ومن أسباب الهداية كذلك: سماعهم لوحي الله وعلمه؛ فهذا القرآن هدىً للمتقين كما وصفه الله بذلك.

ومن أسباب هدايتهم كذلك: ما يقيمه الله تعالى عليهم من الحجج البينات، سواءً كان ذلك في الآيات المسطورة أو في الآيات المنظورة، ومن أسباب هدايتهم كذلك: ما يبتليهم الله به من أنواع البلاء؛ فإن من حكمة الله في البلاء أن يهتدي به أقوام لم يكونوا ليروا طريق الحق والنور إلا بعد أن يستمعوا ويتعقلوا، ولا يمكن أن يتم منهم ذلك ما دام طغيانهم في أشده وذروة سنامه؛ فيحتاجون إلى بلاء يرد طغيانهم إلى أسفل درجاته ليستمعوا إلى الحق فينتفعوا به فيما بعد.

فلذلك شرع الله سبحانه وتعالى الدعوة إليه، ووصف بها نفسه تقديساً وتعظيماً لها؛ فقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ[البقرة:221]، ووصف بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأنها طريقهم فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، وأخبر أنها أرضى الأقوال وأحسنها عند الله فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33].

وقد جعلها الله تعالى سبباً لرفع البلاء عن الناس؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تحقق مع وجود المنكر فإن عقوبته لا تعجل، بل يؤخرها الله سبحانه وتعالى فما دام المنكر ينكر فلا تعجل عقوبته، لكن إذا رضي الناس بالمنكر؛ فشهدوه ولم يغيروه؛ فإن العقوبة تشمل مقترفه والساكت عليه؛ فهما في الإثم سواء.

ولذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام؛ فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم في شعائر الإسلام مع الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه فبين النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أن عناصر الإسلام الكبرى هي: الإسلام والصلاة والصوم والزكاة وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فعد ثمانية أجزاء بين أنها هي الشعب الكبرى للإسلام، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام) في عده لشعب الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهي الإسلام في هذا المقام، ومعها الصلاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.

وقد فرض الله سبحانه وتعالى على العباد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله شعاراً للمؤمنين وواجباً عليهم وجوباً لا بد من أدائه؛ فهو فرض عين في حق بعضهم وفرض كفاية في حق البقية؛ فمن كان تحت يده أهل أو أولاد أو له جيران يسمعون منه فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله فرض عين في حقه؛ لأن حق أولئك متعين عليه كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم:6]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته )، وكما قال: ( ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم، فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو لأعاجلنهم العقوبة )؛ فلذلك لا بد من القيام بفرض العين إذاً في حق كل من رزقه الله أهلاً أو أولاداً أو جعل له جيراناً يمكن أن يستمعوا منه؛ فالدعوة حينئذ فرض عين في حقه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين في حقه.

وكذلك من شهد المنكر أو شهد التقصير في المعروف فإنه يجب عليه تغييره إن كان فرداً؛ فهو متعين عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم في الصحيح: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه )؛ فلذلك تكون الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين في حق من تعين عليه ذلك؛ كالحاضر إذا لم يكن معه غيره أو لم يقدر غيره على التغيير أو ترك الغير؛ فكل ذلك يعين عليه القيام بهذه الشعيرة، أما ما سوى ذلك فإن الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق غير المتعين عليه ذلك فرض كفاية، وفرض الكفاية عند كثير من أهل العلم أفضل من فرض العين لأن ثوابه أكبر؛ فثوابه ثواب الناس جميعاً؛ لأنهم إذا تركوه أثموا جميعاً، فكذلك إذا فعله واحد منهم نال أجرهم جميعاً؛ لأنه رفع الإثم عنهم جميعاً.

ولا يمكن أن يترك هذا الفرض المتعين أو الكفائي إلا ترتب عليه الخطر والضرر؛ فإن الله تعالى غني عن عباده، وإذا أمرهم بأمر ففرطوا فيه فلديه من العقوبات الرادعة ما يصرفهم عما فعلوا؛ ولذلك فإنه يظهر البلاء والعصيان في الأرض ليكون ذلك تذكيراً للناس بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].

وكذلك فإن كثيراً من أنواع الذنوب إذا حصلت فلم تنكر فإن البلاء يترتب عليها كما أخرج ابن ماجه في السنن و أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً، فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض والأوجاع التي لم تكن في من مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه أنواع من البلاء رتبها الله على أنواع من الذنوب، فإذا نهي عن هذه الأنواع فإن البلاء سيتأخر، وإذا لم ينه عنها فكانت عرفاً بين الناس؛ فجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ فإن ذلك إيذان بحصول عقاب الله سبحانه وتعالى فتحق كلمته على الناس بالعذاب العاجل، نسأل الله السلامة والعافية!

وإن هذه الفريضة العظيمة التي هي الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة المحمدية التي مجدها الله بها وشرفها على غيرها من الأمم؛ فقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[آل عمران:104-110]، وقال تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة:71].




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع