الهجرة إلى الله


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإن للهجرة أنواعاً لاعتبار المهجور، وقد وزعها العلماء رحمهم الله تعالى إلى ثلاثة:

الهجرة الأولى: هجرة فعل.

والثانية: هجرة شخص.

والثالثة: هجرة مكان.

هجرة العمل

أما الهجرة الأولى: وهي هجرة العمل، فهي هجرة ما نهى الله عنه، بأن يهاجر الشخص ما نهى الله عنه، وبهذا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

فهذه الهجرة مستمرة لا تنقطع، وهي واجب شرعي على كل من آمن بالله واليوم الآخر؛ أن يهجر ما نهى الله عنه، ويتفاوت ذلك بحسب ضخامة المنهي عنه، وشفافيته، فما كان من الكبائر أو من الفواحش، فالهجرة عنه لازمة، في كل الأحوال وعلى كل الأحايين.

ولذلك كان جانب النهي مقدماً على جانب الأمر، كما عبر عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ).

ثم ما كان دون هذا من اللمم، ومن الصغائر، ومن المكروهات، وكذلك من مكروهات الأخلاق، فهجرته مكملة لهذه الهجرة، متممة لها، ولا يتم الإيمان إلا باجتناب هذه الصغائر، وهذه المكروهات، والتحلي بالمندوبات وممارستها، كما ثبت عن الله تعالى في الحديث القدسي، أن الله تعالى قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ).

هجرة الأشخاص

القسم الثاني: هجرة الأشخاص، والمقصود بالأشخاص: من لم يرضَ الله تعالى عنه، وهؤلاء منهم الكفرة، الذين يحادون الله تعالى، ويعادون أولياءه، فتجب هجرتهم. والمقصود بهجرتهم: ما يشمل الميل إليهم بالقلب، ومحبتهم والركون إليهم، وهذا المذكور في قول الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]، وفي قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ [الإسراء:74-75]، فيجب على كل من آمن بالله واليوم الآخر أن يبغض الكافرين بالله واليوم الآخر، وأن لا يركن إليهم، وأن لا يميل إليهم بقلبه، وأن لا يجد محبةً لما هم فيه، وأن يبغض كل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى.

كذلك من هذه الهجرة: مقاطعتهم في تأييدهم على ما هو متعلق بديانتهم الفاسدة، وذلك بأن يكون المسلم معتزاً بدينه، متميزاً عمن سواه، فلا يطيع الكفرة، ويقاطعهم امتثالاً لأمر الله تعالى في خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله لأمته، في قوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطيع كافراً في معصية الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، فإن ضعفة العقول قد يزين لهم الشيطان والهوى أن يطيعوا الكفار في بعض الأمر، فبذلك يداهنون ويخالفون هدي محمد صلى الله عليه وسلم، رغبةً في بعض مطامع الدنيا، وهؤلاء قد كبتهم الله تعالى بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:28-29]، وبقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:51-54].

مقاطعة الكفار فيما يقويهم على حرب الإسلام والمسلمين

كذلك من هذه الهجرة، وهي هجرة الكافرين: مقاطعتهم فيما يقويهم على حرب الدين، وذلك المقاطعة العسكرية، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل جلب السلاح إلى الكفرة؛ ليحادوا الله به، ويقاتلوا أولياءه، وأجمعوا على هذا وقرروه، وذكروا أن من فعل ذلك فإنه يستتاب ثلاثة أيام بلا جوع ولا عطش ولا معاقبة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ومن هذا جلب السلاح لمن يعتدي على المسلمين بقطع طريقهم ونحو ذلك، فهذا من الهجرة الواجبة.

وكذلك مقاطعتهم فيما يتعلق بثقافاتهم المميزة لهم، فلا شك أن من أعظم أسلحتهم هذا الغزو الفكري الذي يغزون به المسلمين في عقر دارهم، وهذه المناهج التي تقرر في مدارس المسلمين ويتعلم فيها أولادهم ما يخالف شرع الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يجب هجرة الكافرين فيه.

مقاطعة الكافرين اقتصادياً

وكذلك من هذه الجوانب التي يجب هجرة الكافرين فيها، مقاطعتهم في المجال الاقتصادي، والمقصود بمقاطعتهم في المجال الاقتصادي: قطع الإمدادات عنهم، وعدم تقوية مركزهم الاقتصادي باستيراد سلعهم إن كانوا نداً للإسلام، واقفين في وجهه، معادين لأهله. ولا يستدل في مقابل هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعقد عقوداً مع الكفار في المجالات التجارية، فقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام كان اقترضه منه بالسلم، وكذلك في حديث عبد الله بن أبي أوفى ، و عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنهما في الصحيحين: ( أن أنباط الشام كانوا يأتون إلى المدينة، فيشتري منهم المهاجرون والأنصار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزبيب، والتمر، والزيت إلى أجل، ولم يكونوا يسألونهم: هل عندهم ذلك في حدائقهم، أو ليس عندهم من سيشترونه لهم ).

وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من عقده مع اليهود في خيبر عقداً يقرهم فيه على الأرض، على أن يعملوا فيها، ويؤدوا إليه نصف ما أنتجته الأرض، وذلك أن هذه الأحاديث كلها، وهذه النصوص المذكورة هنا إنما هي في حال استضعاف الكافرين وذلتهم، وعلو شأن الإسلام وتمكنه منهم، فالإسلام في تلك الفترة هو الحاكم المسيطر، والكفار تابعون خاضعون يؤدون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وبذلك جاز التعامل معهم، وجازت العقود معهم، على أن يكونوا أذلةً تحت أيدي المسلمين.

كذلك لا يستدل في هذا المجال بقصة سيدنا يوسف -الكريم بن الكريم بن الكريم عليه وعلى آله الصلاة والتسليم- أنه قبل أن يكون أجيراً عند ملك مصر، عندما قال: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]؛ لأن هذا العقد إنما كان عقد إجارة، ولم يكن تقوية للكافرين، وإنما كان تمكيناً لدين الله تعالى، وحكماً بالعدل في أهل الأرض، وذلك أن يوسف علم من ثقة الملك به أنه يمكن أن يوصل الحقوق إلى أهليها، وأن يعدل بين الناس، فلذلك خاطبه الملك فقال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]، فانتهز يوسف هذه الفرصة، فقال: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

عدم السفر إلى بلاد الكفار بدون مصلحة شرعية راجحة

كذلك من هذه المجالات التي يجب هجرة الكافرين فيها: عدم السفر إلى بلادهم لغير مصلحة شرعية راجحة، وقد ذكر ابن رشد في البيان والتحصيل، وكذلك أحمد بن إدريس القرافي في الذخيرة عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، أنه قال: (إن من يخرج إلى أرض الكفار وأرض الحرب للتجارة مجروح الشهادة، لا تقبل شهادته في المسلمين)، وهذه من فتاوى الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهي من باب السياسة الشرعية؛ لأن المسلم إذا سافر إلى تلك البلاد ورأى حياة أهلها استيأس من نصر المسلمين عليهم، وركن إلى ما هم فيه، ورغب في الدنيا ومظاهرها الخلابة، ورأى المنكرات التي كان قلبه يشمئز منها، فيرى للعيان فتخف في قلبه حرارة الإيمان، وبذلك ينقص إيمانه بالتدريج حتى يصل إلى أن يخلق، والإيمان يخلق في القلوب كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

أما من سافر إلى أرض العدو -أرض الحرب.. أرض أهل الكفر- لدعوتهم، أو لإقامة الحجة عليهم، أو لتحصيل بعض المصالح العامة لدين الله تعالى، أو لبعض الضروريات الخاصة به، كالعلاج مثلاً إذا لم يجد العلاج في بلاد المسلمين، فهذا من المسوغات شرعاً، وقد قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، وقد أرسل الله الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل إلى أرض الكفر بكتبه، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أنه أرسل دحية بن خليفة الكلبي بكتابه إلى والي مصر ليرسله إلى هرقل ، وأرسل عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي بكاتبه إلى عظيم البحرين ليوصله إلى كسرى، وكذلك أرسل كتاباً إلى النجاشي -هو عظيم الحبشة وليس بـالنجاشي الذي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم- وأرسل كتباً أخرى إلى ولاة الجهات، فأرسل إلى المنذر بن ساوى كتاباً مع خالد بن الوليد ، وأرسل أيضاً كتاباً إلى أكيدر دومة الجندل ، وغير هذا من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان يحملها المسلمون إلى دار الكفر، وذلك للقيام بمصلحة شرعية عامة.

أما سفر النساء إلى بلاد الكفر؛ بقصد التجارة أو التفرج والسياحة فهو من أعظم الكبائر، ومن رضي به أو فعله فهو مجروح الشهادة في المسلمين كما ذكرنا فتوى الإمام مالك رحمه الله تعالى في ذلك.

هجرة المنافقين وبيان أقسامهم

ومن هذه الهجرة أيضاً هجرة المنافقين، والمنافقون قسمان: المنافقون نفاقاً عقدياً، وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويعيشون بين ظهراني المسلمين، وهؤلاء تجب هجرتهم ومقاطعتهم؛ لأنهم شر من الكافرين الصرحاء، فالله تعالى جعلهم تحت الكافرين منزلةً في النار، وجعلهم أدنى منهم منزلة في الدنيا، فقال تعالى: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، وهذه الآية حاكمة على المنافقين بالنزول والسفل في الدنيا والآخرة، ففي صدرها يقول: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، هذا في الآخرة، وفي الدنيا يقول: وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فهذا دليل على أن الله تعالى قد قوض بنيانهم وهدّ أركانهم في الدنيا، وجعلهم في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.

القسم الثاني من المنافقين: هم المنافقون النفاق العملي، وهم الذين لم يوفوا لله بما عاهدوه عليه، هم من المؤمنين المصدقين المؤمنين بالحساب والعقاب وباليوم الآخر، ولكنهم تقاعسوا وكسلوا عن القيام بالواجب الشرعي، ولم يؤدوا عهد الله الذي افترض عليهم في الآيات التي قُرئت علينا الآن، وينبغي على كثير من المسلمين أن يخشى هذا النوع من النفاق على نفسه، ولذلك يقول ابن أبي مليكة رحمه الله تعالى، فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح: (أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد إلا وهو يخشى النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إيماني على إيمان جبريل وميكائيل.

وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو حذيفة بن اليمان فيقول: (يا أبا نجيد ! أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟) فكانوا يحذرون النفاق على أنفسهم ولا يقصدون النفاق العقدي، فهم يعلمون أنهم مؤمنون، ولكنهم يخافون النفاق العملي، وهو النكوص عن بيعة الله تعالى، والتراجع عنها، وعدم القيام بالواجب، وهذا ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً في قوله: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض )، والمقصود هنا: الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، وصاحبه بالمشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه، ولهذا قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، فإرجاع عذاب المنافقين والتوبة عليهم إلى المشيئة دليل على أن المقصود هنا: النفاق العملي لا النفاق العقدي؛ لأن النفاق العقدي شرك بالله، والله تعالى يقول: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].

حقيقة النفاق العملي ومدى خطورته على المسلمين وعاقبته الوخيمة

هؤلاء المنافقون النفاق العملي لا شك أننا نتحسسهم بين ظهراني المسلمين، وهم الذين لا يجدون ولاءً لدين الله، ولا يميلون إلى مرضاة الله، ويقدمون هواهم، أو مصالحهم الدنيوية، وحتى مصالح غيرهم على مصلحة دين الله، فهؤلاء يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، وبذلك هم أخسر الناس صفقةً في هذه الدار فضلاً عن الدار الآخرة، أخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره، هؤلاء يمكنون لأعداء الله تعالى، ويساعدونهم، ويسعون لإعلاء كلمة الكفر، في دار الإسلام، فلذلك كانوا أخسر الناس صفقة في هذه الدنيا، وأخسرهم صفقةً يوم القيامة، وهؤلاء يجب هجرتهم، وهجرتهم شاملة؛ كعدم تزويجهم وعدم مجالستهم، وعدم مخالطتهم، وعدم إعلائهم للمنابر، وعدم تقديمهم في المجالس، وكل ما يستطيع الشخص تنقصهم به من إشاعة فضائحهم، ومكايدهم لدين الله تعالى.

هجرة العصاة البغاة

كذلك من هذه الهجرة: هجرة العصاة البغاة، وهم الذين يظلمون الناس، وهؤلاء الذين يظلمون أنفسهم، أو يظلمون عباد الله تعالى، ويعتدون عليهم، يجب أن يهجروا في حال وقوعهم في المعصية، وهجرتهم هي ردهم عن ظلمهم، وذلك أن الله عز وجل أمرنا أن نعين المظلوم على الظالم حتى يأخذ حقه، وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10]، وهؤلاء هجرتهم إنما تكون في حال وقوعهم في الظلم والمعصية، وتكون بعدم نصرتهم ومساعدتهم على ظلمهم، ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء، فلا تصدقوهم في كذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فمن فعل فلن يرد علي الحوض )، من فعل سيطرد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد غرائب الإبل.

وكذلك فإن هؤلاء -حتى ولو كانوا أقرب الناس إليك- أمرك الله تعالى بمقاطعتهم، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، فإنه لا بد من مقاطعة الظالم كائناً من كان، سواءً كان أقرب الأقارب أو كان أغنى الأغنياء، أو كان صاحب سلطان، ولا بد من هجرته، وهجرته قسم من أقسام الهجرة الواجبة.

هجرة أصحاب البدع

كذلك من هذه الهجرة: هجرة أصحاب البدع، وهم الذين يدعون إلى خلاف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبتدعون في دين الله، وهؤلاء نص الله تعالى على نوعٍ من هجرتهم، وهو عدم الخوض معهم في مجادلتهم، وعدم الجلوس إليهم، خاطب بذلك المؤمنين عموماً، وخاطب به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَهمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:68-69]، ويقول الله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:139-140]، وهؤلاء أصحاب الغوايات والضلالات والبدع الداعين إليها، المروجين إليها، أفتى فيهم الإمام مالك رحمه الله تعالى بأن يقاطعوا، وأن لا يجادلوا، قال: إن على لسان كل واحد منهم شيطان، فمجادلته تزيده في غيه، ولذلك جاءه رجل، جاء مالك بن أنس رجل فقال: يا أبا عبد الله ! إني جئت لأكلمك في القدر، فقال: أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك فاذهب إلى شاك مثلك فجادله، وكان لا يجالسهم أبداً، ولذلك سئل عن حديث ممن سمعه، فقال: ما جالست سفيهاً قط.

وقد أفتى فيهم يحيى بن معين و أحمد بن حنبل و علي بن المديني و يزيد بن هارون ، و عبد الرحمن بن مهدي وغير هؤلاء، بأن يعرضوا على السيوف، والمقصود هنا بعد استتابتهم، وذلك المقصود بهم من كان داعياً منهم إلى بدعته مظهراً لها؛ لأن هؤلاء ذوو خطر على المجتمع، فيراد قطع مادتهم عن المجتمع حتى لا يفسدوه، ولا يقتلون هنا على الكفر، وإنما يقتلون سياسة شرعيةً لقطع ضررهم عن هذا المجتمع.

هجرة أصحاب المنكرات وعاقبة الجلوس معهم على منكراتهم

كذلك من هذه الهجرة: هجرة أصحاب المناكر، ما داموا على مناكرهم، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلس في مجلس تعاقر فيه الخمر، أو تمارس فيه الفواحش، أو تقال فيه الغيبة، أو يكذب فيه على الله، أو على رسوله أو على المؤمنين، أو تحمل فيه النميمة، ويفترى فيه على الناس، فكل هذه من الفواحش والكبائر، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكثر سواد أصحابها.

وكذلك المبايعة بالربا أو بالبيوع المحرمة الأخرى، فإن أصحابها في وقت فعلها لا تحل مجالستهم، ولا النظر إلى ما هم فيه، ومن فعل فلا بد أن يصيب قلبه شرر مما هم فيه، وذلك أن هؤلاء مثالهم مثال نافخ الكير، إما أن يصيبك منه شرر النار، وإما أن تصيبك منه رائحة كريهة، فأصحاب الكبائر والفواحش دائماً إما أن يصيبك ضرر منهم، وإما على الأقل أن تصيبك ظلمة معصيتهم؛ لأن في المعصية ظلماً، وظلمةً في القلب وسواداً في الوجه، ولذلك تخلص نور صاحبها، فمن جاور هؤلاء أو آكلهم أو جالسهم فقد عرض إيمانه للخطر، ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنعه، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81]، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدِ الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ).

فإذاً .. كثيراً مما يحل بالمسلمين من المصائب، ومن عدم استجابة الدعاء ناشئ عن سكوتهم على الباطل، وعدم هجرتهم لأهله، فإن من لم يهجر أهل الباطل، ولم يغير المنكر، لا يمكن أن يستجاب له دعاء، دعاؤه لا يرفع إلى السماء، وإنما ينال حظه من قدر الله تعالى، ولكن إذا تحقق بعض مراده لا يكون ذلك استجابةً لدعائه؛ لأن استجابة الدعاء لا تغير قدر الله تعالى، فالله تعالى يكتب الخير لمن شاء، ويكتب أيضاً الشر على من شاء من عباده، فإذا شرف عبداً من عباده لاستجابة دعوةٍ معينة فهي تعجيل لأمر كان موجوداً في قدر الله تعالى وقضائه، وقد كان مشروطاً بدعوته هذه أنه يحصل في هذا الوقت، فهذا التشريف -وهو استجابة الدعاء، ورفعه فوق سبع سموات- تشريف عظيم لا يستحقه من لا يغير المنكر، ولا ينهى عنه، ولا يأمر بالمعروف، ويجالس المخالفين لشرع الله تعالى.

هجرة المخالف في الرأي

كذلك من هذه الهجرة، أو من ملحقاتها: هجرة من كان بينك وبينه خلاف، وهذه الهجرة مضبوطة بضوابط شرعية تختلف عن ضوابط الهجرة السالفة، فالهجرة الماضية مستمرة حتى يقلع صاحبها عن معصيته، أما الهجرة بسبب حق لك ضيعه، أو بسبب خلاف قد اعتدى فيه عليك، فهذه لا ينبغي أن تتجاوز ثلاثة أيام، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم في صحيحيهما: ( لا يحل لامرئٍ مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام )، فهذه الهجرة بين اثنين؛ بسبب حق مشترك بينهما اعتدى فيه أحدهما على الآخر، ولا تتجاوز ثلاثة أيام، وهذا الفرق بينها وبين الهجرة لله؛ لأن هذه فيها انتصار للنفس، وإن كان فيها أيضاً جانب من الحق، ولكن خشية أن تستمر النفس على الانتصار لها كبح هذا الجماح بأن لا يهجره إلا ثلاثة أيام فقط، ولهذا هجرة الوالد لولده إذا بدر منه لا يدخل في مسمى العقوق، وإذا صدر من الولد عقوق أو مخالفة فإن للوالد حقاً في أن يهجره ثلاثة أيام، ولكن لا يحل له أن يهجره أكثر من ذلك.

وكذلك هجرة الزوج لزوجته، تأديباً لها، وهذه الهجرة لا تكون بعدم المبيت، وإنما تكون بإعراضه وتوليته ظهره، وعدم تكليمه لها في غير واجب، وهي من التأديب الشرعي للنساء اللواتي يخاف منهن النشوز، وفيها يقول الله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ [النساء:34]، هنا المقصود بها هذه الهجرة، التي لا يحل أن تتجاوز أيضاً ثلاثة أيام أو ثلاثة ليال.

إذاً هذه هي هجرة الأشخاص.

أما الهجرة الأولى: وهي هجرة العمل، فهي هجرة ما نهى الله عنه، بأن يهاجر الشخص ما نهى الله عنه، وبهذا عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).

فهذه الهجرة مستمرة لا تنقطع، وهي واجب شرعي على كل من آمن بالله واليوم الآخر؛ أن يهجر ما نهى الله عنه، ويتفاوت ذلك بحسب ضخامة المنهي عنه، وشفافيته، فما كان من الكبائر أو من الفواحش، فالهجرة عنه لازمة، في كل الأحوال وعلى كل الأحايين.

ولذلك كان جانب النهي مقدماً على جانب الأمر، كما عبر عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ).

ثم ما كان دون هذا من اللمم، ومن الصغائر، ومن المكروهات، وكذلك من مكروهات الأخلاق، فهجرته مكملة لهذه الهجرة، متممة لها، ولا يتم الإيمان إلا باجتناب هذه الصغائر، وهذه المكروهات، والتحلي بالمندوبات وممارستها، كما ثبت عن الله تعالى في الحديث القدسي، أن الله تعالى قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ).


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع