المحبة في الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي: العقل الذي شرفه به على الحيوان والدواب، والبدن الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله تعالى.

وقد قسم الله الدين على عناصر ثلاثة تبعاً لهذه العناصر هي: الإيمان الذي هو لمصلحة العقل؛ فلا يمكن أن يسدد العقل ولا أن يوفق ولا أن يعمل فيما خلق من أجله إلا بالإيمان، والإسلام الذي هو لمصلحة البدن؛ فلا يمكن أن يستقيم حال البدن إلا باستغلاله في هذا الإسلام الذي من أجله خلقت الأبدان لتحقيق العبودية لله؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، والإحسان الذي هو لمصلحة الروح، وهو المقتضي تمام المعرفة بالله تعالى وقصده في الأمر كله وتعلق القلب به.

وكل هذه العناصر الثلاثة -وهي عناصر الدين- تقتضي تحقيق العبودية لله والأنس به والاتصال به على كل الأحيان، وهذا هو شرف الإنسان؛ فالإنسان إذا لم يتصل بالله؛ فلا شرف له، بل هو شر من الدواب والبهائم، مع أن الله جعله بين نوعين من أنواع الخلائق:

نوع أسمى منه وهو الملائكة، محضهم الله لطاعته وعبادته، عِبَادٌ مُكْرَمُونَ[الأنبياء:26]، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، خلقهم الله للطاعة وكلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بأن يسلط عليهم الشهوات.

ونوع أدنى منه هو الحيوان البهيمي، فقد سلط الله عليه شهوات لكنه لم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بتكاليف ممتحن بالشهوات؛ فإن هو أدى التكاليف ولم تضيعه الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى منه لأن الحجة قائمة على الإنسان بالعقل والوحي أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ كما قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، أي: هم شر ما برأه الله وخلقه من أنواع الخلائق.

إذا عرف ذلك عرف أن الله سبحانه وتعالى يستحق على الإنسان أن يعبده بكل ما آتاه من النعم، وأن يتصل به في كل أحواله، فتتعلق معرفة الله تعالى بجميع عناصر الإنسان وبجميع ما أنعم الله به عليه من الطاقات، فإذا كان الإنسان يؤمن بالله بعقله ويعبده ببدنه، ولكنه لا يعرفه بروحه لم يكن من المحسنين، ولا من الصادقين، بل يكون مثل الجهاز الذي يعمل وهو لا يدري لماذا يعمل؟ فالجهاز يتحكم فيه من سواه؛ لأن الإنسان بدون الروح جثة هامدة كسائر الجمادات؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يعبد الله بروحه وأن يعرفه بروحه، وهذه المعرفة الروحية تتعلق بالعاطفة التي هي المحبة أو الكراهة، ولا يمكن أن يعمل الإنسان أي عمل إلا وقد اتصل ذلك العمل بعاطفته محبة أو كراهة.

ومن هنا فإن عناصر الإنسان الثلاثة مرتبة؛ فأعلاها العقل وتحته العاطفة وتحت ذلك البدن؛ فالبدن وتصرفاته ما يتعلق بالعاطفة أقرب إليها مما يتعلق بالعقل، وستفهمون ذلك جيداً إذا أدركتم أن كل واحد منكم يقتنع بكثير من القناعات العقلية ولكنه لا يطبقها؛ فالناس جميعاً يقتنعون بأن الكذب حرام وقبيح، ويقتنعون أن الصدق واجب وحسن، لكن لماذا لا يصدقون؟ لماذا يكذبون؟ لأن هذه القناعة مختزنة في العقل ولم تصل بعد إلى العاطفة، لكن من أحب الصدق منهم وكره الكذب فسيسعى لأن يكون من الصادقين، ولأن يجتنب الكذب بالكلية.

ولهذا فإن الإنسان إذا أحب شيئاً سعى إليه حتى لو لم يكن من مصلحته، وإذا كره شيئاً فر منه ولو كان من مصلحته، وهذا يدل على أن العاطفة أشد تحكماً في البدن والتصرف من العقل، وإذا كان الحال كذلك فلابد أن تشغل هذه العاطفة بمحبة الله وأهله، وإذا لم تشغل بغير ذلك لاتصلت به؛ فالإنسان تابع لما ينساق إليه بعاطفته وما يتعلق به قلبه، وإذا أراد التجرد من ذلك فيمكن أن يكون لفترة مؤقتة، وهو يحتاج إلى مجاهدة ورياضة كالإنسان المريض يستعمل الدواء الذي لا يحبه ويكره طعمه ورائحته كراهة شديدة، ولكنه يشربه لمدة محددة برياضة ومجاهدة حتى يشفى من المرض وإذا كان سليماً منه لا يمكن أن يشرب ذلك الدواء الذي يكره طعمه ورائحته ولونه.

فإذا عرف هذا عرف أننا في تربيتنا نحتاج إلى شغل عواطفنا بالله، وأن نعلم أن الإنسان إذا خلت عاطفته من التعلق بالله والأنس به ومحبته سيكون قريباً من الجماد، لا يمكن أن يتأثر بالقرآن إذا سمعه ولا أن يتأثر بنعمة الله إذا أسبغها عليه، وهو يعلم أن الله بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ومع ذلك يتعلق بغيره فيطلب الخير من غير الله، ويخاف الضير من غير الله، ولو كان متصلاً بالله سبحانه وتعالى لزال عنه ذلك الخوف والطمع من غير الله بالكلية.

ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً )، فالتوكل على الله تمام التوكل يقتضي من الإنسان ألا يبقى حبيس الزمان والمكان، وألا يبقى مرتبطاً بأمور الدنيا الفانية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).

فبصيرة الإنسان تضيء وتصقل بتعلقه بالله تعالى ومحبته له ومحبته فيه، ويذوق بذلك طعم الإيمان؛ فلا يذاق طعم الإيمان إلا بالعاطفة الصادقة؛ كما أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب العبد لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )، فهذه الأمور الثلاثة التي تنال بها حلاوة الإيمان كلها تتعلق بالمحبة والكره.

إن الاتصال بالله تعالى أقوى عراه هذه المحبة في الله سبحانه وتعالى؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه البخاري معلقاً في الصحيح ووصله غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقوى عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )، (أقوى عرى الإيمان)، أي: هي أقوى صلة بين العبد وربه أن يتصل به عاطفياً؛ فهو يحب الله حباً شديداً، ويحب كل ما يحبه الله، ويحب كل من يحبه الله وكل من يحب الله، ويكره كل ما يكرهه الله؛ فهذا الذي يقتضي منه تمام الاستقامة والالتزام، إذا كان هوى الإنسان تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأحب الله ورسوله حباً شديداً، وأحب كل ما يقرب من الله وأحب كل من يحب الله وأحب كل من يعبد الله، وكره كل ما يكرهه الله وكره كل ما نهى الله عنه وكره كل من كره الله أو كره شيئاً مما جاء من عند الله؛ فهذا الذي يرتبط بالله تعالى بأقوى عرى الإيمان؛ فهو متصل به على كل الأحيان، لا يمكن أن يشكو جفوة ولا وحشة ولا انقطاعاً لأنه متصل بالله بكل أحيانه، إذا جاءته ضراء صبر فكان خيراً له؛ لاتصاله بالله ولمعرفته أن ذلك من عند الله، وإذا جاءته السراء شكر فكان خيراً له؛ لأنه بذلك يشاهد نعمة الله ويقر لله بها، ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ).

وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الإيمان فإنه بالإضافة إلى اتصاله بالله يرزق قوة عجيبة هي قاضية على كل ما سواها من القوى؛ فالإنسان المحب لله المحب في الله المبغض لله عز وجل، مبغض لكل ما يبغضه الله ولكل من يبغضه الله ولكل من يبغض ما يحبه الله، هذا الإنسان له قوة عجيبة؛ لأنه لا يمكن أن ينصاع لأي ضغط من الضغوط ولا أن يخضع لأي طغيان من الطاغوت؛ لأنه متصل بالله مستغن به عن كل من سواه، ومن عرف الله سبحانه وتعالى عرف أنه وحده الذي يستحق أن يطمع فيما عنده، ووحده الذي يستحق أن يخاف مما لديه؛ لأنه الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.

وإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل من دون الله؛ لأنه يعلم أن كل الخلائق لا يملكون له حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]؛ ولهذا يقال في قصة سعيد بن جبير رحمه الله تعالى أنه لما أسره الحجاج في ثورة الفقهاء المشهورة فجيء به إليه في الحديد فقال له: إنني سأقتلك، قال: لو علمت أن موتي إليك لما عبدت إلا أنت، فالإنسان الذي يعلم أن موته إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يأخذ روحه متى شاء ويردها عليه متى شاء وهي بيده، والأرواح كلها إليه فهو الذي يستحق أن يفهم هذه المحبة في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، وهذا لا يمكن أن يتدخل فيه مخلوق، وإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل ضغوط المخلوقين لأنه يعلم أنهم لا يملكون له ولا لغيره حياة ولا موتاً ولا نشوراً.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه رسولا كسرى وقد أرسلهما أن يقتلاه ويسلخاه ويأتيا بجلده وقد ملآه من التبن سألهما فقال: ( أرسلكما؟ فقالا: نعم، فقال: قتله ابنه البارحة )، هذا الذي تخافانه وجئتما من أجله في هذه المسافة الشاسعة الواسعة قد قتله ابنه البارحة، ومن يقتله ابنه أو يقتله غيره أو هو عرضة للموت وعرضة للحاجة وعرضة للمرض لا يستحق أن يخاف منه ولا أن يطمع فيه، ولا أن يطاع في معصية من لا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضرر؛ ولذلك قال الحكيم:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

وقد قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:

أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي

وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي

أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي

ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوال

وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال

متى تفز بموالاة الإله يدي فعاد يا أيها المخلوق أو وال

لذلك فإن المخلوقين إذا وصلوا إلى مقام من العزة في هذه الدنيا فإنما هو بأسباب فانية لها أجل مسمى عند الله؛ فكل شاغل وظيفة من الوظائف، سواءً كانت وظيفة رسمية أو اجتماعية أو غيرها؛ فلتلك الوظيفة أجل مسمى تنتهي إليه، ولذلك ترون كثيراً ممن كان له سلطان في يوم من الأيام وكان مهيباً مخوفاً، ترونه أسيراً ذليلاً كحال رئيس العراق وكحال غيره، وقد سمعتم بسقوط حكومة إسبانيا الطاغية؛ فكل ذلك من أمر الله سبحانه وتعالى؛ فكم من إنسان بلغ مقاماً من الطغيان وفي لحظة طغيانه يصل إلى الحضيض الأسفل، فالذي كان قبل دخول البحر يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24]، وبعد التطام البحر عليه قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ[يونس:90].

فلهذا لا بد أن يعرف المخلوق أن الخالق وحده هو الحي الذي لا يموت، وهو وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأنه الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وقد قال: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى يقبض السموات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ).

لذلك يستحق منا ربنا الكريم أن نحبه تمام المحبة؛ وذلك لثلاثة أوجه عظيمة:

اتصاف الله تعالى بالكمال المطلق

الوجه الأول: تمامه؛ فالله سبحانه وتعالى هو المتصف بالكمال المطلق، فهو ذو الكمال والجلال والجمال، اتصف بجميع الكمال وتنزه عن جميع النقص، وهذه الصفة وحدها يستحق بها تمام المحبة؛ فالحب الطبيعي بين الناس يحصل بمستوى الكمال ولو كان ناقصاً؛ فالشيء الحسن الجميل تتعلق به القلوب، ولو كان ذلك الجمال مؤقتاً ناقصاً؛ كأمور الدنيا الفانية؛ فكيف بالجمال المطلق والكمال الذي ليس فيه أي نقص، وهو مستمر ليس فيه أي انقطاع، وهو سابق على الكون وباق بعده؟ هذا كمال الله تعالى الذي لا يمكن أن يعرضه أي نقص؛ فهو بكماله وجلاله وجماله يستحق المحبة الكاملة.

إنعام الله تعالى على عبده بكل النعم

الوجه الثاني: إنعامه؛ فالإنسان العاقل يحب من أنعم عليه، أو من يرجو منه الخير وناله منه بالفعل، ويعلم أن لديه الخير الكثير الذي لا يغيب ويستحق عليه أن يحبه، والله تعالى هو الذي أنعم علينا بنعمة الخلق، هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في الأرض، وكرمنا بعده بأنواع التكريم فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وهذا الإنعام أعظمه نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة! إذا أحس الإنسان بأن الله شرفه بالإيمان في الوقت الذي يحس فيه أن كثيراً من العباد الذين هم أقوى منه عقلاً وثقافة واطلاعاً وأطول منه عمراً وأقوى منه بدناً وأكثر منه مالاً وجاهاً حجبوا عن الإيمان ومنعوا منه، تراهم يتخبطون في الظلام الدامس في هذه الحياة الدنيا، لم يعرفوا الله طرفة عين ولم يقروا بالبعث بعد الموت ولم يؤمنوا بالآخرة، ولم يؤمنوا بقضاء الله وقدره، ولا عرفوا أنبياء الله ولا ملائكته ولا كتبه؛ فهم محجوبون عن الله في الحياة الدنيا وهم محجوبون عنه يوم القيامة؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]؛ فإذا كنت يا أخي! قد نجوت من ذلك وخصك الله بنعمة الإيمان به فاعلم أنها نعمة تستحق الشكر وهي أعظم النعم، حين لم يرتض الله لك أن تكون من الكفرة الفجرة، بل ارتضى لك أن تكون من أهل الإيمان؛ فعرفت الله واتصلت به وسجدت له، وقمت بين يديه إجلالاً وتعظيماً لوجهه الكريم، وعرفت ما كلفك به فأديت منه ما استطعت، فكل ذلك من نعم الله العجيبة.

فمن هذه نعمته وأنت ترجو منه الأكثر والأكثر؛ ترجو رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وترجو منه الخلود في جنات النعيم، وترجو منه أن يبيض وجهك حتى تسير في النور خمسمائة عام، وترجو منه أن يعطيك كتابك بيمينك تلقاء وجهك، وترجو منه أن يختم لك بالخاتمة الحسنى، وترجو منه أن يثبتك عند سؤال الملكين، وترجو منه أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة وأن يملأه عليك خضراً ونوراً، وترجو منه الصحة والعافية في الحياة الدنيا، كل ذلك يقتضي منك تمام محبته؛ فالإنسان الفقير المسكين الذي يحسن إليك ببعض الإحسان ألست تحبه بسبب إحسانه إليك؟

فكيف بالذي أحسن إليك بما لا تستطيع إحصاءه؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]؛ فهذا هو الوجه الثاني الذي يقتضي منك تمام المحبة لله.

الوجه الأول: تمامه؛ فالله سبحانه وتعالى هو المتصف بالكمال المطلق، فهو ذو الكمال والجلال والجمال، اتصف بجميع الكمال وتنزه عن جميع النقص، وهذه الصفة وحدها يستحق بها تمام المحبة؛ فالحب الطبيعي بين الناس يحصل بمستوى الكمال ولو كان ناقصاً؛ فالشيء الحسن الجميل تتعلق به القلوب، ولو كان ذلك الجمال مؤقتاً ناقصاً؛ كأمور الدنيا الفانية؛ فكيف بالجمال المطلق والكمال الذي ليس فيه أي نقص، وهو مستمر ليس فيه أي انقطاع، وهو سابق على الكون وباق بعده؟ هذا كمال الله تعالى الذي لا يمكن أن يعرضه أي نقص؛ فهو بكماله وجلاله وجماله يستحق المحبة الكاملة.

الوجه الثاني: إنعامه؛ فالإنسان العاقل يحب من أنعم عليه، أو من يرجو منه الخير وناله منه بالفعل، ويعلم أن لديه الخير الكثير الذي لا يغيب ويستحق عليه أن يحبه، والله تعالى هو الذي أنعم علينا بنعمة الخلق، هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في الأرض، وكرمنا بعده بأنواع التكريم فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وهذا الإنعام أعظمه نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة! إذا أحس الإنسان بأن الله شرفه بالإيمان في الوقت الذي يحس فيه أن كثيراً من العباد الذين هم أقوى منه عقلاً وثقافة واطلاعاً وأطول منه عمراً وأقوى منه بدناً وأكثر منه مالاً وجاهاً حجبوا عن الإيمان ومنعوا منه، تراهم يتخبطون في الظلام الدامس في هذه الحياة الدنيا، لم يعرفوا الله طرفة عين ولم يقروا بالبعث بعد الموت ولم يؤمنوا بالآخرة، ولم يؤمنوا بقضاء الله وقدره، ولا عرفوا أنبياء الله ولا ملائكته ولا كتبه؛ فهم محجوبون عن الله في الحياة الدنيا وهم محجوبون عنه يوم القيامة؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]؛ فإذا كنت يا أخي! قد نجوت من ذلك وخصك الله بنعمة الإيمان به فاعلم أنها نعمة تستحق الشكر وهي أعظم النعم، حين لم يرتض الله لك أن تكون من الكفرة الفجرة، بل ارتضى لك أن تكون من أهل الإيمان؛ فعرفت الله واتصلت به وسجدت له، وقمت بين يديه إجلالاً وتعظيماً لوجهه الكريم، وعرفت ما كلفك به فأديت منه ما استطعت، فكل ذلك من نعم الله العجيبة.

فمن هذه نعمته وأنت ترجو منه الأكثر والأكثر؛ ترجو رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وترجو منه الخلود في جنات النعيم، وترجو منه أن يبيض وجهك حتى تسير في النور خمسمائة عام، وترجو منه أن يعطيك كتابك بيمينك تلقاء وجهك، وترجو منه أن يختم لك بالخاتمة الحسنى، وترجو منه أن يثبتك عند سؤال الملكين، وترجو منه أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة وأن يملأه عليك خضراً ونوراً، وترجو منه الصحة والعافية في الحياة الدنيا، كل ذلك يقتضي منك تمام محبته؛ فالإنسان الفقير المسكين الذي يحسن إليك ببعض الإحسان ألست تحبه بسبب إحسانه إليك؟

فكيف بالذي أحسن إليك بما لا تستطيع إحصاءه؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]؛ فهذا هو الوجه الثاني الذي يقتضي منك تمام المحبة لله.

الوجه الثالث: خوفه سبحانه وتعالى؛ وهو أمر عظيم فالله تعالى هو الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأنه الذي بيده مقاليد الأمور، ونواصي الخلائق جميعاً بيده، يضل منهم من يشاء ويهدي من يشاء؛ فمن هداه فبفضله ومن أضله فبعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]؛ ولذلك فهو الذي يستطيع أن يملأ قلب الإنسان من الإيمان والخير وأن يوفقه للطاعة، ويستطيع في المقابل أن يخذله؛ فيتردى في الكفر، يستطيع أن يفتنه عن الإسلام؛ ولهذا قال موسى عليه السلام لما شاهد فتنة بني إسرائيل وارتجاف الأرض بهم: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

فلذلك لابد أن ندرك أن الله تعالى هو وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأن أرواح العباد جميعاً بيده متى شاء أخذها، لا يمكن أن ترتفع نفس الإنسان إلا بأمره ولا أن تنخفض إلا بأمره، لا يمكن أن يتحرك الدم في عروقه أية حركة إلا بأمر الله، وكذلك قلوبهم جميعاً بين إصبعين من أصابعه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء )، وكذلك فهو الذي يملك للإنسان العافية والشفاء من الأسقام، ويرزقه من صالح الأهل والمال، وهو الذي يملك له في مقابل ذلك أخذ كل ذلك إذا شاء؛ فهو الذي يملك أن يأخذ أسماع الناس وأبصارهم وأرواحهم، وأن يشل أعضاءهم وأن يسلط عليهم من الأسقام والأوجاع ما لا يخطر على بال أحد منهم، وهو الذي يدفع ذلك عنهم إذا شاء، وهو الذي يريهم البرق خوفاً وطمعاً، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وهو الذي ينزل الغيث فيخرج به النبات الذي ينفع العباد، وهو الذي يأتي بالقحط فيقضي على ذلك كله إذا شاء؛ فهو إذاً وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ ولذلك فالمخلوق إذا كان يملك شيئاً من آلة التخويف في الحياة الدنيا فإنه عرضة لكثير من المشكلات التي تمنعه من التخويف، فإذا أراد أن يتسلط أليس يمكن أن يموت في تلك اللحظة؟ أليس يمكن أن ينسد له التنفس؟ أليس يمكن أن يصاب بفشل كلوي أو قصور في القلب أو نوبة قلبية في تلك اللحظة؟ أليس يمكن أيضاً أن تخور قواه ويضعف؟ أليس يمكن أن يرتاع ويسمع صوتاً أو يرى شيئاً يخافه؟ إذا كان الحال كذلك فهو عرضة لأن يحتاج إلى الخلاء، عرضة لأن يحتاج إلى الذهاب في أية حال، عرضة للعطش والجوع، عرضة للمرض؛ فإذا كان هذا حاله فلا يستحق أن يخاف منه بوجه من الوجوه.

فإذاً ربنا سبحانه وتعالى هو الذي يستحق تمام المحبة لهذه الأوجه الثلاثة: لكماله وجماله وجلاله، ولإنعامه ولتخويفه كذلك؛ فكل هذه الأمور إليه سبحانه وتعالى وحده.

وإذا كان الحال كذلك فإنه يستحق حب الإلهية ولا يستحقه من سواه، وحب الإلهية حب مشترك بين العقل والعاطفة والجوارح، فهو الحب المغطي لكل ذلك، حب في العقل يقتضي من الإنسان أن ينطلق في مبادئه وتصوراته مما أذن الله به لأنه يعلم أن العقل جارحة من جوارحه، أنعم الله بها عليه ولو شاء لأخذها منه، وقد فاضل بين العباد تفاضلاً عجيباً فيما آتاهم من العقول، ومن هنا لابد أن يدرك العقل تمام الإدراك ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يؤمن بذلك وأن يصدق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وأن ينقاد لحكم الله وأمره؛ فهذه محبة العقل.

كذلك محبة الروح، وهي تقتضي تمام التوكل والاتصال بالله والأنس به، والتسلي به عما سواه؛ لأن في الله خلف عن كل هالك، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:156-157]، فهو يتصل بالله تعالى في أوقات الخلوة، وهي راحته، ويتصل به في صلاته فيحبه حباً شديداً، ويسجد بين يديه إجلالاً لوجهه الكريم، ويتذكر أنه أذن له في مناجاته في الوقت الذي حجب كثيراً من الآخرين عن ذلك؛ كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً)، أذن الله لهم بالاتصال به فسجدوا بين يديه ورفعوا إليه حوائجهم ووفقهم لمسألته ولأن يثنوا عليه بما هو أهله.

ثم إنه سبحانه وتعالى كذلك يحب بالبدن، وحبه بالبدن إنما يكون بأن يتعلق الإنسان بصرف كل ما أنعم الله عليه به من النعم في مرضاته؛ فهذا السمع نعمة من نعم الله، فينبغي ألا تسمع به إلا ما أذن الله لك في سماعه، وهذا البصر نعمة من نعم الله فينبغي ألا تبصر به إلا ما أذن الله لك فيه، وكذلك جميع ما أنعم الله به عليك من النعم ينبغي أن تصرفها في مرضاته، وألا تصرف شيئاً منها فيما سوى ذلك، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة أحبك الله؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه )، (كنت سمعه الذي يسمع به)؛ فلا يسمع إلا ما يحب الله سماعه، (وبصره الذي يبصر به)؛ فلا يبصر إلا ما يحب الله أن يبصره، (ويده التي يبطش بها)؛ فلا يتصرف بيده إلا فيما أذن الله فيه وأحبه، (ورجله التي يمشي بها)؛ فلا يستغل طاقة المشي إلا فيما يرضي الله؛ ولهذا يكون محبوباً لله، تصرفاته محبوبة مرضية، وأفعاله محبوبة مرضية، وأقواله محبوبة مرضية، فهو موفق للطاعة مأخوذ بناصيته إلى الخير.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع