التثبت والتبين في النقل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

ففي مستهل هذا الدرس، أرجو لنفسي ولإخواني أن نكون ممن قبل الله تعالى منهم أعمالهم الصالحة، فكان قبولها سبباً في زيادة أعمال أخرى، من صيام الست من شوال، والمحافظة على الوتر، أو ما تيسر من قيام الليل، فإن من علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها.

أما موضوع هذه الليلة فهو عن: (التثبت والتبين في النقل) وسأتحدث عن هذا الموضوع في عدة نقاط:

الأولى منها: عن أهمية الموضوع، والموضوع لا شك في غاية الأهمية، لأنه ما من إنسان إلا وأكثر ما يشتغل منه لسانه، فقد يكون الإنسان أحياناً طريح الفراش، راقداً على سريره سنين طوالاً لا يتحرك منه شيء، لكن لسانه لا يفتر إما بذكر الله تعالى، وإما بغير ذلك؛ ولهذا كانت آداب اللسان من أهم الآداب التي يجب أن يعتني بها الإنسان -كما سبقت الإشارة لذلك في مطلع درس الصمت والمنطق.. ومن آداب اللسان قضيةُ وجوب التثبت والتبين فيما يقوله الإنسان أو فيما ينقله عن الناس.

فإننا نجد في واقع الناس اليوم تساهلاً في ذلك وتفريطاً كبيراً، فإن أغلب الناس يتساهلون في نقل ما يسمعون من الأحكام الشرعية والأقوال الفقهية، والأخبار والأحداث وغيرها، سواء أكانت أموراً متعلقة بالتأريخ، والأزمنة الماضية، أم أموراً متعلقة بالواقع الحاضر، وسواء أكانت مما يتعلق بالأحكام -والحلال والحرام- أم كانت مما يتعلق بالأشخاص: من علماء، أو عامة، أو زعماء، أو مشاهير، أو غيرهم.

تجد الناس يفيضون في هذه الأحاديث دون أن يردعهم رادع أو يزجرهم زاجر، وكلما كان الإنسان أكثر جهلاً، كان أجرأ على الكلام والخبط والهجوم على مثل هذه الأمور، وللإسلام في ذلك منهج واضح صريح، لابد من بيانه، وهذه هي النقطة الثانية.

قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

يقول الله عز وجل: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] أي لا تقل ما ليس لك به علم، لا ترم أحداً بما ليس لك به علم، وفَسَّرَهُ بعض السلف بقول الزور، وشهادة الزور. وفسره آخرون بالفرية، وكل هذه لا تعدو أن تكون أمثلةً لقفو الإنسان ما ليس له به علم، فإن الإنسان إذا قفا ما ليس له به علم، قال ما لا يعلم وأفتى بما لا يعلم، وقال الزور وشهد الزور، وافترى، وظلم، وكذب، وكل هذا مما ليس له به علم.

ولهذا قال قتادة: [[لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم تر، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله]] رواه ابن جرير، وابن المنذر، وكذلك روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس رضي الله عنه أنه قال: [[يقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويقال للعين يوم القيامة هل رأيتِ؟ ويقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك...!]].

إذاً: الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نقفو ما ليس لنا به علم، ويبين أن السمع مسئول عنه، يُسأل السمع فيقال للأذن: هل سمعتِ؟ ويسأل الإنسان نفسه هل سمعت؟ والبصر مسئول ومسئول عنه أيضاً يقال: هل رأيت؟ ويقال للإنسان هل رأيت؟ ويقال للعين: هل رأيتِ؟، وكذلك الفؤاد وهو القلب فهو مسئول ومسئول عنه كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] ولهذا ذكر الله عز وجل في مواضع من القرآن الكريم أن الأعضاء تسأل يوم القيامة وتنطق، حتى اللسان، الإنسان الآن ينطق بلسانه، فيوم القيامة يُسأل، فيقال: أما قلت كذا، وكذا؟ فينكر، فيختم الله تعالى على فمه، ويأمر اللسان -هذه اللحمة- أن تتكلم بنفسها، ليس كلام الإنسان الذي يخرج من حلقه، واللسان وسيلة فيه، وإنما ينطق اللسان ذاته فَيُقِرُ، فتشهد عليهم ألسنتهم، يقر اللسان بما قاله الإنسان وبما نطق به، وتقر العين بما فعلت، وتقر الأذن بما فعلت، وتقر الأيدي والأرجل، كل هذه الأشياء تشهد على الإنسان كما ورد في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك فقالوا: يا رسول الله ممَّ ضحكت؟ قال: {ضحكت من مجادلة العبد ربه يقول يوم القيامة: يا رب إني لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي، أي لا يقبل حتى الملائكة، فيأمر الله عز وجل فيختم على فيه، ويأمر جوارحه فتنطق بما فعل من شر} فتتكلم اليد، والرجل، واللسان، والأذن، والعين، وغيرها من الجوارح قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].

وكذلك يقول الله عز وجل في موضع آخر من كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] ويأمرنا الله عز وجل بالتبين إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] هكذا قرأها الجمهور (فتبينوا) وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فتثبتوا [الحجرات:6] والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، وهذا أمر من الله عز وجل للإنسان أن يتبين. أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، وخاصة إن كان الذي جاء بالخبر فاسقاً، إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] ثم علل ذلك بقوله: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً [الحجرات:6] أي لئلا تصيبوا قوماً بجهالة، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فربما إنسان بلغه عن أخ مسلم خبر فقال به، وأصبح يتكلم في المجالس يقول: فلان فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا.

بعد فترة تبين لهذا المتحدث أن ما كان يقوله عن فلان غير صحيح فهنا هو نفسه أصبح من النادمين، لأنه عرف أنه وقع في عرض أخيه المسلم، واستطال في عرضه بغير حق، وهو أمر لا يمكن تداركه، ولذلك يقول القائل:

يموت الفتى من عثرة بلسانه     وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل

فعثرته بالقول تودي برأسه     وعثرته بالرجل تبرا على مهل

فعثرة القدم، قد يعثر الإنسان فيسقط فتبرأ، أي تشفى بعد شهر أو شهرين، لكن عثرة اللسان قد تكون السبب في حَزِّ رأسه، وجرح اللسان لا يمكن تداركه، لأن الكلام إذا خرج من اللسان لا يمكن إرجاعه!

ولذلك قال الأولون كما نقل عن عمر رضي الله عنه وغيره، قالوا: [[من كتم سره كان الخيار بيده]] يعني إذا لم تتعجل في الكلام، مثلاً: بلغك عن فلان من الناس أنه قال: كذا وكذا، فأنت صدقت هذا الكلام، لكن قلت: لا داعي أن أتكلم الآن.. أصبر.. أعتبر هذا سراً وأكتمه.

بعد ذلك بإمكانك في أي وقت تشاء أن تقوله، ولو سكتَّ شهراً، أو شهرين تستطيع بعد ذلك أن تقول فلان قال: كذا. لكن لو بلغك عن فلان قولٌ، ثم تسرعت في إفاضته، ونشره والحديث عنه؛ فإنه لا يمكن بعد ذلك إرجاعه، [[من كتم سره كان الخيار بيده]] فإذا خرجت الكلمة من الفم لا يمكن إرجاعها، فهي مثل الرصاصة، الإنسان إذا وجه إلى إنسان بندقية، ثم حرك زنادها فانطلقت منها رصاصة صوب شخص معين، قد يندم الإنسان على ذلك، ولكن لا يمكن إرجاعها لأنها وصلت إلى مستقرها وأصابت المقتل الذي وجهت إليه، وكانت سبباً في هلاك هذا الشخص، وفي هلاك مطلقها أيضاً دنيا وآخرة، هلاكه دنيا بالقصاص منه، وهلاكه أخرى بأنه يلقى الله عز وجل بدم أخيه.

فاعتبر أن الكلمة التي تخرج من فمك مثل الرصاصة، التي إن أمسكها الإنسان استطاع أن يطلقها في الوقت المناسب، وإن أطلقها بدون تبصر ولا تثبت ولا تبين، فإنه لا يمكن أن ترجع بحال من الأحوال، فالله عز وجل يقول: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6].

وقد ذكر أهل السير والتفسير والحديث كما رواه الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم ويقول السيوطي في الدر المنثور: بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه {أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعرض عليَّ الإسلام فأسلمت، ثم عرض عليَّ الزكاة، فقلت: يا رسول الله، أذهب إلى قومي، فأدعوهم إلى الله عز وجل فمن آمن منهم أخذت زكاته، ويأتيني رسولك في إبان كذا وكذا} ضرب له موعداً محدداً {تبعث إلي فيه رجلاً يأخذ مني الزكاة. فجاء الحارث رضي الله عنه إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم جمع منهم الزكاة في الإبّان الذي حدده لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا ينتظرون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فتأخر عن إبّانه. فقال الحارث بن ضرار الخزاعي لقومه: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد واعدني وقت كذا، وكذا، وليس من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف في الوعد، وخاف الحارث أن يكون أصابه سخطة من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم} خشي أن يكون الله سخط عليه فأنـزل فيه قرآناً، أو سخط عليه الرسول صلى الله عليه وسلم {فجمع الزكاة، وخرج بقومه، فلما خرج لقي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معهم السلاح، فلما غشيهم قال: ما الذي جاء بكم؟! قالوا: جئنا إليك. قال: وما ذاك؟! قالوا: رددت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردت قتله، وَمَنَعْتَ الزكاة، قال: ما فعلت! ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث إليه الوليد بن عقبة مصدقاً } أي يأخذ الصدقة، وهو ابن عقبة بن أبي معيط، فـالوليد بن عقبة جاء للحارث بن ضرار الخزاعي وقومه {فلما أقبل كان بينه وبينهم شيء في الجاهلية، أو كأنه هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد أراد قتلي، ومنع الزكاة فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش، وأمرهم بالتثبت من أمر الحارث وقومه، ثم نـزل قول الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]} وهذا الحديث في قصة الوليد بن عقبة، وأنه ادعى أن الحارث بن ضرار الخزاعي أراد قتله، ومنع الزكاة، هذا الحديث، قال فيه السيوطي: بسند جيد كما في الدر المنثور، وجاء له شواهد كثيرة جداً، عن جماعة من الصحابة والتابعين، منها عن علقمة بن ناجية الخزاعي، ومنها عن جابر، ومنها عن أم سلمة، ومنها عن ابن عباس رضي الله عنه، ومنها عن جماعة من التابعين منهم مجاهد، وعكرمة، وقتادة وغيرهم حتى قال الإمام الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب قال: لا خلاف بين أهل التأويل فيما أعلم أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين ذهب لأخذ صدقات الحارث بن ضرار الخزاعي وقومه.

وإن كان بعض المعاصرين حاول أن ينكر هذه القصة، كما فعل الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم، لكن هذه القصة أشهر من أن ترد أو تنكر. صحيح أن فيها رمي الوليد بن عقبة بأنه فاسق، كما قال الله عز وجل: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] لكن لا يمنع أن يكون حدث منه فسق، ثم تاب منه هذا على وجه، مع أن المشهور عن الوليد بن عقبة -رحمه الله- وغفر الله لنا وله أنه كان عنده تجاوزات وأخطاء كثيرة، ذكرها أهل السيرة وأثبتوها، حتى قال الإمام ابن عبد البر قال: [[ إنها أشياء ثابتة مؤكدة مقطوع بها عند أهل العلم بالأخبار لا شك فيها، منها أنه كان أميراً على أهل الكوفة، فجاء يصلى بهم يوماً، وكان قد سكر -شرب الخمر فسكر- فتقدم وصلى بهم أربع ركعات، ثم التفت وقال: أزيدكم...!

فقالوا له: ما زلنا معك منذ الليلة في زيادة!!

وقد هجاه الحطيئة بذلك:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه     أن الوليد أحق بالغدر

صلى بهم وقال: أزيدكم ثاملاً ولا يدري ]] -إلى غير ذلك من الأخبار والقصص التي نرجو الله أن يعفو عنا وعنه، ولا يمنع أن يكون الرجل قد تاب منها، لكنها اشتهرت عنه، وتداولها أهل العلم بالأخبار، ومن المعلوم أن الصحابي قد يحدث منه زلة ثم يتوب منها، ومن الأمور التي لابد من الإشارة إليها أنه لم ينقل الوليد بن عقبة -رحمه الله ورضي الله عنه-، عن الرسول صلى الله عليه وسلم خبراً واحداً يتوقف قبوله عليه، كما نقل الإمام ابن عبد البر.

فهذه أمور وقعت من الوليد، ولا يمنع أن يكون تاب الله عليه منها وأقلع عنها، أو يكون له حسنات تقابلها؛ فإن الوليد بن عقبة من الأجواد، الكرماء، السادة المشهورين، الفصحاء، وله فضائل وأخلاق حميدة، ذكرها مترجموه أيضاً، فقد يكون في العبد حسنات يكفر الله تعالى بها عنه من سيئاته وذنوبه، إن لم يكن تاب منها وأقلع عنها.

هذا هو سبب نـزول الآية أن الله عز وجل أمر المؤمنين إن جاءهم رجل فاسق بخبر أن يتبينوا ويتثبتوا خشية أن يصيبوا قوما بجهالة فيقتلوهم، أو يسبُّوهم، أو يقعوا فيهم، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين.

يقول الله عز وجل: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] أي لا تقل ما ليس لك به علم، لا ترم أحداً بما ليس لك به علم، وفَسَّرَهُ بعض السلف بقول الزور، وشهادة الزور. وفسره آخرون بالفرية، وكل هذه لا تعدو أن تكون أمثلةً لقفو الإنسان ما ليس له به علم، فإن الإنسان إذا قفا ما ليس له به علم، قال ما لا يعلم وأفتى بما لا يعلم، وقال الزور وشهد الزور، وافترى، وظلم، وكذب، وكل هذا مما ليس له به علم.

ولهذا قال قتادة: [[لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم تر، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله]] رواه ابن جرير، وابن المنذر، وكذلك روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن قيس رضي الله عنه أنه قال: [[يقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويقال للعين يوم القيامة هل رأيتِ؟ ويقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك...!]].

إذاً: الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نقفو ما ليس لنا به علم، ويبين أن السمع مسئول عنه، يُسأل السمع فيقال للأذن: هل سمعتِ؟ ويسأل الإنسان نفسه هل سمعت؟ والبصر مسئول ومسئول عنه أيضاً يقال: هل رأيت؟ ويقال للإنسان هل رأيت؟ ويقال للعين: هل رأيتِ؟، وكذلك الفؤاد وهو القلب فهو مسئول ومسئول عنه كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] ولهذا ذكر الله عز وجل في مواضع من القرآن الكريم أن الأعضاء تسأل يوم القيامة وتنطق، حتى اللسان، الإنسان الآن ينطق بلسانه، فيوم القيامة يُسأل، فيقال: أما قلت كذا، وكذا؟ فينكر، فيختم الله تعالى على فمه، ويأمر اللسان -هذه اللحمة- أن تتكلم بنفسها، ليس كلام الإنسان الذي يخرج من حلقه، واللسان وسيلة فيه، وإنما ينطق اللسان ذاته فَيُقِرُ، فتشهد عليهم ألسنتهم، يقر اللسان بما قاله الإنسان وبما نطق به، وتقر العين بما فعلت، وتقر الأذن بما فعلت، وتقر الأيدي والأرجل، كل هذه الأشياء تشهد على الإنسان كما ورد في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك فقالوا: يا رسول الله ممَّ ضحكت؟ قال: {ضحكت من مجادلة العبد ربه يقول يوم القيامة: يا رب إني لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي، أي لا يقبل حتى الملائكة، فيأمر الله عز وجل فيختم على فيه، ويأمر جوارحه فتنطق بما فعل من شر} فتتكلم اليد، والرجل، واللسان، والأذن، والعين، وغيرها من الجوارح قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].

وكذلك يقول الله عز وجل في موضع آخر من كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] ويأمرنا الله عز وجل بالتبين إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] هكذا قرأها الجمهور (فتبينوا) وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فتثبتوا [الحجرات:6] والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، وهذا أمر من الله عز وجل للإنسان أن يتبين. أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، وخاصة إن كان الذي جاء بالخبر فاسقاً، إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] ثم علل ذلك بقوله: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً [الحجرات:6] أي لئلا تصيبوا قوماً بجهالة، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] فربما إنسان بلغه عن أخ مسلم خبر فقال به، وأصبح يتكلم في المجالس يقول: فلان فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا.

بعد فترة تبين لهذا المتحدث أن ما كان يقوله عن فلان غير صحيح فهنا هو نفسه أصبح من النادمين، لأنه عرف أنه وقع في عرض أخيه المسلم، واستطال في عرضه بغير حق، وهو أمر لا يمكن تداركه، ولذلك يقول القائل:

يموت الفتى من عثرة بلسانه     وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل

فعثرته بالقول تودي برأسه     وعثرته بالرجل تبرا على مهل

فعثرة القدم، قد يعثر الإنسان فيسقط فتبرأ، أي تشفى بعد شهر أو شهرين، لكن عثرة اللسان قد تكون السبب في حَزِّ رأسه، وجرح اللسان لا يمكن تداركه، لأن الكلام إذا خرج من اللسان لا يمكن إرجاعه!

ولذلك قال الأولون كما نقل عن عمر رضي الله عنه وغيره، قالوا: [[من كتم سره كان الخيار بيده]] يعني إذا لم تتعجل في الكلام، مثلاً: بلغك عن فلان من الناس أنه قال: كذا وكذا، فأنت صدقت هذا الكلام، لكن قلت: لا داعي أن أتكلم الآن.. أصبر.. أعتبر هذا سراً وأكتمه.

بعد ذلك بإمكانك في أي وقت تشاء أن تقوله، ولو سكتَّ شهراً، أو شهرين تستطيع بعد ذلك أن تقول فلان قال: كذا. لكن لو بلغك عن فلان قولٌ، ثم تسرعت في إفاضته، ونشره والحديث عنه؛ فإنه لا يمكن بعد ذلك إرجاعه، [[من كتم سره كان الخيار بيده]] فإذا خرجت الكلمة من الفم لا يمكن إرجاعها، فهي مثل الرصاصة، الإنسان إذا وجه إلى إنسان بندقية، ثم حرك زنادها فانطلقت منها رصاصة صوب شخص معين، قد يندم الإنسان على ذلك، ولكن لا يمكن إرجاعها لأنها وصلت إلى مستقرها وأصابت المقتل الذي وجهت إليه، وكانت سبباً في هلاك هذا الشخص، وفي هلاك مطلقها أيضاً دنيا وآخرة، هلاكه دنيا بالقصاص منه، وهلاكه أخرى بأنه يلقى الله عز وجل بدم أخيه.

فاعتبر أن الكلمة التي تخرج من فمك مثل الرصاصة، التي إن أمسكها الإنسان استطاع أن يطلقها في الوقت المناسب، وإن أطلقها بدون تبصر ولا تثبت ولا تبين، فإنه لا يمكن أن ترجع بحال من الأحوال، فالله عز وجل يقول: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6].

وقد ذكر أهل السير والتفسير والحديث كما رواه الطبراني، والإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وغيرهم ويقول السيوطي في الدر المنثور: بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه {أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعرض عليَّ الإسلام فأسلمت، ثم عرض عليَّ الزكاة، فقلت: يا رسول الله، أذهب إلى قومي، فأدعوهم إلى الله عز وجل فمن آمن منهم أخذت زكاته، ويأتيني رسولك في إبان كذا وكذا} ضرب له موعداً محدداً {تبعث إلي فيه رجلاً يأخذ مني الزكاة. فجاء الحارث رضي الله عنه إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم جمع منهم الزكاة في الإبّان الذي حدده لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسوا ينتظرون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فتأخر عن إبّانه. فقال الحارث بن ضرار الخزاعي لقومه: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد واعدني وقت كذا، وكذا، وليس من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف في الوعد، وخاف الحارث أن يكون أصابه سخطة من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم} خشي أن يكون الله سخط عليه فأنـزل فيه قرآناً، أو سخط عليه الرسول صلى الله عليه وسلم {فجمع الزكاة، وخرج بقومه، فلما خرج لقي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معهم السلاح، فلما غشيهم قال: ما الذي جاء بكم؟! قالوا: جئنا إليك. قال: وما ذاك؟! قالوا: رددت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردت قتله، وَمَنَعْتَ الزكاة، قال: ما فعلت! ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث إليه الوليد بن عقبة مصدقاً } أي يأخذ الصدقة، وهو ابن عقبة بن أبي معيط، فـالوليد بن عقبة جاء للحارث بن ضرار الخزاعي وقومه {فلما أقبل كان بينه وبينهم شيء في الجاهلية، أو كأنه هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه قد أراد قتلي، ومنع الزكاة فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الجيش، وأمرهم بالتثبت من أمر الحارث وقومه، ثم نـزل قول الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]} وهذا الحديث في قصة الوليد بن عقبة، وأنه ادعى أن الحارث بن ضرار الخزاعي أراد قتله، ومنع الزكاة، هذا الحديث، قال فيه السيوطي: بسند جيد كما في الدر المنثور، وجاء له شواهد كثيرة جداً، عن جماعة من الصحابة والتابعين، منها عن علقمة بن ناجية الخزاعي، ومنها عن جابر، ومنها عن أم سلمة، ومنها عن ابن عباس رضي الله عنه، ومنها عن جماعة من التابعين منهم مجاهد، وعكرمة، وقتادة وغيرهم حتى قال الإمام الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب قال: لا خلاف بين أهل التأويل فيما أعلم أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين ذهب لأخذ صدقات الحارث بن ضرار الخزاعي وقومه.

وإن كان بعض المعاصرين حاول أن ينكر هذه القصة، كما فعل الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقاته على كتاب العواصم من القواصم، لكن هذه القصة أشهر من أن ترد أو تنكر. صحيح أن فيها رمي الوليد بن عقبة بأنه فاسق، كما قال الله عز وجل: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] لكن لا يمنع أن يكون حدث منه فسق، ثم تاب منه هذا على وجه، مع أن المشهور عن الوليد بن عقبة -رحمه الله- وغفر الله لنا وله أنه كان عنده تجاوزات وأخطاء كثيرة، ذكرها أهل السيرة وأثبتوها، حتى قال الإمام ابن عبد البر قال: [[ إنها أشياء ثابتة مؤكدة مقطوع بها عند أهل العلم بالأخبار لا شك فيها، منها أنه كان أميراً على أهل الكوفة، فجاء يصلى بهم يوماً، وكان قد سكر -شرب الخمر فسكر- فتقدم وصلى بهم أربع ركعات، ثم التفت وقال: أزيدكم...!

فقالوا له: ما زلنا معك منذ الليلة في زيادة!!

وقد هجاه الحطيئة بذلك:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه     أن الوليد أحق بالغدر

صلى بهم وقال: أزيدكم ثاملاً ولا يدري ]] -إلى غير ذلك من الأخبار والقصص التي نرجو الله أن يعفو عنا وعنه، ولا يمنع أن يكون الرجل قد تاب منها، لكنها اشتهرت عنه، وتداولها أهل العلم بالأخبار، ومن المعلوم أن الصحابي قد يحدث منه زلة ثم يتوب منها، ومن الأمور التي لابد من الإشارة إليها أنه لم ينقل الوليد بن عقبة -رحمه الله ورضي الله عنه-، عن الرسول صلى الله عليه وسلم خبراً واحداً يتوقف قبوله عليه، كما نقل الإمام ابن عبد البر.

فهذه أمور وقعت من الوليد، ولا يمنع أن يكون تاب الله عليه منها وأقلع عنها، أو يكون له حسنات تقابلها؛ فإن الوليد بن عقبة من الأجواد، الكرماء، السادة المشهورين، الفصحاء، وله فضائل وأخلاق حميدة، ذكرها مترجموه أيضاً، فقد يكون في العبد حسنات يكفر الله تعالى بها عنه من سيئاته وذنوبه، إن لم يكن تاب منها وأقلع عنها.

هذا هو سبب نـزول الآية أن الله عز وجل أمر المؤمنين إن جاءهم رجل فاسق بخبر أن يتبينوا ويتثبتوا خشية أن يصيبوا قوما بجهالة فيقتلوهم، أو يسبُّوهم، أو يقعوا فيهم، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين.

التحذير من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم

وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من القول عليه بغير علم، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ذلك في أحاديث كثيرة جداً ثابتة، منها أحاديث في الصحيحين كما في حديث علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار} ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ومثله حديث المغيرة بن شعبة، والزبير، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الكذب عليه، والقول عليه بغير علم، وتوعد الكاذبين بالنار.

وهذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة، فقد روي عن أكثر من ستين أو ثمانين صحابياً، وهو من المتواتر اللفظي أيضاً فنجزم ونقطع ونحلف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث جزماً لا تردد فيه بألفاظه وحروفه، قال: {من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار}؛ لأن هذا اللفظ بعينه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحروفه وألفاظه، عن طريق جماعة كثيرة من الصحابة، فهو من المتواتر وهذا دليل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من الكذب عليه، فكان يقول ذلك في مجالس كثيرة جداً، حتى تناقله عنه أصحابه رضي الله تعالى عنهم.

التأني وترك العجلة

وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأناة والتأني، وحذر من العجلة، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه أبو يعلى عن أنس بن مالك -وسنده حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{التأني من الله، والعجلة من الشيطان} والتأني يكون في كل شيء، ومن ذلك التأني في القول، فإذا سمعت قولاً عن الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الناس فتأنَّ في أخذ هذا القول وقبوله، ولا تتسرع في تصديقه ونشره، وإشاعته -خاصة إن كان هذا القول من الأقوال التي يستغربها الإنسان، أو لا يصدقها لأول وهلة، كما سيأتي في أمثلة لذلك.

عدالة حملة العلم

كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر صفة العلماء في حديث، وإن كان في الحديث اختلاف؛ صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد، والعراقي، وغيرهم، وله طرق عديدة عن معاذ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله} فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العلماء الذين يحملون العلم، وينقلونه كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف -أنهم عدول، والعدالة تعنى أنهم قوم أهل صدق، وديانة، وتورع، وتثبت، وأناة وعدم تعجل، فهذه صفة العالم الذي يؤخذ عنه العلم، وهذه صفة الذي يريد أن يكون عالماً أن يكون عدلاً متثبتاً غير متعجل ولا متسرع.

خطر الفتوى بغير علم

وكذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ما يقع في آخر الزمان { أن الله تعالى لا يقبض العلم، ينتزعه انتزاعا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا } وهذا من عدم التثبت، أنهم جهال ويترأسون، ثم يسألون، فلا يقولون: الله أعلم، أو لا ندرى، أو نراجع، أو ننظر، بل يفتون بغير علم فيضلون بالقول على الله تعالى وعلى رسول الله بغير علم، ويضلون غيرهم ممن يتبعهم في هذا الأمر.. لماذا؟

لأنهم أصحاب أسماء مشهورة معروفة، ولأنهم رءوس، ولأن الأمر قد انتهى، إليهم خلت الساحة، ولم يبق إلا هذه الرموز الحائلة الزائلة، كما قال الأول:

خلتِ الديار فَسُدْتَ غير مُسَوَّد     ومن البلاء تفردي بالسؤددِ

وهذا يقوله الأولون تواضعا لله عز وجل، وإلا فكانوا سادة حقيقيين، وكانوا علماء وفقهاء، ومع ذلك كان أحدهم يقول:

خلت الديار فُسُدْتَ غيرَ مُسَوَّدِ     ومن البلاء تفردي بالسؤدد

أما في هذا الزمن، فإنه يحق لكثير من أمثالنا وممن يشار إليهم وممن يتكلمون أن يتمثلوا بهذا البيت:

خلت الديار فسدت غير مسود     ومن البلاء تفردي بالسؤدد

فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه في آخر الزمان يوجد رءوس من جهال، يتكلمون ويفتون بغير علم، فيضلون ويُضلون، ولا شك أن هذا نوع من التحذير من الفتيا بغير علم، ومن القول على الله تعالى بغير علم، ومن اتباع هذه الأقوال والآراء والفتاوى التي لا دليل عليها.

قصة حاطب

وفي المجال العملي نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التثبت، انظر إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهي في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

لما كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فنـزل الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

فبعث علي بن أبي طالب، والزبير في أربعة نفر، وأخبرهم بأنهم سيجدون المرأة في مكان كذا وكذا، ويجدون معها كتاباً من حاطب فذهبوا إلى المرأة وأمسكوا بها، قالت: ما معي كتاب، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كَذَبْنا ولا كُذبْنا، سمعنا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى، ومعك كتاب! لكن لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، أو لنكشفن الثياب -إما أن تعطينا الرسالة، وإما أن نبحث عن الرسالة في كل مكان من جسدك، حتى لو اضطررنا إلى أن نعريك لنجد هذا الكتاب الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما رأت الجد قالت: تَنَحَّوا (أي ابعدوا) فأخرجته من جدائلها (من شعرها) كانت قد جدلت عليه شعرها، وسلمتهم الكتاب.

وإذا فيه: من (حاطب بن أبي بلتعة: إلى قريش، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليكم) فلما جاءوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: { يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فلم يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا العرض، ودعا بـحاطب بن أبي بلتعة } -وهنا يأتي التثبت، الآن الخطأ وقع، وهو خطأ عظيم، بل هو في الأصل كبيرة من الكبائر، فموالاة الكفار بهذه الصورة وكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عظيم حتى نـزل فيه قرآن، ومع ذلك لم يسارع الرسول عليه الصلاة والسلام لإلقاء الخطبة على الصحابة عن حاطب: هذا المنافق الذي فيه وفيه وفيه وصار يكشف سرنا، ويفضحنا، ويوالى أعداءنا، وهو بيننا! لا! بل ربى أصحابه، قال: أين حاطب؟ هاتوه، بيننا وبينه أمتار، لا داعي أن نتكلم وهو غائب، تعال يا حاطب! ما حملك على ذلك؟ وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأسباب منها:

أولاً: يمكن أن يكون الكتاب لم يكتبه حاطب بن أبي بلتعة وإنما كتبه شخص آخر وألصقه بـحاطب بن أبي بلتعة، فإحضار الشخص وسؤاله يزيل هذا اللبس.

حاطب بن أبي بلتعة اعترف وأقر بالكتاب...!

ولكن تأتي نقطة أخرى: وهي يجب أن نعرف ما هي الدوافع، هل يكون حاطب بن أبي بلتعة فعلاً منافق يوالي الكفار؟ هل هناك أمر آخر دفعه إلى ذلك؟ {قال: ما حملك على ذلك؟ قال: والله يا رسول الله! إني ما كفرت بعد إيماني، ولا ارتددت، وإني أحب الله ورسوله، لكن ما من أصحابك من أحد إلا وله في مكة من يدفع الله به عن أهله وماله، أما أنا فليس لي أحد يدفع الله عني به، قال: فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وعلمت أن الله -تعالى- ناصر رسوله ومعلٍ كلمته} لأنه كان لصيقاً بالقوم وليس منهم -لم يكن من قريش- فخشي أن يعتدوا على أمه وعلى ماله الذي في مكة.. يقول أردت بها أن يدفع الله بها عن مالي وعن أهلي بهذا الكتاب، وفي الوقت الذي غلب على ظني أن هذا الكتاب لن يغير في الأمر شيئاً، فقدر الله نافذ، والله ناصر رسوله، ومعز دينه، ومعلٍ كلمته، فلن يضر هذا الكتاب في الوقت الذي أظن أنه ينفعني.

هذا خطأ كبير، لكن بعدما عرف السبب هان الأمر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {صدق، صدق، لا تقولوا إلا خيراً} ثم نـزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات.

فلو أن واحداً من الناس اليوم حصل منه خطأ يشبه هذا الخطأ، لأفاض الناس في الكلام فيه والوقيعة، والذم، والشتم، والسب، وربما يكون أحدهم من جيرانه ومع ذلك لم يقرع عليه الباب ويدخل ويحادثه ويقول: يا أخي: الإنسان يخطئ، وكل بني آدم خطاء، ولا يغلبنك الشيطان -ومثل هذا الكلام الطيب اللين.. لا! إنما يسارعون في الوقيعة، والشتم، والسب!!

وكأن الناس والعياذ بالله أحيانا يفرحون بخطأ الإنسان حتى يقعوا فيه، فهذا نموذج من التثبت والتبين الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.

حادثة الإفك

مثال آخر: حادثة الإفك: لما قال أصحاب الإفك في عائشة رضي الله عنها ما قالوا، وفاض ذلك في الناس، ربى الله تعالى المؤمنين من خلال هذه الحادثة على آداب وأخلاق عظيمة لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:12] ولذلك قال أبو أيوب رضي الله عنه لما سألته زوجته أم أيوب، قالت: يا أبا أيوب! أسمعت ما قيل؟ قال: نعم، يا أم أيوب! وذلك الكذب، ثم قال لها: يا أم أيوب! أرأيت لو كنتِ مكان عائشة، أكنت تفعلين؟! يعني لو كنتِ مكان عائشة هل يمكن أن ترتكبي الفاحشة؟ قالت: لا، قال: لو كان أبو أيوب مكان صفوان أكان يفعل؟! قالت: لا! قال: فـصفوان خير مني، وعائشة خير منكِ..!

إذاً نحن نظن بأنفسنا خيراً! ومثلما ما أنني لا أظن بنفسي ولا بزوجي أن يقع منا مثل ذلك، كذلك لا أظن برجل من المسلمين أن يقع منه ذلك؛ ما دامت المسألة إشاعة أو شبهة أو كلاماً قيل ليس عليه من دليل.

فربى الله المؤمنين على التثبت، وعاتب أولئك الذين أفاضوا بالحديث دون أن يتثبتوا منه، وكان منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك غاية الاعتدال.

فإن المتهمة الآن والمرمية هي زوجته أم المؤمنين عائشة.

وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء عظيم، حتى قام على المنبر، وقال: {من يُعذِرني من قوم يقولون في أهلي؟ والله ما أعلم إلا خيرا!} ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يتجنب عائشة، ويقول: {كيف تيكم؟} ولا يخاطبها، فكأنه توقف في الأمر، لأنه يعلم أنه لابد أن يبين الله تعالى في الأمر بياناً كافياً شافياً، حتى نـزل القرآن في براءتها رضي الله عنها.

قصة ماعز

ومن الأمثلة العملية أيضا في التثبت والتبين، قصة ماعز بن مالك الأسلمي، وهي في الصحيحين أيضا.

لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف أمامه وقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني. فلم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام منه أول مرة، حتى اعترف على نفسه أربعة اعترافات بأنه قد زنى، ثم بعد ذلك ما قبل منه، حتى يتثبت: هل الرجل الآن في حالة سكر؟ تعالوا يا خبراء استنكهوا الرجل -شموه- هل هو سكران؟ قالوا: ما به سكر.

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وقبيلته، فقال: هل في عقله شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! ليس في عقله شيء. حتى تَثَبَّتَ وتبين أن الرجل فعلاً قد وقع في الزنى، فأقام عليه صلى الله عليه وسلم الحد.

وكل هذه الأمثلة والقصص وغيرها تربي الصحابة رضي الله عنهم على ضرورة التثبت وعدم التسرع في الأقوال، أو في الأعمال أو في المواقف التي يتخذونها من بعضهم، من إخوانهم المؤمنين.

وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من القول عليه بغير علم، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ذلك في أحاديث كثيرة جداً ثابتة، منها أحاديث في الصحيحين كما في حديث علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار} ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ومثله حديث المغيرة بن شعبة، والزبير، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الكذب عليه، والقول عليه بغير علم، وتوعد الكاذبين بالنار.

وهذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة، فقد روي عن أكثر من ستين أو ثمانين صحابياً، وهو من المتواتر اللفظي أيضاً فنجزم ونقطع ونحلف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث جزماً لا تردد فيه بألفاظه وحروفه، قال: {من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار}؛ لأن هذا اللفظ بعينه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحروفه وألفاظه، عن طريق جماعة كثيرة من الصحابة، فهو من المتواتر وهذا دليل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من الكذب عليه، فكان يقول ذلك في مجالس كثيرة جداً، حتى تناقله عنه أصحابه رضي الله تعالى عنهم.

وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأناة والتأني، وحذر من العجلة، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه أبو يعلى عن أنس بن مالك -وسنده حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{التأني من الله، والعجلة من الشيطان} والتأني يكون في كل شيء، ومن ذلك التأني في القول، فإذا سمعت قولاً عن الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الناس فتأنَّ في أخذ هذا القول وقبوله، ولا تتسرع في تصديقه ونشره، وإشاعته -خاصة إن كان هذا القول من الأقوال التي يستغربها الإنسان، أو لا يصدقها لأول وهلة، كما سيأتي في أمثلة لذلك.

كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر صفة العلماء في حديث، وإن كان في الحديث اختلاف؛ صححه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد، والعراقي، وغيرهم، وله طرق عديدة عن معاذ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله} فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العلماء الذين يحملون العلم، وينقلونه كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف -أنهم عدول، والعدالة تعنى أنهم قوم أهل صدق، وديانة، وتورع، وتثبت، وأناة وعدم تعجل، فهذه صفة العالم الذي يؤخذ عنه العلم، وهذه صفة الذي يريد أن يكون عالماً أن يكون عدلاً متثبتاً غير متعجل ولا متسرع.

وكذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ما يقع في آخر الزمان { أن الله تعالى لا يقبض العلم، ينتزعه انتزاعا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا } وهذا من عدم التثبت، أنهم جهال ويترأسون، ثم يسألون، فلا يقولون: الله أعلم، أو لا ندرى، أو نراجع، أو ننظر، بل يفتون بغير علم فيضلون بالقول على الله تعالى وعلى رسول الله بغير علم، ويضلون غيرهم ممن يتبعهم في هذا الأمر.. لماذا؟

لأنهم أصحاب أسماء مشهورة معروفة، ولأنهم رءوس، ولأن الأمر قد انتهى، إليهم خلت الساحة، ولم يبق إلا هذه الرموز الحائلة الزائلة، كما قال الأول:

خلتِ الديار فَسُدْتَ غير مُسَوَّد     ومن البلاء تفردي بالسؤددِ

وهذا يقوله الأولون تواضعا لله عز وجل، وإلا فكانوا سادة حقيقيين، وكانوا علماء وفقهاء، ومع ذلك كان أحدهم يقول:

خلت الديار فُسُدْتَ غيرَ مُسَوَّدِ     ومن البلاء تفردي بالسؤدد

أما في هذا الزمن، فإنه يحق لكثير من أمثالنا وممن يشار إليهم وممن يتكلمون أن يتمثلوا بهذا البيت:

خلت الديار فسدت غير مسود     ومن البلاء تفردي بالسؤدد

فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه في آخر الزمان يوجد رءوس من جهال، يتكلمون ويفتون بغير علم، فيضلون ويُضلون، ولا شك أن هذا نوع من التحذير من الفتيا بغير علم، ومن القول على الله تعالى بغير علم، ومن اتباع هذه الأقوال والآراء والفتاوى التي لا دليل عليها.

وفي المجال العملي نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التثبت، انظر إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهي في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

لما كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فنـزل الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

فبعث علي بن أبي طالب، والزبير في أربعة نفر، وأخبرهم بأنهم سيجدون المرأة في مكان كذا وكذا، ويجدون معها كتاباً من حاطب فذهبوا إلى المرأة وأمسكوا بها، قالت: ما معي كتاب، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كَذَبْنا ولا كُذبْنا، سمعنا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى، ومعك كتاب! لكن لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، أو لنكشفن الثياب -إما أن تعطينا الرسالة، وإما أن نبحث عن الرسالة في كل مكان من جسدك، حتى لو اضطررنا إلى أن نعريك لنجد هذا الكتاب الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما رأت الجد قالت: تَنَحَّوا (أي ابعدوا) فأخرجته من جدائلها (من شعرها) كانت قد جدلت عليه شعرها، وسلمتهم الكتاب.

وإذا فيه: من (حاطب بن أبي بلتعة: إلى قريش، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليكم) فلما جاءوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: { يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فلم يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا العرض، ودعا بـحاطب بن أبي بلتعة } -وهنا يأتي التثبت، الآن الخطأ وقع، وهو خطأ عظيم، بل هو في الأصل كبيرة من الكبائر، فموالاة الكفار بهذه الصورة وكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عظيم حتى نـزل فيه قرآن، ومع ذلك لم يسارع الرسول عليه الصلاة والسلام لإلقاء الخطبة على الصحابة عن حاطب: هذا المنافق الذي فيه وفيه وفيه وصار يكشف سرنا، ويفضحنا، ويوالى أعداءنا، وهو بيننا! لا! بل ربى أصحابه، قال: أين حاطب؟ هاتوه، بيننا وبينه أمتار، لا داعي أن نتكلم وهو غائب، تعال يا حاطب! ما حملك على ذلك؟ وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأسباب منها:

أولاً: يمكن أن يكون الكتاب لم يكتبه حاطب بن أبي بلتعة وإنما كتبه شخص آخر وألصقه بـحاطب بن أبي بلتعة، فإحضار الشخص وسؤاله يزيل هذا اللبس.

حاطب بن أبي بلتعة اعترف وأقر بالكتاب...!

ولكن تأتي نقطة أخرى: وهي يجب أن نعرف ما هي الدوافع، هل يكون حاطب بن أبي بلتعة فعلاً منافق يوالي الكفار؟ هل هناك أمر آخر دفعه إلى ذلك؟ {قال: ما حملك على ذلك؟ قال: والله يا رسول الله! إني ما كفرت بعد إيماني، ولا ارتددت، وإني أحب الله ورسوله، لكن ما من أصحابك من أحد إلا وله في مكة من يدفع الله به عن أهله وماله، أما أنا فليس لي أحد يدفع الله عني به، قال: فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وعلمت أن الله -تعالى- ناصر رسوله ومعلٍ كلمته} لأنه كان لصيقاً بالقوم وليس منهم -لم يكن من قريش- فخشي أن يعتدوا على أمه وعلى ماله الذي في مكة.. يقول أردت بها أن يدفع الله بها عن مالي وعن أهلي بهذا الكتاب، وفي الوقت الذي غلب على ظني أن هذا الكتاب لن يغير في الأمر شيئاً، فقدر الله نافذ، والله ناصر رسوله، ومعز دينه، ومعلٍ كلمته، فلن يضر هذا الكتاب في الوقت الذي أظن أنه ينفعني.

هذا خطأ كبير، لكن بعدما عرف السبب هان الأمر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {صدق، صدق، لا تقولوا إلا خيراً} ثم نـزل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات.

فلو أن واحداً من الناس اليوم حصل منه خطأ يشبه هذا الخطأ، لأفاض الناس في الكلام فيه والوقيعة، والذم، والشتم، والسب، وربما يكون أحدهم من جيرانه ومع ذلك لم يقرع عليه الباب ويدخل ويحادثه ويقول: يا أخي: الإنسان يخطئ، وكل بني آدم خطاء، ولا يغلبنك الشيطان -ومثل هذا الكلام الطيب اللين.. لا! إنما يسارعون في الوقيعة، والشتم، والسب!!

وكأن الناس والعياذ بالله أحيانا يفرحون بخطأ الإنسان حتى يقعوا فيه، فهذا نموذج من التثبت والتبين الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع