خطب ومحاضرات
العلمانية
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا معشر الإخوان! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأفتتح كلامي هذا إليكم بالشكر لنادي مصعب بن عمير في إتاحته هذه الفرصة للالتقاء بكم والتحدث إليكم، وأشكر للأخ المقدم أيضاً تقديمه وإشرافه، إلا أنه وجزاه الله خيراً قد أسرف في تقديمه فنستغفر الله لنا وله.
هذا الموضوع الذي سنتكلم عنه اليوم وهو العلمانية موضوع كبير جداً ومتشعب، وألف فيه الكثير من الرسائل العلمية، واندرج فيه الكثير من الأبحاث في خلال القرون الماضية، وقد كان مثار جدل واسع في القرون السابقة، ولذلك سيقتصر حديثنا فيه حول محاور معدودة، والرجاء أن يتم بحث بعض الموضوعات الأخرى المتصلة به في لقاءات بكم إن شاء الله تعالى.
فالمحاور التي نعرض لها هي أولاً: تعريف العلمانية، ونبذة مختصرة عن تاريخها.
والمحور الثاني: هو أسباب ظهور العلمانية.
والمحور الثالث: هو مظاهر العلمانية.
والمحور الرابع: هو آثار العلمانية، فلنبدأ أولاً بالمحور الأول: الذي هو محور التعريف:
تعريف العلمانية
هذه الكلمة (العلمانية) كلمة خارجة عن القياس اللغوي؛ لأن هذه المادة العين واللام والميم والنون، لا توجد هكذا في لسان العرب، والذي يبدو أن المتأخرين قد أفرطوا في النسبة فصاروا إذا نسبوا إلى الثلاثي، استحقروه فزادوه حرفاً من قبل أنفسهم، فلذلك نسمع كلمة روحاني وعقلاني وعلماني، والأصل في النسبة أن يقال علمي وروحي وعقلي.. إلى آخره؛ لأن النسبة إنما يؤتى لها بياء مشددة كياء الكرسي، ولا تحتاج إلى حرف زائد على تلك الياء.
وهذه النسبة إذا كانت للعلم فإنها من باب التجوز البعيد، وذلك أنها تطلق الآن على التيار اللاديني، فالناس قسمان: تيار ديني على مختلف مشاربه، فالأديان منها سماوي منزل من عند الله تعالى، ومنها مبتكر وضعي وضعه البشر لأنفسهم، وما يقابل الأديان هو التيار العلماني، الذي يطلق عليه علماني، بمعنى: لا ديني.
النشأة الأولى للعلمانية
وهذا التيار موجود من عهد نبينا نوح عليه السلام، فلذلك إذا تكلمنا عن هذا التيار لا نتكلم عنه على أنه فرقة معينة، أو على أنه نظرية محدثة، بل نتكلم عن تيار مواز للتيار الديني ومقابل له، وبهذا لا يحتاج تعريفه إلى كثير من البحث؛ لأن الشخص إذا عرف الضد تبين له ضده، وبضدها تتميز الأشياء.
فالناس قد انحرفوا عن المنهج الذي ارتضاه لهم خالقهم، والذي جاء به الرسل من عند الله تعالى، وكان أول ما وصل إلينا من أخبار انحرافهم ما كان في أيام نوح على نبينا وعليه السلام، عندما عبد الناس أصناماً اتخذوها من دون الله تعالى، فأرسل الله نبينا نوحاً عليه السلام لمكافحة هذه الظاهرة السيئة، التي دبت في صفوف المجتمع البشري.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه في كثير من آياته قصة نذارة نوح لأصحابه، وما لبث فيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى صابراً محتسبا، ومختلف الوسائل والأساليب التي اتخذها في دعوته إلى الله تعالى، فكان هؤلاء الذين دعاهم نوح ولم يستجيبوا له من هذا التيار، أو هم نواة هذا التيار اللاديني، وتطور هذا التيار إلى أن أخذ مجرىً جديداً في عهد نبينا إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس في أيامه لا يؤمنون إلا بما يشاهدونه بالماديات، ولذلك عبدوا الأصنام والحجارة التي اتخذوها من دون الله، فجاء إبراهيم ليغير هذا المنحى الذي سلكوه وليبرهن لهم من خلال عقولهم أن هذا المنهج الذي سلكوه غير صواب.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه مجادلة إبراهيم لأصحابه، وأوضح تفصيل لذلك هو ما ورد في سورة الأنعام حيث يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي[الأنعام:74-80]، فهذه المحاجة التي جادل بها إبراهيم قومه أكبر دليل على تعقل إبراهيم لهذه الجدلية الواقعة.
فقومه لا يقتنعون إلا بما يرونه فقال: إذا كنتم لا تؤمنون إلا بما ترونه وبما هو محسوس، فلماذا لا تعبدون ما هو خير من هذه الحجارة التي نحتموها من قبل أنفسكم، فلننظر إلى هذا العالم الذي نحن فيه إلى هذه المجموعة التي نعيش فيها فلنعبد ما هو أنفع وأكبر وأشهر من هذه الحجارة، فلنبدأ أولاً بهذا الكوكب، فلما غاب الكوكب، قالوا: لا، قال: لا، هذا قد غاب، ونحن لا نؤمن إذا إلا بما نراه، فقالوا: إنه سيطلع من الغد، فقال: إذاً آمنتم بالغيب ! آمنتم بما لا ترونه !.
ثم أقام عليهم الحجة مرة أخرى بالقمر، ثم أقام عليهم الحجة ثالثة بالشمس، وهكذا اضمحلت نظرية هؤلاء القوم الذين لم يكونوا يؤمنون إلا بما يرونه، فتلك حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه.
تبلور العلمانية في العصر الحديث والخلاف في ماهيتها
استمر هذا التيار في كل عصر من العصور يأخذ منحاً جديداً، ويسلك مسلكاً مغايراً للذي كان عليه من قبل، إلى أن اشتهر وتبلور في عصرنا الحديث، وبداية ظهوره كمذهب مستقل كانت في القرون الوسطى في أوروبا، وذلك أن أسبابه قد تظافرت وتوافرت في تلك البيئة الفاسدة فبدأ هذا التيار كمذهب مستقل.
وتعريفاته تختلف باختلاف الجهة التي يركز عليها الباحث في التعريف، فمثلاً: نجد دائرة المعارف البريطانية تعرف العلمانية بأنها: حركة اجتماعية تهدف إلى صرف نظر الناس واهتمامهم عن الآخرة، وصرف اهتمامهم إلى الدنيا التي يعيشون فيها فقط، هذا هو تعريف دائرة المعارف البريطانية العلمانية.
ونجد صاحب قاموس العالم الجديد يعرف العلمانية بأنها: التيار المضاد للدين الذي يعادي كل ما يمت للإيمان والعبادة بصلة، وهذا التعريف الأخير أشمل من الأول؛ لأن التعريف الأول إنما هو تعريف للمادية بصفة عامة، وهذا التعريف الأخير يتركز على اهتمامات وأهداف هذا التيار العلماني.
الصراع بين رجال العلم ورجال الدين وبيان أهم وسائل العلم
في هذه العصور عندما تبلور هذا التيار اشتق له هذا الاسم العلمانية من العلم، وذلك أن الصراع الحاد الذي حصل في أوروبا بين رجال الدين وبين رجال العلم الباحثين في العلوم الطبيعية قد وصل في تطوره إلى عداء شديد، فكان رجال الدين والمتشبثون بهم من رجال السلطة يرون أن ما ليس في الكتب المقدسة غير صحيح وغير علمي، وكان رجال العلم والباحثون فيه يرون أن ما لا يستقيم للتجربة لا يعد علماً ولا ينسب إلى العلم، فحصل هذا الشقاق واتسعت هذه الشقة بين هذين التيارين المتعارضين، فكان المتشبثون بالعلم يرون أن ما لا يصلح لتجربة لا يسمى علماً ولا يستحق ذلك، وأنتم تعلمون أن وسائل العلم ذات الأهمية ثلاثة أقسام: وحي وعقل وتجربة:
فالوحي هو المنزل من عند الله تعالى، وهو أهم هذه الوسائل للعلم؛ لأنه يكشف لنا عما نستطيع الوصول إليه بعقولنا وتجاربنا، ويكشف لنا عما لا نستطيع الوصول إليه كذلك.
فإذاً الوحي هو أهم وسائل العلم.
الدرجة الثانية: العقل، والعقل هو هذا النور الذي متع الله به البشر واختارهم به من بين خلقه، وبه تدرك النفوس الأمور الضرورية والنظرية بواسطة اطلاعها على الضرورية.
هذا العقل أيضاً وسيلة علم، إلا أنه لا بد أن يكون منطلقاً من ثوابت وأسس يبني عليها المقدمات لتنتج نتائج بتلك النتائج يتوصل إلى العلم المطلوب، فالأمور التي لا يجد لها البشر مبادئاً لا يمكن للعقل أن يتدخل فيها.
فمثلاً: إذا نظرنا إلى صفة القدم أو ما نسميه الأزل هذا الآن لا دخل للعقل فيه؛ لأن العقل بدأ من ولادة الإنسان والقدم والأزل سابق على ولادة الإنسان، والعقل لا يبدأ إلا من حيث بدأ صنفه وجنسه الذين هم البشر، فمثلاً: هو جارحة من جوارح الإنسان، العين الآن لا تدرك إلا المبصرات، والسمع لا يدرك إلا المسموعات، والأنف لا يدرك إلا المشمومات، فكذلك العقل جارحة من هذه الجوارح، له ميدانه المتخصص ولا يدرك إلا ما كان داخل هذا الإطار.
الوسيلة الثالثة من وسائل العلم: هي التجربة، والتجربة هي التكرار حتى يستقيم الأمر على هيئة واحدة، وأصل ذلك أن الشخص إذا سولت له نفسه معلومة معينة، فإن هذه المعلومة قبل أن يجربها وقبل أن يدرك صحتها تسمى فرضاً علمياً، الفرض العلمي معناه الافتراض المتعلق بظاهرة عليمة.
فإذا جربها تجريباً أولياً وكانت نسبة النجاح فيها فوق20% فإنها تسمى نظرية علمية، والنظرية معناه القابلة للمناقشة، فإذا زادت تجربتها في النجاح عن 50% ، فإن الناس اصطلحوا على تسميتها بالحقيقة العلمية.
والحقيقة العلمية معناها ما وصل إلى حد اليقين أو الظن الغالب، والحقيقة أن الفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية أمر صعب لا يتصل إليه أكثر الناس بعقولهم ولا بتجاربهم، ذلك أن الشخص إذا أراد أن يحكم على أمر ما بأنه خرج من طور النظرية إلى طور الحقيقة، فإن هذا يحتاج إلى كثير من البراهين والتأني بالحكم، فلذلك كانت التجربة أدنى وسائل العلم، ومع هذا التدني وأن للعلم وسائل أقوى من التجربة، فإن المدعين للعلم والمتبجحين به من علماء الغرب رأوا أن التجربة هي الوسيلة الوحيدة للعلم فما ليس تجريبياً لا يعتبرونه علماً، وهذا هو الذي طبقوه في منهاجهم التجريبي المعروف المنهاج التجريبي الذي سلكوه.
فكل ما سار مع هذا المنهاج وأمكن تجربته سموه علماً، وما ليس كذلك رفضوه وقالوا: هذا غير علمي، ومع ذلك يعلمون أن هناك حقائق كثيرة من متعلق العلم، إلا أن العلم لم يكشف حقيقتها، فهذه يعتذرون عنها بأن العلم ما زال في أطوار التقدم وأنه يمكن أن يكشف عنها العلم في الأزمنة المتلاحقة القادمة.
فمثلاً عملية النوم -وهي أبسط شيء- الذي هو الموت الأصغر وهو ركود المخ، هذه لا تفسير لها في العلم الحديث فلم يصل العلم الحديث إلى تفسير لها، ومع ذلك لا يعترف العلماء بأن العلم قاصر عنها بل ينسبون القصور إلى أنفسهم ويقولون: سيكشف عنها العلم في يوم ما وهكذا في كثير من الظواهر الكونية الأخرى.
أبعدنا الحديث هنا، ولكن الغرض من إبعاده هو بيان سبب تسمية ما ليس كنسياً، أو ما ليس دينيا في أوروبا في العصور الوسطى بالعلماني معناه الذي يصلح لتجربة فيدرك بالحواس أو بوسائل تؤدي للإدراك بالحواس، مثلاً: موجات الصوت، والموجات المغناطيسية والكهربائية هذه لا تدرك بالحس الطبيعي، ولكن تدرك بوسائل راجعة إلى الحس فلذلك أدخلوها العلم.
أما ما يتعلق بما وراء الطبيعة وما يتعلق بخلق الإنسان مثلاً، فهذه أمور غير علمية عندنا؛ لأنها غير خاضعة للتجربة فلذلك جعلوا الديانة من حيث هي والأوامر السماوية النازلة من عند الله تعالى من حيث هي، والأخلاق والقيم التي تعارف الناس عليها فيما بينهم، جعلوا كل هذا غير علمي، وصفوه بأنه غير علمي، فسموا الأول الذي يخضع لتجربة بالعلمانية، وسموا الثاني بالديني أو بالموروث أو بأسماء أخرى.
هذه الكلمة (العلمانية) كلمة خارجة عن القياس اللغوي؛ لأن هذه المادة العين واللام والميم والنون، لا توجد هكذا في لسان العرب، والذي يبدو أن المتأخرين قد أفرطوا في النسبة فصاروا إذا نسبوا إلى الثلاثي، استحقروه فزادوه حرفاً من قبل أنفسهم، فلذلك نسمع كلمة روحاني وعقلاني وعلماني، والأصل في النسبة أن يقال علمي وروحي وعقلي.. إلى آخره؛ لأن النسبة إنما يؤتى لها بياء مشددة كياء الكرسي، ولا تحتاج إلى حرف زائد على تلك الياء.
وهذه النسبة إذا كانت للعلم فإنها من باب التجوز البعيد، وذلك أنها تطلق الآن على التيار اللاديني، فالناس قسمان: تيار ديني على مختلف مشاربه، فالأديان منها سماوي منزل من عند الله تعالى، ومنها مبتكر وضعي وضعه البشر لأنفسهم، وما يقابل الأديان هو التيار العلماني، الذي يطلق عليه علماني، بمعنى: لا ديني.
وهذا التيار موجود من عهد نبينا نوح عليه السلام، فلذلك إذا تكلمنا عن هذا التيار لا نتكلم عنه على أنه فرقة معينة، أو على أنه نظرية محدثة، بل نتكلم عن تيار مواز للتيار الديني ومقابل له، وبهذا لا يحتاج تعريفه إلى كثير من البحث؛ لأن الشخص إذا عرف الضد تبين له ضده، وبضدها تتميز الأشياء.
فالناس قد انحرفوا عن المنهج الذي ارتضاه لهم خالقهم، والذي جاء به الرسل من عند الله تعالى، وكان أول ما وصل إلينا من أخبار انحرافهم ما كان في أيام نوح على نبينا وعليه السلام، عندما عبد الناس أصناماً اتخذوها من دون الله تعالى، فأرسل الله نبينا نوحاً عليه السلام لمكافحة هذه الظاهرة السيئة، التي دبت في صفوف المجتمع البشري.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه في كثير من آياته قصة نذارة نوح لأصحابه، وما لبث فيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى صابراً محتسبا، ومختلف الوسائل والأساليب التي اتخذها في دعوته إلى الله تعالى، فكان هؤلاء الذين دعاهم نوح ولم يستجيبوا له من هذا التيار، أو هم نواة هذا التيار اللاديني، وتطور هذا التيار إلى أن أخذ مجرىً جديداً في عهد نبينا إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس في أيامه لا يؤمنون إلا بما يشاهدونه بالماديات، ولذلك عبدوا الأصنام والحجارة التي اتخذوها من دون الله، فجاء إبراهيم ليغير هذا المنحى الذي سلكوه وليبرهن لهم من خلال عقولهم أن هذا المنهج الذي سلكوه غير صواب.
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه مجادلة إبراهيم لأصحابه، وأوضح تفصيل لذلك هو ما ورد في سورة الأنعام حيث يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي[الأنعام:74-80]، فهذه المحاجة التي جادل بها إبراهيم قومه أكبر دليل على تعقل إبراهيم لهذه الجدلية الواقعة.
فقومه لا يقتنعون إلا بما يرونه فقال: إذا كنتم لا تؤمنون إلا بما ترونه وبما هو محسوس، فلماذا لا تعبدون ما هو خير من هذه الحجارة التي نحتموها من قبل أنفسكم، فلننظر إلى هذا العالم الذي نحن فيه إلى هذه المجموعة التي نعيش فيها فلنعبد ما هو أنفع وأكبر وأشهر من هذه الحجارة، فلنبدأ أولاً بهذا الكوكب، فلما غاب الكوكب، قالوا: لا، قال: لا، هذا قد غاب، ونحن لا نؤمن إذا إلا بما نراه، فقالوا: إنه سيطلع من الغد، فقال: إذاً آمنتم بالغيب ! آمنتم بما لا ترونه !.
ثم أقام عليهم الحجة مرة أخرى بالقمر، ثم أقام عليهم الحجة ثالثة بالشمس، وهكذا اضمحلت نظرية هؤلاء القوم الذين لم يكونوا يؤمنون إلا بما يرونه، فتلك حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه.
استمر هذا التيار في كل عصر من العصور يأخذ منحاً جديداً، ويسلك مسلكاً مغايراً للذي كان عليه من قبل، إلى أن اشتهر وتبلور في عصرنا الحديث، وبداية ظهوره كمذهب مستقل كانت في القرون الوسطى في أوروبا، وذلك أن أسبابه قد تظافرت وتوافرت في تلك البيئة الفاسدة فبدأ هذا التيار كمذهب مستقل.
وتعريفاته تختلف باختلاف الجهة التي يركز عليها الباحث في التعريف، فمثلاً: نجد دائرة المعارف البريطانية تعرف العلمانية بأنها: حركة اجتماعية تهدف إلى صرف نظر الناس واهتمامهم عن الآخرة، وصرف اهتمامهم إلى الدنيا التي يعيشون فيها فقط، هذا هو تعريف دائرة المعارف البريطانية العلمانية.
ونجد صاحب قاموس العالم الجديد يعرف العلمانية بأنها: التيار المضاد للدين الذي يعادي كل ما يمت للإيمان والعبادة بصلة، وهذا التعريف الأخير أشمل من الأول؛ لأن التعريف الأول إنما هو تعريف للمادية بصفة عامة، وهذا التعريف الأخير يتركز على اهتمامات وأهداف هذا التيار العلماني.
في هذه العصور عندما تبلور هذا التيار اشتق له هذا الاسم العلمانية من العلم، وذلك أن الصراع الحاد الذي حصل في أوروبا بين رجال الدين وبين رجال العلم الباحثين في العلوم الطبيعية قد وصل في تطوره إلى عداء شديد، فكان رجال الدين والمتشبثون بهم من رجال السلطة يرون أن ما ليس في الكتب المقدسة غير صحيح وغير علمي، وكان رجال العلم والباحثون فيه يرون أن ما لا يستقيم للتجربة لا يعد علماً ولا ينسب إلى العلم، فحصل هذا الشقاق واتسعت هذه الشقة بين هذين التيارين المتعارضين، فكان المتشبثون بالعلم يرون أن ما لا يصلح لتجربة لا يسمى علماً ولا يستحق ذلك، وأنتم تعلمون أن وسائل العلم ذات الأهمية ثلاثة أقسام: وحي وعقل وتجربة:
فالوحي هو المنزل من عند الله تعالى، وهو أهم هذه الوسائل للعلم؛ لأنه يكشف لنا عما نستطيع الوصول إليه بعقولنا وتجاربنا، ويكشف لنا عما لا نستطيع الوصول إليه كذلك.
فإذاً الوحي هو أهم وسائل العلم.
الدرجة الثانية: العقل، والعقل هو هذا النور الذي متع الله به البشر واختارهم به من بين خلقه، وبه تدرك النفوس الأمور الضرورية والنظرية بواسطة اطلاعها على الضرورية.
هذا العقل أيضاً وسيلة علم، إلا أنه لا بد أن يكون منطلقاً من ثوابت وأسس يبني عليها المقدمات لتنتج نتائج بتلك النتائج يتوصل إلى العلم المطلوب، فالأمور التي لا يجد لها البشر مبادئاً لا يمكن للعقل أن يتدخل فيها.
فمثلاً: إذا نظرنا إلى صفة القدم أو ما نسميه الأزل هذا الآن لا دخل للعقل فيه؛ لأن العقل بدأ من ولادة الإنسان والقدم والأزل سابق على ولادة الإنسان، والعقل لا يبدأ إلا من حيث بدأ صنفه وجنسه الذين هم البشر، فمثلاً: هو جارحة من جوارح الإنسان، العين الآن لا تدرك إلا المبصرات، والسمع لا يدرك إلا المسموعات، والأنف لا يدرك إلا المشمومات، فكذلك العقل جارحة من هذه الجوارح، له ميدانه المتخصص ولا يدرك إلا ما كان داخل هذا الإطار.
الوسيلة الثالثة من وسائل العلم: هي التجربة، والتجربة هي التكرار حتى يستقيم الأمر على هيئة واحدة، وأصل ذلك أن الشخص إذا سولت له نفسه معلومة معينة، فإن هذه المعلومة قبل أن يجربها وقبل أن يدرك صحتها تسمى فرضاً علمياً، الفرض العلمي معناه الافتراض المتعلق بظاهرة عليمة.
فإذا جربها تجريباً أولياً وكانت نسبة النجاح فيها فوق20% فإنها تسمى نظرية علمية، والنظرية معناه القابلة للمناقشة، فإذا زادت تجربتها في النجاح عن 50% ، فإن الناس اصطلحوا على تسميتها بالحقيقة العلمية.
والحقيقة العلمية معناها ما وصل إلى حد اليقين أو الظن الغالب، والحقيقة أن الفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية أمر صعب لا يتصل إليه أكثر الناس بعقولهم ولا بتجاربهم، ذلك أن الشخص إذا أراد أن يحكم على أمر ما بأنه خرج من طور النظرية إلى طور الحقيقة، فإن هذا يحتاج إلى كثير من البراهين والتأني بالحكم، فلذلك كانت التجربة أدنى وسائل العلم، ومع هذا التدني وأن للعلم وسائل أقوى من التجربة، فإن المدعين للعلم والمتبجحين به من علماء الغرب رأوا أن التجربة هي الوسيلة الوحيدة للعلم فما ليس تجريبياً لا يعتبرونه علماً، وهذا هو الذي طبقوه في منهاجهم التجريبي المعروف المنهاج التجريبي الذي سلكوه.
فكل ما سار مع هذا المنهاج وأمكن تجربته سموه علماً، وما ليس كذلك رفضوه وقالوا: هذا غير علمي، ومع ذلك يعلمون أن هناك حقائق كثيرة من متعلق العلم، إلا أن العلم لم يكشف حقيقتها، فهذه يعتذرون عنها بأن العلم ما زال في أطوار التقدم وأنه يمكن أن يكشف عنها العلم في الأزمنة المتلاحقة القادمة.
فمثلاً عملية النوم -وهي أبسط شيء- الذي هو الموت الأصغر وهو ركود المخ، هذه لا تفسير لها في العلم الحديث فلم يصل العلم الحديث إلى تفسير لها، ومع ذلك لا يعترف العلماء بأن العلم قاصر عنها بل ينسبون القصور إلى أنفسهم ويقولون: سيكشف عنها العلم في يوم ما وهكذا في كثير من الظواهر الكونية الأخرى.
أبعدنا الحديث هنا، ولكن الغرض من إبعاده هو بيان سبب تسمية ما ليس كنسياً، أو ما ليس دينيا في أوروبا في العصور الوسطى بالعلماني معناه الذي يصلح لتجربة فيدرك بالحواس أو بوسائل تؤدي للإدراك بالحواس، مثلاً: موجات الصوت، والموجات المغناطيسية والكهربائية هذه لا تدرك بالحس الطبيعي، ولكن تدرك بوسائل راجعة إلى الحس فلذلك أدخلوها العلم.
أما ما يتعلق بما وراء الطبيعة وما يتعلق بخلق الإنسان مثلاً، فهذه أمور غير علمية عندنا؛ لأنها غير خاضعة للتجربة فلذلك جعلوا الديانة من حيث هي والأوامر السماوية النازلة من عند الله تعالى من حيث هي، والأخلاق والقيم التي تعارف الناس عليها فيما بينهم، جعلوا كل هذا غير علمي، وصفوه بأنه غير علمي، فسموا الأول الذي يخضع لتجربة بالعلمانية، وسموا الثاني بالديني أو بالموروث أو بأسماء أخرى.
أسباب ظهور هذا المذهب في أوروبا وتبلوره كمذهب مستقل -مع أننا ذكرنا أن تاريخه قديم جداً- متعددة، منها:
غطرسة رجال الكنيسة
غطرسة رجال الكنيسة والطغيان الذي حصل منهم، ذلك أن أوروبا في العصور الوسطى كان الناس فيها طبقات معينة، فمنها: الحكام، ورجال الدين، والشرفاء، والعمال، العمال هم الأرقاء المستعبدون، فهذه كانت طبقات الناس في أوروبا في تلك العصور.
فأي مجتمع تسود فيه الطبقية دائماً تكثر فيه الثغرات والصراعات الحادة، وكانت أوروبا في ذلك الوقت تحادها بلاد دخلها الفتح الإسلامي، وتغلغل فيها العلم الشرعي، وتنور الناس فيها بنور الهداية الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
فكان الناس من حبهم للعلم يستطلعون ويبحثون عما يدور حولهم، فكانت الأفكار الوافدة من البلاد الإسلامية وبالأخص من البلاد التي فتحت من أوروبا، مثل: أوروبا الشرقية، ومثل جنوب أوروبا من الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، كانت العلوم الإسلامية التي تفد من هذه البلدان إلى أوروبا تنظر إليها الكنيسة على أنها خروج عن ملتها ومروق على الدين، وتعامل الذين يتحدثون عنها أو يترجمون بعضها بالقتل والتشريد.
مكثت الكنيسة هكذا فترة من الفترات، وقد كانت تاريخها هكذا دائماً تحارب كل نظرية لا تنبثق من عقول وأدمغت رجال الدين الباباوات والكردينالات والقسيسين.
فكان الباحثون الذين يتطلعون إلى العلم يصارعون الكنيسة ويبحثون عن مصادر للعلم غير المصادر الموجودة في الكتب المقدسة، فكان كلما أنتج شخص نظرية علمية، سواءً كانت نظرية اجتماعية أو نظرية اقتصادية، أو قانوناً كونياً أخذته الكنيسة وعرضته لمحاكم التفتيش، وحكمت عليه بما يستحق عند رجال الكنيسة، فمثلاً: منهم من أحرق، ومنهم من قتل، ومنهم من حكم عليه بالسجن مدى الحياة.. وهكذا.
وقوف الكنيسة ضد إرادة الشعوب
فكون هذا الطغيان والانحراف الشديد في رجال الكنيسة لدى الباحثين العلميين عقدة كانت سبب المفاصلة والخصام الذي دام قروناً من الزمن مع رجال الكنيسة، وقام هؤلاء باستحداث تيار معاد للكنيسة، وهذا التيار أخذ النظرية اللادينية، وإنكار كل ما يمت للدين بصلة، ولم يزل في صراع مع الكنيسة إلى أن قامت الثورة الفرنسية، وكانت فرنسا في ذلك الوقت هي المؤهلة لخوض هذا الصراع مع الكنيسة لعدة أسباب منها:
قرب فرنسا نسبياً من البلدان الإسلامية التي جاء منها أصل التفكير وأصل العلم.
ثانياً: بعد فرنسا عن مكان الكنيسة في روما، فكانت فرنسا من أبعد البلدان الأوروبية عن السيطرة المباشرة للكنيسة، فقامت فيها هذه الثورة العلمانية التي ارتكزت على آراء المفكرين اللادينيين، وعلى أفكار أولئك الذين يعادون كل ما يمت للدين بصلة.
وحذا حذوا فرنسا في ثورتها مختلف البلدان الأوروبية، فانتشر هذا المذهب وتبلور لهذه الأسباب، وأوجز الآن هذه الأسباب التي مررت عليها في هذا العرض:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة مما كون عقدة لدى المجتمع.
ثانياً: وقوف رجال الكنيسة ضد ما يريده الشعب، وضد ما تريده الطبقات المسحوقة من الناس التي كانت لها الغلبة في ثورة فرنسا.
الأمر الثالث: أن كل ثورة ما نشأت في مجتمع إلا ولا بد أن تنسف ما كان قبلها، وأن تبحث عن جديد، وكانت فرنسا حينئذٍ خاضعة للتعاليم الكنسية، فجاءت الثورة لتنسف تلك المفاهيم.
فإذا هذه هي أهم أسباب ظهور هذا المذهب وانتشاره في أوروبا، وكانت الثورة الفرنسية الخادمة الأساسية لهذا المذهب وانتشر عنها.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |