الربح والخسارة في الآخرة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن المؤمنين جميعًا يؤمنون بأن أعمالهم ستعرض على الله سبحانه وتعالى وتوزن في موازين القسط يوم القيامة، ولن يظلم أحد منهم شيئًا، وأن الله سبحانه وتعالى خاطبهم فقال: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، لكن يحتاج المؤمن في انتظار العرض على الله سبحانه وتعالى ووزن أعماله صالحها وطالحها أن يستحضر في هذه الحياة ما أوجه الربح والخسارة وما مقياس ذلك؛ لأن نعم الله سبحانه وتعالى سابغة لا يمكن أن تعد ولا أن تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، ولأن تكاليفه سبحانه وتعالى تنقسم إلى أوامر يجب أداؤها وإلى نواهٍ يجب الحذر منها واجتنابها، فاحتاج الإنسان إذن إلى أن يضع لنفسه ميزانًا يقوم به عمله لئلا يكون من الخاسرين والفرصة مواتية أمامه لإصلاح وضعه وللرجوع عن حاله إذا كان فاسدًا، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

فيحتاج المسلم إذاً إلى تقويم مسيرته في حياته هذه، حتى يعلم هل هو على صواب أو هو على خطأ؟ فإن كان على صواب فليحمد الله وليسأله الثبات، وإن كان على خطأ فيحاول الإصلاح قبل أن يفوت الأوان، وليجتهد في تدارك ما بقي، فإن من الحكم الخالدة: إن عمرًا ضيع أوله لجدير أن يخسر آخره، ولا شك أنه ما من أحد منا يرضى عن تعامله مع الله، فما منا أحد إلا وهو يعلم أنه من المقصرين المفرطين، لكن تتفاوت أوجه التقصير وأوجه النقص في عملنا، فنحتاج إذاً إلى تذاكرها، والتدبر فيها، فلعل بعضنا يجد وجه النقص فيه فيحاول استدراكه قبل أن يفوت الأوان، ويجد آخر وجهًا آخر للنقص لم يكن مقصرًا في الوجه الأول الذي قصر فيه غيره، فلذلك احتجنا إلى مدارسة هذا الموضوع.

انقسام الناس يوم القيامة إلى شقي وسعيد

وأول ما نبدأ به هو التنبيه إلى أن الناس جميعًا ينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فقط: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، لا ثالث لهذين القسمين، فلا يمكن الحياد، لكن كل واحد من القسمين على درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163].

فمن السعداء من يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، فهم يصلون إلى درجة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ومن السعداء من يكون دون ذلك إلى أن يكون من أصحاب اليمين، (وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فمنهم من يبدأ أولًا في النار ثم يخرج منها بإيمانه فيدخل الجنة بعد ذلك، وأولئك يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم من لا يرى النار إلا تحلة القسم ثم يذهب به إلى الجنة، ومنهم من يمكث فيها مئات السنين، ومنهم من يمكث فيها آلاف السنين، ومنهم من يمكث ملايين السنين، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم يخرج منها من أراد الله به الخير فينقل إلى جنات النعيم، وكذلك لأهل الشقاء دركات متباينة، فلا شك أن أهل النفاق هم أسفل أهل النار فيها يوم القيامة: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، ثم أهل الشرك على تفاوت دركاتهم، فمن أكمل جوانب الشرك نسأل الله السلامة والعافية يستحق الخلود الأبدي السرمدي في النار، وفوقه من وقع في جانب من جوانب الشرك ونجا من بعض الجوانب.

ثم فوق ذلك العصاة من المؤمنين على تفاوت أكيانهم، فمنهم أصحاب الكبائر الموبقات، كأصحاب قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، فأولئك توبقهم سيئاتهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية، ثم فوق ذلك أصحاب الكبائر الأخرى التي هي دون الموبقات، وأقلهم شأنًا أصحاب اللمم الذين يطهرون بالنار، ثم يعادون بعد ذلك إلى الجنة.

ميزان الأعمال حقيقي له كفتان ولسان

علينا أن نعلم أن الميزان الذي تقاس فيه الأعمال بمقاييس الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]، هو ميزان حقيقي له كفتان ولسان، إما أن ترجح فيه كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات، وإما أن يقع التساوي، فأول وزنة توضع في الميزان هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده سبحانه وتعالى، فهذا أول ما يوضع في كفة الحسنات، لأنه إذا لم يحصل فلا نفع فيما سواه، ولذلك قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

وقد صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! (إن عبد الله بن جدعان كان يطعم اليتيم والفقير والمسكين والضيف وابن السبيل، أفيغنيه ذلك عنه من الله شيئًا؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين؛ فلذلك لابد أن يستحضر الإنسان أن أول ما يوضع في كفة الحسنات هو الإيمان بالله، وأن أول ما يوضع في كفة السيئات هو الشرك بالله.

وأول ما نبدأ به هو التنبيه إلى أن الناس جميعًا ينقسمون يوم القيامة إلى قسمين فقط: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105]، لا ثالث لهذين القسمين، فلا يمكن الحياد، لكن كل واحد من القسمين على درجات: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163].

فمن السعداء من يستحقون الفردوس الأعلى من الجنة، فهم يصلون إلى درجة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ومن السعداء من يكون دون ذلك إلى أن يكون من أصحاب اليمين، (وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فمنهم من يبدأ أولًا في النار ثم يخرج منها بإيمانه فيدخل الجنة بعد ذلك، وأولئك يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم من لا يرى النار إلا تحلة القسم ثم يذهب به إلى الجنة، ومنهم من يمكث فيها مئات السنين، ومنهم من يمكث فيها آلاف السنين، ومنهم من يمكث ملايين السنين، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم يخرج منها من أراد الله به الخير فينقل إلى جنات النعيم، وكذلك لأهل الشقاء دركات متباينة، فلا شك أن أهل النفاق هم أسفل أهل النار فيها يوم القيامة: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا [النساء:145]، ثم أهل الشرك على تفاوت دركاتهم، فمن أكمل جوانب الشرك نسأل الله السلامة والعافية يستحق الخلود الأبدي السرمدي في النار، وفوقه من وقع في جانب من جوانب الشرك ونجا من بعض الجوانب.

ثم فوق ذلك العصاة من المؤمنين على تفاوت أكيانهم، فمنهم أصحاب الكبائر الموبقات، كأصحاب قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، فأولئك توبقهم سيئاتهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية، ثم فوق ذلك أصحاب الكبائر الأخرى التي هي دون الموبقات، وأقلهم شأنًا أصحاب اللمم الذين يطهرون بالنار، ثم يعادون بعد ذلك إلى الجنة.

علينا أن نعلم أن الميزان الذي تقاس فيه الأعمال بمقاييس الذر، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8]، هو ميزان حقيقي له كفتان ولسان، إما أن ترجح فيه كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات، وإما أن يقع التساوي، فأول وزنة توضع في الميزان هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده سبحانه وتعالى، فهذا أول ما يوضع في كفة الحسنات، لأنه إذا لم يحصل فلا نفع فيما سواه، ولذلك قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].

وقد صح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! (إن عبد الله بن جدعان كان يطعم اليتيم والفقير والمسكين والضيف وابن السبيل، أفيغنيه ذلك عنه من الله شيئًا؟ قال: لا، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، إنه لم يقل يومًا واحدًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين؛ فلذلك لابد أن يستحضر الإنسان أن أول ما يوضع في كفة الحسنات هو الإيمان بالله، وأن أول ما يوضع في كفة السيئات هو الشرك بالله.

الشرك بالله

والإيمان بالله بين النبي صلى الله عليه وسلم أن له ستة أركان، فإذا خرم ركن منها تهاوت الأركان الباقية، فإن جبريل حين سأله عن الإيمان؟ قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )، فمن نقص إيمانه من أحد هذه الأركان تهاوت بقية الأركان لا يقبل إيمانه بالبقية، إلا إذا كان معذورًا بعذر خارجي، ثم بعد هذا في كفة السيئات أول ما يوضع فيها الشرك بالله، فهو أكبر الكبائر: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، والشرك بالله درجات كثيرة، فأعظمها: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، بأن تشرك غيره في العبادة، أن تصرف شيئًا من عبادتك لغير الله تعالى، فهذا أعظم أنواع الشرك.

ثم من أنواع الشرك الكبرى كذلك: دعوة غير الله، دعاؤه من دون الله، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]، وقال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

وكذلك من هذا الشرك بالله سبحانه وتعالى: الشرك معه في التشريع، بأن يعتقد أحد أن أحدًا يحل أو يحرم أو يحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، فقد بين الله أن ذلك من الشرك فقال في محكم التنزيل: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21]، وقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40].

كذلك من أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وهو أن يحب الإنسان ندًا لله، يحبه كحب الله، بأن يطيع مخلوقًا في معصية الخالق، أو أن يخافه مثلما يخاف الله، أو أن يحبه مثلما يحب الله، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، وهذا الجانب بخصوصه لابد من التريث فيه؛ لأن إيماننا في كثير من الأحيان لا يصل إلى العواطف، فكثير من الناس إيمانهم وتعاملهم مع الله جاف، لا يتعلق بالمحبة، فلا يجدون تعلقًا بالله سبحانه وتعالى وأنسًا به، وتوكلًا عليه، واتصالًا به في كل الأحيان، بل يشغلون مكان الحب من عواطفهم بحب مخلوقات زائلة ذاهبة، والله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، فلابد أن نأطر أنفسنا أطرًا على محبة الله سبحانه وتعالى، والتعلق به والأنس به، ثم بعد ذلك أن نحب ما يحبه الله، فلابد أن نؤطر أنفسنا على محبة من يحبهم الله سبحانه وتعالى، وعلى محبة كل ما يحبه الله عز وجل، فإن ذلك من حب الله.

فمن حبك لله: أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتم إيمانك إلا إذا كان أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، ومن والدك وولدك والناس أجمعين، وكذلك حبك لكل رسل الله، وملائكته، فإذا أحببت الله حبًا شديدًا، وعرفت أنك قاصر عن عبادته التي يستحقها، فإن عليك أن تحب جبريل و ميكائيل؛ لأنهما يعبدان الله حق عبادته، ثم تحب الملائكة المقربين لحبهم لله وعبادتهم له؛ لأنهم يؤدون عملًا تعلم أنه حق وأنت عاجز عن أدائه، فلذلك تحب الملائكة وتحب أولياء الله من البشر كذلك؛ لأنهم والوا الله سبحانه وتعالى وأحبوه، فأحببتهم لحبهم لله سبحانه وتعالى، وتحب كذلك كل عمل يحبه الله، وتبغض كل عمل يبغضه الله، فلابد أن يكون الإيمان حبيبًا إليك، وأن يكون الفسق والكفر والعصيان بغيضًا عندك تكرهه غاية الكراهة، فبهذا تنال حلاوة الإيمان.

أن تقدر أن وقوعك في معصية لله هو مثل أن تربط في الحبال ويرمى بك في النار بعد أن أنقذك الله منها، فتكره الكفر والمعصية كما تكره أن يرمى بك في النار، وأن تحب الإنسان لا تحبه إلا لله، لا طمعًا ولا رغبًا ولا رهبًا ولا نسبًا، إنما تحبه لأنه يحب الله فقط، فبهذا تنال حلاوة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

ثم لابد أن تكره كل عمل يؤدي إلى سخط الله سبحانه تعالى حتى لو كان واقعًا منك فتكون مختفيًا به تكرهه، فالمؤمن ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (من سرته حسنته وساءته سيئته)، فلابد أن تسرك حسنتك وأن تسوءك سيئتك حتى يتكامل لديك الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].

حقوق الآدميين

ثم بعد هذا تأتي إلى جانب الشروط، وأول ما يوضع في الميزان بعد التوحيد: حقوق الآدميين فهي عظيمة؛ لأن الفقراء إليها محتاجون، وحقوق الله هو سبحانه غني عنها لا يحتاج إلى شيء منها، فلذلك لابد أن يبدأ بحقوق المخلوقين أولًا، فأمن الناس عليك وأولاهم بحسن العلاقة رسول الله صل الله عليه وسلم المبلغ عن الله، ثم من بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منتهاه، ثم بعد ذلك والداك، فأمك أحق الناس بحسن صحابتك، ثم بعدها أبوك ثم أدناك أدناك بعد ذلك، فلابد حينئذٍ من مراجعة صلة الرحم ليتحقق الإنسان من هذا الجانب من كفة الحسنات، ومن كفة السيئات أيضًا، فإن قطيعة الرحم عظيمة في الميزان، وهي الجانب الثاني بعد التوحيد، فإن الله تعالى يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24]، وكذلك قال: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فلابد من الحفاظ على حقوق الآدميين.

وتذكر أنك ستحشر إلى الله سبحانه وتعالى حافيًا عاريًا أغرلا ليس معك إلا عملك، ولابد حينئذٍ أن تقضي الحقوق في هذه الحياة قبل أن لا يكون دينار ولا درهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( تعافوا الحدود بينكم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم )، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء الحقوق إلى مستحقيها قبل أن يخاصموه بين يدي الملك العدل الذي لا يظلم عنده أحد، فإذا أحس الإنسان أنه في هذا الجانب مقصر فعليه أن يبادر البدار البدار، قبل أن يحلقه الموت، وعليه حقوق للآدميين، ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه النقطة تنبيهًا عظيمًا، حين سئل عن الشهادة في سبيل الله هل تكفر الذنوب؟ فقال: (نعم، ثم دعا السائل فقال: إلا الدين فإن جبريل قاله آنفًا)، فحقوق الآدميين وديونهم لا تكفرها الشهادة في سبيل الله، مع أن الشهاد في سبيل الله هي أعظم امتحان يمتحن به الإنسان في الحياة أن يقدم نفسه لله سبحانه وتعالى، ويغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه، كل ذنب كان اقترفه، ويزوج من سبعين من الحور العين، لكن مع هذا فإن الدين وحقوق الآدميين لا تقضي عليها الشهادة في سبيل الله، بل لابد أن يحاسب عليها، لكن الله يقضي الديون عمن شاء من عباده تكرمة له يوم القيامة.

الأوامر وأوكدها الصلاة

ثم بعد هذا تأتي يا أخي إلى جانب الأوامر ستجد أن آكد الأوامر الصلاة، فهذه الفرائض الخمس لابد أن تحافظ عليها غاية المحافظة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حفظهن وحافظ عليهن، حفظ دينه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظهن ولم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه )، فلابد من الحفاظ على هؤلاء الصلوات الخمس وإتقانهن وأدائهن على الوجه الأكمل الأمثل، فذلك درجة من درجات الميزان، إذا لم توضع فيها الصلاة فستكون حينئذٍ ذات مكان كبير شاغل لا يسده غيرها.

فحافظ يا أخي على أن تكون في كفة حسناتك الصلوات الخمس كاملة ليست منقوصة بأي نقص من أنواع النقص، واجتهد يا أخي في أن ترقع كل شيء فاتك منها بالنوافل، فإن الله سبحانه وتعالى يقول لملائكته يوم القيامة إذا وجدوا خللًا في صلاة العبد: ( انظروا، هل لعبدي من نفل، فيتمم له فرضه )، فلذلك حاول يا أخي بكل جد واجتهاد أن تحافظ على خمس صلوات، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، هؤلاء العمال الولاة والحكام، أهم أعمالهم ليس جمع الأصوات، ولا قسمة الإسعافات، ولا ضبط الحالة المدنية، ولا ضبط الأمن في بلادهم، بل أهم شيء يشتغلون فيه الصلاة، إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لمن سواها أضيع وأضيع.

فهي أمانة الله عندك، وهي العهد الذي بينك وبين الشرك والكفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وقال: ( حد ما بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، فلذلك لابد أن نحرص على أدائها غاية الحرص، ونحن نعلم أن كثيرًا منا يحب الصلاة، ويحب أداءها، لكنه يقصر في كثير من أمورها، فقليل منا من يعتني بخشوعها، وقليل منا من يعتني بالحضور فيها من أولها إلى آخرها، وكثير منا الذين يتغافلون عن أدائها في الجماعة في المسجد، وكثير منا ينامون عن بعض الصلوات، وبالأخص صلاة المنافقين، صلاة الفجر، فكثير هم أولئك الذين ينامون ولا يستيقظون حتى تطلع الشمس أو تكاد، فينظرونها خارج وقتها أو عند نهايته، وأولئك لا شك سيجدون حفرة عظيمة وهوة كبيرة في كفة الحسنات يوم القيامة.

فلذلك لابد أن تبادر يا أخي لسد هذه الهوة العظيمة التي يصعب سدها، وأن تحافظ على صلواتك كما أمرك الله بذلك، وأن تعلم أنها عمود الإسلام، وأنها عماد الدين، فهي الصلة بينك وبين الله سبحانه وتعالى، وإذا أديتها كاملة فهي تكفير لكثير مما تقع فيه من المحظورات، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبًا منكسرًا، فقال: ( يا رسول الله: لقيت امرأة في الطريق فأصبت منها كل ما يصيب الرجل من امرأته إلا أني لم أزنِ بها، فقال: أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، فقال: اذهب فقد غفر لك )، فهذه الصلاة تكفر كثيرًا من السيئات، من النظرات، من الكلمات، من خلجات النفوس، من السماع، وإنما تكفره الصلاة إذا كانت متكاملة إذا كانت بطهارتها وسواكها وحضورها وخشوعها، والاستواء في الصف، فإن الإنسان إذا توضأ تخرج الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظافره، وإذا غسل وجهه تناثرت الخطايا حتى تخرج من أهداب عينيه، أو من أشفارها، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، وإذا تمضمض خرجت من بين أسنانه، وأضراسه، وإذا غسل يديه تساقطت سيئاته مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل رجليه تساقطت سيئاته وتحاتت مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم بعد ذلك تكون خطاه إلى المسجد، كل خطوة تكتب له بها حسنة وتمحى بها عنه سيئة، وترفع له بها درجة، ويكون انتظار الصلاة بعد الصلاة كذلك تكفيرًا عظيمًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).

فيا أيها الذين يتذكرون ما فرطوا فيه بجنب الله، ويخشون مما مضى من سيئاتهم، يا أيها النادمون المقبلون على الله سبحانه وتعالى! اعلموا أن الحل هو في هذا المسجد، هو أن تذهبوا إلى المساجد في ثلث الليل، وأن تطهروا عند أول الوقت، وأن تجيبوا منادي الله إذا سمعتم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأن تنتظروا الصلاة بعد الصلاة، وأن تحبسوا جوارحكم عن المعصية في مساجد الله.

إيتاء الزكاة

ثم بعد هذا تأتي الدعائم الأخرى تباعًا، فالزكاة أخت الصلاة، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن الزكاة أخت الصلاة، فوالله لأقاتلن من فرق بينهما، والله تعالى يقول في كتابه: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7]، ويقول في كتابه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر، ليس بها عرجاء ولا عقصاء، لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، تضربه بأخفافها وأظلافها، وتنهشه بأسنانها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه آخرها أعيد عليه أولها حتى يقضى بين الناس، وما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا أحمي عليها في نار جنهم، ثم تجدف أشداقه بالمجاديف فلا يوضع دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم )، فلذلك لابد أن نحافظ على أداء الزكاة، وأن نعلم أن كل سلامى منا كل يوم تطلع فيه الشمس عليه صدقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس).

فعلينا عباد الله أن نؤدي حق الله المتعلق بالمال، وأن نحذر من الانتقاص منه، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141]، فعلى الإنسان أن يجعل الزكاة مثل الصلاة، ينتظر زوال الشمس لصلاة الظهر، وينظر إلى الظل، ويبادر إلى الصلاة في أول وقتها، فكذلك الزكاة ينتظر أول وقتها عندما يدور الحول فيبادر لأدائها قبل أن يتأخر عليه الحول عليه فيموت وذمته عامرة، فإن الزكاة أيضًا إذا لم تؤدّ كانت هوة عظيمة في كفة الحسنات يوم القيامة.

فعلى الإنسان إذا كان ينتقص شيئًا منها أن يعلم أنه دين عظيم، وهوة سحيقة، فعليه أن يبادر لسدها قبل أن يفوت الأوان.

صيام شهر رمضان

ثم بعد ذلك صيام شهر رمضان، فإن الله سبحانه وتعالى يقول كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزِي به، يترك طعامه وشرابه ولذته من أجلي )، فإن الله سبحانه وتعالى يجزي به جزاءً غير محصور، ولذلك لابد أن نحافظ على الصيام الذي يفرط فيه كثير منا، فإن كثيرًا من الناس يقصرون في صيام رمضان لأتفه الأسباب وأدناها، وإذا كان أحدهم يشكو حرقة في معدته أو صداعًا في رأسه، أو كان أصيب فيما مضى من عمره بلسع حية أو غير ذلك، فكثيراً ما يتذرع بذلك لترك الصيام، ولا يعلم هذا المسكين أن ذلك يقتضي هوة هائلة في كفة الحسنات يوم القيامة، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء ما عليه من الصيام، وأن يعلم أنه حق الله المحض: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).

حج بيت الله الحرام

ثم بعد ذلك حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، فإن الله تعالى يقول: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس! حجوا قبل أن لا تحجوا، قالوا: وما زال الحج يا رسول الله؟ قال: يجلس أعرابها على أجناب أوديتها فلا يصل إلى البيت أحد)، وأخرج أبو داود في السنن وفي إسناد ضعف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد الحج فليبادر، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتعرض الحاجة)، فعلى الإنسان أن يبادر لأداء الحج إذا وجد إليه سبيلاً، والسبيل هو الزاد والراحلة، والسبيل السابلة، أي: الأمن على النفس والمال، فإذا وجد الإنسان فرصة لذلك فعليه أن يبادر إليه، وأن لا يتلهى بالأماني، ولنتذكر قول الشاعر محمد بن سيدي رحمه الله، عندما عزم على الحج، فأراد الناس تأخيره عنه فقال:

تجلد جهد نفسك للفراق وكفكف غرب سافحة المآق

وواصل من عزيمك ما يوازي مُترّات المهندة الرقاق

ونكب عن مقال أخي الهوينا وعنها فهي كاسدة الصفاق

وعن باكٍ وباكية أراقا دموعًا ليس واكفها براقِ

إلى البيت العتيق بنص إحدى عتاق الكوم أو أحدِ العتاق

أجادت خلف غاربها بناء يدا صفو المراتع والمساق

صفا نفسي الصفا ومِنىً مُناها وبالجَمَرات قلبي ذو احتراق

فعلى الإنسان أن يبادر وأن يتذكر ما قاله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على المنبر، فقد قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هؤلاء الأمصار فلينظروا من فيهم ممن استطاع الحج فلم يحج فليفرضوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. وليتذكر قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على المنبر: من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانياً؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97].

التروك وأعظمها الموبقات وكبائر الإثم والفواحش

ثم بعد هذا ينقلب الإنسان إلى جانب التروك، فلينظر إلى ما حرمه الله من الموبقات وكبائر الإثم والفواحش، فليعرضها على نفسه وما كان تاركًا منها فليحمد الله على تركه، ولينوِ أنه ما تركه عجزًا، وإنما تركه لوجه الله امتثالًا لأمره، فإن أكثركم ولله الحمد أو كلكم لم يشرب الخمر قط، ولكن كثيرًا منكم ما خطر بباله يومًا من الأيام أنه ترك شرب الخمر ابتغاء مرضاة الله، وامتثالًا لأمره، بل لأنه لم يرَ الخمر ولم يكن ببلاده ولله الحمد.

فلذلك لابد أن ننوي، أننا نترك هذه الكبائر اجتنابًا لما حرم الله علينا، وطاعة لربنا سبحانه وتعالى، فاستخبارنا لذلك يزيد الأجر بأضعاف مضاعفة، كذلك يعرض الإنسان نفسه على الكبائر الأخرى التي دون هذه الموبقات، فلينظر إلى كل ما توعد الله عليه بنار أو رتب عليه عقوبة دنيوية أو ورد لفاعله اللعن، فليعلم أنه كبيرة من الكبائر، وليحاول التخلص منه مطلقًا.

والإيمان بالله بين النبي صلى الله عليه وسلم أن له ستة أركان، فإذا خرم ركن منها تهاوت الأركان الباقية، فإن جبريل حين سأله عن الإيمان؟ قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )، فمن نقص إيمانه من أحد هذه الأركان تهاوت بقية الأركان لا يقبل إيمانه بالبقية، إلا إذا كان معذورًا بعذر خارجي، ثم بعد هذا في كفة السيئات أول ما يوضع فيها الشرك بالله، فهو أكبر الكبائر: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، والشرك بالله درجات كثيرة، فأعظمها: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، بأن تشرك غيره في العبادة، أن تصرف شيئًا من عبادتك لغير الله تعالى، فهذا أعظم أنواع الشرك.

ثم من أنواع الشرك الكبرى كذلك: دعوة غير الله، دعاؤه من دون الله، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36]، وقال تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

وكذلك من هذا الشرك بالله سبحانه وتعالى: الشرك معه في التشريع، بأن يعتقد أحد أن أحدًا يحل أو يحرم أو يحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، فقد بين الله أن ذلك من الشرك فقال في محكم التنزيل: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [الشورى:21]، وقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40].

كذلك من أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وهو أن يحب الإنسان ندًا لله، يحبه كحب الله، بأن يطيع مخلوقًا في معصية الخالق، أو أن يخافه مثلما يخاف الله، أو أن يحبه مثلما يحب الله، وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، وهذا الجانب بخصوصه لابد من التريث فيه؛ لأن إيماننا في كثير من الأحيان لا يصل إلى العواطف، فكثير من الناس إيمانهم وتعاملهم مع الله جاف، لا يتعلق بالمحبة، فلا يجدون تعلقًا بالله سبحانه وتعالى وأنسًا به، وتوكلًا عليه، واتصالًا به في كل الأحيان، بل يشغلون مكان الحب من عواطفهم بحب مخلوقات زائلة ذاهبة، والله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، فلابد أن نأطر أنفسنا أطرًا على محبة الله سبحانه وتعالى، والتعلق به والأنس به، ثم بعد ذلك أن نحب ما يحبه الله، فلابد أن نؤطر أنفسنا على محبة من يحبهم الله سبحانه وتعالى، وعلى محبة كل ما يحبه الله عز وجل، فإن ذلك من حب الله.

فمن حبك لله: أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتم إيمانك إلا إذا كان أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، ومن والدك وولدك والناس أجمعين، وكذلك حبك لكل رسل الله، وملائكته، فإذا أحببت الله حبًا شديدًا، وعرفت أنك قاصر عن عبادته التي يستحقها، فإن عليك أن تحب جبريل و ميكائيل؛ لأنهما يعبدان الله حق عبادته، ثم تحب الملائكة المقربين لحبهم لله وعبادتهم له؛ لأنهم يؤدون عملًا تعلم أنه حق وأنت عاجز عن أدائه، فلذلك تحب الملائكة وتحب أولياء الله من البشر كذلك؛ لأنهم والوا الله سبحانه وتعالى وأحبوه، فأحببتهم لحبهم لله سبحانه وتعالى، وتحب كذلك كل عمل يحبه الله، وتبغض كل عمل يبغضه الله، فلابد أن يكون الإيمان حبيبًا إليك، وأن يكون الفسق والكفر والعصيان بغيضًا عندك تكرهه غاية الكراهة، فبهذا تنال حلاوة الإيمان.

أن تقدر أن وقوعك في معصية لله هو مثل أن تربط في الحبال ويرمى بك في النار بعد أن أنقذك الله منها، فتكره الكفر والمعصية كما تكره أن يرمى بك في النار، وأن تحب الإنسان لا تحبه إلا لله، لا طمعًا ولا رغبًا ولا رهبًا ولا نسبًا، إنما تحبه لأنه يحب الله فقط، فبهذا تنال حلاوة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).

ثم لابد أن تكره كل عمل يؤدي إلى سخط الله سبحانه تعالى حتى لو كان واقعًا منك فتكون مختفيًا به تكرهه، فالمؤمن ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو (من سرته حسنته وساءته سيئته)، فلابد أن تسرك حسنتك وأن تسوءك سيئتك حتى يتكامل لديك الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع