الحروب الصليبية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، فاختار الله له عصبة صدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فكتب الله لهم علو الدرجة في الدنيا والآخرة، وحقق لهم أهدافهم ومرادهم، وحببهم إلى خلقه، وجعل له أعداء من شرار خلقه، خذلهم الله تعالى وسلطهم على أنفسهم بعداوة الله ورسوله، ولا يضرون الله ورسوله شيئاً.

وهي سنة ثابتة بينها الله في كتابه، فقد أخبر أنه ما من نبي من الأنبياء إلا وقد جعل الله له عدواً؛ ولذا قال في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112] .

فأولئك قيضهم الله لعداوة الله وأنبيائه، وملأ قلوبهم بذلك، بحيث لو راجعوا أفكارهم لما استطاعوا أن يغيروا مواقفهم، قلوبهم ملأى بالعداوة لله ورسوله، وقد أصم الله آذانهم عن سماع الحق، وأعمى أبصارهم عنه، فلذلك كانوا شر الخلق عند الله، كما قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23]، صرفهم الله عن طريق الحق، لم يرهم في هذه الحياة إلا طريق الغي؛ ولهذا قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

أعداء محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه

ومن سنة الله سبحانه وتعالى أن يستمر هذا الفرقان بين أولياء الله وأعدائه إلى يوم القيامة، فلا بد أن يبقى على آثار أولئك الصفوة، الذين اختارهم الله لتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته، من يقتفي آثارهم، ويترسم خطاهم، ويتبعهم في المنهج الذي سلكوه، ولا بد أن يبقى كذلك على وجه هذه الأرض قوم آخرون، يختارون سلوك طريق أعداء الله ورسوله، ويتبعون آثارهم، ويترسمون خطاهم، لا بد أن يبقى في كل جيل من الأجيال من هم أمثال أبي جهل عمرو بن هشام ، و عتبة بن ربيعة ، و شيبة بن ربيعة ، و زمعة بن الأسود ، لا بد أن يبقى أمثالهم في كل زمان وفي كل مكان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين سراجاً على هذه الأرض كلها، يبلغ ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا بيت مدر إلا دخله.

وبذلك لا بد أن يبقى له أعداء، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهودة، كيوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، ويوم خيبر، ويوم الأحزاب، وغيرها من الأيام، وإنما تتفاوت الأيام بتفاوت رجالها؛ فلذلك لا يمكن أن يضيق المؤمنون باعاً بوجود عداوة مستمرة، فهم يعلمون أنها سنة كونية ثابتة، ولا يمكن أن يضيقوا باعاً كذلك بعداوة الذين ذكر الله عداوتهم في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على طائفتين أوتوا الكتاب قبلنا، فقد فضلهم الله على العالمين، وأرسل إليهم الرسل، وأقام عليهم الحجة بالآيات البينات.

أعداء موسى عليه السلام

اليهود عليهم لعائن الله أقام الله عليهم الحجة بتفضيلهم على العالمين أجمعين، وبما آتاهم من التوراة، التي تضمنت علم الأولين والآخرين، وقد كتبها الله بيمينه في الألواح لـموسى .

واختار طائفةً منهم للشهادة عليها، فاختار سبعين رجلاً منهم خرجوا معه إلى الطور، حتى سلمه الله الألواح وهم ينظرون، فلم يتأثروا بهذا المشهد، وإن كانوا خيرة بني إسرائيل، إلا أنهم مع ذلك كانوا يهزؤون بنبي الله موسى ، فلما فعلوا نتق الله الطور فرفعه فوق رؤوسهم كالظلة، وأخذتهم الرجفة، فاشتد ذلك على موسى وحده، وقال عندما أخذت أصحابه تلك الرجفة الشديدة: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

وبين أن ذلك إنما كان من فعل السفهاء من قومه، ولهذا قال: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف:155].

فرد الله العذاب بدعاء موسى وضراعته إلى الله سبحانه وتعالى، بعد أن أمرهم بالسجود لله وأن يقولوا: حطة، أي: مغفرة، فلم يسجدوا على جباههم، بل سجدوا على الشق الأيمن من الجباه وهم ينظرون بأعينهم إلى الجبل من الخوف، وضرب الله عليهم بذلك الذلة والمسكنة والصغار إلى يوم القيامة، ولم يستطيعوا أن يقولوا ما أمرهم الله بقوله وهو: حطة، بل قالوا: شعرة، وفي حبل، وهم يقصدون حنطة بذلك، فلذلك لم يرض الله عنهم، بل رد عنهم العذاب بشفاعة نبيه موسى وكليمه عليه السلام، ثم بعد هذا آذوا موسى بأنواع الأذى، فما تركوا أذىً يمكن أن يوجهوه إلى هذا النبي الكريم الذي أكرمه الله برسالاته وبكلامه إلا وجهوه إليه، حتى ألجؤوه إلى أن يقول لهم كلامه المؤثر البليغ الذي حكاه الله في كتابه: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].

ثم بعد هذا شاهدوا من المعجزات الشيء الكثير، فمن أول ما شاهدوه من المعجزات ما كان قبل خروجهم من مصر عندما أتاهم موسى لينقذهم الله به من الويلات والهوان، فرأوه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء منيرة من غير سوء، ورأوه يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى فيقبضها فتعود عصاً كما كانت في سيرتها الأولى، ورأوه يتجاسر على أعتى عتاة الأرض وأطغى طغاتها، فيكلمه بكلام الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وهو يعلم أن جنده الذين معه هم بنو إسرائيل أهل الذلة والمسكنة، لكن موسى لا يثق بأولئك الجند، وإنما يثق بوعد الله وحده.

ولذلك حين أمره الله أن يخرج بهم بالليل من مصر خرج بهم جميعاً وأعينهم في أخبيتهم خوفاً من فرعون وجنوده، فلما رأوا البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. فضرب موسى البحر بعصاه بأمر الله فشق لهم طريقاً في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا تخشى، فمروا منها مسرعين، ثم اتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوا البحر أمر الله البحر فالتقمهم، والتطم عليهم فلم تبق منهم باقية، وبعد أن خرجوا من هذا البحر وشاهدوا مصارع أعدائهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فما كان منهم إلا أن تمنوا الرجوع إلى الكفر فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138].

وبعد ذلك لما فرض الله عليهم دخول أريحا قالوا لـموسى : َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات الجيل الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة في أيام فرعون ، وأولئك لا يصلحون للجهاد ولا يستطيعون تحمل هذه الأعباء الجسيمة، فلما مات أولئك، ونشأ شباب قد تربوا في ظل الشظف والتيه استطاع أولئك الجهاد في سبيل الله، فهم الذين أدوا الحق الذي افترض الله عليهم.

معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم من بعد موسى

ثم بعد موت موسى أخرج الله فيهم عدداً من الأنبياء، ولم تكن معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم بعد موسى أحسن حالاً من معاملتهم لـموسى عليه السلام، يقتلون فريقاً ويكذبون فريقاً، وقد أهدوا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام لبغي من بغاياهم، وقتلوا عدداً كبيراً من أنبياء الله، ومع ذلك فأنبياء الله صابرون محتسبون، ما ضعفوا وما استكانوا، بل كان دعاؤهم لله سبحانه وتعالى عمدتهم في الأمر، كما قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:146-148].

هؤلاء القوم كانوا ألأم الناس مع رب العالمين، الملك الديان، الذي: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، أكرمهم بأنواع الإكرام، ومع ذلك اتخذوا آياته ورسله هزواً، ولم يزدادوا بأية آية من آيات الله إلا كفراناً وطغياناً، وقد خلقهم الله للشر، فجعلهم أذىً يؤذي به في هذه الأرض، كما خلق السرطانات والأوبئة، وغيرها من الأدواء، لقد خلق الله اليهود لذلك.

عداوة بني إسرائيل لعيسى بن مريم وأمه

ثم كان منهم بعد هذا أن شاهدوا ما حصل لـمريم ابنة عمران عليها السلام، عندما بشرتها الملائكة بروح الله وكلمته، وأخبرها الله سبحانه وتعالى بما أعد لـعيسى من الفضل، فإنه يكلم الناس في المهد وكهلاً، وقد علمه الله التوراة والإنجيل والكتاب، وفضله على أهل زمانه، وعلمه كثيراً من الغيوب والعلوم، وأطلعه على ما يكنه بنو إسرائيل في بيوتهم، وما يعدونه لأنفسهم من الطعام، وبعد ذلك كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهي أمور يقف دونها العلم، لا يمكن أن يصل إليها.

وعندما جاءت مريم تحمله وقد شاهدت المعجزات الغريبة، عندما أمرت بهز جذع نخلة ميتة، هزتها فتساقط عليها الرطب وعادت النخلة كهيئتها عندما تكون أكمل نخلة في حملها، وجرى من تحتها سري من الماء العذب، ثم جاءت به تحمله وقد ختم الله على لسانها لا تستطيع الكلام، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل في المحراب فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا[مريم:28-29]، فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه في الأرض، ونظر إليهم وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع هذا الكلام إلا زكريا عليه السلام، هربوا جميعاً، ثم بعد ذلك شاهدوا من عيسى العجائب.

حتى إن الحواريين قالوا له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:112]، فأصروا على ذلك: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا[المائدة:113]، وبعد ذلك أنزل الله المائدة، بعد أن أخذ عليهم العهد أن من كفر بعد هذا يعذبه الله عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فتعهد الله لهم إذا كفروا بعد هذه المعجزة الظاهرة بعذاب لا يعذبه أحداً من العالمين، فكانت المائدة تأتي في وقت الضحى تحملها الملائكة تتنزل من السماء إلى الأرض، لا يطلب أحدٌ نوعاً من أنواع الطعام ولا نوعاً من الفاكهة إلا وجده فيها، فإذا شبعوا جميعاً رفعها الملائكة وهم ينظرون حتى تتوارى في السماء، ثم تأتي من الغد أربعين يوماً، فقامت بها الحجة على النصارى، فمن كفر منهم بعد هذه الحجة، فإن الله يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

ثم بعد هذا تمالؤوا مع اليهود على نبي الله وروحه عيسى عليه السلام وأرادوا قتله وصلبه فشبه لهم ورفعه الله إليه.

ومن سنة الله سبحانه وتعالى أن يستمر هذا الفرقان بين أولياء الله وأعدائه إلى يوم القيامة، فلا بد أن يبقى على آثار أولئك الصفوة، الذين اختارهم الله لتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته، من يقتفي آثارهم، ويترسم خطاهم، ويتبعهم في المنهج الذي سلكوه، ولا بد أن يبقى كذلك على وجه هذه الأرض قوم آخرون، يختارون سلوك طريق أعداء الله ورسوله، ويتبعون آثارهم، ويترسمون خطاهم، لا بد أن يبقى في كل جيل من الأجيال من هم أمثال أبي جهل عمرو بن هشام ، و عتبة بن ربيعة ، و شيبة بن ربيعة ، و زمعة بن الأسود ، لا بد أن يبقى أمثالهم في كل زمان وفي كل مكان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين سراجاً على هذه الأرض كلها، يبلغ ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا بيت مدر إلا دخله.

وبذلك لا بد أن يبقى له أعداء، فكل يوم من أيام الدنيا هو مثل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهودة، كيوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، ويوم خيبر، ويوم الأحزاب، وغيرها من الأيام، وإنما تتفاوت الأيام بتفاوت رجالها؛ فلذلك لا يمكن أن يضيق المؤمنون باعاً بوجود عداوة مستمرة، فهم يعلمون أنها سنة كونية ثابتة، ولا يمكن أن يضيقوا باعاً كذلك بعداوة الذين ذكر الله عداوتهم في كتابه، فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على طائفتين أوتوا الكتاب قبلنا، فقد فضلهم الله على العالمين، وأرسل إليهم الرسل، وأقام عليهم الحجة بالآيات البينات.

اليهود عليهم لعائن الله أقام الله عليهم الحجة بتفضيلهم على العالمين أجمعين، وبما آتاهم من التوراة، التي تضمنت علم الأولين والآخرين، وقد كتبها الله بيمينه في الألواح لـموسى .

واختار طائفةً منهم للشهادة عليها، فاختار سبعين رجلاً منهم خرجوا معه إلى الطور، حتى سلمه الله الألواح وهم ينظرون، فلم يتأثروا بهذا المشهد، وإن كانوا خيرة بني إسرائيل، إلا أنهم مع ذلك كانوا يهزؤون بنبي الله موسى ، فلما فعلوا نتق الله الطور فرفعه فوق رؤوسهم كالظلة، وأخذتهم الرجفة، فاشتد ذلك على موسى وحده، وقال عندما أخذت أصحابه تلك الرجفة الشديدة: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].

وبين أن ذلك إنما كان من فعل السفهاء من قومه، ولهذا قال: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف:155].

فرد الله العذاب بدعاء موسى وضراعته إلى الله سبحانه وتعالى، بعد أن أمرهم بالسجود لله وأن يقولوا: حطة، أي: مغفرة، فلم يسجدوا على جباههم، بل سجدوا على الشق الأيمن من الجباه وهم ينظرون بأعينهم إلى الجبل من الخوف، وضرب الله عليهم بذلك الذلة والمسكنة والصغار إلى يوم القيامة، ولم يستطيعوا أن يقولوا ما أمرهم الله بقوله وهو: حطة، بل قالوا: شعرة، وفي حبل، وهم يقصدون حنطة بذلك، فلذلك لم يرض الله عنهم، بل رد عنهم العذاب بشفاعة نبيه موسى وكليمه عليه السلام، ثم بعد هذا آذوا موسى بأنواع الأذى، فما تركوا أذىً يمكن أن يوجهوه إلى هذا النبي الكريم الذي أكرمه الله برسالاته وبكلامه إلا وجهوه إليه، حتى ألجؤوه إلى أن يقول لهم كلامه المؤثر البليغ الذي حكاه الله في كتابه: لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].

ثم بعد هذا شاهدوا من المعجزات الشيء الكثير، فمن أول ما شاهدوه من المعجزات ما كان قبل خروجهم من مصر عندما أتاهم موسى لينقذهم الله به من الويلات والهوان، فرأوه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء منيرة من غير سوء، ورأوه يلقي عصاه فإذا هي حية تسعى فيقبضها فتعود عصاً كما كانت في سيرتها الأولى، ورأوه يتجاسر على أعتى عتاة الأرض وأطغى طغاتها، فيكلمه بكلام الحق لا يخاف في الله لومة لائم، وهو يعلم أن جنده الذين معه هم بنو إسرائيل أهل الذلة والمسكنة، لكن موسى لا يثق بأولئك الجند، وإنما يثق بوعد الله وحده.

ولذلك حين أمره الله أن يخرج بهم بالليل من مصر خرج بهم جميعاً وأعينهم في أخبيتهم خوفاً من فرعون وجنوده، فلما رأوا البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. فضرب موسى البحر بعصاه بأمر الله فشق لهم طريقاً في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا تخشى، فمروا منها مسرعين، ثم اتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوا البحر أمر الله البحر فالتقمهم، والتطم عليهم فلم تبق منهم باقية، وبعد أن خرجوا من هذا البحر وشاهدوا مصارع أعدائهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فما كان منهم إلا أن تمنوا الرجوع إلى الكفر فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138].

وبعد ذلك لما فرض الله عليهم دخول أريحا قالوا لـموسى : َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات الجيل الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة في أيام فرعون ، وأولئك لا يصلحون للجهاد ولا يستطيعون تحمل هذه الأعباء الجسيمة، فلما مات أولئك، ونشأ شباب قد تربوا في ظل الشظف والتيه استطاع أولئك الجهاد في سبيل الله، فهم الذين أدوا الحق الذي افترض الله عليهم.

ثم بعد موت موسى أخرج الله فيهم عدداً من الأنبياء، ولم تكن معاملة بني إسرائيل لأنبيائهم بعد موسى أحسن حالاً من معاملتهم لـموسى عليه السلام، يقتلون فريقاً ويكذبون فريقاً، وقد أهدوا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام لبغي من بغاياهم، وقتلوا عدداً كبيراً من أنبياء الله، ومع ذلك فأنبياء الله صابرون محتسبون، ما ضعفوا وما استكانوا، بل كان دعاؤهم لله سبحانه وتعالى عمدتهم في الأمر، كما قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ[آل عمران:146-148].

هؤلاء القوم كانوا ألأم الناس مع رب العالمين، الملك الديان، الذي: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، أكرمهم بأنواع الإكرام، ومع ذلك اتخذوا آياته ورسله هزواً، ولم يزدادوا بأية آية من آيات الله إلا كفراناً وطغياناً، وقد خلقهم الله للشر، فجعلهم أذىً يؤذي به في هذه الأرض، كما خلق السرطانات والأوبئة، وغيرها من الأدواء، لقد خلق الله اليهود لذلك.

ثم كان منهم بعد هذا أن شاهدوا ما حصل لـمريم ابنة عمران عليها السلام، عندما بشرتها الملائكة بروح الله وكلمته، وأخبرها الله سبحانه وتعالى بما أعد لـعيسى من الفضل، فإنه يكلم الناس في المهد وكهلاً، وقد علمه الله التوراة والإنجيل والكتاب، وفضله على أهل زمانه، وعلمه كثيراً من الغيوب والعلوم، وأطلعه على ما يكنه بنو إسرائيل في بيوتهم، وما يعدونه لأنفسهم من الطعام، وبعد ذلك كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهي أمور يقف دونها العلم، لا يمكن أن يصل إليها.

وعندما جاءت مريم تحمله وقد شاهدت المعجزات الغريبة، عندما أمرت بهز جذع نخلة ميتة، هزتها فتساقط عليها الرطب وعادت النخلة كهيئتها عندما تكون أكمل نخلة في حملها، وجرى من تحتها سري من الماء العذب، ثم جاءت به تحمله وقد ختم الله على لسانها لا تستطيع الكلام، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل في المحراب فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا[مريم:28-29]، فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه في الأرض، ونظر إليهم وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع هذا الكلام إلا زكريا عليه السلام، هربوا جميعاً، ثم بعد ذلك شاهدوا من عيسى العجائب.

حتى إن الحواريين قالوا له: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:112]، فأصروا على ذلك: قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا[المائدة:113]، وبعد ذلك أنزل الله المائدة، بعد أن أخذ عليهم العهد أن من كفر بعد هذا يعذبه الله عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فتعهد الله لهم إذا كفروا بعد هذه المعجزة الظاهرة بعذاب لا يعذبه أحداً من العالمين، فكانت المائدة تأتي في وقت الضحى تحملها الملائكة تتنزل من السماء إلى الأرض، لا يطلب أحدٌ نوعاً من أنواع الطعام ولا نوعاً من الفاكهة إلا وجده فيها، فإذا شبعوا جميعاً رفعها الملائكة وهم ينظرون حتى تتوارى في السماء، ثم تأتي من الغد أربعين يوماً، فقامت بها الحجة على النصارى، فمن كفر منهم بعد هذه الحجة، فإن الله يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.

ثم بعد هذا تمالؤوا مع اليهود على نبي الله وروحه عيسى عليه السلام وأرادوا قتله وصلبه فشبه لهم ورفعه الله إليه.

واستمرت عداوتهم بعد هذا لأنبياء الله بتحريف الكتب المنزلة وتبديلها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فتذكروا سابق عهدهم، فأعلنوا الحرب والعداء على هذا النبي، الذي قد أخذ عليهم العهد بمتابعته ومبايعته، فما من نبي من أنبياء الله إلا أخذ الله عليه الميثاق إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعه هو وأهل ملته: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81]، والإصر: هو أشد ما أخذ أحد على أحد، قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:81-83].

المؤمنون بنبي الإسلام من النصارى

فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمن به من الطائفتين قبله إلا عدد يسير من النصارى، دعاهم دينهم والتزامهم إلى تصديقه، وأولئك كانوا إذا سمعوا الوحي المنزل إليه: يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[الإسراء:107-109]، وهم الأحبار الذين كانوا في الأديرة يتعبدون، وينقطعون عن شأن الدنيا وأهلها، وهم قليل، لكنهم الذين قالوا: إنا نصارى، أما من سواهم من النصارى فلم يقولوا ذلك ولم يصدق عليهم، ولهذا قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ[المائدة:82-84].

فأولئك هم الذين لم يشملهم سخط الله ومقته حين حل على أهل الأرض، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان).

فهؤلاء القوم وحدهم هم الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تشتد عداوتهم للمؤمنين، وكان منهم بحيرى الراهب الذي كان ببصرى، وقد علم من قراءته في الكتب السابقة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما جاء وفد أهل مكة للتجارة نزلوا تحت شجرة هنالك، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طفلاً لم يبلغ الحلم بعد فعرفه، وقام إليه يقبل رجليه، وأمر عمه أبا طالب أن يرجع به عن الشام، فإنه يخاف اليهود عليه لأنهم يحسدونه.

وعندما سأله الملأ من قريش: بماذا عرفته؟ قال: ألا ترون أنه إذا سار في الهجير تظله سحابة بينه وبين السماء، فلما كان وقت الهجير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج في حاجة تظله سحابة بينه وبين السماء، فرأى ذلك الملأ من قريش، فرجع به أبو طالب من الشام إلى مكة.

وكذلك من هؤلاء الذين صدقوه من النصارى، من الذين قالوا إنا نصارى: ورقة بن نوفل الذي شهد البعثة، فآمن وصدق وقال: ( هذا الناموس الأكبر الذي أنزله الله على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).

ومنهم أيضاً: زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وكان قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن، فشهد أول البعثة فرأى تعذيب المؤمنين، فكان يمر على بلال وهو يعذب ويجر في الرمضاء، فيقول له: أحد أحد يا بلال .

وكذلك من هؤلاء: عدد يسير من نصارى جزيرة العرب، الذين كانوا يتحنثون في الأديرة، فقامت عليهم الحجة بالقرآن فأسلموا.

المؤمنون والمكذبون بنبي الإسلام من اليهود

أما اليهود فقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو آمن من اليهود كلها نحو عشرة أو عشرين لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة، بل آمن به عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد شهد الله له بالإيمان في القرآن، فقال تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ[الأحقاف:10]، وكان أعلم يهود المدينة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج إليه عبد الله بن سلام ، قال: ( فأتيته وهو بقباء، فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس وجه كذاب، فدرت وراء ظهره لأرى خاتم النبوة، فشعر بي فأرخى الرداء عن كتفه حتى رأيت خاتم النبوة، فأكببت عليه أقبله، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تردوا الجنة بسلام)، فأسلم عبد الله بن سلام وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين بذاته هو، وكان حجة على اليهود بالمدينة، فإنهم عندما أنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، أخفى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام من وراء ستر، فدعاهم فقال: (ما منزلة ابن سلام فيكم؟ فقالوا: عالمنا وابن عالمنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن صدقني فيما أقول أتتبعونني؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فكشف ابن سلام الستر فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وأنه النبي الذي أخذ عليكم العهد في التوراة أن تتبعوه، وأمرهم أن يخرجوا التوراة، فأقام عليهم الحجة بها، فكانوا قوماً بهتاً فأنكروا وكذبوا.

المكذبون بنبي الإسلام من النصارى

ثم كان من النصارى كذلك إعراض وتكذيب، فمنهم نصارى نجران، الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون مجادلته، فلما أتوه أنزل الله آيات من سورة آل عمران فيهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليهم المباهلة: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[آل عمران:61]، فتجاسروا على ذلك، ثم إن صاحب رأيهم دعاهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمهلهم عشيتهم حتى يتشاوروا فيما بينهم، فلما تشاوروا قال لهم صاحب رأيهم: لقد علمتم ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، وإنكم لتعلمون إنه لنبي، ولكن تعالوا نعرض عليه الجزية، فإن قبلها أديناها ولم نفتضح، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية أن يؤدوا إليه أربعة آلاف حلة، وأربعة دراهم عن كل حالم، وأخبرهم أنه سيرسل معهم رجلاً من أمته أميناً جد أمين، فبات الناس يخوضون من سيكون هذا الرجل الأمين؟ وما تمنى عمر أثرة في الدنيا قبل تلك الليلة، لشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمانة لذلك الرجل الذي يخرج معهم.

وأنتم تعلمون عظم الأمانة في الإسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له).

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر دعا أبا عبيدة عامر بن الجراح الفهري فأخرجه معهم، فكان أمين هذه الأمة.

ثم بعد ذلك بقي نصارى العرب على عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمروا على هذا حتى بعد الفتح، فعندما فتحت بلاد تغلب أنفوا من الجزية لأنهم عرب، وقالوا لأمير المؤمنين عمر : لا تعاملنا معاملة الفرس والروم فإنما نحن من أبناء جلدتكم، فنؤدي إليك الزكاة كما يؤديها المسلمون. فقبل منهم عمر ذلك صلحاً، والجزية يجوز أن يصالح بها الإمام على جزء منها أو على أكثر منها، وتغلب صالحهم عمر على الجزية، فاستمروا يدفعونها، ولكن بقوا مع ذلك على ملتهم المحرفة المبدلة، حتى إن شاعرهم الأخطل يقول:

ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح

ولست بصائم رمضان عمري ولست بآكل لحم الأضاحي

ولكني سأشربها صبوحا وأرقد عند منبلج الصباح

وهذا هزء بالصلاة، وقد بين الله ذلك في سورة المائدة، فقد بين الله فيها كثيراً من مخازي اليهود والنصارى، وقد قال الله فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ[المائدة:57-58].

وهؤلاء قد أخزاهم الله سبحانه وتعالى بما أنزل في هذه السورة من الآيات البينات، وبين كفرهم وضلالهم وبطلان ما هم عليه، فقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[المائدة:17].

وقال فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ[المائدة:73-75].

وقال فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ[المائدة:72].

وقال فيهم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[المائدة:78-81].


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4133 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3908 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع