الحج أحكامه وفوائده وشروطه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق بين حكمته في خلق الإنس والجن فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58].

وقد بين لهم ما يعبدونه به؛ لأنهم لا يستطيعون أن يصلوا إليه بنفع ولا بضر، ولا يمكن أن يتقربوا إليه إلا بما شرع لهم، فأرسل إليهم الرسل ليروهم المحجة وليقيموا عليهم الحجة: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقد قفى على آثارهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس بالحنيفية السمحة، التي هي الدين عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

وقد أكمل الله خطابه لأهل الأرض وتوجيهه لهم ودينه إليهم بهذا الدين، الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].

والدخول في هذا الدين هو الإسلام، وأي قرار يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه بالاستسلام لأمر الله جل جلاله والانقياد لحكمه، فلا يمكن أن يكون الدخول في الإسلام بمجرد الميراث أو التسمية أو الجنسية، بل لا بد أن يكون قناعة وقراراً يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، وفرق بين مسلمة الدار ومسلمة الاختيار، فإذا اختار الإنسان الإسلام سبيلاً ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولا، فلا بد أن يتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله ليطبقه على وفق ما يرضي الله جل جلاله، وليعلم أن الله بنى هذا الدين على خمسة أركان بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان).

وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عندما سأله جبريل عن الإسلام في حديث عمر في صحيح مسلم فقال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ).

فهذه الأركان الخمسة إذا أكملها الإنسان كان بنيانه متكامل الأساس، كملت أركانه، وركن الشيء هو جانبه القوي، وإذا نقص واحد منها فإنه كان كالذي يسكن في بيت متهدم الجانب، لا يأمن فيه الإنسان على نفسه ولا على ماله، فلا بد أن يحرص الإنسان على إكمالها، وليبدأ أولاً بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلا يقبل الله شيئاً من هذه الأركان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وكل عمل من أعمال بني آدم التي يتقرب بها إلى الله لا بد أن تجمع بين هاتين الشهادتين، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي الإخلاص في العمل، وأن يقصد به الإنسان وجه الله الكريم وحده، وأن لا يكون له شرك فيه، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).

وكذلك لا بد في كل عمل صالح أن يحقق الإنسان فيه شهادة أن محمداً رسول الله بأن يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يبتدع، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

فكل عمل لم يخلص فيه صاحبه لله فإنه منافٍ لشهادة أن لا إله إلا الله، ولا يتقبله الله، وكل عمل ابتدع فيه الإنسان وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافٍ لشهادة أن محمداً رسول الله فلا يتقبله الله، فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج لا بد أن يحقق في كلها شهادة أن لا إله إلا الله بالإخلاص لله، ويحقق في كلها شهادة أن محمداً رسول الله، بمتابعة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

الحج إكمال لأركان الإسلام وبيت الإنسان

والحج ركن من هذه الأركان إجماعي، فمن أنكر وجوبه فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهو خارج من الملة، ولا يمكن أن يقبل الله منه أداءه وهو منكر لوجوبه، وهو واجب مرة واحدة في العمر، فإذا أداه الإنسان مرة في العمر فإنه أدى فرض العين، ويبقى بعد ذلك فرض الكفاية، فيجب على المسلمين في كل عام إقامة الموسم حتى لو قدر أن عدد المسلمين حصر في أفراد قد حجوا جميعاً، فإنه يجب إقامة الموسم، ولا يحل تعطيله كل عام.

والحج فيه كثير من الفوائد للإنسان، فمن أعظم هذه الفوائد: أنه إكمال لأركان الإسلام وبيت الإنسان، فالإنسان كيانه الحقيقي هو دينه؛ ولذلك الإنسان إذا جرد من الدين ولم يكن له امتثال ولا اجتناب، فإنه قد تودع منه والبهيمة خير منه، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].

وكلما ازداد الإنسان نصيباً من الدين ورفع درجة فيه ازدادت درجته في الجنة، وقد قال الله تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبرُ تْفضِيلاً [الإسراء:21]، وقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فالمصلون متفاوتون في صلاتهم تفاوتاً عظيماً، فإذا صليتم العصر هنا في المسجد والصفوف ممتلئة، فلا يمكن أن يتساوى أهلها في أدائها، فمنهم من تكتب له صلاة واحدة بمليارات الصلوات، ومنهم من تكتب له بمئات الآلاف، ومنهم من تكتب له بالآلاف، ومنهم تكتب له بالمئات، وأقلهم حظاً من تكتب له بعشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.

وكذلك في الزكاة والصوم والحج، وتفاوت الناس فيها يشمل تفاوتهم في معرفة أحكامها وتفاوتهم في هيئة أدائها، وتفاوتهم في الإقبال على الله فيها، وتفاوتهم كذلك بإتقانها وإحسانها، فإحسان العمل متفاوت، وأنتم تعلمون أن العمل الواحد كالبنيان ونحوه، قد يتخصص فيه عشرات من الناس، فقد يكون لدينا الآن مئات من المتخصصين في البنيان، لكنهم متفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً في إتقانهم له، وفي تنسيقهم للبنيان وأدائه، فكذلك التفاوت في العمل وإتقانه، وهذا العمل لا بد فيه من مجاهدة أياً كان، صلاةً أو صوماً أو حجاً أو زكاةً، لا بد أن يجاهد الإنسان فيه نفسه ويأطرها على الحق، حتى لا يأخذ الشيطان شيئاً منه، فإن الشيطان عدو للإنسان وهو يتربص به الدوائر، ويعلم أن رفع درجة الإنسان إنما هي بالعمل الصالح، فيحاول أن يخدش عمله وأن ينقصه، فلا بد أن يحقق الإنسان عداوته لله بالسعي لتحسين عمله، فكلما تقدم به العمر زاد إحساناً لصلاته، وازداد إتقاناً لزكاته، وصيامه، وحجه، وذكره وقراءته، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقرب.

ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فمن عجز عن العمل في الليل فله فرصة في النهار، ومن عجز عن العمل في النهار فله فرصة بالليل، وكل مذكر من عند الله تعالى وحجة ساطعة وبرهان قاطع لله جل جلاله على عباده، ومن لم يتقن الحج في العام الماضي ففرصته أن يتقنه في هذا العام، ومن لم يتقن صيام رمضان في الماضي ففرصته أن يتقنه في المستقبل وأن يعزم على ذلك، وهكذا في زكاته وفي كل شئونه، بل إن العبادة الواحدة تجّزأ إلى أجزاء ففيها أركان وفرائض أساسية، وفيها واجبات دون ذلك، وفيها سنن ومندوبات مكملة بحسب التشريع، فالتشريع كله ثلاث درجات: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، فالضروريات هي: الأركان الأساسية التي لا يمكن أن تتحقق الحقيقة إلا بها، والحاجيات هي: الواجبات التي لا يستقيم إنتاجها وأداؤها إلا بها، والكماليات والتحسينيات هي: ما زاد على ذلك مما يتفاوت الناس فيه.

فالصلاة تعرفون أركانها فإذا تركها الإنسان جهلاً أو نسياناً أو سهواً، فإنه يجبرها بسجود السهو، ثم بعد ذلك السنن والمندوبات الأخرى التي هي دون هذا فلا يلزم بطلان بتركها عمداً، ولا يلزم سجود بتركها سهواً، وهكذا في الصوم والزكاة والحج فهي متفاوتة، وأيضاً فحسب الأداء يكون التدرج فنعلم أن الصلاة مثلاً عدد من الركعات، فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة العشاء أربع في حق المقيم. والرباعيات تقصر في حق المسافر، فإذا أدرك الإنسان ذلك علم أن الركعتين الأوليين من صلاة العصر مثلاً لا بد فيهما من التأني ومجاهدة النفس على الإتقان؛ ولذلك شرعت فيهما السورة بعد الفاتحة، وشرعت فيهما الإطالة والركود، كما في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح أنه قال لعمر لما شكاه بنو أسد إليه أنه لا يحسن أداء الصلاة، قال: (والله إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال عمر : ذلك الظن بك).

فلا بد أن يركد الإنسان في الأوليين؛ لأن الصلاة بمثابة سيارة تسوقها وأنت مسرع في الاتجاه إلى الله جل جلاله، وسائر في طريق الوصول إليه، والسيارة لها سرعات متفاوتة، فالدرجة الأولى تكون السيارة فيها ثقيلة، وفي التي تليها كذلك، ثم بعد ذلك إذا وصلت إلى السرعة الثالثة خفت السيارة، فإذا وصلت إلى الرابعة زادت الخفة والسرعة، وهكذا فكذلك ركعات الصلاة.

ومن هنا لا بد أن يحاول الإنسان في كل عبادة يقوم بها أن يحسن آخرها وختامها، فهو ختامه، وخاتمة الإنسان هي المسيطرة والمهيمنة على عمله كله، فالأعمال بخواتيمها، فإذا أتقنها الإنسان لم يضره ما سبقها، فتكون الخاتمة مكفرة لما سبق، وإذا فرط فيها وضيع، فإنه حتى لو أحسن في الماضي فقد جاء بعد ذلك الماضي ما ينقصه ويضره، فلذلك لا بد أن يعالج الإنسان نفسه، ويجاهدها على إتقان العبادة، وأدائها على الوجه السليم.

الحج مكفر للسيئات

ومن فوائد الحج: أنه كذلك سبب لتكفير سيئات الإنسان في الماضي، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فمن حج فلم يفسق فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).

ويوم مولد الإنسان لا يكون عليه فيه سيئة، وحدد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (من ذنوبه)، أما حسناته فتبقى له، وسيئاته تمحى فيخرج من حجه ويرجع كيوم ولدته أمه من السيئات، أما من ناحية الحسنات فله ما مضى منها، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ َ[البقرة:203]. فمعنى قوله: (لا إثم عليه) أنه قد كفرت سيئاته، سواء تعجل في يومين أو تأخر فأتم ثلاثة أيام بمنىً، وهي أيام التشريق بعد يوم العيد، فسواءً تقدم أو تأخر فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته يومه.

الحج سبب لدخول الجنة

وكذلك من فوائد الحج: أنه سبب لدخول الجنة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، (ليس له جزاء إلا الجنة) معناه: ليس له مثوبة دون الجنة، فصاحبه إذا أتقنه وأداه على وجهه فجزاؤه الجنة.

الحج سبب لاستجابة الدعاء

وكذلك من فوائده: استجابة الدعاء فيه، ففيه مواطن هي مظنة لاستجابة الدعاء، وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ترفع الأيدي إلى الله في سبعة مواضع: عند رؤية البيت الحرام، وعلى الصفا وعلى المروة، وبعرفة، وبجمع، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية. فهذه سبعة مواضع في الحج ترفع الأيدي إلى الله فيها، فمعناه: أنها مظنة لاستجابة الدعاء عند رؤية البيت الحرام، وأول ما يرى الإنسان بيت الله الحرام، فهذا مظنة لاستجابة الدعاء فليهل به.

وكذلك عند وقوفه على الصفا فهي من شعائر الله، وعند وقوفه على المروة فهي من شعائر الله، وشعائر الله ما أشعر به بحكم وعظمه وميزه.

ثم ذلك الوقوف بعرفة فهو مكان استجابة الدعاء، ولا يمر على الشيطان يوم هو فيه أخزى من يوم عرفة لكثرة من يرى من المغفور لهم، ولكثرة ما يرى من قضاء حوائج المسلمين، ثم بعد ذلك الوقوف بجمع وهي المزدلفة، وذلك يوم العيد في الصباح، وهو الموقف الذي يذكر فيه الإنسان لله نعمته يثني بها عليه كما قال الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198].

والموقف السادس: وهو بعد رمي الجمرة الأولى، وهي الجمرة الصغرى وهي الشرقية من الجمار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رماها تياسر فوقف قدر هذ سورة البقرة، فدعا الله سبحانه وتعالى ثم انصرف إلى الجمرة الوسطى فرماها، ثم تيامن فوقف قدر هذ سورة البقرة فدعا، فهذان الموضعان يستجاب فيهما الدعاء، أما جمرة العقبة فليس بعدها دعاء؛ لأنها نهاية الرمي، ويشرع بعدها الانصراف لئلا يؤدي المكث إلى الزحام.

الحج مؤتمر عام للمسلمين

وكذلك من فوائد الحج: أنه مؤتمر عام للمسلمين يلتقي فيه قاصيهم ودانيهم مشارقهم ومغاربهم، فيطلع بعض على أحوال بعض، ويشعر بعض بما يعانيه بعض، ويحس بآماله وآلامه، ويجد نفسه معه في خندق واحد.

الحج فيه منافع دينية ودنيوية

وكذلك من فوائده: ما يشهده الإنسان من المنافع الدينية والدنيوية، ففيه تذكير بمشاهد القيامة، فالإنسان يخرج في رحلة هي أقدس رحلة يسير فيها في حياته، فهي تذكير له برحلته إلى الدار الآخرة عندما يموت فيحمل على الرقاب إلى قبره، وفيها تجرد لله من كل شيء، كما قال السيد قطب - رحمه الله-: إن المحرم يتجرد لله من كل شيء حتى من ملابسه الخاصة، فمعناه: أنه لا بد أن يتجرد إلى الله من حظوظ نفسه ومن ذنوبه ومن أعماله، ويتخلص للحج ولا ينشغل عنه بأي شيء سواه.

فلذلك يتذكر الحاج بثيابه وهي ثياب إحرامه أكفانه، ويتذكر ببقعة المطاف الساهرة، وهي أرض مستديرة كالكرسفة البيضاء يقف الواقف على وجهها فيرى طرفها الآخر، ويجتمع فيها الناس جميعاً كالفراش المبثوث وكالجراد المنتشر، وكذلك الوقوف بصعيد عرفة ومباهاة الله ملائكته بالحجاج يذكر بالعرض على الله جل جلاله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً مشاة، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] ).

وكذلك السير من عرفة إلى مزدلفة مذكر بالصدر، فعندما يصدر الناس من قبورهم وينادون هلم إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وهم يصدرون ليروا أعمالهم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].

وتذكر الإنسان لمشاهد القيامة بهذه المواقف والبقاع المقدسة من أهم فوائدها عليه؛ لأنه يزيده إيماناً، ويزيده حثاً على تقديم شيء لنفسه، وزيادة ترشيح كفة حسناته، وقد قال الله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، وذكر أهل العلم أن ذلك يشمل المنافع الدنيوية والمنافع الدينية.

الحج سبب من أسباب الغنى

وكذلك من فوائد الحج: أنه أيضاً سبب للغناء، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد)، وما ينفقه الإنسان من النفقات في حجه مخلوف لا يمكن أن يدور عليه العام إلا وقد عوض ما أنفقه من عند الله سبحانه وتعالى دون جهد ولا عناء.

الحج سبب لدخول الإنسان في ضيافة الله

وكذلك فإن من فوائد الحج أيضاً: أن الإنسان فيه يدخل في ضيافة الله جل جلاله، وأنتم تعرفون أن الإنسان محب للإكرام، ويحب أن يكون ضيفاً لكريم وأكرم الأكرمين هو الرب جل جلاله، وهو الذي ينادي الحجاج ليكرمهم، فيدعوهم إلى هذه المشاعر وهو الذي يؤشر لهم، فالذين يخرجون إلى الحج هم وفد الله، هو الذي أنزل أسماءهم وأعطاهم التأشيرات ويسر لهم ما يوصلهم، وهو الذي ناداهم فأجابوا، وأمر خليله صلى الله عليه وسلم بدعوتهم كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:26-28].

والحج ركن من هذه الأركان إجماعي، فمن أنكر وجوبه فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهو خارج من الملة، ولا يمكن أن يقبل الله منه أداءه وهو منكر لوجوبه، وهو واجب مرة واحدة في العمر، فإذا أداه الإنسان مرة في العمر فإنه أدى فرض العين، ويبقى بعد ذلك فرض الكفاية، فيجب على المسلمين في كل عام إقامة الموسم حتى لو قدر أن عدد المسلمين حصر في أفراد قد حجوا جميعاً، فإنه يجب إقامة الموسم، ولا يحل تعطيله كل عام.

والحج فيه كثير من الفوائد للإنسان، فمن أعظم هذه الفوائد: أنه إكمال لأركان الإسلام وبيت الإنسان، فالإنسان كيانه الحقيقي هو دينه؛ ولذلك الإنسان إذا جرد من الدين ولم يكن له امتثال ولا اجتناب، فإنه قد تودع منه والبهيمة خير منه، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].

وكلما ازداد الإنسان نصيباً من الدين ورفع درجة فيه ازدادت درجته في الجنة، وقد قال الله تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبرُ تْفضِيلاً [الإسراء:21]، وقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فالمصلون متفاوتون في صلاتهم تفاوتاً عظيماً، فإذا صليتم العصر هنا في المسجد والصفوف ممتلئة، فلا يمكن أن يتساوى أهلها في أدائها، فمنهم من تكتب له صلاة واحدة بمليارات الصلوات، ومنهم من تكتب له بمئات الآلاف، ومنهم من تكتب له بالآلاف، ومنهم تكتب له بالمئات، وأقلهم حظاً من تكتب له بعشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.

وكذلك في الزكاة والصوم والحج، وتفاوت الناس فيها يشمل تفاوتهم في معرفة أحكامها وتفاوتهم في هيئة أدائها، وتفاوتهم في الإقبال على الله فيها، وتفاوتهم كذلك بإتقانها وإحسانها، فإحسان العمل متفاوت، وأنتم تعلمون أن العمل الواحد كالبنيان ونحوه، قد يتخصص فيه عشرات من الناس، فقد يكون لدينا الآن مئات من المتخصصين في البنيان، لكنهم متفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً في إتقانهم له، وفي تنسيقهم للبنيان وأدائه، فكذلك التفاوت في العمل وإتقانه، وهذا العمل لا بد فيه من مجاهدة أياً كان، صلاةً أو صوماً أو حجاً أو زكاةً، لا بد أن يجاهد الإنسان فيه نفسه ويأطرها على الحق، حتى لا يأخذ الشيطان شيئاً منه، فإن الشيطان عدو للإنسان وهو يتربص به الدوائر، ويعلم أن رفع درجة الإنسان إنما هي بالعمل الصالح، فيحاول أن يخدش عمله وأن ينقصه، فلا بد أن يحقق الإنسان عداوته لله بالسعي لتحسين عمله، فكلما تقدم به العمر زاد إحساناً لصلاته، وازداد إتقاناً لزكاته، وصيامه، وحجه، وذكره وقراءته، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقرب.

ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فمن عجز عن العمل في الليل فله فرصة في النهار، ومن عجز عن العمل في النهار فله فرصة بالليل، وكل مذكر من عند الله تعالى وحجة ساطعة وبرهان قاطع لله جل جلاله على عباده، ومن لم يتقن الحج في العام الماضي ففرصته أن يتقنه في هذا العام، ومن لم يتقن صيام رمضان في الماضي ففرصته أن يتقنه في المستقبل وأن يعزم على ذلك، وهكذا في زكاته وفي كل شئونه، بل إن العبادة الواحدة تجّزأ إلى أجزاء ففيها أركان وفرائض أساسية، وفيها واجبات دون ذلك، وفيها سنن ومندوبات مكملة بحسب التشريع، فالتشريع كله ثلاث درجات: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، فالضروريات هي: الأركان الأساسية التي لا يمكن أن تتحقق الحقيقة إلا بها، والحاجيات هي: الواجبات التي لا يستقيم إنتاجها وأداؤها إلا بها، والكماليات والتحسينيات هي: ما زاد على ذلك مما يتفاوت الناس فيه.

فالصلاة تعرفون أركانها فإذا تركها الإنسان جهلاً أو نسياناً أو سهواً، فإنه يجبرها بسجود السهو، ثم بعد ذلك السنن والمندوبات الأخرى التي هي دون هذا فلا يلزم بطلان بتركها عمداً، ولا يلزم سجود بتركها سهواً، وهكذا في الصوم والزكاة والحج فهي متفاوتة، وأيضاً فحسب الأداء يكون التدرج فنعلم أن الصلاة مثلاً عدد من الركعات، فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة العشاء أربع في حق المقيم. والرباعيات تقصر في حق المسافر، فإذا أدرك الإنسان ذلك علم أن الركعتين الأوليين من صلاة العصر مثلاً لا بد فيهما من التأني ومجاهدة النفس على الإتقان؛ ولذلك شرعت فيهما السورة بعد الفاتحة، وشرعت فيهما الإطالة والركود، كما في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح أنه قال لعمر لما شكاه بنو أسد إليه أنه لا يحسن أداء الصلاة، قال: (والله إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال عمر : ذلك الظن بك).

فلا بد أن يركد الإنسان في الأوليين؛ لأن الصلاة بمثابة سيارة تسوقها وأنت مسرع في الاتجاه إلى الله جل جلاله، وسائر في طريق الوصول إليه، والسيارة لها سرعات متفاوتة، فالدرجة الأولى تكون السيارة فيها ثقيلة، وفي التي تليها كذلك، ثم بعد ذلك إذا وصلت إلى السرعة الثالثة خفت السيارة، فإذا وصلت إلى الرابعة زادت الخفة والسرعة، وهكذا فكذلك ركعات الصلاة.

ومن هنا لا بد أن يحاول الإنسان في كل عبادة يقوم بها أن يحسن آخرها وختامها، فهو ختامه، وخاتمة الإنسان هي المسيطرة والمهيمنة على عمله كله، فالأعمال بخواتيمها، فإذا أتقنها الإنسان لم يضره ما سبقها، فتكون الخاتمة مكفرة لما سبق، وإذا فرط فيها وضيع، فإنه حتى لو أحسن في الماضي فقد جاء بعد ذلك الماضي ما ينقصه ويضره، فلذلك لا بد أن يعالج الإنسان نفسه، ويجاهدها على إتقان العبادة، وأدائها على الوجه السليم.