دروس في العقيدة [6]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن علم أصول الدين أشرف العلوم وأجلها، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعظيم حقه سبحانه على عباده، وقد افتتح الإمام الطحاوي رحمه الله رسالته بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].

وهو يشمل أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية.

وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الإلهية.

وتوحيد الإلهية هو الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، فإذا عرفنا الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وجب علينا أن نخصه بالعبادة، وأن نفرده بها سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى فطر الخلق على الإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فتوحيد الربوبية أمر فطر الله عليه جميع الخلق إلا من شذ من بعض طوائف بني آدم، ومشركو الأمم السابقة يعترفون بهذا التوحيد ولا ينكرونه، كأمة الهند والترك والبربر، وكذلك الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الأنبياء السابقين، كقوم نوح وهود وصالح، كلهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويقرون به ولا ينكرونه، ويحلفون بالله، كما أخبر الله عن التسعة الرهط الكفار أنهم أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام.

ومع كون توحيد الربوبية أمراً قد فطر الله عليه الخلق كلهم -إلا من شذ- فقد جاء أهل الكلام المتأخرين، وأهل النظر، وأهل الفلسفة، وأهل التصوف فتعبوا في إثبات هذا التوحيد وتقريره، فجعلوا يدأبون كثيراً ويتعبون، ويقررون النظريات، ويسوقون الأدلة لإثبات هذا التوحيد، مع أنه أمر فطر الله عليه الخلق جميعاً، ولهذا قالت الرسل لأممهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10]، حتى الحيوانات العجماوات فطرها الله على معرفة ربها، وأن الله في السماء، وأنه في العلو، لكن الفلاسفة تعبوا في إثباته وتقريره، حتى قال بعض أهل الكلام وأهل النظر: إنه لا يمكن تقريره بالعقل، وإنما يتلقى من السمع.

وكذلك الفلاسفة -مثل ابن سينا والفارابي- تعبوا في إثبات الخالق، ويدأبون كثيراً ويصلون في النهاية إلى أن هذا الوجود له موجد يسمونه واجب الوجود، والمخلوق يسمونه ممكن الوجود، فهم يعبون كثيراً، وفي نهاية المطاف يصلون إلى أمر برز عليهم فيه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان معترفون بوجود الله وليس عندهم إشكال، ولا تعبوا في معرفة هذا، بخلاف الفلاسفة، فقد تعبوا كثيراً، فيقررون ويذكرون الأدلة، وكذلك أهل الكلام وأهل النظر يركبون الأدلة في هذا حتى يصلوا إلى إثبات وجود الله.

الصوفية يرون أن توحيد الربوبية هو النهاية والغاية، حتى إنهم إذا وصلوا إليه فنوا فيه، ومعنى أنهم يفنون فيه أنهم يستغرقون في توحيد الربوبية، وفي رؤية الله ووجوده، وتفرده بخلق الأشياء وملكها واختراعها، وأنه ما شاء الله كان، ويستغرقون في شمول مشيئة الله، وشمول ربوبيته للأشياء وقيوميته وقدرته، ونفوذ مشيئته، ويشهدون ما اشتملت عليه المخلوقات من قدرة الله عليها، وملكه لها، ونفوذ مشيئته وشمول قيوميته وربوبيته.

وهذا الفناء يعده الصوفية غاية، ويعدونه نهاية التوحيد.

وقد انتشر الصوفية في كل مكان من أرجاء الدنيا، فلابد من معرفة توحيدهم وفنائهم حتى يكون الإنسان على بصيرة، لاسيما أن العالم صار كحلقة واحدة، وكثير من الإخوان ابتلوا بالصوفية في بلادهم، فتجد في السودان صوفية، وفي الشام صوفية، وفي مصر صوفية، وفي المغرب صوفية، وفي ليبيا صوفية، وفي باكستان صوفية، وفي أفريقيا صوفية، على طرق متعددة، وكل طريقة لها شيخ، فالصوفية يفنون في توحيد الربوبية، ويرونه الغاية والنهاية.

الفناء عن وجود السوى

والفناء عند الصوفية ثلاثة أنواع: فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن مراد السوى.

فالفناء الأول فناء عن وجود السوى،

وهو الفناء في الوحدة المطلقة ونفي التكتل عنها بكل اعتبار، فلا يشهد غيراً، ولا يشهد رباً وعبداً، بل يشهد الرب نفس العبد، والعبد نفس الرب، بل ليس هناك رب ولا عبد، وهذا فناء الملاحدة والزنادقة، فناء أهل وحدة الوجود، والفناء عندهم هو الوحدة المطلقة، فيقولون: الخالق هو الواحد المطلق، أي: الذي لا يقيد بشيء، لا باسم ولا بصفة ولا بمكان ولا بزمان، فهو كل الأشياء، فهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وتكتسيه الماهيات كلها، فيفنون في الوحدة المطلقة، والواحد المطلق الذي ليس له اسم ولا صفة يكون في الذهن، وهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وعلى ذلك فلا يكون هناك عبد ورب، فأنت العبد وأنت الرب! نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو فناء الملاحدة والزنادقة، وهذا كفر وإلحاد، بل هو أعظم من كل كفر، وكفر كل كافر جزء من هذا الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.

ومن هؤلاء الملاحدة والزنادقة ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والقونوي وغيرهم من ملاحدة الصوفية الذين ينعقون بوحدة الوجود، ويقولون: الوجود واحد، وهؤلاء ألغوا عقولهم، نسأل الله السلامة والعافية، وإلا فهذا الكلام لا يتصوره عاقل.

وكلمة الفناء كلمة يعنون بها تجريد شهود الحقيقة الكونية والغيب عن شهود الكائنات.

فالمخلوقات كلها يغيب عنها وينساها، فلا يكون هناك إلا تجريد شهود الحقيقة الكونية، وهو الله، ويغيب عن شهود المخلوقات كلها، لكن الزنادقة من ملاحدة الوجود يغيبون عن وجود هذه المخلوقات، بمعنى أنهم ينكرون وجود المخلوقات، فلا يقولون: إن هناك خالقاً ومخلوقاً، بل كل ما تراه هو الخالق، فكل ما تراه من سماء وأرض ومتحرك وساكن وناطق هو الله، وهذا تجليه وأسماؤه وصفاته، وهو الوجود المطلق، وكل شيء يلبسه ويخلعه، نسأل الله السلامة والعافية.

الفناء عن شهود السوى

والفناء الثاني هو فناء عن شهود السوى، وهذه هي الدرجة المتوسطة بين ملاحدة وحدة الوجود وبين أهل الشريعة، وهي التي بنى عليها أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الصوفي الحنبلي كتابه (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، الذي شرحه العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فحقيقة هذا الفناء غيبة أحدهم عن سوى مشهوده.

فمشهوده هو الله، فلا يشاهد إلا الله، ويغيب عما سواه، بل غيبته أيضاً عن شهوده نفسه، فيقول: أنا لا أشاهد إلا الله، ولا أنكر وجود المخلوقات، لكن أغيب عنها وأتناساها حتى لا تشوش علي، فأنا أوجه شهودي لله فقط، أما كوني أنظر إلى سماوات وأرضين وآدميين وحيوان ونبات فإنه يشوش علي، وأنا أريد أجمع همتي على الله، فلا أشهد إلا الله، وأغيب عما سواه، فيغيب بموجوده عن وجوده، ويغيب بمعبوده عن عبادته، ويغيب بمذكوره عن ذكره، فهو يغيب بالله عن المخلوقات فلا يراها، ويتناسى العبادة من أجل أنه لا يرى إلا المعبود فقط.

وقد يقوى شهود القلب بمحبوبه حتى يغيب به، فيظن أنه اتحد به وامتزج، بل يظن أنه هو الله من شدة قوة الشهود، كما يحكى أن رجلاً كان له محبوب فغاب به ونسي نفسه، فألقى المحب نفسه في الماء، فألقى نفسه وراءه في الماء، فقال: أنا وقعت في الماء، لكن أنت ما الذي أوقعك في الماء؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أنا. يعني: نسيت نفسي، وأظن أنك أنا، فأنا أنت وأنت أنا.

وهذا من قوة شهود القلب عند الصوفية بالمحبوب، حتى يغيب بالمحبوب عن نفسه وينسى نفسه، فيظن أنه هو المحبوب وأنه اتحد به وامتزج، وهذا يحصل للصوفية.

ومن ذلك ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي أنه غاب بالله عن نفسه، فجعل يقول عن نفسه: سبحاني سبحاني، غاب بنفسه عن نفسه، وجعل ينقض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله. يعني نفسه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذه الأقوال لو صدرت من إنسان ومعه عقله فلا شك في كفره، لكن قد يكون زال عقله في هذه الحالة، ويكون مرفوعاً عنه القلم مثل المجنون، فإذا كان عقله معه فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، وإذا كان ليس معه عقل فقد رفع عنه القلم، ويلتحق بالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا الكلام يعده الصوفية النهاية والغاية، وهو كمال التوحيد عندهم الصوفية.

الفناء عن مراد السوى

والفناء الثالث هو فناء مراد السوى، أي: الفناء عن إرادة ما سواه، فيكون فانياً بمراد محبوبه منه عن مراده هو فضلاً عن إرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد ربه، أي: المراد الديني الشرعي لا القدري الكوني، وهذا فناء خواص الأولياء والمقربين.

ومن تحقيق هذا الفناء ألا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا في الله، ولا يوالي إلا في الله، ولا يعادي إلا في الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا الله، ولا يستعيذ إلا بالله، فيكون أمره كله باطنه وظاهره كله لله.

فهذا فناء بمراد ربه عن مراده هو، فالله تعالى أراد منك أن تصرف له العبادة فأنت تقدم حقه، وأراد منك أداء الفرائض فتقدم حقه، وإذا نازعتك نفسك تقدم حق الله، فتفنى وتتناسى حقك من أجل تقديم حق الله، أراد منك ترك المحرمات فتتركها ولو نازعتك نفسك؛ لأنك فنيت بمراد ربك عن مراد نفسك، فتلغي مراد نفسك، بل ومراد الخلائق كلها، ولا تنظر إليه من أجل تقديم مراد الله وما يحبه الله من أداء الفرائض، والابتعاد عن المحارم، والاستقامة على دين الله.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان هناك اتحاد في العقل صحيح فهو اتحاد المرادين هذين، اتحد مراد العبد بمراد ربه، فكل شيء يريده الله فالعبد المؤمن يريده، وكل شيء يكرهه الله فالعبد المؤمن يكرهه، وكل شيء يحبه الله فالمؤمن يحبه، وهكذا.

فيكون موافقاً لله فيما يحبه وفيما يكرهه وفيما يخافه، فيقدم مراضي الله ومحابه، ويبتعد عن مساخطه ومناهيه مهما كلفه الأمر، ولا ينظر إلى مراده هو ومطلوبه، بل يلغي مراده لمراد الله، ويلغي محبوبه لما يحبه الله، بمعنى: أنه يقدم المراد الديني الشرعي وما يحبه الله على ما تحبه نفسه، فضلاً عما يحبه غيره من الناس، فيكون دينه كله لله باطناً وظاهراً.

والفناء عند الصوفية ثلاثة أنواع: فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن مراد السوى.

فالفناء الأول فناء عن وجود السوى،

وهو الفناء في الوحدة المطلقة ونفي التكتل عنها بكل اعتبار، فلا يشهد غيراً، ولا يشهد رباً وعبداً، بل يشهد الرب نفس العبد، والعبد نفس الرب، بل ليس هناك رب ولا عبد، وهذا فناء الملاحدة والزنادقة، فناء أهل وحدة الوجود، والفناء عندهم هو الوحدة المطلقة، فيقولون: الخالق هو الواحد المطلق، أي: الذي لا يقيد بشيء، لا باسم ولا بصفة ولا بمكان ولا بزمان، فهو كل الأشياء، فهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وتكتسيه الماهيات كلها، فيفنون في الوحدة المطلقة، والواحد المطلق الذي ليس له اسم ولا صفة يكون في الذهن، وهذه المحدثات تلبسه وتخلعه، وعلى ذلك فلا يكون هناك عبد ورب، فأنت العبد وأنت الرب! نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو فناء الملاحدة والزنادقة، وهذا كفر وإلحاد، بل هو أعظم من كل كفر، وكفر كل كافر جزء من هذا الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.

ومن هؤلاء الملاحدة والزنادقة ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والقونوي وغيرهم من ملاحدة الصوفية الذين ينعقون بوحدة الوجود، ويقولون: الوجود واحد، وهؤلاء ألغوا عقولهم، نسأل الله السلامة والعافية، وإلا فهذا الكلام لا يتصوره عاقل.

وكلمة الفناء كلمة يعنون بها تجريد شهود الحقيقة الكونية والغيب عن شهود الكائنات.

فالمخلوقات كلها يغيب عنها وينساها، فلا يكون هناك إلا تجريد شهود الحقيقة الكونية، وهو الله، ويغيب عن شهود المخلوقات كلها، لكن الزنادقة من ملاحدة الوجود يغيبون عن وجود هذه المخلوقات، بمعنى أنهم ينكرون وجود المخلوقات، فلا يقولون: إن هناك خالقاً ومخلوقاً، بل كل ما تراه هو الخالق، فكل ما تراه من سماء وأرض ومتحرك وساكن وناطق هو الله، وهذا تجليه وأسماؤه وصفاته، وهو الوجود المطلق، وكل شيء يلبسه ويخلعه، نسأل الله السلامة والعافية.

والفناء الثاني هو فناء عن شهود السوى، وهذه هي الدرجة المتوسطة بين ملاحدة وحدة الوجود وبين أهل الشريعة، وهي التي بنى عليها أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الصوفي الحنبلي كتابه (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، الذي شرحه العلامة ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، فحقيقة هذا الفناء غيبة أحدهم عن سوى مشهوده.

فمشهوده هو الله، فلا يشاهد إلا الله، ويغيب عما سواه، بل غيبته أيضاً عن شهوده نفسه، فيقول: أنا لا أشاهد إلا الله، ولا أنكر وجود المخلوقات، لكن أغيب عنها وأتناساها حتى لا تشوش علي، فأنا أوجه شهودي لله فقط، أما كوني أنظر إلى سماوات وأرضين وآدميين وحيوان ونبات فإنه يشوش علي، وأنا أريد أجمع همتي على الله، فلا أشهد إلا الله، وأغيب عما سواه، فيغيب بموجوده عن وجوده، ويغيب بمعبوده عن عبادته، ويغيب بمذكوره عن ذكره، فهو يغيب بالله عن المخلوقات فلا يراها، ويتناسى العبادة من أجل أنه لا يرى إلا المعبود فقط.

وقد يقوى شهود القلب بمحبوبه حتى يغيب به، فيظن أنه اتحد به وامتزج، بل يظن أنه هو الله من شدة قوة الشهود، كما يحكى أن رجلاً كان له محبوب فغاب به ونسي نفسه، فألقى المحب نفسه في الماء، فألقى نفسه وراءه في الماء، فقال: أنا وقعت في الماء، لكن أنت ما الذي أوقعك في الماء؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أنا. يعني: نسيت نفسي، وأظن أنك أنا، فأنا أنت وأنت أنا.

وهذا من قوة شهود القلب عند الصوفية بالمحبوب، حتى يغيب بالمحبوب عن نفسه وينسى نفسه، فيظن أنه هو المحبوب وأنه اتحد به وامتزج، وهذا يحصل للصوفية.

ومن ذلك ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي أنه غاب بالله عن نفسه، فجعل يقول عن نفسه: سبحاني سبحاني، غاب بنفسه عن نفسه، وجعل ينقض الجبة ويقول: ما في الجبة إلا الله. يعني نفسه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذه الأقوال لو صدرت من إنسان ومعه عقله فلا شك في كفره، لكن قد يكون زال عقله في هذه الحالة، ويكون مرفوعاً عنه القلم مثل المجنون، فإذا كان عقله معه فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين، وإذا كان ليس معه عقل فقد رفع عنه القلم، ويلتحق بالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا الكلام يعده الصوفية النهاية والغاية، وهو كمال التوحيد عندهم الصوفية.

والفناء الثالث هو فناء مراد السوى، أي: الفناء عن إرادة ما سواه، فيكون فانياً بمراد محبوبه منه عن مراده هو فضلاً عن إرادة غيره، قد اتحد مراده بمراد ربه، أي: المراد الديني الشرعي لا القدري الكوني، وهذا فناء خواص الأولياء والمقربين.

ومن تحقيق هذا الفناء ألا يحب إلا في الله، ولا يبغض إلا في الله، ولا يوالي إلا في الله، ولا يعادي إلا في الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا الله، ولا يستعيذ إلا بالله، فيكون أمره كله باطنه وظاهره كله لله.

فهذا فناء بمراد ربه عن مراده هو، فالله تعالى أراد منك أن تصرف له العبادة فأنت تقدم حقه، وأراد منك أداء الفرائض فتقدم حقه، وإذا نازعتك نفسك تقدم حق الله، فتفنى وتتناسى حقك من أجل تقديم حق الله، أراد منك ترك المحرمات فتتركها ولو نازعتك نفسك؛ لأنك فنيت بمراد ربك عن مراد نفسك، فتلغي مراد نفسك، بل ومراد الخلائق كلها، ولا تنظر إليه من أجل تقديم مراد الله وما يحبه الله من أداء الفرائض، والابتعاد عن المحارم، والاستقامة على دين الله.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كان هناك اتحاد في العقل صحيح فهو اتحاد المرادين هذين، اتحد مراد العبد بمراد ربه، فكل شيء يريده الله فالعبد المؤمن يريده، وكل شيء يكرهه الله فالعبد المؤمن يكرهه، وكل شيء يحبه الله فالمؤمن يحبه، وهكذا.

فيكون موافقاً لله فيما يحبه وفيما يكرهه وفيما يخافه، فيقدم مراضي الله ومحابه، ويبتعد عن مساخطه ومناهيه مهما كلفه الأمر، ولا ينظر إلى مراده هو ومطلوبه، بل يلغي مراده لمراد الله، ويلغي محبوبه لما يحبه الله، بمعنى: أنه يقدم المراد الديني الشرعي وما يحبه الله على ما تحبه نفسه، فضلاً عما يحبه غيره من الناس، فيكون دينه كله لله باطناً وظاهراً.