صناعة الحياة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

هذا يوم الأحد ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول لعام 1412 للهجرة، أما رقم الدرس فهو التاسع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه كما قرأتم وسمعتم هو:( صناعة الحياة).

أيها الأحبة.. أقدم بين يدي هذا الدرس بحمد الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله؛ حيث هيأ لنا عودة هذه الدروس واستئنافها بعد انقطاع لم يطل بحمد الله تعالى، وإني لعلى يقين من أن كل ما يكتبه الله سبحانه وتعالى وبقدره فهو خير لنا، مهما كان ظننا بخلاف ذلك، فإن الله تعالى يختار لنا، واختياره عز وجل لنا خير من اختيارنا لأنفسنا: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].

وفي الصحيح عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن} فكل ما يصيب المؤمن فهو خير له في دنياه وآخرته، مهما ذهبت به الظنون بخلاف ذلك.

كما أنني أود أن أقدم بين يدي هذا الدرس بتنبيه أرى أنه على جانب كبير من الأهمية لمن يستمعون إلى هذه الدروس، ألا وهو أنه جاءتني رسائل كثيرة من أحبة كرام في بلاد الإسلام في مناطق شتى وبلاد مختلفة، وهم يقولون: إنكم يا معشر الدعاة في هذه البلاد تخاطبون فئة معينة من الناس، مع أن الذين يتلهفون إلى سماع الحق وإلى متابعة الدروس هم موجودون في كل مكان، وليسوا محصورين في إقليم أو بلد.

وأقول: إنه يجب أن يكون هذا المنبر موجهاً لمخاطبة من يستمعون إلى هذه الكلمة في أي مكان وفي أي بلد وفي أي إقليم، فليست الأمثلة التي أذكرها، أو الحديث الذي أتحدث فيه، أو الأخطاء التي أتكلم عنها مقصورة على مجتمع بعينه أو أفراد بذواتهم، وإنما أستحضر في ذهني صورة المسلمين في أي مكان.. وقد أنتزع مثالاً من واقع المسلمين في بلد بعيد، أو أنتزع خطأً من واقع المسلمين في بلد آخر لأتكلم عنه، أو أذكر قضية في شرق البلاد أو غربها، فهموم المسلمين واحدة شرّقوا أم غرّبوا وفي كل مكان، وهذه الحدود والسدود والحواجز الجغرافية والسياسية لا يجوز أبداً أن تحول بين المسلمين بعضهم وبعض.

بل ينبغي أن تكون كلمة الحق للجميع، وأن يتنادى المسلمون إلى توحيد كلمتهم، ولمَّ صفهم، وتقريب وجهات نظرهم، وأن يكون همُّ الداعية إلى الله تعالى هو إصلاح أحوال المسلمين في كل مكان، فهذه الأمةُ أمةٌ واحدة كما وصفها الله تعالى في مواضع من كتابه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52].

تذوب حشاشات العواصم حسرة      إذا دميت في كف بغداد إصبعُ

وإن بردى أنَّتْ لخطبٍ أصابها لسالت بـوادي النيل للنيل أدمعُ

فهي كلها بلاد الإسلام كما قال القائل:-

بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

ولي بـطيبة أوطار مجنحةٌ تسمو بروحي فوق العالم الفاني

فإن طرسوس مهما لج بي دمها أسمى إلى القلب من فاس وتطوان

دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها      أَعْظِمْ بأحمد من هادٍ ومن بان

صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.

أما بعد:

فربما كان هذا العنوان: "صناعة الحياة" غريباً بعض الشيء بالنسبة لكثير من الإخوة الذين قرءوا هذا العنوان، ولعل هذه الغرابة أن تزول وتنقشع حينما يستمعون إلى ثنايا هذا الموضوع وتضاعيفه.

وعلى كل حال وبكلمة موجزة مختصرة لا أسبق فيها الموضوع إلا أنني أقول: إن المقصود بهذا الموضوع -صناعة الحياة- هو بيان كيف يتمكن الداعية إلى الله عز وجل من التأثير في المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف يتمكن من صياغة المجتمع الذي يحيط به صياغة إسلامية، وإن شئت فقل صناعته على وفق ما يحبه الله ويرضاه.

فالصناعة ليست هي فقط صناعة باليد أو حرفة، وإنما كل ما يمارسه الإنسان يمكن أن يعد صنعة أو عملاً يحتاج الإنسان إلى تعلمه والتدرب عليه وإتقانه؛ حتى يستطيع أن يحصل على ما يريد وأن يصل إلى ما يتمنى.

فالدعوة إلى الله تعالى صناعة، وهي ليست صناعة محصورة، إذا كان الصانع أو النجار يهتم بصناعة شيء معين من الأواني أو الفرش أو الستائر أو الكراسي أو غيرها، فإن الداعية إلى الله يحاول أن يصنع الحياة كلها على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه، إذ إن الحياة كلها ينبغي أن تكون خاضعة لحكم الله ورسوله.

فالإسلام جاء مهيمناً على الحياة، مسيطراً عليها من ألفها إلى يائها، وليس ثمة شيء يمكن أن نقول: هذا ليس له علاقة بالدين أولا علاقة للدين به، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة شاملة، ما فرط الله تبارك وتعالى فيها من شيء، وأنـزل القرآن تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه -أو يقلب جناحيه في الهواء- إلا وبين لنا منه علماً.

وهذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوارثه الأجيال لا يضيع منه شيء.

وقد كنا في صبيحة هذا اليوم نقرأ من صحيح البخاري: باب صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقرأ مثلاً حديث أنس رضي الله عنه أو حديث أبي جحيفة أو غيرهم من الصحابة، وكيف كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعدون الشعرات البيض في رأسه ولحيته، وأنها لا تتجاوز العشرين شعرة، أو لاتصل إلى عشرين شعرة.

فالذين حفظوا كم شعرة بيضاء في رأسه ولحيته عليه الصلاة والسلام، حفظوا لنا كل هديه في كل شئون الحياة، حتى وهو مع زوجه في الفراش، حتى وهو في الخلاء، حتى كيف يغتسل، وكيف يقضي حاجته، علمهم صلى الله عليه وسلم كل شيء، فكان نعم المعلم وكانوا نعم المتعلمين.

هذه صناعة الحياة التي أتقنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتقنها أصحابه من بعده، وحق على الدعاة في كل مكان أن يتقنوا هذه الصناعة، وأن يعرفوا كيف ينتقلوا بالإسلام إلى واقع الحياة، وكيف يطوعوا كل أمور الدنيا لهذا الدين فلا يند شيء عن شريعة ربنا عز وجل.

وهذا الأمر الذي هو صناعة الحياة بالدعوة إلى الله تعالى، وبصياغتها على وفق ما يحب ويرضى، أمر لاشك أن فيه من الصعوبة ما فيه، وأنه يحتاج إلى طول نفس وإلى صبر ويحتاج إلى أناة، ولكنه هو الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره، كما قيل:

يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمصائب جنة

لكنما هو ليس عنه بديل

وسأتحدث في هذا الموضوع بشيء من الاختصار، فأول نقطة أتناولها هي الحديث عن محاولات سابقة لعرض هذا الموضوع، ولعل من الطريف أن أذكر لكم أن هذا الموضوع الواسع جداً حيرني كثيراً حينما أحببت أن أتكلم عنه خاصة وأنا أحرص ألا يتعدى هذا الموضوع ليلة واحدة؛ حتى يتسنى للإخوة سماعه وتداوله بيسر وسهولة.

وإن كنت سبق أن عرضت جوانب أخرى من هذا الموضوع -قد لا أحتاج إلى تكرارها- في محاضرات أو دروس سابقة.

فمثلاً هناك محاضرة بعنوان: ( الداعية والمجتمع) وأخرى بعنوان: (أنتم شهود الله في أرضه) وثالثة بعنوان: (دعاة في البيوت) سبق فيها الحديث عن جوانب من هذا الموضوع.

وأظن بل أجزم أن غيري من الدعاة أو طلبة العلم قد تكلموا عن هذا الموضوع في مناسبات شتى، وإن كانت الذاكرة لا تسعفني بذكر أشرطتهم أو دروسهم أو كتبهم التي تناولوا فيها هذا الموضوع، وإلا لذكرتها أيضاً حتى يتسنى لمن يرغب في استكمال هذا الموضوع أن يحصل على هذه المراجع من كتب وأشرطة ويستفيد منها.

عناوين أخرى

وكنت أحس منذ فترة طويلة بأهمية طرق مثل هذا الموضوع خاصة للدعاة إلى الله تعالى من الرجال والنساء، ولهذا سبق أن أعلنت عن محاضرة في جدة ثم في بريدة ثم في المنطقة الشرقية، وكان العنوان الذي اخترته آنذاك: (وجوب تصحيح المسار) ولكن شاء الله تعالى ألا تقوم المحاضرة في هذه المرات الثلاث، ثم أعلن عنه قبل شهر أو نحو شهر في مكة المكرمة بعنوان آخر وهو: (فن تأليف القلوب) ويشاء الله تعالى ألا تقوم تلك المحاضرة، فتأجلت كما تأجلت أخوات لها من قبل.

فهذه إذن هي المرة الخامسة التي حاولت فيها أن أعرض هذا الموضوع أو أطرح جوانب منه، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسددني ويلهمني لأقول ما يحب ويرضى وما ينفع عباده.

أهمية العناية بأساليب الخطاب الدعوي

أما فيما يتعلق بالعنوان وقد أشرت إلى معناه فإنني أود أن أقول: إن الكثيرين من أهل الخير ومحبي الخير قد يتجاهلون الآخرين من الناس، وينظرون إلى ما يعتقدون هم أنه حق، دون أن ينظروا إلى أساليب أو طرائق إيصال هذا الحق إلى الناس.

فيقول قائلهم: إذا كان هذا الأمر حقاً فلا يهمني رضي الناس أم سخطوا، أحبوا أم كرهوا، فالأمر عندي يتعلق بكوني أعرف أن هذه المسألة حق، فإذا عرفت أنها حق فلا أبالي بالناس في أي وادٍ هلكوا، وفي أي مكان كانوا!!

بل إن البعض يقولون: إذا كان هذا الأمر الذي أقوله حقاً، فإنه لا يهمني قبله الناس أم ردوه، المهم أن أقوم بالحجة، وأؤدي الواجب المفروض علي، ولا يعنيني بعد ذلك أمر الناس.

وفي الواقع أن هذه إذا تأملتها أيها الداعية الكريم، وجدت أنها نوع من الأنانية لا يقبلها الشرع والعقل، ولا تقبلها الفطرة السليمة.

من سيرة الرسول في إقامة المعروف

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة لكل مسلم وخاصة للدعاة إلى الله تعالى- كان يعتقد أن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام حق، ولكنه لم يفعل هذا الحق، فما الأمر الذي حال بينه وبين فعل هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق عليه الصلاة والسلام؟ إنه رأى أن في تنفيذ هذا الحق مفسدة أكبر، فتركها خشية أن يحدث على الناس شراً، وأن يفهمه الناس ويفسرونه تفسيراً خاطئاً يضر بهم.

فقال لـعائشة كما في الصحيحين: {لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، فأخشى أن تنكر قلوبهم، لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون منه}.

فترك عليه الصلاة والسلام إقامة هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق مراعاة لمصلحة الدعوة إلى الله، وتأليف قلوب الناس على الخير، وعدم إيجاد أشياء أو أعمال يفسرونها تفسيراً خاطئاً، ويؤولونها تأويلاً ضالاً فتودي بهم، وربما كان سبباً في انحرافهم أو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هم حدثاء عهد بجاهلية، فقلوبهم قريبة من الجاهلية؛ فما بالك بغيره من الدعاة الذين وجود الخطأ منهم متصور أصلاً؟! وسوء الظن وارد فيهم أصلاً! لا شك أنهم أولى برعاية هذا الأمر.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قتل المنافقين المندسين في الصف، والذين كانوا يقومون بأسوء الأدوار في صفوف المسلمين، وقد ظهر نفاقهم: وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74] ولم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتلهم إلا أمر واحد بينه هو كما في صحيح البخاري وغيره من حديث جابر فقال: {كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه}.

فترك قتل هؤلاء، ليس لأن دماءهم حرام، ولا لأنه لا يجوز قتلهم، لا؛ ولا لأن وجودهم ليس ضاراً بالمسلمين، وإنما ترك قتلهم خشية من وجود فتنة وضرر، وسوء تفسير من الناس، واستغلال الأعداء لهذا العمل، فقال: {لئلا يتحدث الناس} وفي رواية: {فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه}.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل اليهودي الخبيث لبيد بن الأعصم، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، ووضعها في بئر في المدينة يقال له: بئر ذروان أو بئر ذي أروان، فوضع فيها السحر، فعقد عقداً، ونفث فيها، وعمل ما عمل، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهولا يفعله.

فجاءه الملكان وقرأا عليه سورتا المعوذتين، وأنقذه الله من شر هذا السحر، ولما قيل له في شأن هذا اليهودي وقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أما أنا فشفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً} وكذلك لم يأمر بإخراج هذا السحر، بل دفن تلك البئر، ولم يصبه أذى من شر هذا السحر.

فالذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل هذا اليهودي، مع أنه يعتبر ناقضاً للعهد بسحره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: {وكرهت أن أثير على الناس شراً} مراعاة لمصالح قد أعرفها أنا وأنت أو لا نعرفها.

لكنه صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله تعالى من بعد النظر والتجرد وسعة العقل وما ألهمه وما أعطاه وما لقنه وما فهمه، رأى في ذلك شراً وضرراً، ورأى تركه أولى من فعله، فدفن هذه البئر، ولم يفعل بهذا اليهودي شيئاً.

فكان عليه الصلاة والسلام إذاً يعتبر من الحق مراعاة المصالح العامة، والنظر في أحوال الناس، وما يمكن أن يفسروا عليه الأقوال أو الأعمال أو التصرفات، ويراعي ذلك في سائر أموره صلى الله عليه وسلم.

لم يكن خائفاً من كلامهم صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا فيه كل شيء، قال فيه المشركون والمنافقون كل ما يستطيعون أن يقولوا، فقالوا: ساحر، شاعر، كذاب، كاهن، وما تركوا كلمة في قاموس السب والهجاء إلا وألصقوها به صلى الله عليه وسلم، وهو أطهر من السحابة في السماء، ما جرّبوا عليه كذباً قط.

وكان صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله نموذجاً للخلق الفاضل الكريم، ومع ذلك قالوا فيه ما قالوا، وما بالى بهم، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟! يشتمون مُذَّمماً وأنا محمد} فهم من شدة بغضهم له عليه الصلاة والسلام ما كانوا يقولون: محمد فعل كذا وكذا؛ بل يقولون: مذمم؛ لأنهم يقولون: ليس هو محمداً؛ لأن محمداً من الحمد، والمشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه غير محمود بل هو مذموم، فيسمونه مذمماً فيقولون: جاء مذمم، ذهب مذمم، قال مذمم فعل مذمم!

فيقول صلى الله عليه وسلم معلقاً على تعييرهم له بهذا اللقب: { ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟!} فهم يشتمون رجلاً اسمه مذمم، وأنا اسمي محمدُ فيصرف الله عني شتمهم لا ينالني ولا يصيبني.

فلم يكن يبالي صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون، وماذا يفعلون في حقه، ولكنه كان يبالي ماذا يصيب الدعوة، وماذا يصيب أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحرص أشد الحرص على تليين قلوب الناس لدعوته، وتقريبهم إليها، وفتح أفئدتهم لها، فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بحجزهم عن النار، وهم يتساقطون فيها: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]

تصحيح المسار

فيا أحبتي! أين الداعية الذي يكون في قلبه هذا الهم والحرص على هداية الناس؟!

أين الداعية الذي يحتاج دائماً وأبداً إلى التثبيت والتصبر والتهدئة: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) [النحل:127].. إلى غير ذلك مما صبَّر الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

فلذلك أقول: كان لا بد من تصحيح مسار بعض الإخوة المجتهدين من الدعاة الذين يتجاهلون الآخرين، خاصة في هذا العصر الذي ضعف فيه رصيد الإيمان في نفوس الناس، وكثر فيه أعداء الدعوة ومناوئوها والمتربصون بها، الذين يبحثون عن أدنى زلة أو سقطة من داعية حتى يعتبروها مجالاً للطعن في الجميع.

بل لا يبحثون عن زلة أو ينتظرون سقطة، بل إنهم يأتون إلى أفعال الدعاة والمخلصين التي هي صواب لا خطأ فيها، فيحاولون أن يلبسوها ثوب الخطأ، وأن يعطوها غير ما هي له؛ حتى يشوهوا صورتهم وسمعتهم في نفوس الناس.

أيها الأحبة.. ألا تعتقدون أنه من المحزن حقاً أن هذه الأمة التي يقول أكثر المنتسبين إليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحبون الله بقلوبهم، ويحبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم؛ ومع ذلك حيل بين هذه الأمة وبين دعاتها الصادقين في كثير من البلاد، فصارت الأمة تسيء الظن بدعاتها في بلاد كثيرة، وتنظر إليهم شزراً، وتعتقد أنهم من الغلاة، أو أنهم من المتطرفين، أو أنهم من المخربين المفسدين على وفق ما أراد لها العلمانيون، وعلى وفق ما خططوا لها.

فحالوا بين الأمة وبين دعاتها الصادقين، حالوا بين الأمة وبين رجالات الإسلام المخلصين، وحينئذٍ صار المثل كما قيل:

خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري

فخلا الجو للمنافقين من العلمانيين وأعداء الإسلام، وعبثوا بهذه الأمة بعد ما حالوا بينها وبين الدعاة إلى الله عز وجل.

ولذلك كان العنوان السابق لهذه المحاضرة -كما ذكرت- وجوب تصحيح المسار.

تأليف القلوب

أما العنوان الآخر الذي أسلفته فهو فن تأليف القلوب، فقد كان أستاذ تأليف القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعتبر تأليف القلوب جزءاً من الحق الذي بعث به وجاء به عليه الصلاة والسلام.

من هو الرجل الذي يدّعي أنه أكثر أعباءً وتبعات وتكاليف ومسئوليات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

أي إنسان في الدنيا -وكانت هموم الدنيا كلها على كتفه- وأي: إنسان يعتقد أنه أشد غيرةً وحرصاً وحماساً على دينه وعلى دعوته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أبداً!

وعلى رغم كثرة أعبائه وتبعاته عليه الصلاة والسلام، وعلى رغم شدة حماسه لدعوته وتفانيه واستغراقه فيها؛ فإنه لم يغفل لحظةً واحدةً عن الحرص على جمع القلوب على هذه الدعوة، وإزالة نفور الناس منها وشموصهم عنها لعلمه صلى الله عليه وسلم أن القلب هو أساس الصلاح والإصلاح، وأن الإنسان -مهما كان- لا يستطيع أن يفرض الحق على الناس بقوة الحديد والنار، ما لم تكن القلوب حول هذا الحق سياجاً يحوطه ويحميه.

ولذلك كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان.. {جاءه يوم من الأيام مخرمة بن نوفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري من مخرمة حدة وشدة، وكان فيه غلظة، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية على الناس -كما جاء في الصحيحين- فقال لابنه المسور: يا بني!! هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته عرف لماذا جاء؛ فأخرج قباءً وأمسك به بيديه، وجاء إلى مخرمة يسلم عليه ويقول: يا مخرمة! خبأت هذا لك خبأت هذا لك} لا تغضب، هذا قد أعددته لك، وخبأته لك واحتجزته لك، فطاب خاطره وأخذه وانصرف.

وفي يوم من الأيام وزع النبي صلى الله عليه وسلم أموالاً، وكان سعد بن أبي وقاص حاضراً، فقال: {يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً، والله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً؟ قال: والله إني لأراه مؤمناً، وفي الأخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقتال يا سعد؟ -هل المسألة قتال وإلحاح- والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه كراهية أن يكبه الله على وجهه في النار}.

إذاً المسألة ليست مسألة أن هذا أولى وهذا أحق وهذا أفضل، أنا أعطي إنساناً مفضولاً، ترقيقاً لقلبه، وتقريباً لنفسه للإسلام وتأليفاً له على هذا الدين خشية أن يكبه الله على وجهه في النار.

ولو أن هذا الإنسان كبه الله على وجهه في النار فماذا يطول رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟! فهو صلى الله عليه وسلم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

بل هو في الفردوس الأعلى، وهي منـزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو صاحبها، فاسألوا الله له الوسيلة.

ومع ذلك يهمه صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان ألا يدخل النار، ولا يكبه الله تعالى على وجهه في النار، فيتألف قلبه على الحق والخير والإسلام بشيء من لعاعة هذه الدنيا.

بل أعجب من ذلك وأغرب وأهول وأطول أنه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوماً من الأيام مالاً على مجموعة من الناس، بعث إليه علي بن أبي طالب من اليمن بذهيبة في أديم فوزعها على أربعة رجال -أعطاها أربعة من المؤلفة قلوبهم- فوجد الناس في قلوبهم، حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! اتق الله!! -سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل من أطراف الناس يقول له: اتق الله!! ويقولها على سبيل الإنكار لهذا القسم!!- فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سمع من الناس وشوشة وكلاما-: ألا تأتمنوني وأنا أمين من في السماء، ينـزل علي الوحي صباحاً ومساء؟! ولما سمع ذلك الرجل الذي يقول: يا رسول الله اتق الله! قال: ويحك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! لأضربن عنقه -دعني أقتله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي}.

وما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقيق مع هذا الرجل ولا بسؤاله، ولا بالتحري حوله، ولم يسلط عليه أحداً، وإنما تركه، وأجاب على قوله: ألا تتقي الله؟ بقول صلى الله عليه وسلم: { أولستُ أحقَّ أهل الأرض بأن يتقي الله} أي: أنا الذي آمركم بتقوى الله عز وجل، فتوزيعي لهذا المال هو من تقوى الله عز وجل؛ لأنني ما أعطيته لأقاربي ولا احتجزته لنفسي، وإنما أعطيته أقواماً أتألفهم على الإسلام، وهذا من حق الإمام أن يتصرف فيه على وفق ما يرى المصلحة في ذلك.

{فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! وإن كان هذا الرجل يصلي، كم من إنسان يصلي وفي قلبه ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم}.

إذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف يحرص على تأليف قلوب الناس، ويتحمل منهم أخطاءهم وزلاتهم حرصاً على وحدة الكلمة وتقريب الناس من هذا الدين ومن العقيدة.

وفي حديث أنس رضي الله عنه وهو في مسلم أيضاً قال: {كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي وهو يمشي في الشارع، فجبذه - جر برد النبي صلى الله عليه وسلم بردائه - جبذة شديدة، حتى يقول أنس رضي الله عنه يقول: نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت فيها حاشية الرداء -ظهر الاحمرار في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الجذبة أو الجبذة- وقال الأعرابي بكل جفاء وغلظة: يا محمد! مُر لي من مال الله -ما قال من مالك أو مما عندك قال: من مال الله أي: كأنه يقول: ليس لك منه في هذا، فهو يقول: مر لي من مال الله الذي عندك فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟- التفت إليه وتبسم وأمر له بعطاء}.

وكانت الجارية تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، وتكلمه فيما تريد، لا يستنكف أو يستكبر صلى الله عليه وسلم، بل يتحمل منهم.

ولك أن تتصور ماذا تقول هذه الجارية، أو ماذا يقول إنسان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه مشكلة ويبدأ يعطيه من التفاصيل والكلام، وقال وقلت وحصل وكذا وكذا وتفاصيل لا يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سماعها، وليس عنده في الحقيقة وقت لسماعها، لكنه تعود الحلم والصبر وسعة البال، فكان يعطي أذنه لمحدثه حتى ينصرف عنه.

ويعطي يده لمن يصافحه، فلا يقبض صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون ذاك الآخر هو الذي يقبض يده.

: {وفقد يوماً من الأيام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رجلاً أو امرأة -كما في حديث أبي هريرة- كان أو كانت تقم المسجد، فقال: أين هو؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: هلَّا كنتم آذنتموني! قالوا: إنه مات في الليل، فكرهنا أن نوقظك؛ فقال: دلوني على قبره -أو قال على قبرها- فذهب إلى القبر فصلى وكبر عليها أربعاً، وأمرهم إذا مات أحد من أصحابه أن يوقظوه بليل أو نهار ليصلي عليه}.

فلم يغفل أو ينسى أو يتجاهل صلى الله عليه وسلم هذه الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد.

ربما كثير من الناس يمرون بها ليس لها شأن، وليس لها قيمة، وليس لها اعتبار عندهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الكبير لم يغفل عنها، فلما فقدها أياماً سأل: أين هي؟ ولما علم أنها ماتت انتقدهم على عدم إخباره بذلك، وأمر أن يدلوه على قبرها فكبر عليه أربعاً صلى الله عليه وسلم.

عنايته بالأطفال الصغار في يوم من الأيام -كما في الصحيحين- جيء بثوب جميل، فقالوا من يعطي هذا الثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أم خالد بنت خالد بن أبي العاص فجيء بها تُحمل -فتاة صغيرة السن- فأخذها وألبسها هذا الثوب بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم.

ولك أن تتصور أنك قد تعطي إنساناً ثوباً، ولكنك تضرب به في وجهه ضرباً، فلا يكون له وقع، لكن حينما تأتي بالصبي الصغير، فتلبسه هذا الثوب بيديك، ثم تمسح عليه، وتقول: ما شاء الله! تبارك الله! ما أجمل هذا الثوب! ما أحسنه! فيكون وقع هذه الكلمات وهذا التصرف في نفس الصبي عظيماً كبيراً.

وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جيء بهذه الفتاة الصغيرة فألبسها الثوب بيده الكريمة، ثم قال: {ستى يا أم خالد} أي: هذا ثوب جميل حسن بلغة الحبشة وكناها النبي صلى الله عليه وسلم وفي التكنية لها -وقد يكون هذا اسمها أيضاً والظاهر أنه كنية فكناها لما في ذلك- من التحبب إليها.

كل هذه الأشياء -وغيرها كثير مما يطول الكلام به- مما يدخل في باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تأليف القلوب وسعة خلقه صلى الله عليه وسلم، وقدرته على صناعة الحياة على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه من خلال الوصول إلى قلوب الناس.

فكانت قلوبهم وأرواحهم تفديه قبل أيديهم، كانوا في المعارك يموتون دونه عليه الصلاة والسلام، ويقول قائلهم:

كذبتم وبيت الله نبزى محمداً      ولما نُطَاعِنْ دونه ونناضلِ

ونسلمَه حتى نُصرَّعَ حوله      ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ

يموتون دونه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعرفون أنه به أنقذهم الله من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وأنقذهم به من النار إلى الجنة، ومع ذلك أيضاً: لِمَا يعرفونه من حسن خلقه وطلاقة وجهه وهشاشته وبشاشته.

وإلا فإن الله عز وجل يقول في محكم التنـزيل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] أي: حتى هؤلاء الذين عرفوا عظيم نعمة الله عليهم ببعثته، يقول الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

أما العنوان الجديد الذي اخترته وهو صناعة الحياة، فقد ذكرت لك جزءاً من معناه، فالدعاة إلى الله تعالى هم صُنَّاعٌ في هذه الحياة يجب أن يتقنوا صناعتهم، ويتقنوا تخصصاتهم، ويحسنوا عملهم، وعند البيهقي في شعب الإيمان بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه}.

وكنت أحس منذ فترة طويلة بأهمية طرق مثل هذا الموضوع خاصة للدعاة إلى الله تعالى من الرجال والنساء، ولهذا سبق أن أعلنت عن محاضرة في جدة ثم في بريدة ثم في المنطقة الشرقية، وكان العنوان الذي اخترته آنذاك: (وجوب تصحيح المسار) ولكن شاء الله تعالى ألا تقوم المحاضرة في هذه المرات الثلاث، ثم أعلن عنه قبل شهر أو نحو شهر في مكة المكرمة بعنوان آخر وهو: (فن تأليف القلوب) ويشاء الله تعالى ألا تقوم تلك المحاضرة، فتأجلت كما تأجلت أخوات لها من قبل.

فهذه إذن هي المرة الخامسة التي حاولت فيها أن أعرض هذا الموضوع أو أطرح جوانب منه، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسددني ويلهمني لأقول ما يحب ويرضى وما ينفع عباده.

أما فيما يتعلق بالعنوان وقد أشرت إلى معناه فإنني أود أن أقول: إن الكثيرين من أهل الخير ومحبي الخير قد يتجاهلون الآخرين من الناس، وينظرون إلى ما يعتقدون هم أنه حق، دون أن ينظروا إلى أساليب أو طرائق إيصال هذا الحق إلى الناس.

فيقول قائلهم: إذا كان هذا الأمر حقاً فلا يهمني رضي الناس أم سخطوا، أحبوا أم كرهوا، فالأمر عندي يتعلق بكوني أعرف أن هذه المسألة حق، فإذا عرفت أنها حق فلا أبالي بالناس في أي وادٍ هلكوا، وفي أي مكان كانوا!!

بل إن البعض يقولون: إذا كان هذا الأمر الذي أقوله حقاً، فإنه لا يهمني قبله الناس أم ردوه، المهم أن أقوم بالحجة، وأؤدي الواجب المفروض علي، ولا يعنيني بعد ذلك أمر الناس.

وفي الواقع أن هذه إذا تأملتها أيها الداعية الكريم، وجدت أنها نوع من الأنانية لا يقبلها الشرع والعقل، ولا تقبلها الفطرة السليمة.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة لكل مسلم وخاصة للدعاة إلى الله تعالى- كان يعتقد أن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام حق، ولكنه لم يفعل هذا الحق، فما الأمر الذي حال بينه وبين فعل هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق عليه الصلاة والسلام؟ إنه رأى أن في تنفيذ هذا الحق مفسدة أكبر، فتركها خشية أن يحدث على الناس شراً، وأن يفهمه الناس ويفسرونه تفسيراً خاطئاً يضر بهم.

فقال لـعائشة كما في الصحيحين: {لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، فأخشى أن تنكر قلوبهم، لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون منه}.

فترك عليه الصلاة والسلام إقامة هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق مراعاة لمصلحة الدعوة إلى الله، وتأليف قلوب الناس على الخير، وعدم إيجاد أشياء أو أعمال يفسرونها تفسيراً خاطئاً، ويؤولونها تأويلاً ضالاً فتودي بهم، وربما كان سبباً في انحرافهم أو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هم حدثاء عهد بجاهلية، فقلوبهم قريبة من الجاهلية؛ فما بالك بغيره من الدعاة الذين وجود الخطأ منهم متصور أصلاً؟! وسوء الظن وارد فيهم أصلاً! لا شك أنهم أولى برعاية هذا الأمر.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قتل المنافقين المندسين في الصف، والذين كانوا يقومون بأسوء الأدوار في صفوف المسلمين، وقد ظهر نفاقهم: وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [التوبة:74] ولم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتلهم إلا أمر واحد بينه هو كما في صحيح البخاري وغيره من حديث جابر فقال: {كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه}.

فترك قتل هؤلاء، ليس لأن دماءهم حرام، ولا لأنه لا يجوز قتلهم، لا؛ ولا لأن وجودهم ليس ضاراً بالمسلمين، وإنما ترك قتلهم خشية من وجود فتنة وضرر، وسوء تفسير من الناس، واستغلال الأعداء لهذا العمل، فقال: {لئلا يتحدث الناس} وفي رواية: {فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه}.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل اليهودي الخبيث لبيد بن الأعصم، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، ووضعها في بئر في المدينة يقال له: بئر ذروان أو بئر ذي أروان، فوضع فيها السحر، فعقد عقداً، ونفث فيها، وعمل ما عمل، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهولا يفعله.

فجاءه الملكان وقرأا عليه سورتا المعوذتين، وأنقذه الله من شر هذا السحر، ولما قيل له في شأن هذا اليهودي وقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أما أنا فشفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً} وكذلك لم يأمر بإخراج هذا السحر، بل دفن تلك البئر، ولم يصبه أذى من شر هذا السحر.

فالذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل هذا اليهودي، مع أنه يعتبر ناقضاً للعهد بسحره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: {وكرهت أن أثير على الناس شراً} مراعاة لمصالح قد أعرفها أنا وأنت أو لا نعرفها.

لكنه صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله تعالى من بعد النظر والتجرد وسعة العقل وما ألهمه وما أعطاه وما لقنه وما فهمه، رأى في ذلك شراً وضرراً، ورأى تركه أولى من فعله، فدفن هذه البئر، ولم يفعل بهذا اليهودي شيئاً.

فكان عليه الصلاة والسلام إذاً يعتبر من الحق مراعاة المصالح العامة، والنظر في أحوال الناس، وما يمكن أن يفسروا عليه الأقوال أو الأعمال أو التصرفات، ويراعي ذلك في سائر أموره صلى الله عليه وسلم.

لم يكن خائفاً من كلامهم صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا فيه كل شيء، قال فيه المشركون والمنافقون كل ما يستطيعون أن يقولوا، فقالوا: ساحر، شاعر، كذاب، كاهن، وما تركوا كلمة في قاموس السب والهجاء إلا وألصقوها به صلى الله عليه وسلم، وهو أطهر من السحابة في السماء، ما جرّبوا عليه كذباً قط.

وكان صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله نموذجاً للخلق الفاضل الكريم، ومع ذلك قالوا فيه ما قالوا، وما بالى بهم، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟! يشتمون مُذَّمماً وأنا محمد} فهم من شدة بغضهم له عليه الصلاة والسلام ما كانوا يقولون: محمد فعل كذا وكذا؛ بل يقولون: مذمم؛ لأنهم يقولون: ليس هو محمداً؛ لأن محمداً من الحمد، والمشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه غير محمود بل هو مذموم، فيسمونه مذمماً فيقولون: جاء مذمم، ذهب مذمم، قال مذمم فعل مذمم!

فيقول صلى الله عليه وسلم معلقاً على تعييرهم له بهذا اللقب: { ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟!} فهم يشتمون رجلاً اسمه مذمم، وأنا اسمي محمدُ فيصرف الله عني شتمهم لا ينالني ولا يصيبني.

فلم يكن يبالي صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون، وماذا يفعلون في حقه، ولكنه كان يبالي ماذا يصيب الدعوة، وماذا يصيب أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحرص أشد الحرص على تليين قلوب الناس لدعوته، وتقريبهم إليها، وفتح أفئدتهم لها، فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بحجزهم عن النار، وهم يتساقطون فيها: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]

فيا أحبتي! أين الداعية الذي يكون في قلبه هذا الهم والحرص على هداية الناس؟!

أين الداعية الذي يحتاج دائماً وأبداً إلى التثبيت والتصبر والتهدئة: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) [النحل:127].. إلى غير ذلك مما صبَّر الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

فلذلك أقول: كان لا بد من تصحيح مسار بعض الإخوة المجتهدين من الدعاة الذين يتجاهلون الآخرين، خاصة في هذا العصر الذي ضعف فيه رصيد الإيمان في نفوس الناس، وكثر فيه أعداء الدعوة ومناوئوها والمتربصون بها، الذين يبحثون عن أدنى زلة أو سقطة من داعية حتى يعتبروها مجالاً للطعن في الجميع.

بل لا يبحثون عن زلة أو ينتظرون سقطة، بل إنهم يأتون إلى أفعال الدعاة والمخلصين التي هي صواب لا خطأ فيها، فيحاولون أن يلبسوها ثوب الخطأ، وأن يعطوها غير ما هي له؛ حتى يشوهوا صورتهم وسمعتهم في نفوس الناس.

أيها الأحبة.. ألا تعتقدون أنه من المحزن حقاً أن هذه الأمة التي يقول أكثر المنتسبين إليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحبون الله بقلوبهم، ويحبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم؛ ومع ذلك حيل بين هذه الأمة وبين دعاتها الصادقين في كثير من البلاد، فصارت الأمة تسيء الظن بدعاتها في بلاد كثيرة، وتنظر إليهم شزراً، وتعتقد أنهم من الغلاة، أو أنهم من المتطرفين، أو أنهم من المخربين المفسدين على وفق ما أراد لها العلمانيون، وعلى وفق ما خططوا لها.

فحالوا بين الأمة وبين دعاتها الصادقين، حالوا بين الأمة وبين رجالات الإسلام المخلصين، وحينئذٍ صار المثل كما قيل:

خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري

فخلا الجو للمنافقين من العلمانيين وأعداء الإسلام، وعبثوا بهذه الأمة بعد ما حالوا بينها وبين الدعاة إلى الله عز وجل.

ولذلك كان العنوان السابق لهذه المحاضرة -كما ذكرت- وجوب تصحيح المسار.

أما العنوان الآخر الذي أسلفته فهو فن تأليف القلوب، فقد كان أستاذ تأليف القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعتبر تأليف القلوب جزءاً من الحق الذي بعث به وجاء به عليه الصلاة والسلام.

من هو الرجل الذي يدّعي أنه أكثر أعباءً وتبعات وتكاليف ومسئوليات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

أي إنسان في الدنيا -وكانت هموم الدنيا كلها على كتفه- وأي: إنسان يعتقد أنه أشد غيرةً وحرصاً وحماساً على دينه وعلى دعوته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أبداً!

وعلى رغم كثرة أعبائه وتبعاته عليه الصلاة والسلام، وعلى رغم شدة حماسه لدعوته وتفانيه واستغراقه فيها؛ فإنه لم يغفل لحظةً واحدةً عن الحرص على جمع القلوب على هذه الدعوة، وإزالة نفور الناس منها وشموصهم عنها لعلمه صلى الله عليه وسلم أن القلب هو أساس الصلاح والإصلاح، وأن الإنسان -مهما كان- لا يستطيع أن يفرض الحق على الناس بقوة الحديد والنار، ما لم تكن القلوب حول هذا الحق سياجاً يحوطه ويحميه.

ولذلك كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان.. {جاءه يوم من الأيام مخرمة بن نوفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري من مخرمة حدة وشدة، وكان فيه غلظة، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية على الناس -كما جاء في الصحيحين- فقال لابنه المسور: يا بني!! هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته عرف لماذا جاء؛ فأخرج قباءً وأمسك به بيديه، وجاء إلى مخرمة يسلم عليه ويقول: يا مخرمة! خبأت هذا لك خبأت هذا لك} لا تغضب، هذا قد أعددته لك، وخبأته لك واحتجزته لك، فطاب خاطره وأخذه وانصرف.

وفي يوم من الأيام وزع النبي صلى الله عليه وسلم أموالاً، وكان سعد بن أبي وقاص حاضراً، فقال: {يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً، والله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً؟ قال: والله إني لأراه مؤمناً، وفي الأخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقتال يا سعد؟ -هل المسألة قتال وإلحاح- والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه كراهية أن يكبه الله على وجهه في النار}.

إذاً المسألة ليست مسألة أن هذا أولى وهذا أحق وهذا أفضل، أنا أعطي إنساناً مفضولاً، ترقيقاً لقلبه، وتقريباً لنفسه للإسلام وتأليفاً له على هذا الدين خشية أن يكبه الله على وجهه في النار.

ولو أن هذا الإنسان كبه الله على وجهه في النار فماذا يطول رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟! فهو صلى الله عليه وسلم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

بل هو في الفردوس الأعلى، وهي منـزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو صاحبها، فاسألوا الله له الوسيلة.

ومع ذلك يهمه صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان ألا يدخل النار، ولا يكبه الله تعالى على وجهه في النار، فيتألف قلبه على الحق والخير والإسلام بشيء من لعاعة هذه الدنيا.

بل أعجب من ذلك وأغرب وأهول وأطول أنه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوماً من الأيام مالاً على مجموعة من الناس، بعث إليه علي بن أبي طالب من اليمن بذهيبة في أديم فوزعها على أربعة رجال -أعطاها أربعة من المؤلفة قلوبهم- فوجد الناس في قلوبهم، حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! اتق الله!! -سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل من أطراف الناس يقول له: اتق الله!! ويقولها على سبيل الإنكار لهذا القسم!!- فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سمع من الناس وشوشة وكلاما-: ألا تأتمنوني وأنا أمين من في السماء، ينـزل علي الوحي صباحاً ومساء؟! ولما سمع ذلك الرجل الذي يقول: يا رسول الله اتق الله! قال: ويحك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! لأضربن عنقه -دعني أقتله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي}.

وما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقيق مع هذا الرجل ولا بسؤاله، ولا بالتحري حوله، ولم يسلط عليه أحداً، وإنما تركه، وأجاب على قوله: ألا تتقي الله؟ بقول صلى الله عليه وسلم: { أولستُ أحقَّ أهل الأرض بأن يتقي الله} أي: أنا الذي آمركم بتقوى الله عز وجل، فتوزيعي لهذا المال هو من تقوى الله عز وجل؛ لأنني ما أعطيته لأقاربي ولا احتجزته لنفسي، وإنما أعطيته أقواماً أتألفهم على الإسلام، وهذا من حق الإمام أن يتصرف فيه على وفق ما يرى المصلحة في ذلك.

{فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! وإن كان هذا الرجل يصلي، كم من إنسان يصلي وفي قلبه ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم}.

إذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف يحرص على تأليف قلوب الناس، ويتحمل منهم أخطاءهم وزلاتهم حرصاً على وحدة الكلمة وتقريب الناس من هذا الدين ومن العقيدة.

وفي حديث أنس رضي الله عنه وهو في مسلم أيضاً قال: {كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي وهو يمشي في الشارع، فجبذه - جر برد النبي صلى الله عليه وسلم بردائه - جبذة شديدة، حتى يقول أنس رضي الله عنه يقول: نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت فيها حاشية الرداء -ظهر الاحمرار في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الجذبة أو الجبذة- وقال الأعرابي بكل جفاء وغلظة: يا محمد! مُر لي من مال الله -ما قال من مالك أو مما عندك قال: من مال الله أي: كأنه يقول: ليس لك منه في هذا، فهو يقول: مر لي من مال الله الذي عندك فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟- التفت إليه وتبسم وأمر له بعطاء}.

وكانت الجارية تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، وتكلمه فيما تريد، لا يستنكف أو يستكبر صلى الله عليه وسلم، بل يتحمل منهم.

ولك أن تتصور ماذا تقول هذه الجارية، أو ماذا يقول إنسان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه مشكلة ويبدأ يعطيه من التفاصيل والكلام، وقال وقلت وحصل وكذا وكذا وتفاصيل لا يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سماعها، وليس عنده في الحقيقة وقت لسماعها، لكنه تعود الحلم والصبر وسعة البال، فكان يعطي أذنه لمحدثه حتى ينصرف عنه.

ويعطي يده لمن يصافحه، فلا يقبض صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون ذاك الآخر هو الذي يقبض يده.

: {وفقد يوماً من الأيام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رجلاً أو امرأة -كما في حديث أبي هريرة- كان أو كانت تقم المسجد، فقال: أين هو؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: هلَّا كنتم آذنتموني! قالوا: إنه مات في الليل، فكرهنا أن نوقظك؛ فقال: دلوني على قبره -أو قال على قبرها- فذهب إلى القبر فصلى وكبر عليها أربعاً، وأمرهم إذا مات أحد من أصحابه أن يوقظوه بليل أو نهار ليصلي عليه}.

فلم يغفل أو ينسى أو يتجاهل صلى الله عليه وسلم هذه الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد.

ربما كثير من الناس يمرون بها ليس لها شأن، وليس لها قيمة، وليس لها اعتبار عندهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الكبير لم يغفل عنها، فلما فقدها أياماً سأل: أين هي؟ ولما علم أنها ماتت انتقدهم على عدم إخباره بذلك، وأمر أن يدلوه على قبرها فكبر عليه أربعاً صلى الله عليه وسلم.

عنايته بالأطفال الصغار في يوم من الأيام -كما في الصحيحين- جيء بثوب جميل، فقالوا من يعطي هذا الثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أم خالد بنت خالد بن أبي العاص فجيء بها تُحمل -فتاة صغيرة السن- فأخذها وألبسها هذا الثوب بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم.

ولك أن تتصور أنك قد تعطي إنساناً ثوباً، ولكنك تضرب به في وجهه ضرباً، فلا يكون له وقع، لكن حينما تأتي بالصبي الصغير، فتلبسه هذا الثوب بيديك، ثم تمسح عليه، وتقول: ما شاء الله! تبارك الله! ما أجمل هذا الثوب! ما أحسنه! فيكون وقع هذه الكلمات وهذا التصرف في نفس الصبي عظيماً كبيراً.

وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جيء بهذه الفتاة الصغيرة فألبسها الثوب بيده الكريمة، ثم قال: {ستى يا أم خالد} أي: هذا ثوب جميل حسن بلغة الحبشة وكناها النبي صلى الله عليه وسلم وفي التكنية لها -وقد يكون هذا اسمها أيضاً والظاهر أنه كنية فكناها لما في ذلك- من التحبب إليها.

كل هذه الأشياء -وغيرها كثير مما يطول الكلام به- مما يدخل في باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تأليف القلوب وسعة خلقه صلى الله عليه وسلم، وقدرته على صناعة الحياة على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه من خلال الوصول إلى قلوب الناس.

فكانت قلوبهم وأرواحهم تفديه قبل أيديهم، كانوا في المعارك يموتون دونه عليه الصلاة والسلام، ويقول قائلهم:

كذبتم وبيت الله نبزى محمداً      ولما نُطَاعِنْ دونه ونناضلِ

ونسلمَه حتى نُصرَّعَ حوله      ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ

يموتون دونه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعرفون أنه به أنقذهم الله من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وأنقذهم به من النار إلى الجنة، ومع ذلك أيضاً: لِمَا يعرفونه من حسن خلقه وطلاقة وجهه وهشاشته وبشاشته.

وإلا فإن الله عز وجل يقول في محكم التنـزيل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] أي: حتى هؤلاء الذين عرفوا عظيم نعمة الله عليهم ببعثته، يقول الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

أما العنوان الجديد الذي اخترته وهو صناعة الحياة، فقد ذكرت لك جزءاً من معناه، فالدعاة إلى الله تعالى هم صُنَّاعٌ في هذه الحياة يجب أن يتقنوا صناعتهم، ويتقنوا تخصصاتهم، ويحسنوا عملهم، وعند البيهقي في شعب الإيمان بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه}.

فالدعاة إلى الله تعالى مطالبون بأمور:

أولاً: أن يكون كل واحد منهم ملتزماً بإسلامه وحريصاً على دعوته متفانياً في سبيلها، وهذا شرط لا بد منه؛ وإلا فما معنى بأن توصف بأنك داعية فضلاً عن أن توصف بأنك مسلم.

والحسن البصري رحمه الله يقول: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال]] وبعضهم يروي هذا حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح هذا، بل هو من قول الحسن البصري رحمه الله تعالى، أحد أئمة التابعين.

الأمر الثاني: أن يكون الداعية متقناً لتخصصه أياً كان تخصصه، فقيهاً أو عالماً أو مهندساً أو طبيباً أو إدارياً أو عسكرياً أو خبيراً أو غير ذلك، ينبغي أن يكون الداعية نموذجاً في إتقان تخصصه الذي وجه همته إليه، وأن يحرص في هذا الإتقان على أن يكون في ذلك حصول مرضاة الله تعالى، وأن يعطي المثل الطيب للناس في الداعية الذي يحرص على أن يقدم لهم ما يستطيع من الخدمة في دنياهم وقصده إصلاح دينهم.

الأمر الثالث: الذي يطالب به الداعية هو أن يكون قادراً على إقامة الجسور مع المجتمع، ليحظى بمحبة الناس وتقديرهم، فالفتح الحقيقي هو فتح القلوب وليس فتح البلاد، ولم يكن نبوغ الجيل الأول ولم تكن عظمتهم لأنهم فتحوا بلاد كسرى وقيصر فحسب؛ بل أعظم من ذلك بكثير أن الله تعالى أخضع لهم تلك البلاد، حين انفتحت قلوب الناس لهم فأحبوهم من قلوبهم؛ لما يعرفون من صدقهم وإخلاصهم، ولما يعرفون من حرصهم على مصلحة الناس، ولما يعرفون من زهدهم في الدنيا وتخليهم عن زينتها وأبهتها ولما يعرفون من أنهم نموذجاً حياً للصدق والإخلاص في أقوالهم وأعمالهم فأحبهم الناس حتى قال الكفار:

قال أحد المؤرخين البريطانيين الكفار: ما عرف التاريخ من فاتح أرحم وأعدل من العرب.

وهو يعني المسلمين بطبيعة الحال، لكنه يسميهم العرب، ما عرف التاريخ من فاتح أعدل ولا أرحم من العرب.

وكان النصارى يفضّلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى؛ لأنهم جرّبوا من بني جنسهم فرض الضرائب، والإتاوات، والظلم، والطبقية، والمفاضلة بين الناس، والتسلط، والعنجهية، والعدوان، والقسوة، وجربوا من المسلمين العدل والإنصاف والصدق والتواضع وإعطاء الحق وأخذ الحق، فكان النصارى يفضلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى، وكذلك غيرهم.

فالفتح الحقيقي الذي استطاع المسلمون أن يحققوه هو فتح القلوب، وقد ترتب عليه فتح البلاد.

وقبل أن يوجد الإسلام في أي بلد، وقبل أن يحكم الإسلام في أي بلد، لا بد أن توجد القلوب التي تحبه، ولابد أن توجد القلوب التي تتطلع إلى عزته ونصره وتمكينه.

أيها الأحبة.. لا أفشي لكم سراً إذا قلت لكم: إن هذا العنوان: "صناعة الحياة" هو عنوان مستعار، إنما كان دوري فيه إلا الاقتباس، فهو عنوان كتاب لأحد الفضلاء وهو الأستاذ محمد أحمد الراشد، فقد ألف كتاباً صغير الحجم كبير الفائدة سماه: صناعة الحياة، وهو يتكلم فيه عن نظرية في الدعوة إلى الله عز وجل، فيها من الشمولية ما فيها وأنا أثني على هذا الكتاب وأطريه، وإن كان هذا الثناء وهذا الإطراء لا يعني بالضرورة الموافقة على كل ما في هذا الكتاب، فلكل إنسان رأيه واجتهاده، ولكن المقصود أن الكتاب بصفة عامة كتاب مفيد نافع لمن يقرؤه.

أما وجود اختلاف في مسائل أو اجتهادات مختلفة فيها، فهذا أمر لا غرابة فيه، ولا يحتاج إلى تأكيد، ولكنني أقول ذلك؛ لأن بعض الناس قد يفهموا من الثناء أو الإطراء شيئاً ما.

على كل حال فهذا الموضوع لعله أصبح ظاهره إقامة الجسور والعلاقات مع المجتمع؛ بحيث يحسن ظن الناس بالدعاة إلى الله تعالى، وتتعاظم ثقتهم بهم، ويعرفون أن الدعاة إلى الله تعالى هم الناصحون لهم، الحريصون على دينهم ودنياهم، وأنهم أصدق حديثاً من غيرهم، وأقوم قيلاً، وأنهم أكفأ في إدارة شئون الدين والدنيا، وما كان في الدعاة إلى الله من نقص، فإن هذا النقص موجود في غيرهم بصورة أعظم، وما كان في غير الدعاة إلى الله تعالى من كمال فإنه يجب أن يكون موجوداً في الدعاة إلى الله أيضاً بصورة أعظم.

والموضوع على كل حال -كما أسلفت- موضوع شامل وواسع سأتحدث فيه إن شاء الله تعالى في دروس ومحاضرات متفرقة، وأرجو أن يأذن الله تعالى بخروجه ضمن كتاب مستقل يكون أحد سلسلة رسائل ترشيد الصحوة.

والذي دعاني في حقيقة الأمر إلى طرق هذا الموضوع والحديث عنه أمور:

أخطاء الدعاة

أولها: التجاوزات الكثيرة في تصرفات فئة من الدعاة ليست بالكثيرة، أما التجاوزات فهي كثيرة.

هذه الفئة لا تعترف بالناس ولا تقيم لهم وزناً، وتظن أن هذا من باب القوة في الحق ومن باب الصرامة، فيتلقى الناس هذه التجاوزات ويعظمونها ويتحدثون حولها، ويلصقونها بالدعاة إلى الله كلهم جملة وتفصيلاً.

تركيز بعض الدعاة على الأخطاء

الأمر الثاني: طريقة بعض الإخوة في التركيز على أخطاء الآخرين والبحث عنها والعناية بها مما ينعكس سلبياً على ظن الناس بأن الدعاة إلى الله همهم البحث عن نقائص الآخرين، وأنهم يعتقدون في أنفسهم الكمال المطلق، ويعتقدون في غيرهم النقص المطلق.

والواقع أننا يجب أن ننتبه إلى محاسن الآخرين إلى جوار ذكر مساوئهم، فلا يسوغ أبداً أن يكون همنا دائماً وأبداً التنبيه على أخطاء بعض الناس؛ لأن الناس حينئذٍ يتصورون بأنهم مجموعة من الأخطاء!

لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يكون ذكر الأخطاء مسبوقاً بذكر الحسنات؛ حتى يعلم الناس أنك إنسان منصف ومعتدل؛ فأنت تمدح فلاناً بأنه مقيم للصلوات الخمس، وتمدح الآخر بأنه بار بوالديه، وتمدح الآخر بأنه صادق النية صافي القلب، ليس في قلبه غل أو حقد على مسلم، وتمدح الرابع بأنه لا يأكل المال الحرام، وتمدح الخامس بأنه قائم بأعماله الموكلة والمسندة إليه، وهذا.. وهذا..، وما من إنسان -وخاصة المسلمين- إلا وفيه بعض فضائل يمكن أن تمدحه وتثني عليه فيها.

وقد كان من عجيب صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يعرض نفسه على القبائل أنه ربما ذكر للقبيلة ولو شيئاً مما فيها؛ حتى إنه جاء لقوم يقال لهم: بنو عبد الله من قبائل العرب، فقال لهم: يا بني عبد الله! إن الله تعالى قد أحسن اسمكم، ثم دعاهم إلى الله عز وجل.

فكل جسر حاول أن تقيمه مع الناس حاول أن يكون وسيلة للعبور إليهم، والوصول إلى قلوبهم، كلمة طيبة، أنا لا أقول: امدح الناس بالباطل، ولا أقول: اجعل لسانك مداحاً تمدح هذا وذاك، بحق وبغير حق، وبغرض ولغير غرض..

لا! لكن إذا تكلمت مع إنسان أو مع جماعة من الناس أو مع طوائف منهم، فاحرص على أن تمهد بين يدي ما تريد من أخطاء ببعض ما تعلم من الحق والصواب الذي هم فيه.

وهذا المنهج قديم، ومن قرأ في سير الدعاة عرف هذا.

اقرأ مثلاً رسائل الشيخ ابن تيمية للعلماء ورسائله حتى للصوفية، ورسائله لبعض الشيوخ الذين عليهم مآخذ وانحرافات، تجده رحمه الله يمهد لذلك بذكر بعض ما لهم من الفضل وما لهم من الخير، وما لهم من الإحسان، ومن هدى الله على أيديهم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى تقويم ما عندهم من الخطأ والاعوجاج.

تصحيح نظرة الناس إلى المتدينين

الأمر الثالث: إن المجتمع أيها الأحبة -وهذه قضية تشغلني كثيراً -وحين أقول المجتمع: أعني مجتمع الأمة الإسلامية في كل بلد، ليس في هذا البلد فقط، وإنما في كل بلاد العالم الإسلامي- المجتمع يستمع إلى أقوال متناقضة عن المتدينين، فهو يسمع من خصوم المتدينين -وبلفظ آخر يسمع من خصومنا حتى يُفهم أننا من ضمن المقصودين أيضاً- يسمع: أن المتدينين قوم جفاة غلاط جهلة، تفكيرهم مغلق، ثقافتهم ضحلة، أهل عقوق وبخس للحقوق، وأنهم أصحاب مطامع دنيوية، وأصحاب طموحات مادية، وأنهم لا يستطيعون تفهم أمور الحياة الدنيا، ولا يستطيعون التعايش مع الناس، وأنهم ضيقو الأفق غير مقدرين للمصالح والمفاسد، وأنهم وأنهم.. فيسمع هجاءً كثيراً، ويسمع كلاماً غزيراً في نقد الدعاة وسبهم وعيبهم بالحق وبالباطل؛ وليس هذا بغريب، فخصمك لا يمكن أن يقول فيك إلا هذا ومثله.

وبالمقابل يسمع الناس في المجتمعات الإسلامية من الشيوخ والدعاة ومحبي الشباب الملتزمين: أن الشباب الملتزمين وأن الدعاة إلى الله تعالى أهل تقوى وصلاح وخلق فاضل كريم، وأهل قلوب تقية نقية، وأهل نفوس سمحة، وأنهم أهل همم عالية، وعقول كبيرة، وتنازل عن حقوقهم، وإعراض عن متاع الحياة الدنيا وزينتها، ونجاح في سائر تخصصاتهم.

فمنهم الطبيب الماهر، ومنهم المهندس الحاذق، ومنهم الفقيه النبيل، ومنهم العالم الجليل، ومنهم المربي الفاضل، ومنهم الخطيب المفوه، ومنهم ومنهم.. وهكذا أيضاً قصيدة طويلة في الثناء على شباب الصحوة وعلى الدعاة إلى الله تعالى.

وأقول بملء فمي: إنهم يستحقون هذا وأكثر منه، وأنا ممن يتغزل -إن صح التعبير- بالثناء عليهم في مواضع كثيرة، وأعتبر هذه قربة أتقرب بها إلى الله تعالى وأحمد الله تعالى عليها.

فقد رزقني الله تعالى حب هؤلاء -علم الله- ولو لم أعرف أسماءهم ولم أعرف وجهاتهم، إلا أنني أقرأ في وجوههم محبة الله ورسوله، وحب الخير للناس، والغيرة على دين الله عز وجل.

فيجد الإنسان في نفسه محبتهم والحرص على مصلحتهم، لا حرصاً في عاجل الدنيا، ولكنه أمر وضعه الله تعالى في قلوبنا لا حيلة لنا في تحصيله كما لا حيلة لنا في دفعه.

ولكن أريد بعد ذلك أن أقول: إن من طبيعة الناس عموماً أنهم يحكمون على المجموع من خلال واحد، من خلال رؤيتهم لفعل شخص واحد قد يحكمون على المجموع، فيعممون الحكم من خلال حوادث فردية، فإذا ابُتلي -مثلاً- بعض الناس بداعية يكون بذيء اللسان أو رديء الخلق، فإن الناس لا يقولون: فلان رديء الخلق ولكن بقية الدعاة صالحون، بل يقولون: هؤلاء الدعاة فيهم.. وفيهم.. وفيهم..، ثم يستشهدون بقول فلان والعكس بالعكس، فقد يكون هناك داعية صالح فتجد أن المجتمع المحيط به والبيئة القريبة منه تثني على الدعاة كلهم وتستشهد بفعل فلان.

وهذا أمر سمعته كثيراً فقد سمعت من يثني على الشباب الصالحين، فإذا قلت له: ماذا رأيت منهم؟ قال: ولدي فلان ولد صالح وهو يفعل كذا وكذا وكذا، ثم أثنى عليه خيراً.

وسمعت والله من ينال من الشباب الخيرين، ومن الدعاة إلى الله تعالى، ويصفهم بأبشع الأوصاف والألقاب، ويشتمهم، ويقول: إن الأشرار خير منهم، وما رأينا منهم خيراً، فإذا سألته وقلت له: لماذا؟ قال: فلان.. فذكر ولده أو جاره أو قريبه، وأنه فعل وفعل، وفعل ثم ذكر أشياء قد يكون بعضها حقاً، وقد يكون بعضها باطلاً، ولكن الواقع يشهد أن بعض هذا الكلام يكون حقاً في كثير من الأحيان.

إذاً أنت أيها الداعية! عبارة عن عينة للبقية من الدعاة، فإن أحسنت في تصرفاتك وأقوالك وأفعالك ومعاملتك للناس، ووصلت وتسللت بحسن تلطف إلى قلوبهم؛ فنعم الممثل أنت لنا! ونعم المعبر عنا! ونعم الناطق بلساننا! فأنت الرائد الذي لا يكذب أهله، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله!

وهذا لا يعني أننا نطالب الدعاة ألا يدعوا إلى الله تعالى، وألا يقوموا بهذا الواجب إلا إذا كانوا مثالاً للأخلاق الفاضلة والكمالات.. لا! لكن يعني أن الإنسان ينبغي أن يحرص أشد الحرص على ذلك، ويبحث عن تحقيق وسائل هذه الدعوة بكل ما يستطيع.

وإذا علم أن هدف الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إزالة المنكرات القائمة وإحلال المعروف بدلاً عنها، علم أن البحث عن دواعي القبول واجب وكما قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ولهذا تكلم العلماء في هناك حالات يحرم فيها إنكار المنكر.. لماذا؟ لأنه لن يزول بالإنكار بل سيزيد، وتكلموا عن حالات يحرم فيها الأمر بالمعروف.. لماذا؟ لأنه لن يتحقق إذا أمرت به، بل سوف يزول معروف آخر كان موجوداً أو يتحقق منكر آخر، والمقصود هو زوال المنكر وحصول المعروف.

وكذلك المقصود في الدعوة هو تحقيق الخير ونشره، وإزالة الشر والنهي عنه، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها.

الفهم الجزئي للجهاد

النقطة الرابعة: مما يدعو لتناول هذا الموضوع أن طائفة من الدعاة نسيت كل هذه المعاني، وكل هذه الألوان من المجاهدات المشروعة والواجبة، وظنت أن الأمر يبدأ وينتهي في ميدان المعركة بالسلاح، وأن الحكم للسيف في كافة الظروف والأحوال، وهذا ليس بصحيح، وربما استشهد قائلهم بقول الشاعر:

حينما تبدأ القنابل بالعزف      تموت القصائد العصماء

وقول الآخر:

السيف أصدق إنباء من الكتب          في حده الحدُّ بين الجد واللعب

بيض الصفائح لاسود الصحائف في     متونهن جلاء الشك والريب

ونحو نقول: نَعَمْ! السيوف ينجلي بها الحق من الباطل في ميدان المعركة؛ لكن ميدان المعركة ليس هو ميدان القتال فقط، بل نحن في منازلة مع أعداء الله تعالى في كل الميادين.

ففي ميدان الاقتصاد منازلة بين دعاة الحق وبين دعاة الربا والكسب الحرام، وفي ميدان الأمور الاجتماعية منازلة بين دعاة الطهر والعفاف والفضيلة ودعاة الرذيلة والانحراف، وفي ميدان العلم منازلة بين دعاة الحق ودعاة الباطل، وفي ميدان الطب منازلة، وفي ميدان الإعلام منازلة، وفي كل ميدان من ميادين الحياة منازلة ومعركة ضارية حامية الوطيس، هي في حقيقتها -والله الذي لا إله غيره- أعظم وأشد وأكثر فتكاً من المعارك العسكرية.

ولكن أكثر الناس لا يدركونها؛ لأن الناس كثيراً ما يتكلمون عن حصول معركة في المكان الفلاني، والداوعي تتوفر على نقلها، لكن أقل الناس من يتكلمون عن الصراع بين الحق والباطل في هذه الميادين؛ لأنه صراع قد يكون مستتراً مستخفياً في كثير من الأحيان، لا يدركه إلا العاقلون العالمون المتابعون.

إن الجهاد -أيها الأحبة- بالسيف شريعة قائمة، ولا عز للإسلام إلا بالجهاد، ولكن هذا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام له ألوان أخرى.

فالدعوة إلى الله تعالى شريعة أخرى قائمة، وحسن الخلق شريعة أخرى قائمة، وتأليف القلوب شريعة قائمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريعة قائمة، والإحسان إلى الخلق شريعة قائمة، وسياسة الناس بالحسنى شريعة قائمة، فلماذا هذه النظرة الجزئية المختزلة؟!

جوانب القضية -كما أسلفت لكم- كثيرة، وقد تحيرت كثيراً كيف أقدمها لكم، ثم اخترت أن أقدمها بشيء من الإيجاز والاختصار على أن تنتهي إن شاء الله في هذه الليلة.