حتى تغيروا ما بأنفسكم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أيها الإخوة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وحياكم الله تعالى في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة الخميس، التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة.

إن عنوان هذه الكلمة أو المحاضرة: "حتى تغيروا ما بأنفسكم"، وأستغفر الله عز وجل فإنني ما قصدت بهذا العنوان حكاية كلام الله تعالى, وإنما قصدت به عنواناً أنشأته من عند نفسي, واقتبست معنى الآية الكريمة العظيمة فيه, ألا وهي قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

وإنما جعلت العنوان خطاباً (حتى تغيروا) لأني لاحظت أمراً في غاية الخطورة نعانيه نحن المسلمين, ألا وهو أننا في كثير من الأحيان نتحدث عن غيرنا أكثر مما نتحدث عن أنفسنا.

نعيب غيرنا، ونحمل المسئولية غيرنا، ونلقي بالتبعة على غيرنا, ونجعل الأسباب من غيرنا, وإذا سمعنا أحداً ينتقد, أو ينصح أو يوجه؛ خيل إلينا أنه يتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر أو أناس آخرين, لكن قلّما يسمع الواحد منا الحديث، وهو يحس أنه هو بذاته وباسمه وشخصيته المخاطب قبل غيره, ولذلك يقل الانتفاع من الكلام، لأن كل واحد يعتقد أنه ليس مخاطباً ولا مقصوداً, فاخترت أن يكون العنوان خطاباً "حتى تغيروا ما بأنفسكم" لدفع هذا المعنى الموجود في نفوسنا.

وسوف تكون هذه الكلمة في سبع نقاط أو سبع وقفات، الوقفة الأولى عبارة عن مقدمات لابد منها.

الله حرم الظلم على نفسه وعلى غيره

إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، كما قال جل وعلا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ [هود:101] في أكثر من موضع من القرآن الكريم, وقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] وقال: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة:70] وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا} ومن عدله جل وعلا؛ أنه جعل الجزاء في الدنيا والآخرة مترتباً على فعل الإنسان وعمله.

فأهل الجنة يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]؛ وأهل النار كذلك إنما دخلوها بذنوبهم وبخطاياهم وأعمالهم.

وكذلك الجزاء الدنيوي، إنما يناله من يناله, إن كان خيراً فبعمله الخير, وإن كان شراً فبعمله الشر, ولذلك قال الله عز وجل: {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} فمن عدله جل وعلا أن كل أمر يحصل للإنسان في الدنيا أو في الآخرة فهو بسبب عمله، وما ظلمه الله تعالى شيئاً.

مصائب الأمة بفعل البشر

نحن نعلم جميعاً أن الجزاء الأخروي حق, وهناك في الآخرة جنة ونار, وهذا من أصول العقيدة الإسلامية، كذلك يجب أن نعلم أن الجزاء الدنيوي واقع أيضاً.

صحيح أن الدنيا ليست دار جزاء, ولكن الله جعل في هذه الدنيا نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم دعك من الأفراد، مثلاً: كون فلان أصابه مرض، أو حادث سيارة، أو كان عنده مؤسسة وفشلت فاترك هذه جانباً.

دعنا نتكلم في المصائب العامة: فمثلاً: أمة من الأمم أصابها جدب وقحط, وهلكت الأموال والزروع والمواشي, أو أصابها فقر شديد, أو أصابتها هزائم عسكرية أو سياسية أو هزائم اقتصادية, أو نكبات عامة, فالقرآن الكريم صريح في أن هذا بفعل البشر، بسبب فعل الناس، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

ولما جاءت معركة أحد وانهزم المسلمون, وكانوا يتصورون أنه ما دام ألهم المسلمون وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ويقابلون جيشاً مشركاً يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, كانوا يعتقدون أنَّ النصر لهم حتماً, فأصابتهم المصيبة وقتل منهم من قتل, وجرح من جرح, حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت حلق المغفر في وجنتيه, وشج رأسه, وكسرت رباعيته, وسقط صلى الله عليه وسلم في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق -الذي كان يسمى بـالراهب- حتى أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل, فهنا دهش المسلمون وتلفتوا يقولون: أنّى هذا؟! كيف يحصل هذا؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق, فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50-51].

فالمصائب في الدنيا -المصائب العامة- بسبب الذنوب, والسعة في الرزق والمال والأهل والمتاع الطيب هو أيضاً بسبب الطاعات, هذه هي القاعدة العامة وكل قاعدة لها استثناءات, البشر قد لا يستطيعون أن يطبقوا القاعدة في كل ظرف وفي كل حال, لكن هذه القاعدة ربانية قرآنية لا كلام فيها.

التغيير من عند أنفسنا

إنَّ الله عز وجل ربط التغيير بفعل الناس, فإذا كان الناس في حال خير وانتقلوا إلى حال سيئة, فلا ينبغي أن يقولوا: من أين جاء هذا؟ لأنه يقال لهم حينئذٍ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] وكما قال الله عز وجل في سورة الأنفال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].

أمة من الأمم عزيزة منيعة الجانب قوية قاهرة غالبة ممكنة في الأرض, ثم يؤول الأمر بها إلى انهيار وانهزام وتصبح في ذيل القافلة, وتصبح أمة لا قوام لها ولا اعتبار لها ولا شأن لها, تسمى كما يقولون في لغة العصر الحاضر "العالم الثالث"، والآن أخرجوا مصطلحاً جديداً يسمونه "العالم الرابع"، وهو الذي فيه تخلف التخلف, الذين لا يجدون لقمة يأكلونها, وكلهم أو جلّهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون, والمرض يسري فيهم سريان النار في الهشيم إلى غير ذلك من مظاهر التخلف, فيما يسمونه بحزام البؤس أو العالم الرابع، وهي دول من أمم المسلمين.

يجب هنا أن يتساءل الإنسان، أو أن يفكر أن هذا المصير الذي آلت إليه تلك الأمة العزيزة المنيعة, إنما هو من عند أنفسها وبسبب ذنوبها, وكذلك العكس فهذه الأمة أو غيرها التي تعيش في وضع سيئ متردٍ، وتريد الخروج؛ منه أن عليها أن تفكر أن البداية تأتيها من عند نفسها، لا تتصور أبداً أن الخروج من هذا المأزق، ومن هذه الأزمات، ومن هذا التخلف، ومن هذا الجهل، يأتي بشيء يقدمه لها أعداؤها، فهذا لا يتأتى أبداً كما يقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني      ولكن تؤخذ الدنيا غلابا<

الحياة صراع بين الحق والباطل

الحياة صراع، والذي لا يملك وسائل القوة والصراع والسباق, يهزم ويصبح في آخر الركب وفي ذيل القافلة, فمن كان على حال سوء يطمع في الانتقال إلى حال حسنة, يجب أن يعرف أن البداية تأتي من عنده هو, أن يغير ما بنفسه فيغير الله تعالى ما به، وهذا يصدق على حال الأمة وعلى حال الفرد.

أما بالنسبة للأمة فهي قاعدة مطردة, أما بالنسبة للفرد فقد يظهرها الله عز وجل في كثير من الأحيان بشكل أو بآخر, قد تجد إنساناً اليوم يظلم ويعتدي ويأخذ بغير حق, اصبر لا تتعجل الأحداث، لا تقل: ولماذا الله تعالى لم يعاقبه على ما فعل؟! يقول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]}.

إذاً لا تتعجل، يوماً أو شهراً أو سنة إن الأمور في ميزان الله غير الأمور في ميزاني وميزانك أنت, نحن إذا رأينا الباغي والظالم مكث شهراً أو سنة وما انتقم الله عز وجل منه, استبطأنا الأمر وتعجّلنا، لكن اصبر فمن الممكن أنك تموت وما رأيت النتيجة, ويراها ولدك أو أخوك الأصغر, فكم من إنسان ظالم أو معتدٍ أو منحرف، أو مستهزئ بالدين، أو ساخر بالمؤمنين، أمهل الله له وأملى له, ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر.

تعجيل العقوبة للعبرة والعظة

كم من إنسان كان يقوم على تعذيب المسلمين وإيذائهم والزّج بهم في السجون, وإذا استنصروا بالله عز وجل، قال لهم كما قال بعض زبانية التعذيب في أرض الكنانة في وقت من الأوقات, لما رأوا إنساناً يصرخ: يا الله، قالوا: لو جاء الله لجعلناه في هذه الزنـزانة والعياذ بالله وما هي إلا أزمنة قصيرة حتى يأخذهم الله عز وجل بشكل غريب, حتى إن أكبر زبانية التعذيب الذي كان يعذب بعض العلماء والدعاة, كان من ضمن وسائله في التعذيب أنه يمنعهم من الذهاب لقضاء الحاجة, زماناً طويلاً, ودار الدهر دورته, فإذا بهذا الرجل يفقد سلطانه وأبهته ومكانته, وإذا به يصاب بصعوبة التبول حتى إنه يجال به في مستشفيات الدنيا، يصرخ صراخاً شديداً حينما يريد أن يقضي حاجته, ثم مات بهذا المرض, ولما سمع بعض ضحاياه بهذه القصة، وكان في الحرم المكي الشريف خر لله تعالى ساجداً.

إن الله عز وجل يعجّل لمن يشاء العقوبة في هذه الدنيا, وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار عمل, وهذا الجزاء الذي يظهره الله عز وجل إنما هو من باب العبرة والعظة, التي يبينها الله جل وعلا لعباده.

ولقد حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات والقصص السابقة، التي تبين أن هذا هو الطريق, فلا تنتظر أبداً أن يكون التغيير بواسطة ملك يهبط من السماء, كلا, ولا بواسطة شيء يخرج من الأرض، إنما التغيير بواسطة الإنسان، فالإنسان هو مدار التغيير بإذن الله جل وعلا, فالله جعل النواميس في هذا الكون خاضعة لتغيير الإنسان، كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من الإنسان التغيير، ومن الله تعالى التيسير]] الإنسان لا يمكن أن يغير بنفسه القدر:

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

فربما يقوم إنسان بسيط تفكيره بسيط، يفتح بقالة أو متجراص متواضعاً وتبدأ أمواله تكثر، فتأتي بعد عشر سنوات ويصبح من أصحاب رءوس الأموال, ثم تجلس معه تتحدث، هل تميز ذلك الإنسان بذكاء عن غيره؟ لا، بماذا تميّز؟ هذا من توفيق الله عز وجل, يهب ذلك لمن يشاء, وقد تجد إنساناً صاحب تفكير وتخطيط، وعنده لجان وعنده مستشارون، وعنده خبرات ودراسات وتحاليل وتقارير وأشياء, ويقوم بمشاريع وفي النهاية تنهار، ويصبح هذا الإنسان منكسراً لا مال له.

فالأمور لا شك مرتبطة بقضاء الله وقدره, وإذا لم يعن الله العبد فأول ما يجني عليه اجتهاده.

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

لكن ينبغي أن ندرك أن التغيير يبدأ من الإنسان, لا تتصور أن التغيير يبدأ من المصنع, بعض الإخوة -مثلاً- يقول: إن الطريق إلى تقدم العالم الإسلامي هو الاهتمام بالصناعة نحن لسنا نشك أن العالم الإسلامي لكي يصبح عالماً متقدماً، لابد أن يملك الصناعات سواءً الصناعات الحربية أم غيرها, وما دام يستورد من غيره فلن يتقدم لأن حاجاته بيد عدوه، يفرج عنها متى شاء ويمنعها ويحجبها متى شاء, هذا ليس فيه شك ولا نجادل فيه, لكننا نقول المهم: هو الإنسان, إذا أفلحنا في صناعة الإنسان -إن صح التعبير- في إيجاد الإنسان الفعال المؤثر القوي صاحب الهمة, ثقوا أن الأمور كلها ستتبدل، سيأتي المصنع والمتجر, وسوف تأتي القوة والتنظيم وكل شيء، إذاً ينبغي أن ندرك أنه -كما يقولون- حجر الأساس في موضوع التغيير هو الإنسان.

إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، كما قال جل وعلا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ [هود:101] في أكثر من موضع من القرآن الكريم, وقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] وقال: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة:70] وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا} ومن عدله جل وعلا؛ أنه جعل الجزاء في الدنيا والآخرة مترتباً على فعل الإنسان وعمله.

فأهل الجنة يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]؛ وأهل النار كذلك إنما دخلوها بذنوبهم وبخطاياهم وأعمالهم.

وكذلك الجزاء الدنيوي، إنما يناله من يناله, إن كان خيراً فبعمله الخير, وإن كان شراً فبعمله الشر, ولذلك قال الله عز وجل: {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} فمن عدله جل وعلا أن كل أمر يحصل للإنسان في الدنيا أو في الآخرة فهو بسبب عمله، وما ظلمه الله تعالى شيئاً.

نحن نعلم جميعاً أن الجزاء الأخروي حق, وهناك في الآخرة جنة ونار, وهذا من أصول العقيدة الإسلامية، كذلك يجب أن نعلم أن الجزاء الدنيوي واقع أيضاً.

صحيح أن الدنيا ليست دار جزاء, ولكن الله جعل في هذه الدنيا نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم دعك من الأفراد، مثلاً: كون فلان أصابه مرض، أو حادث سيارة، أو كان عنده مؤسسة وفشلت فاترك هذه جانباً.

دعنا نتكلم في المصائب العامة: فمثلاً: أمة من الأمم أصابها جدب وقحط, وهلكت الأموال والزروع والمواشي, أو أصابها فقر شديد, أو أصابتها هزائم عسكرية أو سياسية أو هزائم اقتصادية, أو نكبات عامة, فالقرآن الكريم صريح في أن هذا بفعل البشر، بسبب فعل الناس، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

ولما جاءت معركة أحد وانهزم المسلمون, وكانوا يتصورون أنه ما دام ألهم المسلمون وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ويقابلون جيشاً مشركاً يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, كانوا يعتقدون أنَّ النصر لهم حتماً, فأصابتهم المصيبة وقتل منهم من قتل, وجرح من جرح, حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت حلق المغفر في وجنتيه, وشج رأسه, وكسرت رباعيته, وسقط صلى الله عليه وسلم في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق -الذي كان يسمى بـالراهب- حتى أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل, فهنا دهش المسلمون وتلفتوا يقولون: أنّى هذا؟! كيف يحصل هذا؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق, فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50-51].

فالمصائب في الدنيا -المصائب العامة- بسبب الذنوب, والسعة في الرزق والمال والأهل والمتاع الطيب هو أيضاً بسبب الطاعات, هذه هي القاعدة العامة وكل قاعدة لها استثناءات, البشر قد لا يستطيعون أن يطبقوا القاعدة في كل ظرف وفي كل حال, لكن هذه القاعدة ربانية قرآنية لا كلام فيها.

إنَّ الله عز وجل ربط التغيير بفعل الناس, فإذا كان الناس في حال خير وانتقلوا إلى حال سيئة, فلا ينبغي أن يقولوا: من أين جاء هذا؟ لأنه يقال لهم حينئذٍ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] وكما قال الله عز وجل في سورة الأنفال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].

أمة من الأمم عزيزة منيعة الجانب قوية قاهرة غالبة ممكنة في الأرض, ثم يؤول الأمر بها إلى انهيار وانهزام وتصبح في ذيل القافلة, وتصبح أمة لا قوام لها ولا اعتبار لها ولا شأن لها, تسمى كما يقولون في لغة العصر الحاضر "العالم الثالث"، والآن أخرجوا مصطلحاً جديداً يسمونه "العالم الرابع"، وهو الذي فيه تخلف التخلف, الذين لا يجدون لقمة يأكلونها, وكلهم أو جلّهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون, والمرض يسري فيهم سريان النار في الهشيم إلى غير ذلك من مظاهر التخلف, فيما يسمونه بحزام البؤس أو العالم الرابع، وهي دول من أمم المسلمين.

يجب هنا أن يتساءل الإنسان، أو أن يفكر أن هذا المصير الذي آلت إليه تلك الأمة العزيزة المنيعة, إنما هو من عند أنفسها وبسبب ذنوبها, وكذلك العكس فهذه الأمة أو غيرها التي تعيش في وضع سيئ متردٍ، وتريد الخروج؛ منه أن عليها أن تفكر أن البداية تأتيها من عند نفسها، لا تتصور أبداً أن الخروج من هذا المأزق، ومن هذه الأزمات، ومن هذا التخلف، ومن هذا الجهل، يأتي بشيء يقدمه لها أعداؤها، فهذا لا يتأتى أبداً كما يقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني      ولكن تؤخذ الدنيا غلابا<

الحياة صراع، والذي لا يملك وسائل القوة والصراع والسباق, يهزم ويصبح في آخر الركب وفي ذيل القافلة, فمن كان على حال سوء يطمع في الانتقال إلى حال حسنة, يجب أن يعرف أن البداية تأتي من عنده هو, أن يغير ما بنفسه فيغير الله تعالى ما به، وهذا يصدق على حال الأمة وعلى حال الفرد.

أما بالنسبة للأمة فهي قاعدة مطردة, أما بالنسبة للفرد فقد يظهرها الله عز وجل في كثير من الأحيان بشكل أو بآخر, قد تجد إنساناً اليوم يظلم ويعتدي ويأخذ بغير حق, اصبر لا تتعجل الأحداث، لا تقل: ولماذا الله تعالى لم يعاقبه على ما فعل؟! يقول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]}.

إذاً لا تتعجل، يوماً أو شهراً أو سنة إن الأمور في ميزان الله غير الأمور في ميزاني وميزانك أنت, نحن إذا رأينا الباغي والظالم مكث شهراً أو سنة وما انتقم الله عز وجل منه, استبطأنا الأمر وتعجّلنا، لكن اصبر فمن الممكن أنك تموت وما رأيت النتيجة, ويراها ولدك أو أخوك الأصغر, فكم من إنسان ظالم أو معتدٍ أو منحرف، أو مستهزئ بالدين، أو ساخر بالمؤمنين، أمهل الله له وأملى له, ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر.

كم من إنسان كان يقوم على تعذيب المسلمين وإيذائهم والزّج بهم في السجون, وإذا استنصروا بالله عز وجل، قال لهم كما قال بعض زبانية التعذيب في أرض الكنانة في وقت من الأوقات, لما رأوا إنساناً يصرخ: يا الله، قالوا: لو جاء الله لجعلناه في هذه الزنـزانة والعياذ بالله وما هي إلا أزمنة قصيرة حتى يأخذهم الله عز وجل بشكل غريب, حتى إن أكبر زبانية التعذيب الذي كان يعذب بعض العلماء والدعاة, كان من ضمن وسائله في التعذيب أنه يمنعهم من الذهاب لقضاء الحاجة, زماناً طويلاً, ودار الدهر دورته, فإذا بهذا الرجل يفقد سلطانه وأبهته ومكانته, وإذا به يصاب بصعوبة التبول حتى إنه يجال به في مستشفيات الدنيا، يصرخ صراخاً شديداً حينما يريد أن يقضي حاجته, ثم مات بهذا المرض, ولما سمع بعض ضحاياه بهذه القصة، وكان في الحرم المكي الشريف خر لله تعالى ساجداً.

إن الله عز وجل يعجّل لمن يشاء العقوبة في هذه الدنيا, وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار عمل, وهذا الجزاء الذي يظهره الله عز وجل إنما هو من باب العبرة والعظة, التي يبينها الله جل وعلا لعباده.

ولقد حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات والقصص السابقة، التي تبين أن هذا هو الطريق, فلا تنتظر أبداً أن يكون التغيير بواسطة ملك يهبط من السماء, كلا, ولا بواسطة شيء يخرج من الأرض، إنما التغيير بواسطة الإنسان، فالإنسان هو مدار التغيير بإذن الله جل وعلا, فالله جعل النواميس في هذا الكون خاضعة لتغيير الإنسان، كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من الإنسان التغيير، ومن الله تعالى التيسير]] الإنسان لا يمكن أن يغير بنفسه القدر:

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

فربما يقوم إنسان بسيط تفكيره بسيط، يفتح بقالة أو متجراص متواضعاً وتبدأ أمواله تكثر، فتأتي بعد عشر سنوات ويصبح من أصحاب رءوس الأموال, ثم تجلس معه تتحدث، هل تميز ذلك الإنسان بذكاء عن غيره؟ لا، بماذا تميّز؟ هذا من توفيق الله عز وجل, يهب ذلك لمن يشاء, وقد تجد إنساناً صاحب تفكير وتخطيط، وعنده لجان وعنده مستشارون، وعنده خبرات ودراسات وتحاليل وتقارير وأشياء, ويقوم بمشاريع وفي النهاية تنهار، ويصبح هذا الإنسان منكسراً لا مال له.

فالأمور لا شك مرتبطة بقضاء الله وقدره, وإذا لم يعن الله العبد فأول ما يجني عليه اجتهاده.

إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

لكن ينبغي أن ندرك أن التغيير يبدأ من الإنسان, لا تتصور أن التغيير يبدأ من المصنع, بعض الإخوة -مثلاً- يقول: إن الطريق إلى تقدم العالم الإسلامي هو الاهتمام بالصناعة نحن لسنا نشك أن العالم الإسلامي لكي يصبح عالماً متقدماً، لابد أن يملك الصناعات سواءً الصناعات الحربية أم غيرها, وما دام يستورد من غيره فلن يتقدم لأن حاجاته بيد عدوه، يفرج عنها متى شاء ويمنعها ويحجبها متى شاء, هذا ليس فيه شك ولا نجادل فيه, لكننا نقول المهم: هو الإنسان, إذا أفلحنا في صناعة الإنسان -إن صح التعبير- في إيجاد الإنسان الفعال المؤثر القوي صاحب الهمة, ثقوا أن الأمور كلها ستتبدل، سيأتي المصنع والمتجر, وسوف تأتي القوة والتنظيم وكل شيء، إذاً ينبغي أن ندرك أنه -كما يقولون- حجر الأساس في موضوع التغيير هو الإنسان.

هذه الأمة التي نحن جزءٌ منها، بلا شك لا نعتبرها، الأمة العربية؛ لأننا لا ندل أو نفخر بعروبتنا, فإن هذه الأسماء لا قيمة لها، كما قال الشاعر:

خلوا خيوط العنكبوت لمن          هم كالذبابات تطايروا عمياً

المسلم وطنه بلاد الإسلام وجنسيته الدين, وإن كان عربياً أو غير عربي، فهذه الأمة التي نحن منها أمة الإسلام, خلقت لتبقى, وهذه قضية يجب أن تستقر في نفوسنا, ما خلقت لتؤدي دوراً ثم تنتهي, مثلما هو الحال بالنسبة للأمم الأخرى, خلقت لتبقى حتى آخر الزمن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبقى أيضاً قوية عزيزة، ويكفيك أن تتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} فالأمة خلقت لتبقى، ولذلك لا تتصور أن هذه الأمة أمة مؤقتة أو زائلة، بل هي أمة أخرجها الله رحمة للعالمين, أخرجها للعباد يقيمون الحجة على الناس، فهذه الأمة باقية، بعز عزيز أو بذل ذليل، شاءوا أم أبوا.

تحطم المؤامرات أمام الإسلام

كم تحطم على صخرة هذه الأمة من مؤامرات؟ الأمة لها ألف وأربعمائة سنة, كم تحطم على صخرتها من مؤامرات! منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤامرات السرية تشتغل، وكل أمة نكبت بالإسلام، صارت تشتغل ضده -مثلاً- اليهود فقدوا موقعهم بالإسلام, كانوا يعتقدون أن يكون النبي منهم، فقدوا موقعهم وصاروا يشتغلون بالمؤامرات، والفرس والمجوس فقدوا مواقعهم وفتح المسلمون بلادهم, وصاروا يتآمرون, والنصارى فتحت بلادهم وصاروا يشتغلون كذلك بالمؤامرات, وهكذا تحالفت كل أمم الدنيا على رغم ما بينها من تفاوت وحرب وصراع, تحالفت ضد الإسلام، وصارت أمواجاً كاسحة.

لو تذكرت مثلاً مؤامرات الصليبيين: كم من حملة صليبية حاولت أن تكتسح العالم الإسلامي! وجاؤوا في فترة الضعف، وبقوة هائلة رهيبة بمئات الألوف, وأجهزة وأسلحة فتاكة وتحطموا على صخرة الإسلام.

جاء التتار، أمة متوحشة قاهرة غلابة وأمم هائلة، وتعودوا على البداوة وشظف العيش, وجاؤوا واكتسحوا الدنيا كلها، مثل السيل لا يقف في وجهه شيء, وتحطموا على صخرة الإسلام.

جاء الاستعمار واحتل بلاد المسلمين، وكان في عهد ضعف وذل للمسلمين, فماذا صنع المسلمون؟ صنعوا البطولات، صحيح أنهم ما قاموا بعمل منظم ضد الاستعمار، وهذه قضية يجب أن نستفيدها من التاريخ، بمعنى أنه يضمن خروج الاستعمار ورجوع حكم الله ورسوله وحكم الإسلام، لكنهم قاموا بعمل بطولي، يشبه تماماً ما يقوم به الإخوة المجاهدون في أفغانستان, بطولات وتضحيات، قتل وقتال, استبسال ومعارك طاحنة, وأخبار مدهشة, وهذا بحد ذاته دليل على أصالة هذه الأمة وبقائها.

وكما تسمعون وتعلمون أنه في الجزائر -مثلاً- عدد الذين قتلوا لمقاومة الاستعمار الفرنسي, كانوا مليون شهيداً, ولذلك يسمونها بلد المليون شهيد, ونرجو الله أن يكونوا شهداء في سبيله.

من كان يقوم بحملات التحرير ضد الاستعمار؟ يقودها المشايخ, في الجزائر -مثلاً- جمعية العلماء وغيرها, وفي المغرب الخطابي وغيره, وفي ليبيا عمر المختار, وفي فلسطين عز الدين القسام، وهكذا في بقية البلاد الإسلامية.

النكبات هي التي تصنع الرجال

ولا تنظر -يا أخي العزيز- إلى هذه النكبات التي تحل بالأمة، نظرة خاطئة, لا تعتقد أنها هي التي تدمر الأمة, بل أقول من منطلق نظرة قد تكون شخصية, لكن أعتقد أنها صائبة: إن هذه الأزمات والنكبات هي التي تخرج الرجال, والأمة التي تمر بحياة هادئة رتيبة ليس فيها أمر جديد ولا مثير, تجد هذه الأمة كأنها أمة ميتة, لكن إذا حصل أمر يهز الناس، ظهرت حقائق الرجال وبانت المعادن.

وخذ على سبيل الأمثلة الإمام أحمد -مثلاً- متى ظهر؟ وكيف ظهر؟ ولماذا كسب هذه الشهرة العظيمة والمكانة سواء في عصره أم إلى اليوم؟ إنما ظهر لما واجهت الأمة سيل العقلانيات والفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتقديس العقل من دون الله عز وجل, فقام الإمام أحمد يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما, وتصحيح العقيدة، وإخراج هذه اللوثات التي دخلت إلى عقول المسلمين.

مثال آخر: ابن تيمية -رحمه الله- كيف ظهر ابن تيمية؟ ومتى ظهر؟ صحيح أن الأمة كانت في زمن ضعف وانهيار, لكن كان ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في وقت وجد فيه التتر ووجد فيه الضعف, واكتسحت حملات التتر بلاد المسلمين, فظهر ابن تيمية, كيف ظهر ولماذا؟! ظهر في البداية من منطلق الحرقة التي في قلبه -كما سيتضح- كان يحترق من الداخل على واقع الأمة, ومشكلات الأمة ومصائب الأمة, ثم بدأ يحاول أن يحول هذا الاحتراق الداخلي إلى عمل خارجي, ما اكتفى بمجرد الحسرة والألم، بل أدرك أنه لابد أن يقوم بخطوات فعّالة, فصار يقوم ويجمع العلماء ويتحدث معهم، ويثبت السلاطين والحكام ويأمرهم ويقوي عزائمهم، ويحث الناس على القتال وهكذا, حتى استطاع ابن تيمية -رحمه الله- أن يعمل تعبئة كاملة للأمة ضد التتر, وانهزموا بإذن الله عز وجل.

العز بن عبد السلام -رحمه الله- كيف ظهر ومتى ظهر؟! ظهر في ظروف مشابهة كانت الأمة تعاني فيها من الحملات المختلفة للتتر وغيرهم أيضاً, وتعاني من التمزق والانقسام الداخلي, فكانت أحوج ما تكون إلى بطل، ليس بالضرورة بطل بالسيف, بل بطل باللسان وبالكلمة الجادة الشجاعة الصادقة, فكان العز بن عبد السلام يصعد أعواد المنابر، ويقول كلمة الحق صريحة مدوية, ويأتي هنا وهناك، ويتكلم لدى العام والخاص والكبير والصغير والعالي والنازل بالحق, ويجهر به ويجمع الناس عليه, حتى تحقق نصر الأمة.

إذاً نصر الأمة ما تحقق على يد السلطان المملوكي أو غيره, إنما تحقق في الواقع على يد العلماء الذين كانوا وراء هذا الانتصار الذي حققته الأمة.

وقل مثل ذلك في أسماء كثيرة، ظهرت بسبب الأزمات التي حلت بالأمة, وفي ذلك يقول أحد المؤرخين البريطانيين واسمه "أرنولد توينبي " له نظرية في تفسير التاريخ، يسميها: "التحدي والاستجابة" يقول: إن أي مصيبة تنـزل بالأمة هي عبارة عن تحدٍ، هذا التحدي يورث عند الأمة استجابة، يثير في النفوس دوافع معينة، تجعلها تفكر كيف تقدم خدمة لهذا الدين, كيف تخرج من هذه الأزمة؟ فيظهر الرجال حينئذٍ.

عدم التشاؤم من النكبات

علينا ألاَّ نتشاءم من هذه المصائب والنكبات والأزمات التي تمر بالأمة, بل علينا أن ندرك أنه هنا يأتي نصر الله عز وجل تماماً كما حصل حين جاءت الأحزاب، قال تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22] ولذلك كان المنافقون في غزوة الأحزاب، يقولون: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب لقضاء الحاجة, ويقولون: إن بيوتنا عورة, ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول غير هذا، لما اشتدت عليهم الصخرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وضربها بالمعول، قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز كسرى} ضربها مرة أخرى, قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز قيصر} ضربها مرة ثالثة, فقال: {فتحت لي اليمن وإني أرى قصور صنعاء}.

إذاً: الواثقون من نصر الله عز وجل -وهم المؤمنون- في أشد الظلام وحلكة الليل, يدركون أنه حينئذٍ يولد الفجر, أشد ما يكون الليل ظلاماً قبيل الفجر، ثم يبزغ الفجر بعد ذلك، وإن كان هذا يذكرني بقضية وهي: أن الأمة وجودها يتفاوت، ولذلك لاحظوا أننا الآن -مع الأسف الشديد- إذا أردنا نضرب الأمثلة, بمن نضرب الأمثلة؟ هل نضرب الأمثلة بفلان الحي الموجود بين أظهرنا؟ قلّما يحدث هذا, وإنما نضرب الأمثلة بالماضين, كأن الأمة تحتاج الآن إلى الرجال, ما كانت الأمة في زمن أحوج منها في هذا الزمن إلى الرجال.

فنحن الآن -بكل صراحة- ابن تيمية يؤثر في واقعنا أكثر مما يؤثر كثير من طلبة العلم الأحياء, الذين يمشون على أقدامهم.

يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكنه     ورب ميت على أقدامه انتصبا

إذا جاءتنا مشكلة علمية وجدنا لـابن تيمية رحمه الله سبق فيها, وإذا جاءتنا مشكلة عملية -المشكلة العلمية معقولة، كقضية في الفقه أو في التفسير- لكن حتى مشكلة عملية يمكن أن نستفيد من ابن تيمية أكثر مما نستفيده من غيره.

مثلاً: هناك طائفة من الطوائف لا نعرف الحكم عليها, هل هذه الطائفة مسلمة أو كافرة؟ داخل في الإسلام أو خارجة منه؟ يجب قتالها أم لا يجب؟ قد نتردد وقد نحتار في ذلك، وقد لا نجد من يعطينا الجواب, لكن إذا رجعنا إلى فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين، وجدناه تكلم عن ذلك بكل وضوح, ووضع النقاط على الحروف -كما يقال-.

وإذا وجدنا مشكلة قائمة أيضاً ربما تختلط عندنا الموازين ونشك ونرتاب، ولا ندري كيف نتصرف، وإذا رجعنا إلى الكلام الذي كتبه ابن تيمية في مثل هذه المناسبة تعجبنا, وقد سبق أنني قرأت على بعض الإخوة في إحدى المناسبات كلاماً ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو فصل طويل يزيد على عشرين صفحة في الفتاوى, تكلم فيه ابن تيمية للأمة بمناسبة غزو التتر, وما أصاب الأمة من رعب وخوف وفزع، حيث بدءوا يرتحلون من الشام, يسافرون خوفاً على أنفسهم وأولادهم, ويأخذون أموالهم، الكبار والصغار والعالم وغير العالم، خوفاً من هذا السيل الذي يخشون أن يكتسحهم, فتكلم ابن تيمية بكلام عظيم، وربط القضية بقضية الأحزاب، وأنا أدعوكم للرجوع تجدون -والله الذي لا إله إلا هو- كأن ابن تيمية يتكلم عن اللحظات التي نعيشها الآن, وقلت في تلك المناسبة أنني اكتشفت الكلام الذي كان يجب أن نقوله، وأن يقوله طلبة العلم للناس في مثل تلك المناسبات, اكتشفته من خلال قراءتي لما كتبه قلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

كم تحطم على صخرة هذه الأمة من مؤامرات؟ الأمة لها ألف وأربعمائة سنة, كم تحطم على صخرتها من مؤامرات! منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤامرات السرية تشتغل، وكل أمة نكبت بالإسلام، صارت تشتغل ضده -مثلاً- اليهود فقدوا موقعهم بالإسلام, كانوا يعتقدون أن يكون النبي منهم، فقدوا موقعهم وصاروا يشتغلون بالمؤامرات، والفرس والمجوس فقدوا مواقعهم وفتح المسلمون بلادهم, وصاروا يتآمرون, والنصارى فتحت بلادهم وصاروا يشتغلون كذلك بالمؤامرات, وهكذا تحالفت كل أمم الدنيا على رغم ما بينها من تفاوت وحرب وصراع, تحالفت ضد الإسلام، وصارت أمواجاً كاسحة.

لو تذكرت مثلاً مؤامرات الصليبيين: كم من حملة صليبية حاولت أن تكتسح العالم الإسلامي! وجاؤوا في فترة الضعف، وبقوة هائلة رهيبة بمئات الألوف, وأجهزة وأسلحة فتاكة وتحطموا على صخرة الإسلام.

جاء التتار، أمة متوحشة قاهرة غلابة وأمم هائلة، وتعودوا على البداوة وشظف العيش, وجاؤوا واكتسحوا الدنيا كلها، مثل السيل لا يقف في وجهه شيء, وتحطموا على صخرة الإسلام.

جاء الاستعمار واحتل بلاد المسلمين، وكان في عهد ضعف وذل للمسلمين, فماذا صنع المسلمون؟ صنعوا البطولات، صحيح أنهم ما قاموا بعمل منظم ضد الاستعمار، وهذه قضية يجب أن نستفيدها من التاريخ، بمعنى أنه يضمن خروج الاستعمار ورجوع حكم الله ورسوله وحكم الإسلام، لكنهم قاموا بعمل بطولي، يشبه تماماً ما يقوم به الإخوة المجاهدون في أفغانستان, بطولات وتضحيات، قتل وقتال, استبسال ومعارك طاحنة, وأخبار مدهشة, وهذا بحد ذاته دليل على أصالة هذه الأمة وبقائها.

وكما تسمعون وتعلمون أنه في الجزائر -مثلاً- عدد الذين قتلوا لمقاومة الاستعمار الفرنسي, كانوا مليون شهيداً, ولذلك يسمونها بلد المليون شهيد, ونرجو الله أن يكونوا شهداء في سبيله.

من كان يقوم بحملات التحرير ضد الاستعمار؟ يقودها المشايخ, في الجزائر -مثلاً- جمعية العلماء وغيرها, وفي المغرب الخطابي وغيره, وفي ليبيا عمر المختار, وفي فلسطين عز الدين القسام، وهكذا في بقية البلاد الإسلامية.

ولا تنظر -يا أخي العزيز- إلى هذه النكبات التي تحل بالأمة، نظرة خاطئة, لا تعتقد أنها هي التي تدمر الأمة, بل أقول من منطلق نظرة قد تكون شخصية, لكن أعتقد أنها صائبة: إن هذه الأزمات والنكبات هي التي تخرج الرجال, والأمة التي تمر بحياة هادئة رتيبة ليس فيها أمر جديد ولا مثير, تجد هذه الأمة كأنها أمة ميتة, لكن إذا حصل أمر يهز الناس، ظهرت حقائق الرجال وبانت المعادن.

وخذ على سبيل الأمثلة الإمام أحمد -مثلاً- متى ظهر؟ وكيف ظهر؟ ولماذا كسب هذه الشهرة العظيمة والمكانة سواء في عصره أم إلى اليوم؟ إنما ظهر لما واجهت الأمة سيل العقلانيات والفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتقديس العقل من دون الله عز وجل, فقام الإمام أحمد يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما, وتصحيح العقيدة، وإخراج هذه اللوثات التي دخلت إلى عقول المسلمين.

مثال آخر: ابن تيمية -رحمه الله- كيف ظهر ابن تيمية؟ ومتى ظهر؟ صحيح أن الأمة كانت في زمن ضعف وانهيار, لكن كان ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في وقت وجد فيه التتر ووجد فيه الضعف, واكتسحت حملات التتر بلاد المسلمين, فظهر ابن تيمية, كيف ظهر ولماذا؟! ظهر في البداية من منطلق الحرقة التي في قلبه -كما سيتضح- كان يحترق من الداخل على واقع الأمة, ومشكلات الأمة ومصائب الأمة, ثم بدأ يحاول أن يحول هذا الاحتراق الداخلي إلى عمل خارجي, ما اكتفى بمجرد الحسرة والألم، بل أدرك أنه لابد أن يقوم بخطوات فعّالة, فصار يقوم ويجمع العلماء ويتحدث معهم، ويثبت السلاطين والحكام ويأمرهم ويقوي عزائمهم، ويحث الناس على القتال وهكذا, حتى استطاع ابن تيمية -رحمه الله- أن يعمل تعبئة كاملة للأمة ضد التتر, وانهزموا بإذن الله عز وجل.

العز بن عبد السلام -رحمه الله- كيف ظهر ومتى ظهر؟! ظهر في ظروف مشابهة كانت الأمة تعاني فيها من الحملات المختلفة للتتر وغيرهم أيضاً, وتعاني من التمزق والانقسام الداخلي, فكانت أحوج ما تكون إلى بطل، ليس بالضرورة بطل بالسيف, بل بطل باللسان وبالكلمة الجادة الشجاعة الصادقة, فكان العز بن عبد السلام يصعد أعواد المنابر، ويقول كلمة الحق صريحة مدوية, ويأتي هنا وهناك، ويتكلم لدى العام والخاص والكبير والصغير والعالي والنازل بالحق, ويجهر به ويجمع الناس عليه, حتى تحقق نصر الأمة.

إذاً نصر الأمة ما تحقق على يد السلطان المملوكي أو غيره, إنما تحقق في الواقع على يد العلماء الذين كانوا وراء هذا الانتصار الذي حققته الأمة.

وقل مثل ذلك في أسماء كثيرة، ظهرت بسبب الأزمات التي حلت بالأمة, وفي ذلك يقول أحد المؤرخين البريطانيين واسمه "أرنولد توينبي " له نظرية في تفسير التاريخ، يسميها: "التحدي والاستجابة" يقول: إن أي مصيبة تنـزل بالأمة هي عبارة عن تحدٍ، هذا التحدي يورث عند الأمة استجابة، يثير في النفوس دوافع معينة، تجعلها تفكر كيف تقدم خدمة لهذا الدين, كيف تخرج من هذه الأزمة؟ فيظهر الرجال حينئذٍ.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع