خطب ومحاضرات
صلاح الظاهر والباطن
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعــد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اقترح علي بعض الإخوة أن تكون هذه المحاضرة حلقة ضمن دروس السلسلة العلمية العامة، ورأيت هذا الاقتراح وجيهاً، وذلك نظراً لأهمية موضوعها وحاجة الكثير من الناس إليه هنا وهناك، ولذلك فإن رقم هذا الدرس هو الحادي والخمسون، وهذه ليلة الخميس الثالث عشر من جمادى الآخرة لسنة (1412هـ) وينعقد هذا الدرس استثناءً في هذا المكان في جامع حي سلطانة، وعنوان هذا الدرس: صلاح الظاهر وصلاح الباطن.
الإنسان مظهر ومخبر، وصورة وحقيقة، وهذا أمر معروف تفَّطن له الناس قديماً وحديثاً، ولذلك قال الأول -الشاعر الجاهلي- وهو زهير بن أبي سلمى:
وكائن ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلم |
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم |
أي أن الإنسان وهو ساكت قد يعجبك، لكنه إذا تكلم زاد أو نقص بحسب جودة كلامه وقوته وسيلانه أو عكس ذلك، فإذا كان لسان الفتى نصفاً، وكان عقله وقلبه وفؤاده نصفاً آخر، لم يبق منه إلا صورة اللحم والدم، وهو بذلك يلفت النظر إلى أهمية تثقيف الإنسان، وبتقوية عقله، وتعزيز ذهنه، وتحريك قريحته، وكذلك تدريبه على جودة المنطق وصفاء الكلام، قبل أن يكون الاهتمام بمظهره وشكله الذي هو صورة من اللحم والدم، يستوي فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، وهكذا لم يكن المقياس عند الناس -حتى في الجاهلية الأولى- في الإنسان مقياساً ظاهرياً محضاً في شكله وهيئته ومظهره، بل كانوا يقيسون الإنسان بباطنه وحقيقته، قبل أن يقيسوه بمظهره، ولعلنا جميعاً نحفظ تلك القصيدة الطويلة الجميلة، التي قالها العباس بن مرداس السلمي وهو يخاطب بعض بني قومه معاتباً:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور |
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير |
كم من إنسان يعجبك بمظهره، لكنك إذا ابتليته وقسته ومسسته، لم تجده أهلاًَ لهذا الإعجاب.
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير |
فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير |
بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نـزور |
أي: أن هذه البغاث من الطيور الصغيرة كثيرة الفراخ، لكن الصقور قليلة نـزرة، تلد بين الفينة والأخرى، وشيئاً يسيراً واحداً، ومع ذلك فإنه ثمين نفيس عظيم، لا يقاس ببغاث الطير؛ ولهذا قيل: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" أي يتشبه بالنسور وهو لا يقاس ولا يقرن بها.
صغار الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور |
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير |
وتضربه الوليدة بالهراوي فلا غير لديه ولا نكير |
يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير |
أي: أنه يجر بالحبل، وهو ضخم كبير فلا يُغيَّر ولا يتحرك، ثم قال:
فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير< |
اهتمام الإنسان بالمظاهر
هذا قليل! أما عنايتهم -مثلاً- بمناسباتهم: فقد يعنون بالمناسبات، فيظهرون هذه العناية على شكل حفلات، أو أكل يقدم، أو طعام، أو شراب، لكن العناية بهذه المناسبات في معرفة السبب في وجودها، كأن تكون عيداً من الأعياد الشرعية، وربط الناس بهذا المعنى هو قليل، بل أقل من القليل.
بل تجد عنايتهم حتى بأمور معاشهم، من طعامهم وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك، فقد يعنى الواحد منهم بمظهر معين، من لبس أو أكل أو شرب أو غير ذلك، لكن هل يعنى بكونه من حلال أو من حرام؟
قد يعنى بالمظهر الدنيوي من كون هذا الطعام حلواً أو لذيذاً، لكن هل يعنى بكونه نافعاً للبدن؟
هذا قليل! فضلاً عن أن يعنى بكون هذا الطعام مباحاً شرعاً، وليس فيه حرام، أو لم يأت من حرام ولا غير ذلك.
بل حينما تنظر إلى عباداتهم، تجد أن هذه العبادات أصابها ما أصاب الأمور الدنيوية، فأصبح الناس يهتمون في العبادة بالمظهر أكثر مما يهتمون بالمخبر، فقد يُقبِلَ الواحد منهم على صلاته، ويحافظ عليها، وهذا محمود بكل حال، ولكن هل يخشع في صلاته ويُقبل على ربه؟
وهل يبكي وتدمع عينه؟
هذا قليل!! قد يسمعون القارئ يقرأ القرآن، فتجد أن أكثر الناس يخرجون ويقولون: قد أجاد! بارك الله فيه! ما أحسن صوته! ما أحسن قراءته! ما أضبطه!
لكن أن تكون هذه القراءة وصلت إلى قلوبهم، أو تبللت عيونهم على الأقل ببعض الدموع، هذا قليل! وهكذا تجد حالهم في صيامهم، وحجهم، وعمرتهم، وفي سائر أعمالهم.
قد يذهب الإنسان للحج أو العمرة، فتجد أنه كلما جاء رمضان، ذهب يعتمر، هو وأولاده، وكلما جاء موسم ذهب يحج، لكن أصبحت الجلسات هناك جلسات أنس وحديث وزائر ومزور وضحك وسواليف وما أشبه ذلك، أكثر مما هي أسفار بقصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى.
فسيطر الظاهر على دنيا الناس، بل حتى على كثير من أمورهم الدينية.
أما إذا انتقلت إلى الخاصة، فإنك تجد الأمر نفسه موجوداً من طلبة العلم والدعاة والعلماء وغيرهم.
فتجد -مثلاً فيما يتعلق بطلب العلم- الإنسان قد يهتم بالكم: كثرة ما يقرأ، وكثرة ما يحفظ وما يحصل، وكثرة جلوسه إلى مجالس العلماء، وما أشبه ذلك، لكن أن ينظر في أثر هذا في قلبه، والتأثير في نفسه، ومدى عمله بما علم، وهل هذا من العلم النافع أو غير النافع؟
هذا قد لا يلتفت إليه كثيراً.
ومثله إذا انتقلت إلى موضوع العبادة، قد تجد الناس يكثرون من الكلام في العبادات، وقد يتنافس بعضهم مع بعضهم في كثرة العبادة، لماذا؟
لأنهم يسمعون الكلام عن أن فلاناً كان يصلي في الليلة ألف ركعة، وفلاناً كان يختم القرآن في ليلة، وفلاناً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وفلاناً كان كذا وكذا وهذه كلها أشياء بعضها وارد، وصحيح، وبعضها قد يكون فيه مبالغة، لكن هل يهتمون بالكيف مثلما يهتمون بالكم؟
فيقبل الإنسان منهم على صلاته، وصيامه، وقراءته، وعبادته، بحيث يكون هذا من العلم، من الذكر النافع المقرب إلى الله تعالى، وتكون صلاته وصومه، وحجه، وعبادته زلفى إلى ربه!! هذا فيه نظر.
كذلك إذا انتقلت إلى مجال الدعوة إلى الله تعالى، تجد الذين ينطلقون إلى الدعوة كثيرين، لكن ربما صبوا جل اهتمامهم على تكثير سواد الناس كما يقال، فكثر المقبلون على الدعوة، وكثر الأخيار، والملتزمون، لكن كم مِن هؤلاء مَن يكون في قلبه إشراق ونور؟
وكم من هؤلاء من دخلت حقيقة الإيمان ولامست قلبه أو تغيَّر باطنه؟
قليل! أما الأكثرون فقد تغيَّر ظاهرهم فقط، أصبح مظهرهم ملتزماً -كما يقال- أصبح مقصراً لثوبه، وفيه خير في مظهره، لكن القلب لم يتغير، هل عالجنا القلوب؟
هذا السؤال يطرح نفسه.
وفي كثير من الأحيان، نعتقد نحن الدعاة أن مهمتنا مع الناس تنتهي بمجرد أن يلتزموا ظاهرياً، فإذا رأينا فلاناً الذي كان بالأمس مدمناً للمخدرات، أو تاركاً للصلوات، أو واقعاً في الجرائم والموبقات، أو عاقاً لوالديه، أو مرتكباً للآثام، فيخرج من سجن ليدخل في سجن آخر، أو كل يوم يمسك في قضية، فمجرد أن نجد هذا الإنسان أظهر الاستقامة، وأعفى لحيته، وأزال ما كان في ثوبه من الطول المخالف للسنة، اعتقدنا أن مهمتنا انتهت عند هذا الحد، وأصبحنا نتحدث عنه في المجالس، ونطريه، فنثني عليه ونعتبره نموذجاً، ونتكلم عنه، وننسى أنا لم نعالج بعدُ أخطر منطقة في نفسه، ألا وهي القلب.
وقد يكون عند هذا الإنسان أمراض وعيوب ما عولجت، فقد يكون في الماضي عنده كذب، أو غرور، أو مصائب، وعلل، وأمراض في قلبه ما عالجناها، بل ربما ما عرفناها أصلاً، لماذا؟
لأن قضيتنا مظهرية انتهت عند حدود الالتزام الظاهري، فبمجرد أن التزم هذا الإنسان ظاهرياً، اعتقدنا أنه جاوز القنطرة وانتهى دورنا عند هذا الحد، وهذا خطأ كبير؛ لأنه سوف يجعل الإنسان عرضة للنكسات مرة بعد أخرى، وبقدر ما فرحنا به اليوم قد نحزن له بالغد، وكم من إنسان فرحنا به وطبَّلنا حوله ودندنا له؛ لأنه فلان الذي كان وكان، كان رياضياً أو فناناً أو كان مشهوراً أو أياً كان اهتدي وأصبحنا نقدمه للناس على أنه رمز لانتصار الإسلام، وعلى أنه رمز للهداية، والتقوى، وبعد حين نفاجأ بهذا الإنسان أنه قد انتكس وتراجع، وبقدر ما فرحنا لهدايته وتوبته، حزنّا لرجوعه وانتكاسه، وبقدر ما بيَّض وجوهنا بالأمس، سوّد وجهنا اليوم والعيب منا نحن الدعاة، والمصلحين؛ لأننا اعتبرنا أن مجرد هداية الإنسان في ظاهره، ونسينا أن نعالج أخطر شيء في نفسه وهو القلب، وظننا أن أمراض البدن هي أمراض الظاهر فقط، فلذلك انتكس هذا الإنسان.
أمر آخر: أن هذا الإنسان قد لا ينتكس ظاهراً؛ لأنه قد أصبح من الأخيار، فهو محسوب عليهم، ويذكر من ضمنهم، ويحس في نفسه أنه قد وقع في عداد الأخيار، ومن الصعب جداً أن يستل نفسه منهم، أو يخرج من بينهم لكن هنا تقع مصيبة أعظم وأهول وأطول وهي: أن مصائب هذا الإنسان بدأت تظهر، فقد يكون كذاباً كل يوم له قصة طويلة عريضة، ليس لها زمام ولا خطام، يخلق ما يقول:
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة |
لي حيلة فيمن ينمُّ وليس في الكذاب حيلة |
ولأن مظهره كمظهر الأخيار أصبح الناس يحسبونه على الأخيار، وهذا الإنسان يفتري ويكذب، ويكذب، ويكذب، وعندما يكتشف كذبه يقال: هؤلاء الطيبون، يكذبون.
وقد يكون لصاً، فيسرق فيكتشف أنه لص والعياذ بالله، فيقال: هذا من الطيبين، فينسب إلى الأخيار؛ لأن مظهره منهم، ولأننا أفلحنا في تغيير شكله الظاهر، ولم نعالج -لا أقول: لم نفلح- ولم نجاهد في تغيير قلبه وباطنه وحقيقته، فبقي بمظهره محسوباً علينا، وبحقيقته بعيداً منا، لكن تصرفاته بكل حال محسوبة على الأخيار، فإذا كذب، وسرق، وغش، وافترى، أو ظهر بأي مظهر غير لائق، قال الأعداء: هؤلاء الخيرون، وهؤلاء الطيبون يظهرون لنا شيئاً، ويبطنون لنا خلافه.
والحقيقة أن هذا الإنسان لو كانت مقاييسنا حقيقية، ما كان محسوباً على الأخيار، ولا كان منهم، لأن الخير ليس مظهراً فقط، بل هو مظهر ومخبر، وهذا الإنسان أخذ أسهل الأشياء، وترك أعمقه.
خذ -مثلاً- اللحية: اللحية من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، إعفاؤها واجب وحلقها حرام، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، فهي سنة، أي: أنها مأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها واجبة الإعفاء وحلقها لا يجوز، بل يأثم الإنسان على حلقها.. أجمع على هذا أهل العلم.
والإنسان الذي تعود على حلق لحيته، بكل تأكيد سيجد صعوبة أنه يعفيها أول مرة، لأن الناس الأقارب والأباعد، والزملاء في العمل، وزملاء المهنة، وأهل الحي، وأبناء العم، والجيران، كلهم تعودوا أن فلاناً حليق، فلو رأوه لأول مرة، وقد أعفى لحيته تعجبوا وصار الكثير منهم -وخاصة الأشرار- يعلقون عليه.
مثلاً يقولون: ما شاء الله يا فلان تدينت! ما شاء الله يا فلان تغيرت الأمور!! وبعضهم يقولون: كلمات معينة غير لائقة، يقصدون لدغ هذا الإنسان، وبعضهم يقول: بدري عليك! فهذا الإنسان قد يسمع مثل هذه التعليقات لأول مرة، لكن يوم.. ثلاثة.. أسبوع بعد ذلك أصبحت شخصيته معروفة أنه ملتحي، فسكتت هذه التعليقات، ولا أحد يعيبه بها، أو يعلق عليه، بل العكس لو أنه حلق لحيته، لوجد من يعيره بذلك، ولوجد الأخيار -أولاً- يعيبونه ويعاتبونه.
ومثلاً يقولون: يا فلان نعوذ بالله من الحور بعد الكور! أمس تلتزم بالسنة وتعمل بها، واليوم تحلقها! نسأل الله العفو والعافية! الناس يزيدون وأنت تنقص! اتق الله! فوجد من الأخيار والطيبين والدعاة وطلبة العلم الإنكار والدعوة والتغيير، ومنهم من يعيب عليه ويعتب حتى ولو لم يكن خيّراً، فيقول: يا فلان مالك متناقض ما عرفنا لك طريقة، كل يوم لك حال، وكل يوم لك شخصية، ووضع، فصار يعاب بحلق اللحية.
علاج المظاهر المخالفة للشرع
لكن أمور المخبر، قلبية ليست بهذه البساطة أبداً، فهي أمور صعبة، وقد يجاهد الإنسان نفسه زماناً طويلاً على علاج مرض من أمراض القلب كالرياء، ويفشل ويخفق في ذلك، حتى أن منهم من يقول: والله إني أعالج نفسي من آفات الرياء مئات المرات، حتى إذا ظننت أني قد نجوت منه وجدت أني قد بليت به من جديد، فعدت أجاهد نفسي بعد ذلك مرات ومرات، وقل مثل ذلك في أمراض القلوب، وهي كثيرة جداً.
إذاً: علاج أمراض القلب ليس كعلاج الأمراض الظاهرة، فالأمراض الظاهرة علاجها أيسر، وقد يتركها الإنسان بسهولة، وقد يتركها تصنعاً، وقد يتركها لسبب أو لآخر، لكن أمراض القلوب لا يتركها العبد إلا لله؛ لأن المطلع على القلب هو الله سبحانه، وكذلك إزالتها ليست بالأمر الهين، بل هي أمر صعب يحتاج إلى مجاهدة.
ولعلكم من خلال هذا أدركتم جانباً من أهمية علاج مثل هذه الأمور، سواء على مستوى الخاصة أو على مستوى العامة على مستوى طلبة العلم والدعاة والعباد والزهاد أو غيرهم.
أيها الإخوة: واقع الناس في كل زمان ومكان أنهم قد يهتمون ويكترثون بالمظاهر أكثر مما يهتمون بالحقائق والمخابر، فأنت حين تنظر إلى العامة، تجد أن عنايتهم بالمظهر أكثر من عنايتهم بالمخبر، سواء في ذلك تربيتهم لأبنائهم، فيُعْنَى الواحد منهم بإعداد ولده، يُعْنَى بثيابه، ومظهره، ويُعْنَى بصحته، وجماله، لكن هل يعنى بعقله، وخلقه، وبدينه، وفصاحته؟
هذا قليل! أما عنايتهم -مثلاً- بمناسباتهم: فقد يعنون بالمناسبات، فيظهرون هذه العناية على شكل حفلات، أو أكل يقدم، أو طعام، أو شراب، لكن العناية بهذه المناسبات في معرفة السبب في وجودها، كأن تكون عيداً من الأعياد الشرعية، وربط الناس بهذا المعنى هو قليل، بل أقل من القليل.
بل تجد عنايتهم حتى بأمور معاشهم، من طعامهم وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك، فقد يعنى الواحد منهم بمظهر معين، من لبس أو أكل أو شرب أو غير ذلك، لكن هل يعنى بكونه من حلال أو من حرام؟
قد يعنى بالمظهر الدنيوي من كون هذا الطعام حلواً أو لذيذاً، لكن هل يعنى بكونه نافعاً للبدن؟
هذا قليل! فضلاً عن أن يعنى بكون هذا الطعام مباحاً شرعاً، وليس فيه حرام، أو لم يأت من حرام ولا غير ذلك.
بل حينما تنظر إلى عباداتهم، تجد أن هذه العبادات أصابها ما أصاب الأمور الدنيوية، فأصبح الناس يهتمون في العبادة بالمظهر أكثر مما يهتمون بالمخبر، فقد يُقبِلَ الواحد منهم على صلاته، ويحافظ عليها، وهذا محمود بكل حال، ولكن هل يخشع في صلاته ويُقبل على ربه؟
وهل يبكي وتدمع عينه؟
هذا قليل!! قد يسمعون القارئ يقرأ القرآن، فتجد أن أكثر الناس يخرجون ويقولون: قد أجاد! بارك الله فيه! ما أحسن صوته! ما أحسن قراءته! ما أضبطه!
لكن أن تكون هذه القراءة وصلت إلى قلوبهم، أو تبللت عيونهم على الأقل ببعض الدموع، هذا قليل! وهكذا تجد حالهم في صيامهم، وحجهم، وعمرتهم، وفي سائر أعمالهم.
قد يذهب الإنسان للحج أو العمرة، فتجد أنه كلما جاء رمضان، ذهب يعتمر، هو وأولاده، وكلما جاء موسم ذهب يحج، لكن أصبحت الجلسات هناك جلسات أنس وحديث وزائر ومزور وضحك وسواليف وما أشبه ذلك، أكثر مما هي أسفار بقصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى.
فسيطر الظاهر على دنيا الناس، بل حتى على كثير من أمورهم الدينية.
أما إذا انتقلت إلى الخاصة، فإنك تجد الأمر نفسه موجوداً من طلبة العلم والدعاة والعلماء وغيرهم.
فتجد -مثلاً فيما يتعلق بطلب العلم- الإنسان قد يهتم بالكم: كثرة ما يقرأ، وكثرة ما يحفظ وما يحصل، وكثرة جلوسه إلى مجالس العلماء، وما أشبه ذلك، لكن أن ينظر في أثر هذا في قلبه، والتأثير في نفسه، ومدى عمله بما علم، وهل هذا من العلم النافع أو غير النافع؟
هذا قد لا يلتفت إليه كثيراً.
ومثله إذا انتقلت إلى موضوع العبادة، قد تجد الناس يكثرون من الكلام في العبادات، وقد يتنافس بعضهم مع بعضهم في كثرة العبادة، لماذا؟
لأنهم يسمعون الكلام عن أن فلاناً كان يصلي في الليلة ألف ركعة، وفلاناً كان يختم القرآن في ليلة، وفلاناً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وفلاناً كان كذا وكذا وهذه كلها أشياء بعضها وارد، وصحيح، وبعضها قد يكون فيه مبالغة، لكن هل يهتمون بالكيف مثلما يهتمون بالكم؟
فيقبل الإنسان منهم على صلاته، وصيامه، وقراءته، وعبادته، بحيث يكون هذا من العلم، من الذكر النافع المقرب إلى الله تعالى، وتكون صلاته وصومه، وحجه، وعبادته زلفى إلى ربه!! هذا فيه نظر.
كذلك إذا انتقلت إلى مجال الدعوة إلى الله تعالى، تجد الذين ينطلقون إلى الدعوة كثيرين، لكن ربما صبوا جل اهتمامهم على تكثير سواد الناس كما يقال، فكثر المقبلون على الدعوة، وكثر الأخيار، والملتزمون، لكن كم مِن هؤلاء مَن يكون في قلبه إشراق ونور؟
وكم من هؤلاء من دخلت حقيقة الإيمان ولامست قلبه أو تغيَّر باطنه؟
قليل! أما الأكثرون فقد تغيَّر ظاهرهم فقط، أصبح مظهرهم ملتزماً -كما يقال- أصبح مقصراً لثوبه، وفيه خير في مظهره، لكن القلب لم يتغير، هل عالجنا القلوب؟
هذا السؤال يطرح نفسه.
وفي كثير من الأحيان، نعتقد نحن الدعاة أن مهمتنا مع الناس تنتهي بمجرد أن يلتزموا ظاهرياً، فإذا رأينا فلاناً الذي كان بالأمس مدمناً للمخدرات، أو تاركاً للصلوات، أو واقعاً في الجرائم والموبقات، أو عاقاً لوالديه، أو مرتكباً للآثام، فيخرج من سجن ليدخل في سجن آخر، أو كل يوم يمسك في قضية، فمجرد أن نجد هذا الإنسان أظهر الاستقامة، وأعفى لحيته، وأزال ما كان في ثوبه من الطول المخالف للسنة، اعتقدنا أن مهمتنا انتهت عند هذا الحد، وأصبحنا نتحدث عنه في المجالس، ونطريه، فنثني عليه ونعتبره نموذجاً، ونتكلم عنه، وننسى أنا لم نعالج بعدُ أخطر منطقة في نفسه، ألا وهي القلب.
وقد يكون عند هذا الإنسان أمراض وعيوب ما عولجت، فقد يكون في الماضي عنده كذب، أو غرور، أو مصائب، وعلل، وأمراض في قلبه ما عالجناها، بل ربما ما عرفناها أصلاً، لماذا؟
لأن قضيتنا مظهرية انتهت عند حدود الالتزام الظاهري، فبمجرد أن التزم هذا الإنسان ظاهرياً، اعتقدنا أنه جاوز القنطرة وانتهى دورنا عند هذا الحد، وهذا خطأ كبير؛ لأنه سوف يجعل الإنسان عرضة للنكسات مرة بعد أخرى، وبقدر ما فرحنا به اليوم قد نحزن له بالغد، وكم من إنسان فرحنا به وطبَّلنا حوله ودندنا له؛ لأنه فلان الذي كان وكان، كان رياضياً أو فناناً أو كان مشهوراً أو أياً كان اهتدي وأصبحنا نقدمه للناس على أنه رمز لانتصار الإسلام، وعلى أنه رمز للهداية، والتقوى، وبعد حين نفاجأ بهذا الإنسان أنه قد انتكس وتراجع، وبقدر ما فرحنا لهدايته وتوبته، حزنّا لرجوعه وانتكاسه، وبقدر ما بيَّض وجوهنا بالأمس، سوّد وجهنا اليوم والعيب منا نحن الدعاة، والمصلحين؛ لأننا اعتبرنا أن مجرد هداية الإنسان في ظاهره، ونسينا أن نعالج أخطر شيء في نفسه وهو القلب، وظننا أن أمراض البدن هي أمراض الظاهر فقط، فلذلك انتكس هذا الإنسان.
أمر آخر: أن هذا الإنسان قد لا ينتكس ظاهراً؛ لأنه قد أصبح من الأخيار، فهو محسوب عليهم، ويذكر من ضمنهم، ويحس في نفسه أنه قد وقع في عداد الأخيار، ومن الصعب جداً أن يستل نفسه منهم، أو يخرج من بينهم لكن هنا تقع مصيبة أعظم وأهول وأطول وهي: أن مصائب هذا الإنسان بدأت تظهر، فقد يكون كذاباً كل يوم له قصة طويلة عريضة، ليس لها زمام ولا خطام، يخلق ما يقول:
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة |
لي حيلة فيمن ينمُّ وليس في الكذاب حيلة |
ولأن مظهره كمظهر الأخيار أصبح الناس يحسبونه على الأخيار، وهذا الإنسان يفتري ويكذب، ويكذب، ويكذب، وعندما يكتشف كذبه يقال: هؤلاء الطيبون، يكذبون.
وقد يكون لصاً، فيسرق فيكتشف أنه لص والعياذ بالله، فيقال: هذا من الطيبين، فينسب إلى الأخيار؛ لأن مظهره منهم، ولأننا أفلحنا في تغيير شكله الظاهر، ولم نعالج -لا أقول: لم نفلح- ولم نجاهد في تغيير قلبه وباطنه وحقيقته، فبقي بمظهره محسوباً علينا، وبحقيقته بعيداً منا، لكن تصرفاته بكل حال محسوبة على الأخيار، فإذا كذب، وسرق، وغش، وافترى، أو ظهر بأي مظهر غير لائق، قال الأعداء: هؤلاء الخيرون، وهؤلاء الطيبون يظهرون لنا شيئاً، ويبطنون لنا خلافه.
والحقيقة أن هذا الإنسان لو كانت مقاييسنا حقيقية، ما كان محسوباً على الأخيار، ولا كان منهم، لأن الخير ليس مظهراً فقط، بل هو مظهر ومخبر، وهذا الإنسان أخذ أسهل الأشياء، وترك أعمقه.
خذ -مثلاً- اللحية: اللحية من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، إعفاؤها واجب وحلقها حرام، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، فهي سنة، أي: أنها مأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها واجبة الإعفاء وحلقها لا يجوز، بل يأثم الإنسان على حلقها.. أجمع على هذا أهل العلم.
والإنسان الذي تعود على حلق لحيته، بكل تأكيد سيجد صعوبة أنه يعفيها أول مرة، لأن الناس الأقارب والأباعد، والزملاء في العمل، وزملاء المهنة، وأهل الحي، وأبناء العم، والجيران، كلهم تعودوا أن فلاناً حليق، فلو رأوه لأول مرة، وقد أعفى لحيته تعجبوا وصار الكثير منهم -وخاصة الأشرار- يعلقون عليه.
مثلاً يقولون: ما شاء الله يا فلان تدينت! ما شاء الله يا فلان تغيرت الأمور!! وبعضهم يقولون: كلمات معينة غير لائقة، يقصدون لدغ هذا الإنسان، وبعضهم يقول: بدري عليك! فهذا الإنسان قد يسمع مثل هذه التعليقات لأول مرة، لكن يوم.. ثلاثة.. أسبوع بعد ذلك أصبحت شخصيته معروفة أنه ملتحي، فسكتت هذه التعليقات، ولا أحد يعيبه بها، أو يعلق عليه، بل العكس لو أنه حلق لحيته، لوجد من يعيره بذلك، ولوجد الأخيار -أولاً- يعيبونه ويعاتبونه.
ومثلاً يقولون: يا فلان نعوذ بالله من الحور بعد الكور! أمس تلتزم بالسنة وتعمل بها، واليوم تحلقها! نسأل الله العفو والعافية! الناس يزيدون وأنت تنقص! اتق الله! فوجد من الأخيار والطيبين والدعاة وطلبة العلم الإنكار والدعوة والتغيير، ومنهم من يعيب عليه ويعتب حتى ولو لم يكن خيّراً، فيقول: يا فلان مالك متناقض ما عرفنا لك طريقة، كل يوم لك حال، وكل يوم لك شخصية، ووضع، فصار يعاب بحلق اللحية.
أقصد من هذا الكلام أن أقول: إنه بالنسبة للأشياء المتعلقة بمظهر الإنسان، إذا كان معتاداً على فعلها أو على تركها، وغيَّر فربما يجد صعوبة أول الأمر، ثم بعد ذلك يصبح الأمر طبيعياً، لتعوَّد الناس على أن فلاناً يعفي لحيته، وانتهت المشكلة خلال أسبوع.
لكن أمور المخبر، قلبية ليست بهذه البساطة أبداً، فهي أمور صعبة، وقد يجاهد الإنسان نفسه زماناً طويلاً على علاج مرض من أمراض القلب كالرياء، ويفشل ويخفق في ذلك، حتى أن منهم من يقول: والله إني أعالج نفسي من آفات الرياء مئات المرات، حتى إذا ظننت أني قد نجوت منه وجدت أني قد بليت به من جديد، فعدت أجاهد نفسي بعد ذلك مرات ومرات، وقل مثل ذلك في أمراض القلوب، وهي كثيرة جداً.
إذاً: علاج أمراض القلب ليس كعلاج الأمراض الظاهرة، فالأمراض الظاهرة علاجها أيسر، وقد يتركها الإنسان بسهولة، وقد يتركها تصنعاً، وقد يتركها لسبب أو لآخر، لكن أمراض القلوب لا يتركها العبد إلا لله؛ لأن المطلع على القلب هو الله سبحانه، وكذلك إزالتها ليست بالأمر الهين، بل هي أمر صعب يحتاج إلى مجاهدة.
ولعلكم من خلال هذا أدركتم جانباً من أهمية علاج مثل هذه الأمور، سواء على مستوى الخاصة أو على مستوى العامة على مستوى طلبة العلم والدعاة والعباد والزهاد أو غيرهم.
لكي تدركوا خطورة الموضوع وأهميته؛ أطرح عليكم سؤالاً: عندما جاء الإسلام، وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، ما هو الذي حدث بالضبط؟
وما هو أعظم تأثير أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياة الأفراد والأمم والشعوب والجماعات؟
خذ مثالاً ملابس العرب في الجاهلية: كيف كانوا يلبسون؟
أما كان العرب في الجاهلية يلبسون الإزار والرداء؟
بلى! كانوا يلبسون الإزار والرداء.
أما كان العرب يلبسون العمامة أحياناً؟
بلى! كان من ملابس العرب في الجاهلية، عمامة بذؤابة أيضاً، وكانوا يلبسون النعال، والخفاف، فهل غير الإسلام هذه الأشياء وقال حرام أن تلبس الإزار والرداء؟
وحرام أن تلبس العمامة؟
أو نلبس الخف أو النعل؟
لا! كل ما فعله الإسلام أنه وضع ضوابط وأسساً بالنسبة للباس، أن يكون مباحاً في نفسه، ألاَّ يكون حريراً للرجال، أن يكون ساتراً، ألاَّ يكون مسبلاً تحت الكعبين، ألا يكون ضيقاً، ألا يكون لباس شهرة.
إذاً وَضَعَ الإسلام صفات وضوابط للباس، وأما ما كان معتاداً عندهم في الجاهلية، من ألوان الملابس، فإن الإسلام لم يتدخل في تغييرها، إنما دخل في التعديل بما يتلاءم مع الضوابط والشروط الإسلامية الشرعية.
سؤال ثانٍ: جاء الإسلام، وأسماء العرب: طلحة، وسفيان، وأرقط، وعبد الله، ومحمد، وغَير ذلك من الأسماء، فهل الإسلام -عندما جاء- غيَّر هذه الأسماء كلها، وألزم كل مسلم جديد أن يغير اسمه، ويستحدث لنفسه اسماً جديداً غير الاسم السابق؟
الجواب: لا! ونحن نعرف أن كثيراً من أسماء الجاهلية ظلت في الإسلام، صحيح هناك أناس غيّر الرسول عليه الصلاة والسلام أسماءهم.. لأنها أسماء لا تنطبق مع الشروط والمواصفات الشرعية، مثل: ألاَّ يكون هناك تعبيد لغير الله، فإذا كان اسمه عبد المطلب أو عبد العزى غير النبي عليه والصلاة والسلام اسمه، وسماه عبد الله مثلاً.
وكذلك إذا كان اسمه فيه تشاؤم، قد يغير اسمه مثلما طلب من حزن تغيير اسمه إلى سهل، ومثله إذا كان الاسم مذموماً شرعاً غيره النبي عليه الصلاة والسلام: فالذين كان اسم الواحد منهم العاصي، مثل العاص بن وائل وغيره، غير النبي صلى الله وعليه وسلم أسماء من أسلم منهم، ومنهم مطيع والد عبد الله بن مطيع، كان اسمه العاصي فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً، وآخر سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومثله أبو جندل، كان اسمه العاص كما ذكر أهل السير، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم لأنها أسماء مكروهة، لأن المعصية ممنوعة في الشريعة ومذمومة، فيغيره.
إذاً: غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء التي لا تنطبق مع المواصفات والشروط الإسلامية، لكن هل كان كل من أسلم يعطيه اسماً جديداً، أو يقول له: غير اسمك، ما كان هذا شرطاً، متى كان الاسم لائقاً بقي اسمه كما كان من قبل.
ونعرف أنه كان في العرب مجموعة ممن تسموا محمداً حتى قبل الإسلام، وخاصة من كانوا على علم بدين أهل الكتاب، وكانوا يتوقعون أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت كان ينتظر أن تكون النبوة له، ولذلك سمى نفسه محمداً، وجماعة سموا أولادهم محمداً رجاء أن يكون أحدهم هو النبي عليه الصلاة والسلام.
هل التفت الإسلام عندما جاء إلى أشكال العرب أو المدعوين؛ إلى كون الواحد منهم قصيراً أو طويلاً أو أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً؟
كلا! بل كانت هذه الأشياء غير ذات اعتبار.
لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وبدأ بدعوته، هل كانت بداية الدعوة هي فقط دعوة إلى تغيير عادات اجتماعية؟
طريقتهم في العلاقة فيما بينهم، وطريقة استقبال الضيوف، وطريقة طبخ الطعام، وطريقة اللقاء، وطريقة الوداع، وطريقة السفر... إلى آخر العوائد مما يسمى بعوائد العرب، هل كانت بداية دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لما صدع بين أظهرهم: يا معشر العرب! أنتم على عادات قبيحة، وعلى تصرفات غير لائقة، وأنا بعثت لأغير هذه العادات والتقاليد، لا!
البدء بالعقيدة
فبدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى علاج القلوب من أمراضها وأوبئتها؛ ولذلك أستطيع أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث -كما يقولون بلغة العصر الحاضر إن صح التعبير- ثورة كبيرة وشاملة في معتقدات العرب، وحياتهم وتصوراتهم العقلية والقلبية، وترتب على هذا أن انسلخ العرب والمسلمون عموماً -الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم- انسلخوا في قلوبهم بالكلية من عبادة غير الله تعالى، ووجهوا قلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم وحياتهم إلى الله تعالى، فكان أحدهم يقول: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] فما عاد الواحد منهم ينظر إلى الصنم الذي كان يعبده بالأمس نظرته إليه التي كان ينظرها إليه بالأمس أو بالبارحة، كلا! بل كان يقول:
هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور |
فلا العزى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور |
ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور |
فانقلبوا من مشركين وثنيين كانت الأصنام تتحكم فيهم كل شيء، حتى إذا أراد الواحد منهم -مثلاً- أن يتزوج، ذهب يستشير الصنم، وإذا أراد أن يسافر ذهب يستشير الصنم ويستقسم بالأزلام، وإذا أراد أن يبرم أمراً، أو يعقد صلحاً، أو يثير حرباً، فإنه يذهب إلى هذا الصنم، ويستشيره عن طريق الاستقسام بالأزلام، لكن لما جاء الإسلام انسلخت قلوبهم من هذه العبودية لهذه للأصنام، وتوجهوا بأفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم إلى الله تعالى، فتحولوا من مشركين وثنيين إلى عباد موحدين صادقين في عبادتهم وأعمالهم وأقوالهم، بل صار الواحد منهم يوجس خيفة حتى من أي أمر كان عليه في الجاهلية، حتى الأمور العادية في الجاهلية صاروا يتوجسون منها خيفة، فيحتاج إلى أن ينـزل قرآناً يقول: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] كما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
لأن هذه كانت من عادات الجاهلية، وهم عندما أسلموا انسلخوا عن كل ما يمت إلى الجاهلية بنسب أو صلة أو سبب، فيحتاجون إلى أن يقول: لا مانع في هذا وإن كنتم عليه في الجاهلية.
إذاً: القضية التي حصلت.. والتغيير الذي جرى.. والثورة التي أحدثها الإسلام في معتقدهم، هو أن غيَّر معتقدهم بشكل كلي ونهائي، وتبعاً لتغير المعتقد تغيَّرت حياتهم كلها، فتغيّرت قناعاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، لكن هذا كله كان تبعاً للتغيير الداخلي الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبهم.
عظمة التغيير وبعد النقلة
إذا كان تغيير قناعة الإنسان بأمر زهيد يتطلب وقتاً طويلاً، فما بالك بتغيير عقيدة الإنسان في كل شيء؟!
وليست القضية دنيوية، تترتب عليها خسارة أو ربح؛ لأن الدين يقول لك: إن الذي لا يدين بهذا الدين كافر، والكافر مخلد في النار فالقضية خطيرة.
إذاً: تصور إمكانية تغيير عقلية الإنسان وعقيدته في كل شيء؛ بحيث إن هذا الإنسان سيدخل في الدين الجديد مثلاً، من الجاهلية إلى الإسلام، وبناءً عليه سوف يحكم بأن كل ماضيه فاسد، وكل جهوده السابقة ضائعة سدى، وأن آباءه وأجداده كانوا كفاراً، وأنهم من أهل النار.
هذه عقيدة المسلم لما دخل في الدين؛ ولهذا كان من أكثر الأشياء التي أكثر المشركون من الحديث حولها، أنهم يقولون: سفّه أحلامنا، وعاب آلهتنا، وضلل آباءنا وأجدادنا، هذه القضية صعبة أنهم يعتقدون هذا الأمر في آبائهم وأجدادهم، بل وفي حياتهم السابقة، وأن يضلوا ويفسقوا ويكفروا من كانوا قبلهم ممن ينظرون إليهم نظرة إعجاب وإكبار وإعظام.
وبذلك تعرف خطورة انتقال الإنسان من دين إلى دين خطيرة جداً، فما بالك إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير واحداً فقط، ينقله من الجاهلية إلى الإسلام؟
لا! بل غيّر أمة بأكملها، وغيّر مجتمعاً، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنـزل الله عليه قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] وقوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] أي لما جاءه الأجل، وكان الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ومكة خضعت للإسلام، وجاءت الوفود تبايع النبي صلى الله عليه وسلم من كل أنحاء الجزيرة العربية؛ ولذلك العام التاسع يسمى عام الوفود في السيرة، لأن الناس بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: أحدث الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً جوهرياً وجذرياً وعميقاً وداخلياً، وتغييراً في الباطن والظاهر أيضاً.
من السهل تغيير الظاهر فقط، مثلاً: لو أن دولة أرادت تغيير التاريخ من الهجري إلى الميلادي، وهي دولة لا تراعي حرمات الله مثلاً، ولا تعتبر أن هذا العمل حرام، فماذا تفعل؟
تصدر قراراً، ونحن نعرف بأن هذا القرار غَيّر التاريخ في بلاد الإسلام كلها، إلا هذا البلد فلا يزال، وهناك محاولات كثيرة وجادة من أطراف عديدة لتغيير التاريخ من هجري إلى ميلادي، وهذا الأمر معروف، والمحاولات أصبحت مكشوفة من قبل عدد من الأطراف والشركات وغيرها.
المقصود كيف غُيّر التاريخ الهجري؟
بقرار.. اعتباراً من تاريخ كذا وكذا يعمل بالتاريخ الميلادي، أمر خطير، لكنه غُيّر بقرار؛ لأنه أمر ظاهري عمل الناس به.
قضية أخرى، تغيير الزي مثلاً، كمال أتاتورك لما أراد أن يغير أثر الإسلام في تركيا، مثلاً عندما أراد أن يغير اللبس الإسلامي بلبس القبعة الأوروبية، أصدر قراراً بهذا، واضطر الناس إليه ولبسوه، كذلك هو أفلح في تغيير عقول الناس أيضاً، ولكن المقصود أن تغيير المظهر أسهل، وهكذا لو أن حاكماً أو دولة أو مصلحاً أراد أن يغير مظهر الناس في ملبسهم، وفي عاداتهم وتقاليدهم، فإنه يغيرَّه بقرار قد يعارض أول الأمر، ولكن بعد ذلك يستسلم الناس له، وتنتهي المشكلة.
لكن القضية التي أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام أخطر وأكبر من ذلك، ما كان تغيير النبي عليه الصلاة والسلام عبارة عن تحويل قيادة إلى قيادة، فبدلاً من انقيادهم لـأبي جهل وأبي لهب صاروا يتبعون أبا بكر وعمر، كلا!
وما غير النبي صلى الله عليه وسلم أموراً مظهرية فقط، بل غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عقولهم وقلوبهم بحيث أصبحت تدين لله تعالى، ولا تُعظّم إلا الله، ولا تتعبد بالحب والخوف والرجاء والتعظيم والذل إلا لله سبحانه وتعالى، فلما تغيرت قلوبهم تغيرت كل أحوالهم، فتغير سلوك الشخص، ومظهره، ولباسه، وشكله، وتغيرت المرأة، والرجل، والمجتمع، وتغيرت العادات، والتقاليد، وأمور السياسية، والاقتصاد، وتغيرت كل الأمور، لكن هذا التغيير أهميته كانت في أنه تغيير قلبي قبل أن يكون تغييراً مظهرياً.
لم يكن التغيير إذاً الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الهين اليسير، بل لعله -كما عبر عنه أحد الباحثين- هو أكبر وأعظم تغيير في التاريخ كله، وهذا أقل ما يقال عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يفعلوا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله من أكثر الأنبياء أتباعاً حتى من موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ونحن نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الذي رواه ابن عباس وهو في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم، فرأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، ورفع له سواد عظيم، فظنه أنه أمته فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد قد سد الأفق! فقيل: هذه أمتك!}
إذاً: التغيير الذي فعله موسى لا يقاس بالتغيير الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من حيث العدد، ومن حيث كثرة الأتباع، وكذلك من حيث نوعية التغيير وقوته، فنحن نجد -مثلاً- أن أتباع موسى عليه الصلاة والسلام آذوه، ولهذا قال الله للمؤمنين من هذه الأمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا [الأحزاب:69] صبر عليهم صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، كل مرة وهم يقترحون عليه شيئاً: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] ألا تستحيون من أنفسكم؟!
بعد فترة: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا [البقرة:61] وبعد فترة أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129] كأنهم يقولون: ما عملت لنا شيئاً من قبل ومن بعد، المسألة هي هي، آخر ما فعلوا: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ * يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:21-22] والآية التي بعدها: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].
انظر إلى الأمر العجيب! يقول: ادخلوا الأرض المقدسة، فيقولون: لا! حتى يخرج أهل الأرض، ويقولون: تفضلوا وادخلوا، وهذا لا يمكن أن يكون.
ولهذا صبر عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، ولهذا في حادثة الإسراء والمعراج، لما فرض الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة، مرّ على موسى، فقال قال له موسى عليه السلام وهو قد جرب أمة من شر الأمم، كل يوم وهم يقترحون، إني قد جربت الأمم قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتك لا تطيق، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، ويرجع حتى صارت خمس صلوات، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فاذهب إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: قد استحييت من ربي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هي خمس في العدد وخمسون في الأجر والثواب والمكانة وهذا فضل الله تعالى.
المقصود أن موسى عليه الصلاة والسلام لاقى من بني إسرائيل ما لاقى، حتى آذوه في شخصيته عليه الصلاة والسلام، فمرة كما في الصحيح قالوا: إن موسى آدر -أي: عظيم الخصية.. أعضاؤه التناسلية ليست متناسقة- عيَّروه بهذا وهم كاذبون، لكنهم قوم بهت، حتى أن الله تعالى بَّرأه مما قالوا، ففي يوم من الأيام كان يغتسل عرياناً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً، فخلع ثيابه، ونـزل يغتسل، ووضع ثيابه على حجر.
فالله تعالى أمر هذا الحجر أن يهرب بثيابه، فذهب الحجر بثيابه، فرآه موسى وقد طارت ثيابه، فخرج من البركة وهو يركض وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يصرخ ويصيح بالحجر: تعال أعطني ثوبي! حتى وقف الحجر ونظر الناس من بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وإذا هو أكمل وأجمل خلق الله! ليس فيه عيب ولا آفة، فبرأه الله مما قالوا، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، فبدأ موسى يضرب الحجر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لندب في الحجر من أثر ضرب موسى عليه الصلاة والسلام له}.
المقصود أن حجم التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة لا يقاس به تغيير قط، حتى من الأنبياء مع أنهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام قاموا بالمهمة الجلية العظيمة خير قيام، ولكن كما قال الله تعالى:تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة:253] إلى آخر الآيات.
شمولية التغيير
هذا التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم هو عبارة عن دين كامل مهيمن نظّّم كل شيء، الفرد والمجتمع، المظهر والمخبر، لهذا نقول: حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن كل مسألة تمر بالإنسان سواء كانت قضية شخصية أو زوجية أو عائلية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بالرجل أو بالمرأة، بالفرد أو بالمجتمع، -وكل من ألفاظ العموم- كل قضية فلله وللرسول صلى الله عليه وسلم فيها حكم، إما إيجاب أو تحريم، أو إكراه، أو استحباب، أو إباحة، فلا يوجد شيء في الدنيا تقول فيه: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فهذا غلط، وهذا عمل الجاهلية الأولى.
أما الإسلام فليس هناك شيء لقيصر، كل شيء لله، فقيصر وما ملكت يداه لله، ولهذا كان من تلبية المسلمين: لبيك لا شريك لك، وأهل الجاهلية كانوا يقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، أعطوه بعض الحقوق.
أما في الإسلام، فليس لله شريك.. والعلمانية تقول: الدنيا لقيصر، والمسجد لله، وهذا كفر بالله وردة عن الإسلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] والذي يقول: هذا حلال وهذا حرام، عليه إما أن ينسب ذلك إلى الله والرسول، وإلا فسوف يكون مفترياً على الله: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116].
إذاً: لا يوجد شيء في الدنيا إلا ولربنا جل وعلا ولرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه حكم يجب على المسلم التعرف عليه واتباعه والتزامه.
وأنا أقول هذا؛ حتى تعرف أنه ليس في الإسلام تهوين في شيء، فلا تهون في المظهر، وتقول: لا يهم! من الذي قال لك: لا يهم؟!
لا يتصور أبداً إنسان عنده صلاح في باطنه إلا وعنده صلاح في ظاهره، ولا يتصور صلاح الأفراد إلا بصلاح المجتمع، ولا يتصور صلاح الرعية إلا ويصلح الحاكم، فكل هذه الأشياء مترابطة، والإسلام جاء بإصلاح الجميع.
وكما أن الإسلام ضبط لك المظهر، وأمر المسلم بالعناية بشكله الظاهر، فحرم عليه حلق لحيته مثلاً، وكذلك جاء بتعليم معين في قص الشارب أو تقصيره والأخذ منه, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لم يأخذ من شاربه فليس منا}؛ ولهذا إذا أراد بعض الناس أن يمدحوا بعضهم، قال: والله الرجال طوال الشوارب!
الإسلام لا يمدح بطول الشوارب، ولو كان طول الشوارب مما يمدح به لكان غير الإنسان أولى بهذا، فمن الحيوان المذموم من يكون طويل الشوارب، إنما يأخذ المسلم من شاربه ويقصه.
كذلك جاء الإسلام إلى الثياب، ووضع إطاراً عاماً لها، فوضع صفات وشروطاً لا بد من التزامها.
وكذلك جاء الإسلام فيما يتعلق بالشعر للرجل والمرأة، بتعليمات لا ندخل في تفاصيلها، سواء في حلق الشعر أو تركه.
كذلك جاء الإسلام بسنن الفطرة، كالسواك والاستحداد الذي هو إزالة الشعر الداخل كالإبطين والعانة وغير ذلك من الأشياء التي ينظم فيها مظهر الإنسان، هذا جانب.
وبالمقابل جاء بالأشياء الأخرى التي فيها تغيير لعقلية الإنسان، وتغيير لقلبه، فعلَّم الإنسان كيف يعرف ربه، بصفاته وأسمائه وأفعاله جل وعلا..
وبين من هم الأنبياء والمرسلون، وما هي حقوقهم، وماذا يجب على المسلم بالنسبة لهم من الإيمان بهم، ومحبتهم وأتباعهم، وطاعتهم.. إلى آخر ذلك.
جاء بالنسبة للدنيا والآخرة، فبيَّن الدار الآخرة: البرزخ والموت وما بعده، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، والجزاء والحساب، وغير ذلك، وجاء بالإيمان بالقضاء والقدر.
وأتى بقضايا كثيرة تُنظِّم فهم الإنسان -إن صح التعبير- أو تصحح فهمه وتصوراته عن كل شيء، كما جاء بالنظام الاجتماعي، من تنظيم أمور الزواج والعلاقات وغير ذلك، وجاء بالنظام السياسي الذي يحكم حياة الناس دقيقها وجليلها، ويبين حق الراعي وحق الرعية والعلاقة بينهما، ومراقبة الحاكم ونقده وتصحيحه، وعدم المتابعة على الخطأ، وتعزيز الصواب إلى غير ذلك، فجاء بنظام سياسي كامل، كما أنه نظم علاقة الناس بعضهم ببعض، أفراداً، وجماعات، ودولاً، ونظم علاقاتهم بالكفار سواء كانوا محاربين أو ذميين أو مستأمنين إلى غير ذلك.
وكل ذلك مرتبط بالعقيدة الداخلية الموجودة في ضمير الإنسان والتي ينبثق منها التعليم، وهي الرقيب -أيضاً- على أعمال الإنسان، بمعنى لو كانت القضية مجرد قرار صدر بتغيير شيء، فما دام أن عند الإنسان عقيدة فيمكن أن يخالفه في الخفاء وفي السر، وكم من القرارات التي تصدر في طول العالم وعرضه، تصدر علانية وتخالف سراً! وربما يكون من أول من يخالفها هو من أصدرها!
لماذا؟
لأن هذا القرار ما صدر عن عقيدة تكون هي الرقيب على أعمال الإنسان وتصرفاته، حتى وهو منفرد، فإنه يراقب الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، بل هي أشياء مظهرية شكلية غير مرتبطة بعقيدة؛ ولهذا أخطر شيء على حياة الناس هو أمر العقيدة.
خذ مثالاً صغيراً، قضية المخدرات، الآن هناك حرب عالمية على المخدرات، ونحن نشارك ضمن هذه الحرب في أجهزة الإعلام، ونضع أوراقاً في الشوارع، ونضع خرقاً، ونضع دعايات في كل مكان، المخدرات سم قاتل، عدو فاحذروه، وعبارات، وتعاون بين الجهات والوزارات وغير ذلك.
نحن هنا نعالج في الغالب الأمر الظاهر، لأنني أنا مسئول في جهة معينة -مثلاً- أو في إدارة، أو مدرسة، وجاء أسبوع مكافحة المخدرات، يهمني أن يوجد اسمي أو اسم المدرسة أو اسم المؤسسة أو اسم الجهة، بأنها شاركت في شيء من النشاط، وأن أقدم تقريراً في هذا الأمر!
لماذا؟
لأن القضية قضية تعامل بالشكليات، لكن إذا تحول الأمر إلى علاج حقيقي بالقلب، فمعناه أننا نعالج الناس بالتربية الوجدانية، بالإيمان، وبالخوف من الله، فأصبح المؤمن حتى لو كانت المخدرات عنده -مثلاً- أو الخمر في متناول يده، حتى ولو كان في بلاد الكفر والإباحة، فإنه يكف عنها، ليس عجزاً ولا خوفاً من السلطة -أيضاً- إنما خوفاً من الله تعالى، قبل أن يكون خوفاً من المرض أو من الآثار أو من الأضرار؛ فهو يراقب الله الذي يعلم السر وأخفى، والمطلع عليه في جميع الأحوال، وفي جميع التصرفات، فيمتنع ويكف خوفاً من الله تعالى، حتى ولو كانت هذه الأمور تحبها نفسه أحياناً، مثل المشروبات، أو النساء أو غير ذلك، لو كانت في متناول يده كف يده عنها، وتذَّكر قول الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:41].
كان ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر العرب! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، وتدخلون بها الجنة، فلما قال هذا حاربوه ونابذوه، وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].
فبدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى علاج القلوب من أمراضها وأوبئتها؛ ولذلك أستطيع أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث -كما يقولون بلغة العصر الحاضر إن صح التعبير- ثورة كبيرة وشاملة في معتقدات العرب، وحياتهم وتصوراتهم العقلية والقلبية، وترتب على هذا أن انسلخ العرب والمسلمون عموماً -الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم- انسلخوا في قلوبهم بالكلية من عبادة غير الله تعالى، ووجهوا قلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم وحياتهم إلى الله تعالى، فكان أحدهم يقول: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] فما عاد الواحد منهم ينظر إلى الصنم الذي كان يعبده بالأمس نظرته إليه التي كان ينظرها إليه بالأمس أو بالبارحة، كلا! بل كان يقول:
هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور |
فلا العزى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور |
ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور |
فانقلبوا من مشركين وثنيين كانت الأصنام تتحكم فيهم كل شيء، حتى إذا أراد الواحد منهم -مثلاً- أن يتزوج، ذهب يستشير الصنم، وإذا أراد أن يسافر ذهب يستشير الصنم ويستقسم بالأزلام، وإذا أراد أن يبرم أمراً، أو يعقد صلحاً، أو يثير حرباً، فإنه يذهب إلى هذا الصنم، ويستشيره عن طريق الاستقسام بالأزلام، لكن لما جاء الإسلام انسلخت قلوبهم من هذه العبودية لهذه للأصنام، وتوجهوا بأفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم إلى الله تعالى، فتحولوا من مشركين وثنيين إلى عباد موحدين صادقين في عبادتهم وأعمالهم وأقوالهم، بل صار الواحد منهم يوجس خيفة حتى من أي أمر كان عليه في الجاهلية، حتى الأمور العادية في الجاهلية صاروا يتوجسون منها خيفة، فيحتاج إلى أن ينـزل قرآناً يقول: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [البقرة:235] كما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
لأن هذه كانت من عادات الجاهلية، وهم عندما أسلموا انسلخوا عن كل ما يمت إلى الجاهلية بنسب أو صلة أو سبب، فيحتاجون إلى أن يقول: لا مانع في هذا وإن كنتم عليه في الجاهلية.
إذاً: القضية التي حصلت.. والتغيير الذي جرى.. والثورة التي أحدثها الإسلام في معتقدهم، هو أن غيَّر معتقدهم بشكل كلي ونهائي، وتبعاً لتغير المعتقد تغيَّرت حياتهم كلها، فتغيّرت قناعاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، لكن هذا كله كان تبعاً للتغيير الداخلي الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبهم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |