خطب ومحاضرات
لقاء الباب المفتوح [138]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد، خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو اللقاء الثامن والثلاثون بعد المائة من اللقاءات التي يعبر عنها بـ (لقاء الباب المفتوح) التي تتم كل خميس من كل أسبوع، وهذا الخميس هو الثاني عشر من شهر جمادى الثانية عام (1417هـ).
تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن...)
لما كانت قريش تكذب النبي عليه الصلاة والسلام وتنكر البعث وتقول: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون:82] حـذَّرهم الله عز وجل أن يقع بـهم ما وقع لمن سبق من الأمم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [مريم:74] أي: كثيراً من القرون أهلكناهم، و(القرن) هنا بمعنى: القرون، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء:17] .
فأممٌ كثيرة أهلكها الله عز وجل لما كذبت الرسل.
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ : أي بحثوا في البلاد، يريدون المفر والملجأ من عذاب الله، ولكن لم يجدوا مفراً، ولـهذا قال: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ : أي: لا مـحيص لهم، وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:51-52] .
فما أصاب القوم الذين كذبوا الرسل أولاً يصيب هؤلاء ثانياً؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10].
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
إِنَّ فِي ذَلِكَ : أي: ما سبق من الآيات العظيمة، ومنها ما قص الله تعالى أو ما أشار الله به في هذه الآيات الكريمة من إهلاك الأمم السابقة فيه ذكرى لنوعين من الناس:
الأول: (من كان له قلب)، أي: من كان له لب وعقل يهتدي به بالتدبر.
(أو ألقى السمع وهو شهيد) أي: استمع إلى غيره ممن يعظه وهو حاضر القلب.
فبيَّن الله تعالى أن الذكرى تكون لصنفين من الناس:
الأول: من له عقل ووعي يتدبر ويتأمل في نفسه ويعرف.
والثاني: من يستمع إلى غيره؛ لكن بشرط أن يكون شهيداً، أي: حاضر القلب.
وأما من كان لا يستمع للموعظة، أو يستمع بغير قلب حاضر، أو ليس له عقل يتدبر به، فإنه لا ينتفع بهذه الذكرى لأنه غافل، ميت القلب.
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب)
هذه ثلاث مخلوقات عظيمة بيَّن الله عز وجل أنه خلقها في ستة أيام، وأكد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات:
القَسَم.
واللام.
وقد.
لأن تقدير الآية: والله لقد خلقنا السماوات والأرض.
فالسماوات معلومة لنا جميعاً وهي: سبع سماوات طباقاً.
والأرض هي هذه الأرض التي نحن عليها، وهي سبع أرضين كما جاءت به السنة صريحاً، وكما هو ظاهر في القـرآن في قوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] .
وَمَا بَيْنَهُمَا : أي: بين السماء والأرض، والذي بين السماء والأرض مخلوقات عظيمة، يدل على عظمها أن الله جعلها عديلة لخلق السماوات وخلق الأرض، فهي مخلوقات عظيمة.
والآن كلما تقدم العلم في الفلك ظهر من آيات الله عز وجل فيما بين السماء والأرض ما لم يكن معلوماً لكثير من الناس من قبل.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ : أولها: الأحد، وآخرها: الجمعة، ولو شاء عز وجل لخلقها بلحظة؛ لأن أمره إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ؛ لكنه جل وعلا يخلق الأشياء بأسباب ومقدمات تتكامل شيئاً فشيئاً حتى تتم، كما أنه لو شاء لخلق الجنين في بطن أمه بلحظة، لكنه يخلقه أطواراً حتى يتكامل، كذلك السماوات والأرض وما بينهما لو شاء لخلقها بلحظة لكنه عز وجل يخلق الأشياء تتكامل شيئاً فشيئاً.
وقال بعض العلماء: وفيه فائدة أخرى وهي: أن يعلم عباده التأني في الأمور، وألا يأخذوا الأمور بسرعة؛ لأن المهم هو الإتقان وليس الإعجال والإسراع.
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ، أي: ما مسنا من تعب وإعياء، وهذا كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33] ، فهو عز وجل خلق هذه السماوات العظيمة والأرضين وما بينها بدون تعب ولا إعياء، وإنما انتفى عنه التعب جل وعلا لكمال قوته وقدرته، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44].
تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)
أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصبر على ما يقولون، وقد قال عز وجل في آية أخرى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35] .
فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49] .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ : وهم يقولون: إن محمداً كذاب، وساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، وإنه لا بعث، وإن كانوا يقرون بالرب عز وجل وأنه خالق السماوات والأرض؛ لكن لا يقرون بأمور الغيب المستقبلة، فأمره الله أن يصبر على ما يقولون، والصبر على ما يقولون يتضمن شيئين:
الأول: عدم التضجر مما يقول هؤلاء، وأن يتحمل ما يقوله أعداؤه فيه وفيما جاء به.
والثاني: أن يمضي في الدعوة إلى الله، وألا يتقاعس.
تفسير قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)
سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين:
قبل طلوع الشمس.
وقبل الغروب.
قال أكثر المفسرين: المراد بذلك صلاة الفجر، وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليـه وسلم: (من صلى البَرْدَين دخل الجنة) والبردان هما: الفجر، وفيه بردوة الليل، والعصر، وفيه برودة النهار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) فالصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم.
وأفضلهما العصر؛ لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات، فقال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] وهي: العصر كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو: الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ : المراد صلاة الفجر.
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39] : المراد صلاة العصر.
تفسير قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وأدبار السجود)
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق:40] أي: وسبح الله أدبار السجود، أي: أدبار الصلوات، وهل المراد بالتسبيح أدبار الصلوات هنا هل المراد النوافل التي تصلَّى بعد الصلوات كراتبة الظهر بعدها، وراتبة المغرب بعدها، وراتبة العشاء بعدها، أم المراد التسبيح الخاص، الذي هو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيه قولان للمفسرين؛ ولكن لو قيل بهذا وهذا لكان له وجه.
تفسير قوله تعالى: (واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب...)
أي: انتظر لهذا النداء الذي يكون عند النفخ في الصور، وحشر الناس.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ : أي: اليوم، يوم الخروج من القبور.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ .
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [ق:43] :-
إنا -يقول الله عن نفسه- (إنا نحن) تعظيماً لها.
نُحْيِي وَنُمِيتُ : أي: نحيي بعد الموت ونميت بعد الحياة، فهو سبحانه قادر على الإحياء بعد الموت وعلى الموت بعد الإحياء.
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي: المرجع.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً [ق:44] أي: مصيرهم إلينا في ذلك الوقت.
تَشَقَّقُ الأَرْضُ أي: تتفتح.
عَنْهُمْ أي: عن هؤلاء في قبورهم، تتشقق كما تتشقق الأرض عند طلوع النبات.
سِرَاعاً أي: يأتون سراعاً إلى المحشر.
ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق:44] :-
أي: سهل علينا؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [الصافات:19] .
نعم، يقول في كتابه: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14] .
ويقول: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53] .
وهذا يدل على يُسْر ذلك على الله عز وجل.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ [ق:45] :-
وهذا وعيد لهؤلاء الذين يقولون في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقولون، أخبر الله هنا أنه لا يخفى عليه حالهم وأنه يعلم ما يقولون.
ثم قال: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق:45] :-
أي: لستَ عليهم بذي جبروت، فتجبرهم على أن يسلموا ويؤمنوا بك، ولهذا قال في آية أخرى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] .
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] :-
أي: عِظْ بالقرآن ا لكريم مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ أي: من يخاف وعيدي بالعذاب؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكر في القرآن، القرآن يُذَكَّر به جميع الناس، لكن لا ينتفع به إلا من يخاف الله عز وجل.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتذكرين لكتابه المتعظين بآياته.
نبتدئ هذا اللقاء بما كنا نبتدئ به اللقاءات السابقة من الكلام في تفسير آيات من كتاب الله، وكنا قد بدأنا بسورة ق حتى انتهينا إلى قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق:36] :-
لما كانت قريش تكذب النبي عليه الصلاة والسلام وتنكر البعث وتقول: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون:82] حـذَّرهم الله عز وجل أن يقع بـهم ما وقع لمن سبق من الأمم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [مريم:74] أي: كثيراً من القرون أهلكناهم، و(القرن) هنا بمعنى: القرون، كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء:17] .
فأممٌ كثيرة أهلكها الله عز وجل لما كذبت الرسل.
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ : أي بحثوا في البلاد، يريدون المفر والملجأ من عذاب الله، ولكن لم يجدوا مفراً، ولـهذا قال: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ : أي: لا مـحيص لهم، وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [سبأ:51-52] .
فما أصاب القوم الذين كذبوا الرسل أولاً يصيب هؤلاء ثانياً؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10].
استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
لقاء الباب المفتوح [63] | 3395 استماع |
لقاء الباب المفتوح [146] | 3350 استماع |
لقاء الباب المفتوح [85] | 3315 استماع |
لقاء الباب المفتوح [132] | 3293 استماع |
لقاء الباب المفتوح [8] | 3275 استماع |
لقاء الباب المفتوح [13] | 3259 استماع |
لقاء الباب المفتوح [127] | 3116 استماع |
لقاء الباب المفتوح [172] | 3090 استماع |
لقاء الباب المفتوح [150] | 3037 استماع |
لقاء الباب المفتوح [47] | 3032 استماع |