سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الثالثة]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعــد:

أيها الإخوة في الله: الحديث عن الساعة وأهوالها، وعن ذلك اليوم المهول الذي تحدث فيه تلك الأحداث الصعبة، والقضايا المذهلة، حديث ترتعد منه القلوب، وتقشعر منه الأبدان، إذا تصوره الإنسان التصور الحقيقي، وتخيله التخيل الإيماني.

والله عز وجل يؤكد قضية الإيمان بالبعث وبالجزاء والنشور تأكيداً عظيماً بما يقسم به تبارك وتعالى من مخلوقاته، فإن له عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للعبيد أن يقسموا إلا به، ومن أقسم بغير الله فقد عظمه، ومن عظم غير الله فقد أشرك بالله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

إقسام الله عز وجل بمخلوقاته على قيام الساعة

وقد سمعت في قراءة الإمام -جزاه الله خيراً- القسم بالمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، وهي الرياح والملائكة يقسم الله بها على شيء هو أن هذا الوعد كائن: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] أي: إنما توعدون من الجزاء والنشور والبعث والحساب، ودخول أهل الإيمان إلى جنات الرضوان، ودخول أهل الكفر والفسق والفجور والعصيان إلى النيران: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7].

ويبين الله عز وجل حالة الكفار والمنافقين والمكذبين حينما يوقفون في عرصات القيامة ليس معهم شيء مما أشغلهم في هذه الدنيا من منصبٍ أو ولد أو مالٍ أو زوجة أو غير ذلك، ثم يقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29] يعني: اذهبوا وانظروا الشيء الذي كنتم تكذبون به وهو النار: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31] أي: ظل دخان النار، وظل لهب جهنم (لا ظليل) أي: ليس تحته ظل ولا يمنعك من النار، ولا يغني عن اللهب: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:32] الشرارة الواحدة كالقصر العظيم.

كأنه في تتابعه وتطايره جمالت صفر، قيل معنى جمالة: حبال السفن الغليظة بعضها يكون كغلظ الإنسان، وقيل: بمعنى الإبل، هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات:35] أي: ممنوع المراجعة، وممنوع الاستعتاب والتلطف والرجاء والاعتذار وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:36-37] الله أكبر! ويل لهم والله ثم ويل لهم!

ويكرر الله هذه الكلمة مرات ويل يومئذ للمكذبين، ويل لهم حينما أخطئوا طريق الله، ويلٌ لهم حينما عرضوا أنفسهم لعذاب الله، ويلٌ لهم مع ضعفهم وقلة حيلتهم يوم يقفون عراةً حفاةً غرلاً بين يدي الله، لا يمنعهم من الله أحد.

تساؤل الكافرين عن كيفية البعث

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ [المرسلات:38] لأن الكفار يقولون: إذا أمكن بعثنا فكيف نصنع بالأولين؟: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة:48] يقولون: أين ذهبوا، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:53-56].

وتعجبوا من إمكانية الإعادة لهذه الأجساد التي بليت وتفتت، وذهبت شذر مذر، قالوا: كيف يعيدها؟ فهذا الذي قد بلي منذ زمن كيف يأتي به رب العالمين؟ فأجابهم الله وقال لهم: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] إذا كان هذا صعباً عليكم فإن خلقكم وبعثكم كله لا يساوي عند الله جهد خلق نفس واحدة، ويقول لهم: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] كيف تتعجبون من قدرة الله على إعادة الناس ولا تتعجبون من قدرة الله العظيمة في خلق هذه السماوات والأرض، إن الأولين ما ضاعوا وما ذهبوا، إنهم موجودون في سجل الله الخالد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات:38] من آدم إلى آخر شخص كلهم موجودون.

ثم: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات:39] تحدٍ.. أتستطيعون أن تصنعوا شيئاً؟ كيدوا، وماذا يصنعون والملك الواحد من الغلاظ الشداد يأخذ بيده هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار؟ والملائكة: غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وجهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ولو تركت لأتت على أهل الموقف برهم وفاجرهم: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14] تشهق عليهم كما تشهق البغلة على الشعير: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12].

قالوا للرسول: كيف تراهم جهنم ألها عينان؟ قال: أما سمعتم قول الله: إذا رأتهم.. نعم لها عينان، تراهم وتعرفهم، وأنهم غرماؤها؛ وأنهم الذين سوف تتولى تعذيبهم: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:21-25] وأهل الإيمان يقولون: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] .. فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات:39] هل يستطيع أحد أن يعمل شيئاً ذلك اليوم؟! لا.

وقد سمعت في قراءة الإمام -جزاه الله خيراً- القسم بالمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، وهي الرياح والملائكة يقسم الله بها على شيء هو أن هذا الوعد كائن: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] أي: إنما توعدون من الجزاء والنشور والبعث والحساب، ودخول أهل الإيمان إلى جنات الرضوان، ودخول أهل الكفر والفسق والفجور والعصيان إلى النيران: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7].

ويبين الله عز وجل حالة الكفار والمنافقين والمكذبين حينما يوقفون في عرصات القيامة ليس معهم شيء مما أشغلهم في هذه الدنيا من منصبٍ أو ولد أو مالٍ أو زوجة أو غير ذلك، ثم يقال لهم على سبيل التهكم والاستهزاء: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29] يعني: اذهبوا وانظروا الشيء الذي كنتم تكذبون به وهو النار: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31] أي: ظل دخان النار، وظل لهب جهنم (لا ظليل) أي: ليس تحته ظل ولا يمنعك من النار، ولا يغني عن اللهب: إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:32] الشرارة الواحدة كالقصر العظيم.

كأنه في تتابعه وتطايره جمالت صفر، قيل معنى جمالة: حبال السفن الغليظة بعضها يكون كغلظ الإنسان، وقيل: بمعنى الإبل، هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات:35] أي: ممنوع المراجعة، وممنوع الاستعتاب والتلطف والرجاء والاعتذار وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:36-37] الله أكبر! ويل لهم والله ثم ويل لهم!

ويكرر الله هذه الكلمة مرات ويل يومئذ للمكذبين، ويل لهم حينما أخطئوا طريق الله، ويلٌ لهم حينما عرضوا أنفسهم لعذاب الله، ويلٌ لهم مع ضعفهم وقلة حيلتهم يوم يقفون عراةً حفاةً غرلاً بين يدي الله، لا يمنعهم من الله أحد.

هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ [المرسلات:38] لأن الكفار يقولون: إذا أمكن بعثنا فكيف نصنع بالأولين؟: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة:48] يقولون: أين ذهبوا، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:53-56].

وتعجبوا من إمكانية الإعادة لهذه الأجساد التي بليت وتفتت، وذهبت شذر مذر، قالوا: كيف يعيدها؟ فهذا الذي قد بلي منذ زمن كيف يأتي به رب العالمين؟ فأجابهم الله وقال لهم: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] إذا كان هذا صعباً عليكم فإن خلقكم وبعثكم كله لا يساوي عند الله جهد خلق نفس واحدة، ويقول لهم: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] كيف تتعجبون من قدرة الله على إعادة الناس ولا تتعجبون من قدرة الله العظيمة في خلق هذه السماوات والأرض، إن الأولين ما ضاعوا وما ذهبوا، إنهم موجودون في سجل الله الخالد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات:38] من آدم إلى آخر شخص كلهم موجودون.

ثم: فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات:39] تحدٍ.. أتستطيعون أن تصنعوا شيئاً؟ كيدوا، وماذا يصنعون والملك الواحد من الغلاظ الشداد يأخذ بيده هكذا فيلقي سبعين ألفاً في النار؟ والملائكة: غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وجهنم يؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ولو تركت لأتت على أهل الموقف برهم وفاجرهم: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14] تشهق عليهم كما تشهق البغلة على الشعير: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12].

قالوا للرسول: كيف تراهم جهنم ألها عينان؟ قال: أما سمعتم قول الله: إذا رأتهم.. نعم لها عينان، تراهم وتعرفهم، وأنهم غرماؤها؛ وأنهم الذين سوف تتولى تعذيبهم: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [النبأ:21-25] وأهل الإيمان يقولون: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] .. فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات:39] هل يستطيع أحد أن يعمل شيئاً ذلك اليوم؟! لا.

ثم يصف الله عز وجل حالة أهل الإيمان وأهل التقوى -جعلنا الله وإياكم منهم- أنهم صدقوا المرسلين، وآمنوا بالكتاب المبين، وساروا على النهج القويم، وخضعوا وأذعنوا واستسلموا لله رب العالمين، لا يرفعون رءوسهم على الله، بل إذا أمروا قالوا: سمعنا وأطعنا، ولو على قطع الرقاب، يقول عبد الله بن سلام لما نزل قول الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66] قال: والله لو كتبها لقتلناها، وها هم -الآن- أهل الإيمان يقتلون أنفسهم في سبيل الله عز وجل، فالذين خضعوا لله، وسلموا أنفسهم وقيادهم لله، عيونهم راضخة لأمر الله فلا ينظرون إلا إلى ما أحب الله، أسماعهم مستسلمة لله فلا يسمعون إلا ما أحل الله، ألسنتهم رطبة بذكر الله، لا يمكن أن تتكلم بكلمة تغضب الله، يزنون الكلام قبل خروجه، فإن كان خيراً نطقوا به، وإن كان شراً ردوه، وإن كان شبهة سكتوا، والسلامة كرامة.

فروجهم محفوظة عن الوقوع فيما حرم الله، وأيديهم مكفوفة عن الامتداد إلى ما حرم الله، وأقدامهم قاصرة عن أن تحملهم إلى معصية الله، هؤلاء رضخوا لله، ثم أعملوا البدائل: بدل النظر المحرم النظر المباح والحلال، النظر في كتاب الله، النظر في ملكوت الله، بدل السماع المحرم والكلام الخبيث أتوا بالكلام الطيب وهو تلاوة كتاب الله، ذكر الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدل الزنا المحرم أتوا بالبديل وهو الزواج الحلال، وهكذا استخدموا أنفسهم في الطريق الصحيح الذي رسمه الله لهم، يقول فيهم تبارك وتعالى في نفس الآية قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات:41] -نسأل الله من فضله- ظلال: ظلال أشجار الجنة، وعيون جارية: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ [الأعراف:43].

صفة الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين

كل مؤمنٍ في الجنة تجري من تحت قصره أربعة أنهار، ونحن الآن تجري من تحت بيوتنا أنهار لكنها أنهار المجاري، لكن أنهار الجنة غير ذلك: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15] وهذه الأنهار نزع الله منها كل شيء يعيبها، إنها خمر فيها لذة، وخمر الدنيا ليس فيها لذة بل يزيغ منها العقل وتجعل الإنسان مثل الحمار يركب أمه أو أخته، ويتصرف تصرف المجانين، بينما خمر الجنة لا تنزف منها العقول، ثم إن عسل الدنيا ليس مصفى وعسل الآخرة مصفى.

ثم من لبن لم يتغير طعمه ولبن الدنيا يتغير طعمه، ولهذا ينتهي تاريخ اللبن، وإذا شربته بعد أسبوع تسممت، أما بعد عشرة أيام فتموت، لكن لبن الجنة لا يتغير. لم يتغير طعمه، ثم أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15] أي: ليس راكداً متعفناً؛ لأن الماء إذا ركد أسن، وإذا أسن تعفن وظهرت منه رائحة، وأصبح غير صالح للشرب أو الاستعمال.

يقول الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [المرسلات:41-42] ورد في بعض الأحاديث ذكر فواكه الجنة أنها أمثال القلال ألين من الزبد، وأحلى من العسل، ثم فواكه دانية يعني إذا كنت جالساً فإن الفاكهة تتدلى عليك، وإذا وقفت وقفت الفاكهة معك، قد تقول بعقليتك الصغيرة: كيف؟ نقول لك: كل ما في الجنة لا يمكن أن يتصوره عقلك، يقول الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] اذهب بالخيال كل مذهب، واذهب بالأفكار والتصورات إلى أبعد مدى، ثم اعلم أن أفكارك وتخيلاتك لن تصل إلى حقيقة ما في الجنة: وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات:42-43] الله أكبر! هنيئاً مريئا جزاءً على عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا.

كنتم تخافون الله وتراقبون الله، وكنتم ترتعدون من خشية الله، وكانت أقدامكم مصفوفة في بيوت الله، كانت أقدامكم وأصلابكم واقفة في الليل من خشية الله، كانت أعينكم مغضوضة عن محارم الله، كانت أسماعكم مصونة عن محارم الله، كانت ألسنتكم مكفوفة عن الحرام، والآن تأخذون الأجرة أليس كذلك؟ يقال: لا يحج الحاج إلا لمغفرة، ولا يعمل عامل إلا بأجرة، والذي عمل لله من الدنيا ما أخذ في الدنيا شيئاً، بل ربما يجد في الدنيا العذاب..

بعض أهل الإيمان يخرجون من الدنيا وهم مقتولون أو مسجونون، أو مضطهدون لم يجدوا شيئاً من راحة الدنيا، وبعض أهل الكفر والنفاق والجرائم والمعاصي يعيشون عظماء قادة تصفق لهم الدنيا، وتهتف لهم الجماهير، وبالرغم من هذا ألا يصل لهم جزاء؟ لا بد من جزاء، يقول الله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35] ويقول: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] ويقول: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].

الدنيا سجن المؤمن، والآخرة فيها جنته

هذه دار ابتلاء ليس فيها جزاء، ولهذا لما ركب الإمام ابن حجر العسقلاني وكان قاضي القضاة في مصر؛ ركب على خيله وخرج ومعه حاشيته، فاعترضه يهودي، وأمسك بالخطام وقال: يا شيخ! قال: نعم. قال: تزعمون أن رسولكم يقول: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فأي سجنٍ أنت فيه وأي جنة أنا فيها؟! وكان اليهودي فقيراً مقطع الثياب فقال: أي سجن أنت فيه وأنت على الخيول ومعك هذه الأشياء وأي جنة أنا فيها؟ فرد عليه ابن حجر رحمه الله قال: ما ينتظره أهل الإيمان إذا قيس على ما أنا فيه فإنهم في سجن، وما ينتظرك وينتظر أهل الكفر إذا قيس على ما أنت فيه فأنت في جنة. أنت في بسطة إذا قيس على ما في النار.

قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات:43].

والمفسرون يقولون: لِمَ لم يقل الله عز وجل كلوا واشربوا وانكحوا واسكنوا والبسوا؟ لماذا لم يذكر إلا الأكل والشرب فقط رغم أن في الجنة أكلاً وشرباً ولباساً ونكاحاً وسكناً؟ قالوا: للأغلبية، فإن غالبية نعيم أهل الجنة أكل وشرب، يتلذذون بمطاعمها ومشاربها، ولهذا أربعة أنهار من تحت بيتك، هذه أربعة أنهار من أجل ماذا؟ من أجل أن تشرب من العسل، ومن الخمر، ومن اللبن، ومن الماء.

أما الأكل: فمن لحم طير مما يشتهون، والفواكه متعددة ذكر الله منها نوعين في سورة الرحمن في الجنة الأولى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] وفي الجنة الثانية قال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] فيقول الله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات:43-44] يعني هذا شأننا، وهذا عدلنا، وهذه مشيئتنا؛ أننا نجزي أهل الإحسان بما هم أهله هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60] كيف تحسن ولا يحسن إليك المحسن؟ كيف تكون محسناً في هذه الدنيا في تصرفاتك ولا يجزيك المحسن العظيم؟ قال: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات:44].

ثم يقول عز وجل وهو ملتفت إلى الكفار وهم في النار في طبقات جهنم يقول: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] أي في الدنيا، يقول: كلوا واشربوا وتمتعوا قليلاً ستين سنة أو سبعين سنة، وهي لا تساوي لحظة من لحظات يوم القيامة؛ لأن اليوم الواحد من يوم القيامة يساوي خمسين ألف سنة.. من أيامنا في الدنيا.

فيقول الله: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] أولئك محسنون والله يجزيهم، وهؤلاء كانوا يتمتعون في الدنيا: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:46-48].

إذا قيل لهم اعبدوا الله، خافوا الله، والتعبير بالركوع على العبادة للتغليب أيضاً؛ لأنها أشرف عبادة، أشرف عبادة على وجه الأرض الصلاة، أقدس موقف تقفه بين يدي الله هذا الموقف: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:46-48].

بعد كل هذه النذر، وبعد كل هذه المحاذير، وبعد كل هذا الوصف (وصف النار)، وبعد كل هذه الأيمان بالمرسلات، والعاصفات، والفارقات، والناشرات، والملقيات، يهدد ويتوعد ويبين مصير أهل النار ومع هذا كله يرفضون ولا يركعون، قال الله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50] بماذا يؤمنون بعد هذا كله؟ إذاً لا فائدة، لا يؤمنون إلا إذا قيل لهم: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29] وقيل لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14].




استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الأولى] 2065 استماع
سلسلة اليوم الآخر: علامات الساعة المستمرة [الحلقة الثانية] 1570 استماع