حسن الظن


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:

من مراتب الهداية: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يعطي المؤمن أملاً في رحمة الله عز وجل، وكلما اقترب العبد من ربه في العمل ازداد حسن ظنه بمولاه، فلولا أن السيدة أم سيدنا موسى كانت حسنة الظن بالله لما نفذت أمر الله عز وجل عندما أمرها أن تلقي رضيعها في الماء.

قال تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه:39]، إذاً: فعمل أم موسى عمل يدل على حسن ظنها بالله تعالى، في حين أنه لو قيل لنا ذلك لبدأنا نشكك ونحسبها بالعقل، وليس كل شيء يعرض على العقل.

وليس معنى ذلك أن الدين الإسلامي دين لاهوت وناسوت، أو كلام ما وراء الطبيعة، ولكن هناك أمور يحسنها الشرع قد لا يحسنها العقل، وليس معنى هذا أن الوحي يتعارض مع العقل، ولكن العقل محدود والشرع من عند الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، وقد قال علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان المسح أسفل الخف أولى من أعلاه.

أولاً: دخول الجنة لا يكون ثمناً للعمل

وإحسان الظن بالله يقتضي ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنه لا يدخل أحد منا الجنة بعمله، فلا تفكر أن الصلاة التي تصليها أو الصدقة التي تتصدق بها ستوصلك إلى الجنة.

رأى ابن عباس سيدنا عمر في المنام بعد عام من استشهاده فقال له: يا أمير المؤمنين! اشتقت إليك وأردت أن أراك منذ زمن، قال له: اسكت يا ابن عباس ! لقد كاد عرشي أن يهد لولا أني وجدته غفوراً رحيماً، قال له: وماذا صنع بك؟ قال: رحمني وأحلني دار المقامة من فضله، قال له: بعلمك؟ قال: لا، قال له: بعملك؟ قال: لا، قال: بخوفك؟ قال: لا، قال: بنصرتك لرسول الله؟ قال: لا، قال: ذات مرة كنت أسير في الطريق فرأيت صبية يلعبون بعصفور فخلصته من أيديهم، فقال لي ربي: يا ابن الخطاب ! خلصت العصفور من أيديهم، وأنا أخلص جسدك من النار وأدخلك الجنة.

وصحابي آخر يقول وهو يحتضر: ليته كان جديداً، ليته كان بعيداً، ليته كان كاملاً، ثم مات، فتعجب الحاضرون وهم لا يعرفون معناه، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال: أتته الملائكة فأطعمته حتى شبع، فلما سألهم عن سبب إطعامهم له قالوا: كان معك رغيف فأتاك سائل يسألك طعاماً فأعطيته نصفه، فعندها قال: ليته كان كاملاً، ثم شعر بعطش شديد فأرواه الله، فلما سأل عن ذلك قيل له: أخذت بيد شيخ كبير لا يستطيع المشي فقدته إلى المسجد، فعندها قال: ليته كان بعيداً، يقصد: المسجد، ثم شعر بضيق في صدره فسرت عنه الملائكة فسألهم عن ذلك، فقيل له: كنت تلبس ثوبين في الشتاء: جديداً وقديماً، فأتاك سائل فأعطيته القديم، فعندها قال: ليته كان جديداً.

إذاً: فعلى الإنسان ألا يحتقر شيئاً، وأن يعلم أنه لن يدخل الجنة بعمله: (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

ثانياً: منزلتك في الجنة على حسب عملك

الأمر الثاني: أن دخول الجنة يكون برحمة الله، وأما سكنى الجنة فيكون على حسب العمل، يقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! ادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم).

قال أحد السلف: إن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن الظن بالله، أما إنهم لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

فتجد الرجل يدخن السجائر طوال الليل وربما إلى الفجر، فإذا سمع: حي على الصلاة لم يجب، وكأن الأمر لا يعنيه، وتجد المرأة متبرجة فإذا نهيتها عن ذلك قالت: أنا أتصدق بربع مرتبي، وأصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، فهذه تمسكت بالنوافل وتركت الفرض الواجب.

وفي عصرنا الحاضر نشهد هجوماً على قيمنا الإسلامية ومبادئه، وهذا الهجوم يتمثل في الدعوة إلى تحرير المرأة وعصرنتها كما يزعمون، ومن ذلك: دعوتهم إلى خلع الحجاب، والاختلاط، والتزين بالحلل والعطور أمام الرجال الأجانب، وتهميش وتضييع أصولهم الإسلامية، كنسبة أهل مصر إلى الفراعنة، وتعظيم الفراعنة في أعين الشباب المصري وغيره، فيسمونهم: أبناء الفراعنة، أو من سلالة مخترعي الأهرامات ونحوها من الدعايات التي تريد أن تخدش عقائد المسلمين أبناء عمرو بن العاص ، وأبناء الصحابة الذين فتحوا مصر واستوطنوها.

كذلك من أساليبهم: نشر الكتب التي تحتوي على العقائد الفاسدة، والتي تعنى بشريحة المثقفين في المجتمع المسلم بأسعار زهيدة رخيصة حتى يسري السم في أفهام المجتمع المسلم، ككتب: قاسم أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين .

لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله

الأمر الثالث في موضوع إحسان الظن بالله عز وجل: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه).

وحسن الظن بالله: أن تطرق بابه في كل حاجة، وأن تنزل فاقتك به دون الناس، وأن ترجع إليه كلما أذنبت مع عدم الإصرار، فهذا هو حسن الظن بالله تعالى.

فالله من رحمته لا يعاتب تائباً عاد إليه، (يا موسى! بلغ عبدنا وقل له: أطعتنا فأطعناك، وأحببتنا فأحببناك، وتركتنا فأمهلناك، ولو عدت إلينا على ما كان منك قبلناك).

ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: لما تثور الأرض والسماء والبحار وغيرها على ابن آدم يقول: (يا مخلوقاتي! أخلقتموه؟ فيجيبون: لا يا رب! فيقول: لو خلقتموه لرحمتموه، دعوني وعبادي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبهم، ومن لم يتب فإني طبيبهم، وأنا إليهم أرحم من الأم بأولادها).

فهذا حسن الظن بالله. والله أعلم.