الغربة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.

وبعد:

فإن غربة المؤمن تكون في مسكنه وفي أسرته وفي عائلته وفي وطنه ثم في دنياه، فلا تجد إنساناً يحاول أن يشق طريق الهداية إلا وتجده غريباً عمن حوله، لا بد أن لك لحظات تترك فيها الزحام من حولك، تترك العائلة، والأسرة، والناس، والعمل، والزوجة، والأولاد، والأقارب، وتجلس فيها صادقاً مع نفسك قبل أن تنام كل يوم، وإذا لم يكن كل يوم فليكن كل أسبوع كيوم الجمعة مثلاً، وإلا تذهب حياتك في غمرة الزحام.

وحين تجلس مع نفسك ينبغي أن تسأل نفسك سؤالاً واحداً: أين أنا من طريق الله؟ يمكنني أن أضحك عليك، وأنت تضحك علي، ويضحك بعضنا على بعض، لكن لا يستطيع أحد أن يضحك على الله.

وأيضاً لا يستطيع الإنسان أن يضحك حتى على فطرته، وقلنا من قبل: إن الحلال والحرام لا يحتاج إلى سؤال، أي: أن الأمر لا يحتاج إلى عالم تسأله: هل الموضوع هذا حلال، أم أنه حرام؟ بل ما دام أنه تلجلج في صدرك فهذا دليل على أنه ليس حلالاً فلم السؤال؟ فمدلول الكلمة العربية نفسها يدل على ذلك، فأنت عندما تقول: حلال، تجد الفم مفتوحاً أثناء النطق بها، فلا أحد يستطيع أن يقول: حلال وفمه مغلق! كما أنك عندما تقول: حرام، تجد أن فمك مغلقاً، ولا أحد يستطيع أن يقول حرام وفمه مفتوح.

إذاً: فالحلال في النور، والحرام في الظلام، فأنت تعمل الحلال أمام الناس جميعاً، ومن الممارسات اليومية التي تدل على ذلك أنك حين تذهب لموظف الخزنة لتطلب مستحقاتك تطرق الباب بكل جرأة وشجاعة، وتسأله مستحقاتك بصوت جريء مسموع، لكن لو أن الموظف يأخذ الرشوة فسيتحرى خلو المكان، والتحدث بهدوء، ويحرص على ألا يشعر به أحد؛ إذ الحرام لا يستطيع أن يمارسه العبد أمام الناس، وهكذا في كل شيء، فكل ما تلجلج في صدرك عرفت حرمته ولم تحتج إلى سؤال. فالمرأة مثلاً لا يمكن أن تسأل وتقول: زوجي مرتبه حلال فهل هذا الأكل الذي يأتي به حلال أم حرام؟

لكن لا يبعد أن تسأل: لو أخذت من مال زوجي من وراء ظهره هل ما آخذه حلال أم حرام؟

فهي إذاً بدأت تتساءل عن الشيء غير الطبيعي، وهو يصدق فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرام ما تلجلج في صدرك، وخشيت أن يطلع الناس عليه)، فالإنسان عندما يعيد حساباته وهو في طريق الهداية يجد أنه غريب في المجتمع.

الذي يؤرقني ويزعجني أمران: فإن الرجل عندما يكون مهتدياً وزوجته بعيدة عن الهداية لا تكون المشكلة كما لو أن المرأة هي التي اهتدت والرجل هو البعيد عن الهداية، كما أن هذه أهون مما لو كان الولد هو الذي اهتدى إلى الطريق المستقيم والأب والأم بعيدان عن الهداية.

أما الموقف الأول: وهو غربة الزوجة في بيتها مع زوجها، فإنها عندما تعرف وتتذوق طعم الهداية فالرجل يصبح مثل المجنون، فلا تراه إلا شاكياً: ما هذا، كل لحظة حرام حلال، وتقوم تصلي الليل، وأستأذنك غداً أصوم الإثنين، وأستأذنك غداً أصوم الخميس، فيبدأ يعمل القيود والأوامر ليضيق عليها، فهذه نوع من الغربة الشديدة.

وهناك نوع آخر من الغربة يعيشه الشباب، فإني أعرف شاباً عمره قرابة العشرين أو خمس وعشرين سنة، يأتي أبوه بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً ويغلق الباب ويأخذ المفتاح ليضعه تحت الوسادة؛ لكي لا ينزل الابن ليصلي الفجر في المسجد!

فكيف ترى أمر هذا الشاب المستقيم على طريق الله، الذي لا يبعد أن الله يرحم هذه الأسرة من أجله، لكن المصيبة والطامة أن هذا الابن لو سهر في النادي إلى الساعة الواحدة، وأكمل سهرته على القهوة، يقول أبوه: لا إشكال لدي طالما أن ابني بعيد عن أصحاب المسجد والملتزمين!

وكم من آباء وأمهات يبكون ويشكون مر الشكوى، يتمنى الواحد منهم لو أن ابنه يترك شتمه وأذاه.

ولذلك أقول: إن الغربة التي يشعر بها المؤمن سواء المستقيم في العائلة، أو المستقيم في المجتمع غربة ليست هينة، فإذا ذهبت أنت وزوجتك عند أقربائها للزيارة فيدخل ابن عمها: كيف حالك يا زينب؟ فتجيبه: أهلاً وسهلاً، فيمد يده ليصافح، فإذا امتنعت عن المصافحة لا تسمع إلا عبارات اللوم والتوبيخ: يبدو أنها انحرفت، وزوجها يشعر بالاستحياء والخجل؛ لأن زوجته أصبحت إرهابية عندما لا تصافح.

فالرجل يشعر أنه خطأ، رغم أنه سعيد أن امرأته لا تسلم، وأن امرأته أصبحت -بما يشبه- قطاعاً خاصاً وملكاً خاصاً له لا يلمسه أحد، فرغم قناعته بسلامة طريقة زوجته في التعامل مع الناس لكنه يستحي من صنيعها، فيقول لها: لا إشكال فهو ابن عمك، فتقول: عيب يا أستاذ! هو أجنبي، نعم هو في الفقه أجنبي.

فالأجنبي هو الذي يجوز له أن يتزوجها، يقول لك: يا أستاذ! عيب هذا في سن والدها، فالسؤال: هل ينفع أن يتزوجها أم لا ينفع؟

يقول لك: يا أستاذ! كيف يتزوجها مادام هي زوجتي؟! والجواب: ماذا لو طلقتها أنت هذا اليوم هل يصح لهذا أن يتزوجها؟ فيجيبك: نعم، يصح.

إذاً: فلا يجوز أن تسلم عليه.

ولك أن تنظر إلى السخرية التي تنال الموظفة كل صباح في المكتب لو تركت السلام، وأغرب من ذلك عندما تتحجب الموظفة، وطبعاً هي لا تتحجب الحجاب الكامل، فهي مثلاً: ترتدي شراباً شفافاً، وتضع منديلاً على رأسها لتخفي شعرها، ظناً منها أن شعرها هذا هو المصيبة، لكن نحرها ورجليها إذا انكشفت فلا إشكال عندها، ومع ذلك لا تسلم من اللوم والتعنيف والسخرية: هل تحجبتي؟! فتقول: الحمد لله، وحين يسأل الشيخ عن حجابها يقول لك: هذا ليس حجاباً، فتشعر أنها في حالة من الغربة شديدة.

والكارثة أنها حين تبتدئ متدرجة نحو الحجاب الصحيح حيث يصبح المنديل طرحة، والطرحة تصبح خماراً، تفاجأ بمن يقول لها: ما دمت تحجبت فإن زوجك سيتزوج عليك!!

ولا ندري ما علاقة الحجاب بأن زوجها سيتزوج عليها؟ وحتى لو تزوج ما علاقة هذه بهذه؟! فتجد التعليلات السخيفة: لو تحجبت سينظر زوجك إلى الخارج. سبحان الله! هل قيل لها تحجبي على زوجك، أم تحجبي على الغريب؟! بل قد يقول بعض الأزواج السذج مثل هذا الكلام. سبحان الله! وهذا يدل على أن هذا الزوج ينظر إلى الخارج تحجبت أم لم تتحجب! فما علاقة أن المرأة تتحجب؟!

والإسلام عندما شرع الحجاب هل اعتبر أن المرأة جالسة خارج البيت أربعاً وعشرين ساعة أو جالسة ساعة كل أسبوع في الخارج للضرورة؟!

الحالة الثانية بالطبع، بمعنى: أن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، وإن كانت تعمل فهي تعمل للضرورة، وإن كانت تخرج فهي تخرج مضطرة، إذاً فأكثر وقت المرأة في البيت، فهي قاعدة في البيت لا محتجبة.

والشيطان يأتي ويقول لها: لو تحجبتي فإن شعرك الناعم سيتساقط وتصبحين بلا شعر، فتخاف، وقد تحجم عن الحجاب إن كانت ضعيفة، ومنهم النساء التي بلغت ثمانين سنة أو ما يقاربها قد أبيض شعرها فتقول: اصبغوه لي بالأسود، ومع أن هناك صبغة غير الأسود، فإن من الحماقة فعل ذلك؛ إذ كيف لا يوجد أسنان وهناك شعر أسود!!

كما أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه أبو قحافة والد سيدنا أبي بكر وهو في الثمانين من عمره، وقد أبيض شعر رأسه وشعر لحيته، قال: (غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد).

ليس أضنى لفؤادي

من عجوز تتصابا

وعليم يتغابى

وجهول يملئ الأرض سؤالاً وجواباً

وقال آخر يصف عجوزاً ذهبت إلى العطار تريد الزينة:

ذهبت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

فمن الحمق والغباء أن يطلب إعادة العمر إلى الوراء، إذ لكل سن رونق وجمال ووصف لا يشاركه غيره.

فالرجل العجوز تكبر معه امرأته، فليست متوقفة وهو الذي يكبر! فسن المرأة يكبر، فيكون الرجل عمره سبعون سنة وزوجته عمرها ستون أو خمسة وستون، وتكون مناسبة له، وأما التي يكون عمرها عشرين سنة فليست مناسبة له، وهذا أمر طبيعي أن السن له جمال في مكانه، وكل سن له وضعه، وفي الحديث: (حتى إذا بلغ العبد الستين قال الله للملائكة: أحسنوا إلى أسيري في الأرض، فإذا بلغ السبعين قال: تجاوزوا لعبدي عن سيئاته -أي: لو أخطأ خطأ لا تحاسبوه عليه-، فإذا بلغ الثمانين قال: عبدي شاب شعرك، واحدودب ظهرك، ووهن عظمك، فاستحي مني فإني أستحي أن أعذبك)، فكبير السن يستحي الله منه وهو غير مستح من نفسه، سبحان الله!

والمراد: أن الغربة التي يحياها المؤمن أمر طبيعي أخبر عن فضله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يكثرون عندما يقل الناس)، وليس المراد أنهم يكثرون عدداً، وإنما يكثرون هداية عندما يقل إقبال الناس على الهداية.

فأنت إذا شعرت بغربة في بيتك، أو في عائلتك، فاعلم أنك على الحق طالما أنت تأخذ من الكتاب والسنة، وطالما أنت لا تعمل خطأ، بل تعمل ما أمرك به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأخبرك العلماء به عنه، فثق أن هذه الغربة التي تحياها أمر طبيعي، فأمر الغربة مرتبة من مراتب الهداية.

اللهم اجعلنا من الغرباء، وأحينا وأمتنا على كلمة التوحيد يا رب العالمين.

اللهم أبعد عنا شياطين الإنس والجن يا رب العالمين، واجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، واجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً، ولا تدع لنا فيه ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله إلا وقد رددته.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.