خطب ومحاضرات
سوء الخاتمة
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ومن والاه.
أما بعد:
إذا أراد الله بالعبد خيراً أرسل إليه في آخر أيامه ملكاً فأرشده وهداه وقومه وأصلحه، فيموت على خير حال، ويقول الناس عنه: رحم الله فلاناً مات على خير حال: يموت في صلاة، أو في مجلس علم، أو في صلة رحم، أو في الجهاد في سبيل الله، أو في أمر يرضاه الله ورسوله.
وإن الله إذا أراد بعبد سوءاً أرسل إليه أو وكل به شيطاناً فأغواه وأضله، فيموت على أسوأ حال، فيقول الناس: مات فلان على أسوأ حال، كأن يموت وهو يعصي الله، أو يموت وهو لم يتب، والأعمال بخواتيهما.
وضربنا مثالاً لهذا الإنسان بالمصلي الذي أخرج ريحاً في آخر ركعة من ركعات الصلاة فإن صلاته باطلة.
وسوء الخاتمة أن يختم للإنسان بشر عمله، والمقصود بها ما يصنع الإنسان في آخر حياته، وذلك أن صحيفة حياته سيئة، ولم يمح بعمل صالح ما اسود من هذه الصحيفة، فلم يبيض صحيفته بأعمال صالحة، فيأتي في آخر حياته وهو لا ينطق بلا إله إلا الله، أو يترك الصلوات، أو عليه مظالم للعباد، فصحيفة أعماله كلها سوداء.
سؤال: هل سوء الخاتمة مرهون بآخر لحظة للإنسان في حياته، أم مرهون بحياته كلها؟
الجواب: سوء الخاتمة مرهون بحياته كلها، ثم تنتهي حياته كما زرعها، مثل شجرة الحنظل فإنها تزرع وتأخذ مدة، وفي النهاية تصدر حنظلاً مراً علقماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة -الأترجة: فاكهة- ريحها طيب وطعمها حلو، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة طعمها مر وريحها طيب، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة لا ريح لها، وطعمها مر).
فالخاتمة مرهونة بسابقة عمله، وليس بالعمل الأخير؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فليس هذا مبني على عمل واحد، وإنما سابقة أعماله كانت هكذا، ومات على غير توبة، أو مات على ضلالة، أو مات على غرور، أو مات على ظلم، أو مات على افتراء، أو مات على كبر طول حياته، فهو لم يظلم الآن وإنما ظلم طوال حياته، وهكذا.
السؤال: ما هي الأعمال التي تسود بها صحيفة الإنسان، وبها تسوء خاتمته والعياذ بالله؟!
الجواب: أول الأعمال التي تسيئ الخاتمة: طول الأمل، بمعنى أنه يظن أنه لن يموت الآن؛ لأن أباه عاش تسعين سنة، وجده عمر بعد المائة، وأمه عاشت مائة وعشر سنوات!! فالعمر ليس بالوراثة.
أو يقول: أنا عندي يقين أنني سأهتدي في آخر أيامي، وأنا في صحة وفي أحسن حال.
فطول الأمل يجعل الإنسان يركن إلى الدنيا، وتصير الدنيا غاية وليست وسيلة، فقد يصير من الكاذبين، لأن الغاية تبرر الوسيلة، وقد يريد أن يكون غنياً فيدخل في الربا، والخوض في أعراض الناس، بأن يضغط على الناس ليعلو عليهم، وبأن يكون لسانه بذيئاً مع كل الناس: مع العالم وغير العالم، المهم أن يصل إلى غايته.
فطول الأمل يثمر كل هذه المصائب، فهذه ثمرة سيئة.
ولذلك قالوا: إن العاقل من فعل ثلاثاً: ترك الدنيا قبل أن تتركه، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه، وعمر قبره قبل أن يدخله.
والجاهل من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) فالعاقل هو الإنسان الذي يزرع ويخشى الكساد، والجاهل هو الذي يقلع ويرجو الحصاد، وهذا من ترهات نفسه، ومن ثمرات طول الأمل.
قالوا: إن أحد الصالحين وهو عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه كان مريضاً، فقدم أحد مريديه وهو حافظ بن أبي توبة ليصلي بالناس، وهو من تابع التابعين فقال: لا أريد أن أصلي؛ لأنني إذا صليت بكم الآن لن أصلي بكم مرة أخرى.
فقال عطاء : أتدخل الصلاة وفي نيتك أنك سوف تعيش لتصلي بنا صلاة أخرى؟!! أنت لا تصلح للإمامة، فالأصل أن يكون الإمام قدوة، فإذا دخل في الصلاة لا يفكر أنه سيصلي بعدها مرة أخرى، فإن هذا من طول الأمل.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر على أسامة بن زيد وجده قد أتى بفصيل -وهو ناقة صغيرة أو جمل صغير-، فسأل رسول الله: ما هذا يا أسامة ؟ قال: فصيل اشتريته لشهرين يا رسول الله! يعني: اشتريته بالتقسيط على شهرين، قال: أتعجبون من أسامة ؟! إن أسامة لطويل الأمل.
بهذا المنطق كان يربي النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، فطول الأمل يقسي القلب وينسي الآخرة، وبعض الناس يكره الكلام عن الوعد الحق، والبعض الآخر يحبون؛ لأنهم مؤمنون، والذي يكره الكلام عن الوعد الحق فإنه مدعي للإيمان، فهو يكره التذكير بالآخرة، وبأنه سيخرج من الدنيا، وسيترك الثروة والأموال والبنوك والعمارات والبنايات والسطوة والجاه والانتخابات والسلطة.
والصالحون قديماً كانوا يفرون من المسئولية؛ لأنهم لا يريدون أن يمسكوا بالدنيا، لأن المسئولية حلوة الرضاع، مرّة العظام، فطول الأمل يعمل هذا الأمر كله.
ثانياً: الظلم، فمن كان ظالماً فليتوقف، والظلم أنواع ثلاثة:
أولاً: ظلم الإنسان لنفسه، قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32]، وذلك بأن يظلم دينه، فيضيع فرائض الله، ويتعدى حدود الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: ظلم الإنسان للآخرين، سواء كان حيواناً أو نباتاً أو إنساناً مسلماً أم غير مسلم.
ومن سوء الخاتمة أن الظالم لا يقتنع أنه ظالم، فقد يظلم أحد الورثة بأن يحتال عليه فيأخذ ميراث أبيه كاملاً، والسبب في ذلك أنه كان يعمل مع أبيه ليل نهار في الحر وفي البرد وفي الأسفار، وأنه كان يتبعه وكان لا يعطيه راتباً، فيأخذ التركة كلها، فهذا ظلم، فالواجب عليه أن يأخذ ما يساوي عمله، ويعطي الباقي للورثة الآخرين.
والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمصيبة الكبرى أنه يعتبر نفسه عادلاً كـعمر بن الخطاب .
وأسوأ الظالمين من يظلم من لا ناصر له إلا الله، كمن يظلم زوجته التي مات أبواها وأهلها، أو التي أهملها إخوانها وكل واحد منهم مشغول بحاله، فيسومها زوجها سوء العذاب؛ لأنه لا ظهر لها، وإذا دعت عليه فإنه لا ينتبه، ويعتبر نفسه أنه يقوم بحق القوامة عليها، أو أن له أن يقطع ما يشاء، وهنا تكمن المصيبة.
النوع الثالث: الغفلة عن الذكر، فالمسلم ليل نهار يجب أن يكون ذكاراً شكاراً بكاء من الله عز وجل، يقول ربنا سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وعندما يدعوك أحد الناس لحضور حفل جميل فيه أغان لطيفة، والآخر يدعوك لحضور درس للشيخ فلان، فتقارن بينهما فتصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، ولا تطع من اتبع هواه وكان أمره فرطاً، والفرط في اللغة هو المفكوك.
والذكر قد يكون بالجوارح، فالعين تنظر في المصحف، واليد تعطي صدقة، وأما التذكر فلا يكون إلا في القلب، وهو التدبر، وهذا هو المطلوب، لأن القرآن حجة على الذي يقرأ ولا يتدبر.
والمقصود بقوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] هو ذكر الله في كل وقت، فمن كان خائفاً فقال: يا قوي! أمني، أمنه سبحانه وتعالى، أو كان فقيراً فقال: يا غني! أغنني، أغناه الله عز وجل، أو كان ضعيفاً فقال: يا قوي! قوني، أو كان مهزوماً فقال: يا ناصر! انصرني، أو يا ستار استرني، فهو في معية الله، فيطمئن القلب بالله سبحانه وتعالى!
ولو قال رجل مثلاً: أنا خالي فلان، وأنا عمي فلان، وأنا أبي فلان، وأنا شهاداتي كذا، وأنا في المركز الاجتماعي كذا، فإنه لا يستطيع أحد أن يكلمه، فما بالك بمن قال: وأنا ربي الله سبحانه وتعالى.
النوع الرابع: الاغترار بالدنيا، فإن من طول الأمل الاغترار بالدنيا، فالمغتر يريد أن يدوس على كل الناس في سبيل أن يصل إلى هدفه، وينكد على كل البشر في سبيل أن يبقى هو، ويفقر كل العالم في سبيل أن يشبع هو، وهناك دول غنية تأتي بالغذاء وتلقيه في البحر؛ حتى لا تهبط قيمته في الأسواق!
ويرحمون القطط والكلاب والدببة التي تعيش في شمال القطب، ولا يرحمون الذي يدب على الأرض من بشر، فهؤلاء مغترون بالدنيا.
وفي الحديث: (من أقام الصلاة في وقتها، وأسبغ وضوءها، وأتم ركوعها وسجودها، حشر مع النبيين والصديقين، ومن ضيعها حشر مع فرعون و
فهؤلاء الأربعة هم ملك في مملكة، ووزير في وزارة، وتاجر صاحب تجارة مال، وغني صاحب أموال كثيرة.
فهل رأيت رئيس مجلس الإدارة أو المدير المسئول أو رئيس البنك -إلا من رحم ربي- يأتي وقت الصلاة وهو يدخل حسابات ومليارات وملايين فيتركها ليصلي؟ كلا، وإنما يقول: هذا عمل وهذا عمل، والعمل عبادة، ويقيس هذا بذاك، وتختلط عليه الأمور والعياذ بالله رب العالمين.
النوع الخامس: الأمن من مكر الله، وهو من كبائر القلوب، والمؤمن لا يأمن من مكر الله.
والصلاة لا تقبل إلا إذا أسبغت وضوءها، وأتممت ركوعها وسجودها، والثواب في الصلاة على قدر الخشوع، فلا تقبل الصلاة مائة بالمائة إلا ما يعقل منها.
حتى إن العلماء أباحوا لنا أن نستعيذ بالله من الشيطان إن وسوس لنا في صلاتنا، وهذا لا يبطل الصلاة، فالله تعالى يقول: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] أي: قل: أعوذ بالله، ولو في وقت الصلاة بأن تقطع القراءة، ثم تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تعود إلى القراءة مرة أخرى وهكذا، ولا تعيد الفاتحة ولا الركعة.
السؤال: كيف نخشع في الصلاة ونحن بين يدي الله سبحانه وتعالى؟
الجواب: كيف أخشع في الصلاة وجوارحي قبل الصلاة غير خاشعة؟ كيف أخشع في الصلاة وأنا أغتابك، وأنم في حقك، وأتكبر عليك، وأحتقرك، وأنظر إليك بعين الازدراء، ومالي حرام أو شبهة، وأظلم من حولي، ثم أريد أن أخشع في الصلاة؟!
فالذين خشعت قلوبهم لطاعة الله قبل الصلاة هم الذين سيخشعون في الصلاة.
ومن علامة عدم خشوع الجوارح عبث الرجل بحليته في الصلاة، فلو خشع بقلبه لخشعت جوارحه؛ لأن قلبه هو المسيطر.
وهناك أسباب للخشوع وهي:
أولاً: أن يكون المال حلالاً، كان ابن عمر يركع أو يسجد عند الكعبة فتقف الطيور على ظهره وتستقر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع فإنه يتم الركوع، حتى لو وضعت إناء مليئاً بالماء على ظهره الشريف لاستقر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المثال والقدوة، وصفة صلاة النبي موجودة في البخاري ومسلم .
ثانياً: عدم الأمن من مكر الله، والسبب الرئيسي في الأمن من مكر الله هو ستر الله على العبد وهو يبارز الله بالمعاصي، فيأكل الحرام، والشبهة، ويرتشي ويختلس، ويمد يده لما حرم الله، ويظلم عباد الله، فالله عز وجل يدخله في مرحلة الاستدراج، فيظن أن الله راض عنه، ومصيبة المصائب الرضا عن النفس، وإذا وجدت إنساناً راضياً عن نفسه فاعلم أنه مغرور.
والله سبحانه ما أمَّن صحابياً ولا تابعياً ولا صالحاً، فقد كانوا كلهم على وجل وخوف، قال أحد الصالحين: ابكوا على أنفسكم، فأنا أبكي على هذا اليوم منذ ستين سنة، وكان عمره اثنتين وسبعين سنة.
فلا يأمن مكر الله إلا كثير المعاصي، فالله كثير الستر، ومن كرم الله عز وجل أنه لم يحاسبنا كما يحاسب بعضنا بعضاً، قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، والله لا يعجل لعجلة عبده، ومن كرم الله أن مقومات الحياة لا يملكها الإنسان.
والعبد العاصي يكون في حالة رضا عن نفسه، وهو يرى غيره مثلاً مفضوحاً، أو فقيراً مقتراً عليه، أو مريضاً، فهو يستدرج دون أن يعلم حتى يدخل في مرحلة الغرور، والواجب على المسلم أن ينظر في أمور الدين إلى من هو أفضل، وفي أمور الدنيا إلى من هو أقل، ونحن نعكس القضية، فننظر في أمور الدين إلى من هو أقل، فيقول أحدنا: أنا أصوم وأصلي وأزكي، وفلان لا يصوم ولا يصلي ولا يزكي.
السؤال: قد يقول قائل: هل من العدل أن يتركني الله تبارك وتعالى أعمل المعاصي ثم يأخذني بغتة، مع أن المنطق أن ينبهني وأن يذكرني؟
الجواب: قال تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، فالله تعالى أعطى الإنسان عقلاً، وهو من البداية قد حمل أمانة العقل وهو ما يزال في عالم الأرواح، ثم بعد ذلك جاءه الرسول والقرآن.
وقد تحمل الأمانة آدم وحده ونحن جميعاً في صلبه، وخاطب الله الأرواح بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، وآدم يمثلنا جميعاً ونحن في عالم الأرواح، ولما عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وهي طاعة الله فيما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر، فأبين إلا الطاعة دون إكراه بلا أوامر ولا نواهي، ولا تكليفات، وحملها الإنسان الظلوم الجهول قبل خلقته، لأنه متعجل، فالله خلق الإنسان من عجل.
والذي جعل الإنسان يأمن من مكر الله أن الله تعالى أعطاه النعم فلم يشكرها، فلما لم يشكرها ظلت النعم كظواهر وسلبت من قلبه، فلم ير أنه في نعم فيعيش ذئباً يريد أن يفترس، وهجومياً يريد أن يهجم، ويأخذ ما لا يحق له؛ لأنه لم يشكر النعم الظاهرة والخفية، والمطلقة والمقيدة.
والإنسان في العالم له أربعة حالات: إما حالة طاعة أو حالة معصية، أو حالة نعمة، أو حالة بلية، فهو لم يقدر نفسه عند هذه الأمور، فرأى الطاعة وما أطاق، ورأى المعصية فارتكبها وما استغفر، ورأى النعمة وما شكرها، ورأى البلية وما صبر عليها، بل تمرد.
وأسوأ ما يصيب الله به العبد أن يغره بنفسه فلا ينتبه، وهذا ليس ظلماً من الله، فلو جلس معه الناصح الأمين لم يستمع إليه، ويدخل في فلسفات، فيقول مثلاً: موضوع سوء الخاتمة أكيد، والعذاب أكيد وهكذا، ويدخل نفسه فيما لا يحسن أن يدخل فيه.
السؤال: قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، فهذه الإرادة من الله سبحانه وتعالى بتدمير وإهلاك القرية، فماذا جنت أيدي الناس الذين في القرية؟
الجواب: من كرم الله سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل ليأخذوا بأيدي الناس من الضلالة إلى الهداية، ومن الغواية إلى طريق الاستقامة، فالرسل أنذروا وبشروا ورغبوا.
والبلاد بلدان: بلد تجل العلماء وتحترمهم، فهذه فيها البركة، ويجذب إليها العلماء، وبلد تحتقر العلماء وتطردهم، فيحل بها العقاب، ومثال ذلك صاحب القرية المذكورة في سورة يس، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:13-14] إلى قوله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20] فضربه قومه وقتلوه، فقضي الأمر.
فالله عز وجل لم يهلك قرية إلا بعد أن ظلمت وطغت وانحرفت وابتعدت عن طريق الله.
فإرادة الله معلقة على فعل العبد سابقة له لا سائقة، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، فهذه الإرادة جاءت لما كذبوا ولم يشكروا.
وعلى المستوى الفردي: فالمسلم يشعر بالرضا النفسي مثلاً لما يطيع الله، فالذي يعيش لله عز وجل ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى، تجري وراءه الدنيا رغم الابتلاءات والمحن والمصائب.
أما عشاقها وعشاق الأموال والسلطة والجاه فهم يجرون خلفها، فترى أحدهم متعباً ومرهقاً ومكتئباً والمليارات في يده، فلا يشعر بقيمتها ولا قيمة للمال عنده.
السؤال: هل سوء الخاتمة للعبد تنسحب على الأمة؟
الجواب: إذا لم تقل الأمة للظالم: يا ظالم! فقد ينسحب الظلم على الأمة كلها.
فعلى كل من يقول: لا إله إلا الله أن يقف في وجه الظالم، وعلى جميع المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وينصحوا الظالم ولو كان صاحب مسئولية، أو كان إنساناً عادياً لا قيمة له في الحياة، إذا لم يتق الله وعمل عملاً سيئاً، كما يحصل على شاشات التلفزيون من العهر والمجون، فيجب أن تقف الأمة وتعترض وتمنع.
فلو لم تقف الأمة ضد هذه المنكرات بل تتفرج وتشاهد المسلسلات والأخبار، فإن الأمة تتحمل وزر ما هي فيه.
ومن تخاذلنا صار المخرج التلفزيوني المسلم يقفو أثر بني صهيون، ويتحكم في إعلام الناس، فيجب علينا أن نقف في وجهه، وأن نمتنع عن ذكره وعن نشر أخباره في الصحف، ولا يوضع تحت الميكروسكوب، ولا تحت الأضواء، بل نهمل ذكره.
ولا تستيقظ هذه الأمة إلا بتكوين لجنة أو مؤتمر كبير يسمى: مؤتمر النهوض بالأمة، يعمل جميع الأسئلة والاقتراحات في أي وقت سواء كانت عبر البريد الإلكتروني أو الفاكس أو التلفزيون أو غيرها، وذلك لدراسة سبب تخلف الأمة، ثم تصاغ الصياغة لمعرفة من أين يبدأ، ويكون ذلك مع بعض الدعاة وأصحاب الحل والعقد والمفكرين على مستوى العالم الإسلامي.
ونحن كعرب نريد الحل الآن، ونريد أن نقول: إن الجيل الذي فوق الخمسين الآن الذي يقود في كل مكان يعمل مرحلة، وبعد عشرين يتسلمها الجيل الذي بعده، فعلى مدى قرن إن شاء الله ستنهض الأمة.
لكن أن نترك هذا ينتقص من ديننا وهذا ينتقص من علمنا، ليس هذا عمل الصالحين أو عمل الناس الذين يريدون حسن الخاتمة، فلابد أن نجتمع في وجهة التقارب مع بعضنا البعض، ونحب بعضنا بعض، فلن نجتمع إلا بحب، فنحب الأوطان ونحب البلاد؛ لأن ما من متدين إلا ويحب وطنه، ومن أكثر الناس حباً لمكة رسول الله وهو خارج منها، ونحن كلنا نحب أوطاننا ونحب أوطاننا أكثر عندما تتمسك بالإسلام.
إذاً: البداية من عند القرآن والسنة، وإن لم نبدأ من القرآن والسنة وننتهي إلى القرآن والسنة، فإن ذلك من سوء الخاتمة.
النوع السادس: من الأعمال التي تعمل على سوء الخاتمة الرياء، قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ [النساء:142] والرياء صورة من صور النفاق، والمنافق له علامات، منها: أنه يظهر عكس ما يبطن.
وكلمة النفاق مشتقة من نفق اليربوع، واليربوع حيوان يأوي إلى جحر له بابان، فإذا انسد أحدهما خرج من الآخر، والوصف بالنفاق أمر صعب، فلا يوصف إنسان بالنفاق إلا إذا اكتملت فيه الشروط.
وللنفاق دلائل تدل عليه، وهي: إذا حدث كذب، فهو كذاب ولم يكذب مرة فقط بل يكذب مرات كثيرة، وإذا وعد أخلف، وليس ذلك مرة، فلا تصف إنساناً بالنفاق لأنه وعدك ثم أخلف الوعد وهو ينوي ألا يخلف، بل تلتمس له سبعين عذراً، فهو ليس منافقاً في هذه اللحظة، وإن وصفته بالنفاق فإن النفاق يرتد عليك.
فالخلف هو أن تعد شخصاً أن تأتي إليه وتنوي ألا تأتي، فمن تيقن فيه أنه لا يفي بوعده ففيه خصلة من خصال النفاق.
ومن الدلائل التي تدل على النفاق: أنه إذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اجتمعت الأربعة في إنسان كان منافقاً خالصاً.
والرياء هو التجمل أمام الناس، لكن مع أهله فهو بذيء اللسان، طويل اليد، قابض الكف في الإنفاق بخيل، بينه وبين أولاده أو زوجته حواجز، إذا جلس في مكان أمام الناس فإنه يعامل زوجته معاملة أخرى، ويقول كلاماً كبيراً، ويصادق الأولاد، فهذا هو الرياء، أو يصلي في بيته بدون طمأنينة وأما في المسجد فإنه يطمئن في صلاته.
فهذا يدخل في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون:6].
ففي يوم تسعة وعشرين من رمضان لا تجده في المسجد، فإنه كان يصلي لرمضان، من أجل أن يقال عنه: فلان كان يصلي في رمضان، فهذا رياء والعياذ بالله رب العالمين، فلابد أن نعيد الحساب، قال تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، فالمسلم لا يريد أن يحمد بشيء يصنعه، أو أن ينسب إليه خير لم يعمله.
فمن المصائب أن تنسب إلينا أعمال لم نقم بها، وهذا من باب الاستدراج والغرور، وعدم رضا الله.
وإذا نسبوا إلينا مرة فلتكن لنا وقفة مع النفس؛ لكي نكون كما نسب إلينا، وإذا لم نستطع ذلك فلنحاول، وإذا فشلنا فلنحاول مرات وننوي الخير من أجل أن نؤجر على النية، وإذا اعترتنا في أنفسنا بعض الوساوس أو الأقاويل بأن هذا سيكون محرجاً لنا مثلاً، أو أن هذا يتنافى مع مكانتنا ومقامنا، فمرضاة الله هي المقصد الأسمى في المسألة، ونسفه هذه الوساوس والأقاويل بل ونواجهها.
والرياء لم يكن موجوداً عند السلف الصالح قديماً، ومعلوم أن اليسير من الرياء شرك والعياذ بالله، ولو أن إماماً يصلي بالناس وبينما هو راكع إذ شعر بدخول أحد المسبوقين فانتظر في ركوعه من أجل أن يدرك المسبوق الركعة، فعند أبي حامد الغزالي رحمه الله وهو رأي للشافعية أن صلاة الإمام باطلة؛ لأنه لم يصل لله.
وقال ابن عباس : لو قلت: لولا الكلاب لسرقتنا اللصوص لكنت مشركاً.
وكذلك من قال: إن الماء يروي، وإن الدواء يشفي، فإن هذه أسباب لا تنفع ولا تضر، وإنما النافع والضار هو مسبب الأسباب، وإنما يجب علينا أن نأخذ بالأسباب ونحن مكلفون بها.
فمن اعتقد بقلبه أن الأسباب تنفع وتضر دون الله تعالى فإن هذا من سوء الخاتمة، فعلينا أن نصحح ما في قلوبنا من هذه الاعتقادات الخاطئة، فنحن مصابون في قلوبنا.
وسوء الخاتمة معلق على القلب أولاً، ثم الجوارح ثانياً، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح كلها، وكل الناس تخاف من أمراض القلب، فلو حصل أي ألم في القلب فإن المتألم يذهب إلى الطبيب؛ لأنه خايف على دنياه، لكن لو أصيب في قلبه فصار لا يخشع في صلاته، ولا يقشعر جلده من ذكر الله، ولا يحن على الناس، ولا يتواضع، أو أن قلبه مليء بالكبر وبالحقد، فإنه لا يذهب إلى طبيب القلوب!
والعلماء قسموا القلوب إلى أربعة:
القلب الأول: قلب لا يحب إلا الله، وهذه قلوب الصحابة، فصاحب هذه القلوب تجده في أي وقت يحب الله عز وجل، ودوداً مع إخوانه، متواضعاً، هادئ النفس، كريماً، مضيافاً، بشوشاً، وكل الناس تشكره.
الثاني: قلب الدنيا فيه جاثمة، فصاحب هذا القلب إذا أعطي منها رضي، وإن لم يعط ظل ساخطاً.
الثالث: قلب ساعة وساعة، أي: بين بين، فعندما يأتي رمضان فإنه يعبد الله، ولذلك أحمل رسالة مهمة إلى كل المشاهدين والمشاهدات الذين واظبوا على العبادات في رمضان ألا يتركوها بعد رمضان؛ فإن ذلك من إحباط القلب.
أما الذي يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما)، فلا يعبد الله إلا في رمضان، فهذا احتجاج في غير محله، فإن رمضان هو القمة في العبادة، والحسنة فيه مضاعفة، فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما بشرط ما اجتنبت الكبائر، ومن الكبائر الكذب والربا والظلم والافتراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر).
الرابع: قلب أحياناً تعلو عنده الآخرة فيلتزم قليلاً في درس علم، أو جلسة طيبة، أو تذكير بآية أو بأحاديث، أو يتفاعل مع قضية معينة، وأحياناً الدنيا تأخذه في أوديتها وشعابها، فهذا قلب متردد، ويوم القيامة يأتي إلى حرف الصراط فنوره مرة يضيء ومرة يخبو، كما قال تعالى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20]، فإن الصراط مظلم، ولا يجتاز إلا بنور الإيمان.
إذاً: سوء الخاتمة معلق على القلب أولاً، والقلب فيه من الأمراض الكثيرة التي تستلزم منا وقفة صادقة؛ لنصلح ما في القلب بتوبة صادقة، كما فعل أحد الكفار في غزوة الخندق عندما قال لرسول الله: يا محمد! لو أنا أسلمت الآن، وجاهدت معك هؤلاء، وقتلت في سبيل الله أأدخل الجنة؟ فلما عرف أن الإجابة بالإيجاب نطق بالشهادتين، وبدل ما كان الفرس ناحية المسلمين صار الفرس ناحية الكفار، فجاءه سهم غرب -أي: سهم طائش- فرزق الشهادة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (تبوأ الفردوس الأعلى وهو لم يسجد لله سجدة) وهذا من حسن الخاتمة.
فهذا هو الفرق في حالتي المقتول، فمن قتل ونيته ابتغاء وجه الله ودخول الجنة فقد نجح وأفلح، ومن قتل في غير هذه النية فقد خسر خسراناً عظيماً.
وفي القرآن الكريم تجد أن عدد آيات الرحمة مائتين وثلاث عشرة آية، وآيات العذاب مائتين وثلاث عشرة آية كذلك، وآيات الجنة مائة وسبع وخمسين آية، وآيات النار مائة وسبع وخمسين آية.
أما الاعتماد على الشفاعة في الآخرة بدون أخذ الأسباب من الأعمال الصالحة، وطاعة الله ورسوله، فهذا غرور بالله سبحانه وتعالى، فإن الشفاعة تكون لرجل نتيجته تسعة وأربعين بالمائة، وإنما يحتاج درجة واحدة، فإنه يشفع له، وكذلك تكون الشفاعة لمن قال: لا إله إلا الله، فيخرج من النار بعد أن يأخذ مدة في العقاب.
أما أن تفسر الشفاعة بأنها دخول الجنة مباشرة فإن هذا الكلام يملأ القلوب بالأماني والغرور بالله سبحانه وتعالى، ويملأ القلوب بالظلمة، فلا يُعبد رب العباد حقيقة العبادة التي خلقنا من أجلها.
والبعض يتذرع في دخول الجنة بما ورد في الأثر السابق، فإن هذا الرجل عنده رصيد يتوجه به إلى الرب العظيم، أما نحن فأين رصيدنا من قيام الليل، أو رعاية اليتامى، أو رعاية الأرملة والمطلقة في المجتمع، فقد أصبحتا في زماننا مثل الكلبين الضالين.
السؤال: لماذا تركز على النساء تحديداً في المجتمع؟
الجواب: لأنهن ضعيفات، وأما ضعف الرجال أمام النساء كما هو مشاهد في عصرنا الحالي فإنه ناتج عن ضعف إيمان الرجال بالله تعالى، فلو عامل الرجال نساءهم بما يرضي الله لنزلت علينا البركات من السماء، ولخرجت بركات الأرض، لكن المعاملة فيما بينهم تسخط الله، فلذا تجد أن المرأة لا تدعو على زوجها أو أبيها فقط، وإنما تدعو علينا كلنا، وبهذه الدعوات تسوء الخاتمة، فتدعو على العلماء والدعاة الذين علموهم، وتدعو على الإعلام وعلى العاملين فيه، بل تدعو على الدولة بأسرها، وتستجاب دعوتها؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة، فكم من دموع ثكالى ودموع أرامل ودموع مطلقات منبوذات في المجتمع وكأنهن مصابات بداء خطير معدي، فإن من شواهد سوء الخاتمة أن يكثر الظلم في المجتمع أياً كان نوع ومستوى الظلم.
وقد دخلت امرأة النار في هرة، وهذا بسبب ظلم هرة فكيف بظلم العباد!!
السؤال: فضيلة الدكتور عمر عبد الكافي ! كيف نستعد للقاء الله سبحانه وتعالى ونحسن خاتمتنا؟
الجواب: لن تصلح أمورنا إلا بما صلحت به أمور أسلافنا، فقد صلحت أمور أسلافنا بالكتاب والسنة، ونحن طالما نؤلف ونضع العقل فيما لا يصلح أن يوضع فيه، فنضع قوانين ومناهج عجيبة لأنفسنا فلن تصلح نهايتنا.
والذي نريد أن نطالب الناس بتطبيقه هو الدين المفروض، أن نرى كل مسلم ومسلمة نسخة من القرآن تسير على الأرض.
والمصيبة الكبرى هي أن نرى حافظ القرآن وهو يتعامل مع البنك الربوي، أو أن زوجته غير محجبة، أو يأكل ميراث الآخرين، أو يظلم فلاناً، أو يجور على حق الجار، فقد صار القرآن حجة عليه، وسوف يأتي ليشهد عليه يوم القيامة، فالمطلوب منا المحافظة على الدين كل والعمل به.
والصحابة رضوان الله عليهم لم تكثر أسئلتهم كما هو الحال في كثرة أسئلتنا، فقد سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر سؤالاً، لأنهم كانوا يعملون بالدين في واقع حياتهم، أما نحن فلا نعمل، وعلى هذا ربينا، فلنعد صياغة تربيتنا مرة أخرى على منهج الكتاب والسنة.
ولو سار المسلم بمصباح الكتاب والسنة لصغرت في طريقه هذه الفيروسات والميكروبات واضمحلت وما صارت في حياته شيئاً، وما صار في حياته إلا الله ورسوله، فهذا الكلام يقين وليس كلاماً نظرياً، هذا كلام عملي.
فسر في طريق الله تجد الدنيا تسير خلفك، ولن يأتيك منها إلا الحلال، وسوف يأتيك منها نصيبك، فاللص الذي سرق لو صبر لما أخذ ما سرقه إلا من حلال، لكن من يفهم هذا الكلام، والموظف المرتشي لو صبر ولم يرتش ويمد يده لجاءته هذه الرشوة من طريق حلال.
والصبر كلمة تتكون من ثلاثة أحرف، لكن حينما نترجمها إلى تهذيب النفس وإصلاحها، فإنها تستغرق طوال العمر.
ومن حق الإنسان أن يعيش بمرضاة الله، هذه هي المعيشة الحقيقية، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، وقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96] أي: ولتجدنهم أحرص الناس على معيشة الهوام والحشرات والدواب والإبل، أما الحياة الحقيقية فليست إلا بكتاب الله، وحياة القلب عندما يحيا بكتاب الله سواء في رمضان أو في غير رمضان، بالليل أو بالنهار، في العلن أو في السر.
والمسلم إذا أراد أن يحيا الحياة الحقيقية فإنه يضطهد من قبل الحكومات ويطرد ويشرد، وهذا ميراث النبيين، فلن تضاء آخرته إلا إذا احترقت دنياه، ومن احترقت بدايته أشرقت نهايته، يعني: أحرق الشهوات والغرائز، وأحرق اللسان الذي يكذب ويتسول وينم ويخوض ويتكبر، بأن أغفل الشهوات والغرائز ورباها، وزكاها.
وهذا الأمر يحتاج إلى مجاهدة، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، والصحابة جاهدوا أنفسهم، يقول أحدهم: نزل القرآن وكنا أصحاب خمر نشربها، فلما طاف أنس في شوارع المدينة ونادى: يا معشر المسلمين! إن ربكم قد حرم الخمر من فوق سبع سماوات، أراق المسلمون جرار خمورهم في الشوارع حتى كأن سيلاً عرماً أصاب شوارع المدينة، حتى ظلت رائحة الخمر أسبوعاً كاملاً في المدينة من كثرة الخمور ومن كان في فمه جرعة ألقاها، أي: مجها.
فهذا هو الجهاد الحقيقي، وأما نحن فإننا نتفلسف كثيراً، بل إن كثرة الأسئلة وكثرة الفلسفة وكثرة الجدال هي التي أزاحتنا إلى الوراء، لكن يجب علينا أن نضع خطة تعيدنا إلى الكتاب والسنة.
ومن أراد أن ينقي نفسه فليقرأ سيرة السلف، ومن أراد الكتلوج فإنه واضح وبين وبسيط وميسور، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أريد أن أدخل الإسلام فعلمني، فقال رسول الله: يا أبا ذر ! علم أخاك الإسلام، فيقرأ عليه سورة الزلزلة فقط، فيبكي الرجل ويقول: كفاني تعليم، وذهب الصحابي يجاهد في سبيل الله.
فليس من المسلمين من لم يحمل هم الإسلام وهم المسلمين، فيجب علينا أن نحمل هموم الأمة في أن نأخذها بأيديها إلى سواء السبيل، وما نحن إلا ذرة تراب في بناء الإسلام الكبير.
السؤال: نرجو منكم دعاء نختم به هذا اللقاء.
الجواب: اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، وارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، وهيء لبناتنا الأزواج الصالحين، ولأبنائنا الزوجات الصالحات، واطرد عنهم شياطين الإنس والجن يا رب العالمين.
اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، وارحم كل ميت، وانصر كل مجاهد، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ومن أراد بنا سوءاً فاردد سوءه إليه، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين، وإخرجنا من الفتن سالمين غانمين إنك على ما تشاء قدير.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قيم المتقين | 3332 استماع |
ثمرات المعاصى | 3262 استماع |
سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار | 3248 استماع |
الشكر لله | 3163 استماع |
المحاسبة | 3072 استماع |
المال أمانة | 3021 استماع |
الرضا | 3009 استماع |
العطاء من المخلوق حرمان والمنع من الله إحسان | 2988 استماع |
الشوق لله | 2915 استماع |
قصة حياة | 2909 استماع |