أنصفوا العمال أيضاً


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد..

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا المجلس (78) في سلسلة الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنة 1413 للهجرة، وأول عنوان أطرحه بين أيديكم (لكي نكون منصفين).

لقد قلت لكم بالأمس: (أنصفوا المرأة) وأنا اليوم أقول لكم: و(أنصفوا العمال) أيضاً، وهذا هو عنوان حديثنا في هذه الليلة، وكما حاولت أمس أن أهدئ مشاعر الرجال بوعد مفتوح بدرس يكون عنوانه: أنصفوا الرجل؛ فإنني أحاول اليوم أيضاً أن أهدئ مشاعر أرباب العمل والكفلاء بأمرين:

أولهما: أن أقول: إن ما سوف أذكره اليوم من مظالم حاقت بهؤلاء النفر الضعاف من العمال الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً، وكثرت وانتشرت وذاعت وشاعت، إنها وإن كانت أمراً مشتهراً كثيراً إلا أنه ليس قاعدة مطردة، فنحن نعرف بين أرباب العمل والكفلاء من يتميزون بالصدق والإنصاف والإخلاص والعدل حتى إن أحدهم يعامل عماله ومن تحت يده كما يعامل أولاده.

إذاً ما نقوله ليس قاعدة عامة، وليس اتهاماً لكل صاحب عمل، ولا لكل مالك مؤسسة، ولا لكل قائم على شركة، فإننا نعلم بين هؤلاء من يقوم بالحق والعدل والقسط، ولهؤلاء منا الدعاء ولهم من الله عز وجل الأجر والثواب بإذنه سبحانه، ولكنَّ حديثنا عن فئة خاصة، وطائفة معينة -وليست بالقليلة- من أولئك الذين يسومون عُمَّالهم سوء العذاب.

وثانيهما: أن كلاً من الطرفين: العمال وأرباب العمل، يتحمل جزءاً من المسئولية، وكما أن للعامل حقوقاً يجب أن يأخذها، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العامل راعياً ومسئولاً عن رعيته وكما في الحديث الصحيح {ما من والٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} فالمحافظة على مواعيد العمل بإتقان ودقةٍ وانتظام هو من الواجبات على العامل، وقد يتأخر الكثير من العمال بعذرٍ أو بغير عذرٍ عن أداء عمله في الوقت المحدد وعلى الوجه المطلوب.

والمحافظة على مال الغير كفيلاً كان أو رب عمل أو غيرهما هو ضرورة أيضاً وواجب وهو جزء من الأمانة في عنق العامل، قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود وغيرهما عن أبي هريرة وهو حديث صحيح، وفي الباب عن أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وغيرهم، فلا يجوز أن تأخذ مال الغير ظلماً أو سرقةً أو اختلاساً أو غصباً، ولا حتى يجوز عند طائفة من أهل العلم أن تأخذ ماله وأنت تقول: إنه ظلمني وأنا آخذ بعض حقي منه وقد ظفرت به؛ فإن من أهل العلم من لا يجيز ذلك قط، ومنهم من يحمل الحديث على الاستحباب ألا تأخذ مال الكفيل، ولو كان ظالماً لك معتدياً على حقك.

وقد يحافظ العامل أحياناً على الوقت المحدد للعمل، ولكنه لا يقوم بالواجب المنوط به ولا يؤديه على الكفاية وهو يعلم في قرارة نفسه أنه يستطيع أن يقوم بالعمل بصورة أفضل، وأن ينجزه بطريقة أحسن مما فعل لو أنه استشغر المسئولية وستحضر الإخلاص لله تعالى، وقد روى البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} إنه ليس من الإتقان، ولا من المسؤولية في شيء أن يقدم الإنسان نفسه للآخرين على أنه يحسن كل عمل، ويجيد كل فن ولا يعتذر عن شيء، ولكنه لا يحسن شيئاً قط.

كما إنه ليس من القيام بالمسؤولية أن يحضر العامل في الوقت المحدد، ويورَّي بالقليل من الأعمال، فإذا جاء الكفيل تظاهر بأنه منهمك في العمل، مخلص فيه، فإذا أعرض عنه عاد إلى الدعة والراحة والسكون، فإن خصمه حينئذٍ هو الله عز وجل وليس خصمه الكفيل الذي يحضر ويغيب.

قد يقول قائلٌ: هل انتهت قضايا المسلمين ومشاكلهم وأحداثهم على المستوى العالمي والإسلامي والعربي والمحلي حتى لم يبق إلا قضية العمال لتتحدث عنها! فأقول: إن عذري وشفيعي في حديثي في هذا الموضوع عدة أسباب لعلك أن تسمعها فتقتنع بها:

نصرة المظلوم

أولها: إنها من أعظم القضايا على كافة الأصعدة على المستوى الدولي والإسلامي والمحلي، وواجبنا جميعاً أن نقف في صف المظلوم لإنصافه ممن ظلمه بكل وسيلة نستطيعها، قال الله تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75] على أحد الأوجه في تفسير الآية فإذا لم نستطع أن نقاتل في سبيل الله لحماية المستضعفين، فلا أقل من كلمة حق وعدلٍ يقولها الإنسان ينصف بها مظلوماً.

فواجبنا جميعاً أهل الإسلام أن نتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعيننا وهو حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام }.

الأمة يجب أن تقدم نفسها نصيراً للمظلومين ومدافعاً عن حقوقهم حتى ولو كانوا في أرضٍ غير أرضها، وفي بلادٍ غير بلادها، ولو كان الذي يمارس الظلم معهم من جنس آخر، أو دين آخر، أو نحلة أخرى، فكيف وقد أصبح الظلم اليوم قائماً في الأمة نفسها، تمارسه وترضى به وتقره، وربما سمعنا -مع الأسف الشديد- اليوم أصواتاً منكرة غريبة غربية وشرقية تنتقد انتهاكات حقوق العمال في هذه البلاد، وفي بلاد أخرى, وتعلن أنها المدافع عن حقوقهم وتناديهم باسم النصرانية ليرفضوا هذا الظلم الذي يقع عليهم من المسلمين.

إنها المرتبة التي فرطنا فيها وتخلينا عنها يوم رضينا أن ننشغل بأمورنا الخاصة، وتركنا للكافر أن يتظاهر بالعدل، وأن يقدم نفسه مدافعاً عن حقوق المستضعفين، فهذا سبب.

كثرة العمال

السبب الثاني: أن العمال اليوم في بلاد الإسلام كلها عددٌ غير قليل وفي بلاد الخليج بصفة خاصة يصدق على حالها قول المتنبي عن شعب بواد:

ملاعب جلة لو سار فيها     سليمان لسار بترجمان

ولكن الفتى العربي فيها     غريب الوجه واليد واللسان

وهنا في هذه البلاد يقول الكتاب الثانوي الإحصائي لوزارة المالية والاقتصاد الوطني لعام (1410هـ) يقول ما يلي:

إن عدد الإقامات الممنوحة من الجوازات في جميع المناطق عام (1406هـ) هو (563.747) خمسمائة وثلاث وستون ألف وسبعمائة وسبع وأربعون، أي أكثر من (560) ألف إقامة (خمسمائة وستون ألف) إقامة.

أما في عام (1410هـ) وبعد أربع سنوات فقد قفز العدد على رغم الظروف قفز إلى (705.679) إقامة أفلا تعتقد أن سبعمائة وخمس آلاف أو جزءً كبيراً من هذا العدد أنهم جديرين بأن يتحدث الإنسان عنهم، إن من بين هؤلاء خمسمائة وست وأربعون أو ست وسبعون ألف رجل، أما البقية فمن النساء.

فمثل هذا العدد الضخم الذي يقارب المليون -هذا قبل ثلاث سنوات- وربما وصل الآن إلى أكثر من ذلك، إن مثل هذا العدد يشكل جزءاً كبيراً في المجتمع، ويؤثر فيه تأثيراً بليغاً في أداء المجتمع وأخلاقه وأعماله ومستوياته ولابد أن يحظى بحديثٍ عنه.

إمكانية دعوتهم للخير

السبب الثالث: أن وجود هذا العدد الضخم كان من الممكن توظيفه بصورة سليمة لو أننا أفلحنا ونجحنا، فكان من الممكن إعطاء هؤلاء القادمين صورة واقعية جميلة عن المجتمع المسلم العادل النظيف، لكن المؤسف أن معظم هؤلاء يرجعون بانطباعٍ سيء عن هذه البلاد وأهلها، بل إن أي بلدٍ يلقون فيه الإهانة والإذلال سوف يرجعون عنه بالانطباع ذاته، وكيف تظن بعامل كلف بما لا يطيق، وعومل بصورة شرسة لا إنسانية، وعُدِّل العقد معه بعدما وصل إلى هذه البلاد، وأسكن في زرايب لا تصلح لسكنة، الدجاج فضلاً عن الحيوانات، وأخر راتبه شهوراً بل سنوات، ثم سُفِّر على حسابه الخاص، فرجع يجر أذيال الخيبة.

ثم هذا الإنسان لم يواجه من الكثير فحسب، بل واجه من المجتمع كله النظرة المحتقرة، وعدم الاحترام، وعدم التجاوب، وعدم الاهتمام به، وكأننا نتصور أحياناً أن هؤلاء العمال ليسوا داخلين في البشر الذين يشرع الإحسان إليهم، ولو بلقمة العيش، أو بأن تحمله على سيارتك، فإن لم تطق فلو بكلمة طيبة.

أم ماذا تقول عن خادمة سيمت سوء العذاب من ربة المنـزل، واقتطع جزء من راتبها، وأهينت في المطار ذاهبة وآيبة، ثم أعيدت إلى أهلها قبل تمام مدة العقد وفي بطنها جنين يتحرك من غير الحلال.

نعم لقد قرأت هذا في صحف طبعت في إندونيسيا، وفي الفلبين وفي تايلند، وهي تشير بأصابع الاتهام والسب والشتم إلى بلاد طهرها الله تعالى وقدسها وباركها، وفضلها وأغناها، وجعلها قبلة المسلمين ومنطلق الرسالة والوحي، تشير بالحق لا بالباطل، وبالوثائق لا بالاتهامات المبهمة.

وكيف تتوقع لو أننا استفدنا من هذا القادم المسلم، فربيناه تربية إسلامية، وثقفناه ثقافة شرعية، وغرسنا في قلبه عقيدة التوحيد، وغرسنا في شخصيته أخلاق الإسلام، وعلمناه أحكام الشرع في العبادات والمعاملات وسائر شئون الحياة.

إذاً لعاد هذا العامل إلى بلده يحمل المنهج السليم، ويبلغه لمن وراءه وكان داعية خير وعدلٍ وصلاح، وكان من الممكن أيضاً أن يستفاد من ذلك العامل الكافر مادمنا قد بلينا به، ومادمنا خالفنا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن استعمالهم واستقدامهم وإسكانهم هنا، لكن مادام الأمر قد وقع؛ فكان من الممكن دعوتهم إلى الإسلام بالقول وبالفعل وتهيئة الأسباب لذلك من الأشرطة المسموعة بلغتهم، والمرئية بلغتهم أيضاً، والكتب، والنشرات، والمطويات، والندوات، والدروس، والجمعيات، والمراكز، والمكاتب التي تهتم بأمر هؤلاء من غير المسلمين؛ ولاشك أن شيئاً من ذلك يحدث، ولكن ليس هذا موضع دراسة مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، إنما لا نشك أن ما يقع هو أقل من المطلوب بكثير.

إننا نعلم أن المسلمين ينصرون، وقبل أيام قرأت خبراً أن أربعة آلاف مسلم عراقي تنصروا على يد منظمات الإغاثة التي تحمل الإنجيل بيد وتحمل الغذاء والدواء والكساء باليد الأخرى، أتدري في أي دولة تنصروا؟ إنني لا أقول لك: في فرنسا ولا في أمريكا ولا في إيطاليا؛ وإنما في بلاد الشام في سوريا، تنصر أربعة آلاف عراقي على يد جمعيات الإغاثة النصرانية، فهذا العدد الكثير موجودين في بلادنا، وقد ذكرت في إحصائية سابقة أن عددهم يزيد على ثلاثمائة وخمسين ألفاً!!! أين المكاتب التي تسعى إلى دعوتهم إلى الإسلام؟ أين الجهود؟ فعلى الأقل إن لم نفلح في دعوتهم إلى الإسلام نشككهم في دينهم أو على أقل تقدير ليضعف حماسهم لعقيدتهم، وربما يشك اليوم ويسلم غداً أو بعد غد، المهم السهم الذي لا يقتل فإنه يصيب.

ضعف العامل

السبب الرابع: أن العامل في موضع الضعف بطبيعته وحكم موقعه، وهذا يجعله عرضةً للظلم والاضطهاد من الكثيرين الذين لا يحترمون إلا منطق القوة، فالكفيل قد يظلمه، والمدير قد يبخس حقه، وصاحب العمل قد يحتقره ويوبخه ويعاتبه، والمواطن العادي لا يلتفت إليه، وينسى هؤلاء جميعاً أن هذا الرجل قد يكون مسلماًٍ صالحاً له عند الله تعالى منـزلةٌ عظيمة.

وليست العبرة عند الله تعالى بحسن البزة، ولا برفعة المنصب، بل بحال المضغة التي إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره}.

إن الضعفاء هم أتباع الأنبياء، قالوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس {أن أبا سفيان سأله هرقل: فأشراف الناس يتبعونه -يعني يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم- أم ضعفاء الناس هم قال بل ضعفاؤهم، قال: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس}.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الأكابر أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة والملأ المستكبرون قالوا له: كذبت إن هذا لشيء يراد، وقاله له الفقراء والضعفاء والشباب وغيرهم صدقت وآمنوا به وصدقوه واتبعوا النور الذي أنـزل معه.

فإن كنت رجلاً مؤمناً فلا تحتقرن أحداً، ولو كان بأسمال بالية، ولو كان على وجهه ويده أثر العمل، ولو كان لا ينطق ولا يبين، وتواضع لرب العالمين.

ولأن هذا العامل ضعيف لا يملك القدرة على رفع الظلم عن نفسه، ولا يجد من يدافع عنه إلا احتساباً، كان واجباً علينا جميعاً أن ننتدب للمدافعة عن المظلومين.

وما إن أعلنت هذا الدرس حتى انهالت عليَّ الأوراق والشكاوى والوثائق تدل على أن عدداً كبيراً من هؤلاء يسامون سوء العذاب، ولا يجدون الجهة التي يشتكون إليها، لأن صاحب العمل قد أتقن اللعبة، وحبك المؤامرة، ونظَّم الخيوط كما سوف يبين لك.

أولها: إنها من أعظم القضايا على كافة الأصعدة على المستوى الدولي والإسلامي والمحلي، وواجبنا جميعاً أن نقف في صف المظلوم لإنصافه ممن ظلمه بكل وسيلة نستطيعها، قال الله تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75] على أحد الأوجه في تفسير الآية فإذا لم نستطع أن نقاتل في سبيل الله لحماية المستضعفين، فلا أقل من كلمة حق وعدلٍ يقولها الإنسان ينصف بها مظلوماً.

فواجبنا جميعاً أهل الإسلام أن نتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعيننا وهو حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام }.

الأمة يجب أن تقدم نفسها نصيراً للمظلومين ومدافعاً عن حقوقهم حتى ولو كانوا في أرضٍ غير أرضها، وفي بلادٍ غير بلادها، ولو كان الذي يمارس الظلم معهم من جنس آخر، أو دين آخر، أو نحلة أخرى، فكيف وقد أصبح الظلم اليوم قائماً في الأمة نفسها، تمارسه وترضى به وتقره، وربما سمعنا -مع الأسف الشديد- اليوم أصواتاً منكرة غريبة غربية وشرقية تنتقد انتهاكات حقوق العمال في هذه البلاد، وفي بلاد أخرى, وتعلن أنها المدافع عن حقوقهم وتناديهم باسم النصرانية ليرفضوا هذا الظلم الذي يقع عليهم من المسلمين.

إنها المرتبة التي فرطنا فيها وتخلينا عنها يوم رضينا أن ننشغل بأمورنا الخاصة، وتركنا للكافر أن يتظاهر بالعدل، وأن يقدم نفسه مدافعاً عن حقوق المستضعفين، فهذا سبب.

السبب الثاني: أن العمال اليوم في بلاد الإسلام كلها عددٌ غير قليل وفي بلاد الخليج بصفة خاصة يصدق على حالها قول المتنبي عن شعب بواد:

ملاعب جلة لو سار فيها     سليمان لسار بترجمان

ولكن الفتى العربي فيها     غريب الوجه واليد واللسان

وهنا في هذه البلاد يقول الكتاب الثانوي الإحصائي لوزارة المالية والاقتصاد الوطني لعام (1410هـ) يقول ما يلي:

إن عدد الإقامات الممنوحة من الجوازات في جميع المناطق عام (1406هـ) هو (563.747) خمسمائة وثلاث وستون ألف وسبعمائة وسبع وأربعون، أي أكثر من (560) ألف إقامة (خمسمائة وستون ألف) إقامة.

أما في عام (1410هـ) وبعد أربع سنوات فقد قفز العدد على رغم الظروف قفز إلى (705.679) إقامة أفلا تعتقد أن سبعمائة وخمس آلاف أو جزءً كبيراً من هذا العدد أنهم جديرين بأن يتحدث الإنسان عنهم، إن من بين هؤلاء خمسمائة وست وأربعون أو ست وسبعون ألف رجل، أما البقية فمن النساء.

فمثل هذا العدد الضخم الذي يقارب المليون -هذا قبل ثلاث سنوات- وربما وصل الآن إلى أكثر من ذلك، إن مثل هذا العدد يشكل جزءاً كبيراً في المجتمع، ويؤثر فيه تأثيراً بليغاً في أداء المجتمع وأخلاقه وأعماله ومستوياته ولابد أن يحظى بحديثٍ عنه.

السبب الثالث: أن وجود هذا العدد الضخم كان من الممكن توظيفه بصورة سليمة لو أننا أفلحنا ونجحنا، فكان من الممكن إعطاء هؤلاء القادمين صورة واقعية جميلة عن المجتمع المسلم العادل النظيف، لكن المؤسف أن معظم هؤلاء يرجعون بانطباعٍ سيء عن هذه البلاد وأهلها، بل إن أي بلدٍ يلقون فيه الإهانة والإذلال سوف يرجعون عنه بالانطباع ذاته، وكيف تظن بعامل كلف بما لا يطيق، وعومل بصورة شرسة لا إنسانية، وعُدِّل العقد معه بعدما وصل إلى هذه البلاد، وأسكن في زرايب لا تصلح لسكنة، الدجاج فضلاً عن الحيوانات، وأخر راتبه شهوراً بل سنوات، ثم سُفِّر على حسابه الخاص، فرجع يجر أذيال الخيبة.

ثم هذا الإنسان لم يواجه من الكثير فحسب، بل واجه من المجتمع كله النظرة المحتقرة، وعدم الاحترام، وعدم التجاوب، وعدم الاهتمام به، وكأننا نتصور أحياناً أن هؤلاء العمال ليسوا داخلين في البشر الذين يشرع الإحسان إليهم، ولو بلقمة العيش، أو بأن تحمله على سيارتك، فإن لم تطق فلو بكلمة طيبة.

أم ماذا تقول عن خادمة سيمت سوء العذاب من ربة المنـزل، واقتطع جزء من راتبها، وأهينت في المطار ذاهبة وآيبة، ثم أعيدت إلى أهلها قبل تمام مدة العقد وفي بطنها جنين يتحرك من غير الحلال.

نعم لقد قرأت هذا في صحف طبعت في إندونيسيا، وفي الفلبين وفي تايلند، وهي تشير بأصابع الاتهام والسب والشتم إلى بلاد طهرها الله تعالى وقدسها وباركها، وفضلها وأغناها، وجعلها قبلة المسلمين ومنطلق الرسالة والوحي، تشير بالحق لا بالباطل، وبالوثائق لا بالاتهامات المبهمة.

وكيف تتوقع لو أننا استفدنا من هذا القادم المسلم، فربيناه تربية إسلامية، وثقفناه ثقافة شرعية، وغرسنا في قلبه عقيدة التوحيد، وغرسنا في شخصيته أخلاق الإسلام، وعلمناه أحكام الشرع في العبادات والمعاملات وسائر شئون الحياة.

إذاً لعاد هذا العامل إلى بلده يحمل المنهج السليم، ويبلغه لمن وراءه وكان داعية خير وعدلٍ وصلاح، وكان من الممكن أيضاً أن يستفاد من ذلك العامل الكافر مادمنا قد بلينا به، ومادمنا خالفنا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن استعمالهم واستقدامهم وإسكانهم هنا، لكن مادام الأمر قد وقع؛ فكان من الممكن دعوتهم إلى الإسلام بالقول وبالفعل وتهيئة الأسباب لذلك من الأشرطة المسموعة بلغتهم، والمرئية بلغتهم أيضاً، والكتب، والنشرات، والمطويات، والندوات، والدروس، والجمعيات، والمراكز، والمكاتب التي تهتم بأمر هؤلاء من غير المسلمين؛ ولاشك أن شيئاً من ذلك يحدث، ولكن ليس هذا موضع دراسة مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، إنما لا نشك أن ما يقع هو أقل من المطلوب بكثير.

إننا نعلم أن المسلمين ينصرون، وقبل أيام قرأت خبراً أن أربعة آلاف مسلم عراقي تنصروا على يد منظمات الإغاثة التي تحمل الإنجيل بيد وتحمل الغذاء والدواء والكساء باليد الأخرى، أتدري في أي دولة تنصروا؟ إنني لا أقول لك: في فرنسا ولا في أمريكا ولا في إيطاليا؛ وإنما في بلاد الشام في سوريا، تنصر أربعة آلاف عراقي على يد جمعيات الإغاثة النصرانية، فهذا العدد الكثير موجودين في بلادنا، وقد ذكرت في إحصائية سابقة أن عددهم يزيد على ثلاثمائة وخمسين ألفاً!!! أين المكاتب التي تسعى إلى دعوتهم إلى الإسلام؟ أين الجهود؟ فعلى الأقل إن لم نفلح في دعوتهم إلى الإسلام نشككهم في دينهم أو على أقل تقدير ليضعف حماسهم لعقيدتهم، وربما يشك اليوم ويسلم غداً أو بعد غد، المهم السهم الذي لا يقتل فإنه يصيب.

السبب الرابع: أن العامل في موضع الضعف بطبيعته وحكم موقعه، وهذا يجعله عرضةً للظلم والاضطهاد من الكثيرين الذين لا يحترمون إلا منطق القوة، فالكفيل قد يظلمه، والمدير قد يبخس حقه، وصاحب العمل قد يحتقره ويوبخه ويعاتبه، والمواطن العادي لا يلتفت إليه، وينسى هؤلاء جميعاً أن هذا الرجل قد يكون مسلماًٍ صالحاً له عند الله تعالى منـزلةٌ عظيمة.

وليست العبرة عند الله تعالى بحسن البزة، ولا برفعة المنصب، بل بحال المضغة التي إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره}.

إن الضعفاء هم أتباع الأنبياء، قالوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس {أن أبا سفيان سأله هرقل: فأشراف الناس يتبعونه -يعني يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم- أم ضعفاء الناس هم قال بل ضعفاؤهم، قال: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس}.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الأكابر أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة والملأ المستكبرون قالوا له: كذبت إن هذا لشيء يراد، وقاله له الفقراء والضعفاء والشباب وغيرهم صدقت وآمنوا به وصدقوه واتبعوا النور الذي أنـزل معه.

فإن كنت رجلاً مؤمناً فلا تحتقرن أحداً، ولو كان بأسمال بالية، ولو كان على وجهه ويده أثر العمل، ولو كان لا ينطق ولا يبين، وتواضع لرب العالمين.

ولأن هذا العامل ضعيف لا يملك القدرة على رفع الظلم عن نفسه، ولا يجد من يدافع عنه إلا احتساباً، كان واجباً علينا جميعاً أن ننتدب للمدافعة عن المظلومين.

وما إن أعلنت هذا الدرس حتى انهالت عليَّ الأوراق والشكاوى والوثائق تدل على أن عدداً كبيراً من هؤلاء يسامون سوء العذاب، ولا يجدون الجهة التي يشتكون إليها، لأن صاحب العمل قد أتقن اللعبة، وحبك المؤامرة، ونظَّم الخيوط كما سوف يبين لك.

ثالثاً: المنهج الشرعي، خرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب قال: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ [القصص:22-23] بعيدتان؛ لأنهما عفيفتان طيبتان من بيت نبوة وخير وصلاح، فلا تختلطان بالرجال ولا تقتربان منهم، فتعجب موسى وهو الفتى القوي، فسألهما عن حالهما: قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23] إذاً ما جئنا هنا إلا للضرورة لأن أبانا لا يستطيع أن يقوم بالسقي ولا بالرعي، ولذلك نقوم بهذا العمل في جو من الحشمة والبعد عن الرجال فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] وأخيراً تذهب الفتاتان إلى أبيهما، فتقولان: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26].

فها هنا الصفات المطلوبة في العامل: القوة لئلا يعجز عما وكل إليه، والأمانة لئلا يخون أو يغش، فضلاً عن الشهامة والرجولة والمروءة التي بدت على سيما موسى عليه السلام وخلقه ورفقة بالضعيف والمسكين والمحتاج، وعفافه وبعده عن النظر إلى ما لا يحل له.

عمل موسى عليه السلام في مدين

هذا الرجل صاحب العمل يخاطب موسى وقد جاءه: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27].

فأولاً حدد له قيمة الأجرة قبل أن يطلب منه العمل، الأجرة ما هي؟ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، أما العمل فهو أن تأجرني ثماني حجج -ثماني سنوات- فإن أتممت عشراً فمن عندك. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27] هذا هو العقد الكامل، العمل بالرعي والسقي معروف واضح، والأجرة هي الزواج من إحدى هاتين الفتاتين، المدة ثمان سنوات إلزامية، وسنتان اختيارية ليس فيهما إلزام.

أما رب العمل فهذه صفاته: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27] لا يشق على العامل، ولا يحمل عليه ما لا يطيق ولا يعنته ولا يكلفه يكلفه، فليس في العمل أعباء يعجز عن حملها ولا مسؤوليات يضعف عنها، ثم: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27] في أخلاقه، في معاملته، في رفقه، في حلمه، في تعليمه له، إن صحبة الصالحين سبب للصلاح والفلاح، وافق موسى عليه السلام وأعلن ذلك، قال: ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28].

وهاهنا يظهر التراضي التام بين الطرفين والاتفاق على شروط العمل، ثم قال موسى عليه السلام: وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28] إنها كلمة عظيمة الدلالة تؤكد أن الحقوق لا تضمن أبداً من خلال منظمات حقوق الإنسان، ولا من خلال مكاتب العمل، ولا حتى من خلال المحاكم، حقوقية كانت أم شرعية فحسب، وإنما تضمن الحقوق أولاً من خلال الضمير الحي الذي يراقب الله عز وجل، ويعلم أنه موقوف بين يديه، قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29].

سبحان الله! أرأيت كم بين العقد وبين انتهائه من المسافة، إنها بضع آيات ذلك بيني وبينك فلما قضى موسى الأجل، بل آية واحدة، عشر سنوات قضاها موسى، فقد قضى أطول الأجلين، لأنه رجل كريم جواد معطاء فقد رضي أن يشتغل عشر سنوات، انتهت بهذه السرعة بدون مشكلات ولا صعوبات ولا تأخير في العمل، ولا مماطلة في الأجرة، كل ذلك لم يكن بل قضى الأجل وسار بأهله، زوجته التي كانت هي التي وقع عليها الاختيار.

توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حول تعاملهم مع العمال

وفي المجتمع الإسلامي الأول في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك أرباب المزارع والأعمال، وكان هناك من يأجرون على أمور محددة لقاء أجر معلوم، فضلاً عن العبيد والأرقاء الذين قلما يخلو منهم بيت أو منـزل، فكيف ترى الحال في ذلك المجتمع؟ وبدون أن أسترسل سوف أقرأ عليك مجرد نماذج من ذلك الحديث، في باب صحبة المماليك من كتاب الإيمان والنذور في صحيح مسلم تقرأ الأحاديث التالية:

1- عن ابن عمر رضى الله عنه وقد أعتق مملوكاً، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال ما فيه من الأجر ما يساوي هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من لطم مملوكاً أو ضربه فكفارته أن يعتقه }

2- وعن ابن عمر أيضاً: [[أنه دعا بغلام له؛ فرأى بظهره أثراً- أي أن ابن عمر ضربه رضى الله عنه فرأى بظهر الغلام أثراً -فقال له أوجعتك قال: لا، قال: فأنت عتيق]].

3- عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لي فهربت، ثم جئت قبيل الظهر فصليت مع أبي فدعاه ودعاني -محكمة- ثم قال امتثل منه، قال: فعفى -خذ حقك، قال سامحتك، ثم قال له أبوه له يعلمه، قال: كنا بني مقرنٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {أعتقوها، قالوا: يا رسول الله! ليس لهم مملوك ولا خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها}.

4- عن أبي مسعود رضى الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فلم أفهم الصوت من شدة الغضب، قال: فلما دنى مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود، فألقيت السوط من يدي، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قال: فسقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: والله لا أضرب مملوكاً بعده أبداً، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله -قال عليه السلام: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار}.

5- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قذف مملوكه بالزنا؛ يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال} إذاً كل حق لا يؤخذ منك في هذه الدنيا يستوفى منك في الآخرة.

6- عن المعرور بن سويد قال: {مررت بـأبي ذر بـالربذة وعليه بردٌ وعلى غلامه مثله، فقلت: يا أبا ذر لو جمعت بينهما فكانت حلة عليك -لو لبستهما معاً لكانت حلة، إزار ورداء- فقال أبو ذر رضي الله عنه: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيَّرتُه بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وسبوا أمه، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم}.

7- عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به، وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً -أي قليلاً- فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين} يعني: لقمة أو لقمتين.

الفوائد المستقاة من توجيهاته عليه الصلاة والسلام

إنه نظام شامل وإنها أحاديث أبلغ من أي تعبير، وأقوى من كل كلام، فبأي حديث بعد كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنون أو يتعظون.

لقد بينت هذه الآيات وتلك الأحاديث كل شيء:

أولاً: بينت الحقوق للعامل سواء كانت حقوقاً شخصية تتعلق بلباسه، وطعامه، وشرابه، ومسكنه، وغذائه، وعلاجه، أو كانت حقوقاً معنوية تتعلق باحترامه وتكريمه وتقديره وعدم سبه أو شتمه أو السخرية منه.

ثانياً: بينت أصول العمل، في قيام العامل بما يستطيع وعدم تكليفه بما لا يطيق أو ما لا يستطيع.

ثالثاً: حددت العقوبات، ومتى تستخدم، وفي حق من، ومن هو الذي يستخدم العقوبة ويقرها.

رابعاً: بينت التعويضات التي تكون للعامل على أي تقصير يبدر في حقه، وكل ذلك مربوط محفوف بالخوف من الله عز وجل ومراقبته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي مسعود: {اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه}.