شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهنا الشيخ الصابوني رحمه الله سيذكر شيئاً من الفروق المنهجية، فبعد ما ذكر مسألة الصفات تفصيلاً، ومسألة كلام الله عز وجل والرؤية، بدأ يشير إلى الفروق المنهجية بين أهل السنة وبين مخالفيهم من أهل البدع، وأهل البدع كما تعلمون مناهجهم واحدة، وإن كانت تختلف طرائقهم ووسائلهم وتعبيراتهم، لكن مناهجهم في تقرير الدين واحدة، وكلها تقوم على الهوى، وهذا مما ينبغي أن يلم به طالب العلم؛ لأن طالب العلم إذا أدرك وعرف مناهج أهل البدع، سواء في تلقي الدين أو في مصادر الدين أو في منهج الاستدلال أو في تقرير العقيدة وبيانها أو في الدفاع أو في المواقف، أو في الحكم على المخالفين أو في الولاء والبراء.. ونحو ذلك، تميزت له كثير من الأشياء التي تخفى على أكثر الناس، سواء فيما يصدر عن أهل البدع قديماً أو في الحديث، فمن ألم بمناهج أهل الأهواء وفرق بينها وبين المنهج الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، وعرف وجوه التفريق استطاع أن يميز بإذن الله، وأن يملك الميزان الدقيق الذي يميز به بين البدعة والسنة فيما يتعلق بعقائد الناس وأقوالهم وأحوالهم وعوائدهم وممارساتهم ومواقفهم، لاسيما مع كثرة التلبيس في عصرنا هذا من قبل كثير من أصحاب الاتجاهات والحزبيات والشعارات؛ فإن تلبيسهم على الناس كثر، وكثير من طلاب العلم احتار؛ لأنه ما أدرك أو ما عرف الموازين الدقيقة التي قررها السلف بين البدعة والسنة وبين الحق والهدى وبين الحق والباطل وبين الهدى والهوى، فالشيخ هنا سيشير إلى شيء من الفروق في المناهج بين أهل البدع وبين أهل السنة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدع أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً ولم يقبلوه أو ... في الظاهر ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله ].

في الحقيقة أن الفراغ هنا لا ندري ما هو، لاسيما أنه ربما يكون طويلاً أو كلمة غير واضحة، فمن الصعب أن نتقول على الشيخ، لكن الظاهر من خلال السياق أنه يقصد عبارة (أنهم خضعوا لمفهوم الظاهر) بمعنى: أنهم اعتقدوا الظاهر المبني على قياس الخالق بالمخلوق، وهذه مشكلة أهل الأهواء، ويتبين هذا من خلال تقعيد القاعدة.

قال أبو عثمان: (الفرق بين أهل السنة وبين البدعة أنهم -أي: أهل البدع- إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً)، هذا منهج الجهمية والمعتزلة إذا وردهم النص من الكتاب والسنة في الصفات التي تنافي أصولهم ردوا النص، فالجهمية لا تتورع عن رد النصوص، وكذلك المعتزلة لا تتورع عن رد الأحاديث، وقد لا ترد القرآن، ولكن تتأول القرآن.

وهنا يشير إلى مذهب الفئة الثانية، وهم أهل الكلام والكثير من المعتزلة، والساقط هنا يشير إلى أنهم أخضعوا الفهم الظاهر للنصوص لأوهامهم وعقولهم، والله أعلم ما هو الساقط، لكن الذي أراده هنا وفسره أن أهل الأهواء إذا ما ردوا النصوص فإنهم اعتقدوا لها ظاهراً بحسب ما علموه من واقع المخلوقات، فإذا وردهم الخبر في إثبات اليد لله عز وجل اعتقدوا الظاهر وهو التشبيه، ثم أرادوا أن ينفروا مما اعتقدوه فوقعوا في التأويل، فهو يريد أن يقرر الأصل الثاني لأهل البدع، فالأصل الأول الرد، والأصل الثاني هو التأويل، والمنهج الأول رد النصوص، والمنهج الثاني هو التأويل، فالتأويل هو منهج الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله، وإبطال ... عقولهم وآراؤهم فيه، ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله ].

يبدو لي أن المعنى الذي يريده الشيخ من كلمة (وإبطال) هو إبطال الحقيقة الواردة في النص، أي: حقيقة الصفة الواردة في النص، وتقديم ما تتوهمه عقولهم وآراؤهم فيه، أو تقديم أحكام عقولهم وآرائهم في هذا، والعقول والآراء لا تحكم بالغيب، لكن حكموها فلما حكموها وقعوا في الضلالة، فأشار هنا إلى أنهم حكموا عقولهم، هذا ظاهر مراده، فتكون هذه قاعدة ثالثة من مناهج أهل الأهواء:

المنهج الأول: رد النصوص.

والمنهج الثاني: تأويل النصوص.

والمنهج الثالث: إبطال دلالات النصوص وتحكيم العقول فيها.

والعقول مسكينة؛ فعقل الإنسان ما أدرك نفسه، فأي عاقل من العقلاء مهما أوتي من الذكاء وقوة العقل لو قيل له: صف لنا عقلك، وكيف يعمل عقلك؟ لما استطاع، لكن هم حملوا العقول ما لا تطيق وستخاصمهم يوم القيامة.

ويحتمل أن العبارة الساقطة صرفها إلى منهج السلف، وكأنه يريد أن يذكر أن السلف لا يحكمون عقولهم، هذا وارد، بمعنى: أنه انتهى من تقرير أقوال أهل البدع وذكر أنهم يحكمون عقولهم، وأن السلف لا يحكمون عقولهم؛ لأن السقط طويل فيما يظهر من كلام المحقق، فإنه قال: إنه بياض مقداره صفحة.

ثم أشار إلى منهج السلف بأنهم لا يحكمون العقل ولا يدخلون عقولهم، فعلى هذا نقول: إن الشيخ بدأ في تقرير منهج السلف فيما بعد في قوله: بأن السلف لا يحكمون عقولهم وآراءهم في الدين، ثم ثانياً يعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم على ما قاله، يعني: أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات الله عز وجل وأفعاله وأسمائه حق على حقيقته على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مراد الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إذ هو كان أعرف بالرب جل جلاله من غيره، ولم يقل فيه إلا حقاً وصدقاً ووحياً، قال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، قال الزهري إمام الأئمة وغيره من علماء الأمة رضي الله عنه: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ].

هذه ممكن نسميها القاعدة الثالثة من مناهج السلف، القاعدة الأولى: إثبات ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تحكيم العقول في ذلك.

والقاعدة الثانية: أنهم يعلمون يقيناً أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على ما قاله؛ لأنه أعرف الناس بربه، وأنه لم يقل إلا حقاً وصدقاً ووحياً.

القاعدة الثالثة هي التي قالها الزهري، وهذه من أعظم قواعد الدين التي عليها الإجماع، وهي من العواصم بإذن الله، فمن اعتصم بمثل هذه القاعدة سدد ووفق، وسلم من الأهواء والبدع والتحريف لكلام الله تعالى ولكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي: (على الله البيان)، بمعنى: أن الله بين؛ فمن ادعى أن النصوص تحتاج إلى تأويل فقد اتهم الله بعدم البيان.

(وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ)، ومن ظن أننا نحتاج إلى شيء جديد في تقرير الدين كالتأويل والتحريف الذي عليه أهل الأهواء فقد اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ.

ثم قال: (وعلينا التسليم) وهذا هو بيت القصيد، بمعنى: أن علينا التسليم بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله بين، وأن الرسول بلغ، والتسليم هو الإذعان، ويبدأ التسليم بالتصديق أولاً، ثم الإذعان والخضوع ثانياً، والامتثال ثالثاً.

ولا يتم التسليم إلا بهذه الأركان: التصديق، ثم الإذعان والخضوع والاستعداد للعمل، ثم بعد ذلك الاعتقاد والعلم، فإن كان النص يتعلق بالاعتقاد وجب علينا أن نسلم بهذا الاعتقاد، وإذا كان النص يتعلق بالاعتقاد والعمل أو بأحدهما وجب التزام مقتضى النص والتسليم به.

قصة الجعد بن درهم مع وهب بن منبه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وروى يونس بن عبد الصمد بن معقل عن أبيه أن الجعد بن درهم قدم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى، فقال: ويلك يا جعد ! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، يا جعد ! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك، فاتق الله! ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب ].

وهب بن منبه رحمه الله تفرس في الجعد أنه صاحب هوى، وأن هواه سيلقيه إلى مثل هذه الضلالة، وهذا النص عن وهب نقل كثيراً، وهو كما تعلمون من الآثار المشهورة، وقد قرر فيه عقيدة أو منهج السلف ومنهج المخالفين في وقت واحد، فأما منهج السلف فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ودون تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، لذلك قال: (ويلك يا جعد ! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله عز وجل في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك)، فهو بهذا يقرر منهجاً من مناهج السلف، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر بالعكس منهجاً من مناهج أهل الأهواء وهو عدم اليقين فيما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم اليقين يتمثل في هذه الحادثة وفي هذا الأثر أولاً بالسؤال عن صفة الله، فلا يسأل عن صفات الله وهو يعلم أنها غيب وهو يعلم أن الله عز وجل لا تحيط به الأهواء ولا تدركه العقول لا يسأل عنها إلا مشكك أو مبطل أو صاحب هوى أو مريض القلب، وإلا فلمَ يسأل، فلذلك قال له وهب : (ويلك يا جعد ! بعض المسألة)، يعني: اقصر عن السؤال، ولا تسأل عن مثل هذا السؤال.

ثم قال: (إني لأظنك من الهالكين)؛ لأنه يعرف أن من مناهج أهل الأهواء إثارة مثل هذه الأسئلة؛ فإن كان تشكيكاً فهو مرض، والمرض إذا لم يوفق صاحبه لعلاجه تمادى به حتى يصبح من الأمراض المستعصية التي تؤدي إلى الهوى، وإذا كان على سبيل التعنت وسبيل الإحراج فهو كذلك هوى، وقد يكون على سبيل التلقي عن الآخرين وهو الغالب، بمعنى: أن الجعد تلقى مثل هذه الإشكالات عن فلاسفة الصابئة وعن فلاسفة اليهود وفلاسفة النصارى وعن الفرق والملل الذين كان يعايشهم، وقد ذكر أهل العلم في سيرته أنه طاف بعض المناطق التي يوجد فيها فلاسفة، ويوجد فيها بعض الفئات من أهل الكتاب الذين عندهم إشهار لهذه البدع فيما بينهم، فعايشهم وخالطهم فوجد عندهم هذا الشك؛ فلذلك سأل هذا السؤال، فتفرس فيه وهب بن منبه أنه من الهالكين، بمعنى: أنه سلك طريق الهالكين، وأخذ عنهم، ولذلك وقع في قلبه البدعة فأثار السؤال من باب الإشهار لهذه البدعة، فربما ما استطاع أن يعطل أو يؤول لكنه سأل، وهذه طريقة أهل البدع في بدايتهم يثيرون الإشكالات والأسئلة التي تقرر مذاهبهم؛ لأنهم لا يجرءون على تقريرها من أول وهلة، ومع ذلك بعد وفاة وهب بن منبه -بل وربما قبلها- ظهرت حقيقة الجعد التي تفرسها أو توسمها وهب حيث أعلن التعطيل، ثم لما أنكر بعض صفات الله عز وجل وبعض أفعاله مثل الخلة والتكليم، لما ظهر ذلك منه تصدى له السلف وناظروه وأقاموا عليه الحجة، وأمروه أن يكف عن إفساد العوام وطلاب العلم، فلم يكف، فناظروه مرة أخرى وثالثة ورابعة؛ ناظروه بالقرآن والسنة والحجة العقلية فلم يرتدع، فرأوا ضرورة قتله؛ لكف فساده عن الأمة، فقتل.

وقصته مع خالد بن عبد الله القسري معروفة كما سيذكر المؤلف رحمه الله بعد قليل.

المهم أن في هذا تقريراً لمنهج السلف في أصل إثبات الصفات، وكشفاً لمنهج المخالفين في الصفات الذي يبدأ بالتشكيك وإثارة الإشكالات والتعطيل والإلحاد في أسماء الله وصفاته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وخطب خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالبصرة فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، بارك الله لكم في ضحاياكم؛ فإني مضحٍ اليوم بـالجعد بن درهم ؛ فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً سبحانه وتعالى عما يقوله الجعد علواً كبيراً، ونزل عن المنبر فذبحه بيده، وأمر بصلبه ].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وروى يونس بن عبد الصمد بن معقل عن أبيه أن الجعد بن درهم قدم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى، فقال: ويلك يا جعد ! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، يا جعد ! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك، فاتق الله! ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب ].

وهب بن منبه رحمه الله تفرس في الجعد أنه صاحب هوى، وأن هواه سيلقيه إلى مثل هذه الضلالة، وهذا النص عن وهب نقل كثيراً، وهو كما تعلمون من الآثار المشهورة، وقد قرر فيه عقيدة أو منهج السلف ومنهج المخالفين في وقت واحد، فأما منهج السلف فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ودون تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، لذلك قال: (ويلك يا جعد ! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله عز وجل في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك)، فهو بهذا يقرر منهجاً من مناهج السلف، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر بالعكس منهجاً من مناهج أهل الأهواء وهو عدم اليقين فيما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم اليقين يتمثل في هذه الحادثة وفي هذا الأثر أولاً بالسؤال عن صفة الله، فلا يسأل عن صفات الله وهو يعلم أنها غيب وهو يعلم أن الله عز وجل لا تحيط به الأهواء ولا تدركه العقول لا يسأل عنها إلا مشكك أو مبطل أو صاحب هوى أو مريض القلب، وإلا فلمَ يسأل، فلذلك قال له وهب : (ويلك يا جعد ! بعض المسألة)، يعني: اقصر عن السؤال، ولا تسأل عن مثل هذا السؤال.

ثم قال: (إني لأظنك من الهالكين)؛ لأنه يعرف أن من مناهج أهل الأهواء إثارة مثل هذه الأسئلة؛ فإن كان تشكيكاً فهو مرض، والمرض إذا لم يوفق صاحبه لعلاجه تمادى به حتى يصبح من الأمراض المستعصية التي تؤدي إلى الهوى، وإذا كان على سبيل التعنت وسبيل الإحراج فهو كذلك هوى، وقد يكون على سبيل التلقي عن الآخرين وهو الغالب، بمعنى: أن الجعد تلقى مثل هذه الإشكالات عن فلاسفة الصابئة وعن فلاسفة اليهود وفلاسفة النصارى وعن الفرق والملل الذين كان يعايشهم، وقد ذكر أهل العلم في سيرته أنه طاف بعض المناطق التي يوجد فيها فلاسفة، ويوجد فيها بعض الفئات من أهل الكتاب الذين عندهم إشهار لهذه البدع فيما بينهم، فعايشهم وخالطهم فوجد عندهم هذا الشك؛ فلذلك سأل هذا السؤال، فتفرس فيه وهب بن منبه أنه من الهالكين، بمعنى: أنه سلك طريق الهالكين، وأخذ عنهم، ولذلك وقع في قلبه البدعة فأثار السؤال من باب الإشهار لهذه البدعة، فربما ما استطاع أن يعطل أو يؤول لكنه سأل، وهذه طريقة أهل البدع في بدايتهم يثيرون الإشكالات والأسئلة التي تقرر مذاهبهم؛ لأنهم لا يجرءون على تقريرها من أول وهلة، ومع ذلك بعد وفاة وهب بن منبه -بل وربما قبلها- ظهرت حقيقة الجعد التي تفرسها أو توسمها وهب حيث أعلن التعطيل، ثم لما أنكر بعض صفات الله عز وجل وبعض أفعاله مثل الخلة والتكليم، لما ظهر ذلك منه تصدى له السلف وناظروه وأقاموا عليه الحجة، وأمروه أن يكف عن إفساد العوام وطلاب العلم، فلم يكف، فناظروه مرة أخرى وثالثة ورابعة؛ ناظروه بالقرآن والسنة والحجة العقلية فلم يرتدع، فرأوا ضرورة قتله؛ لكف فساده عن الأمة، فقتل.

وقصته مع خالد بن عبد الله القسري معروفة كما سيذكر المؤلف رحمه الله بعد قليل.

المهم أن في هذا تقريراً لمنهج السلف في أصل إثبات الصفات، وكشفاً لمنهج المخالفين في الصفات الذي يبدأ بالتشكيك وإثارة الإشكالات والتعطيل والإلحاد في أسماء الله وصفاته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وخطب خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالبصرة فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، بارك الله لكم في ضحاياكم؛ فإني مضحٍ اليوم بـالجعد بن درهم ؛ فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً سبحانه وتعالى عما يقوله الجعد علواً كبيراً، ونزل عن المنبر فذبحه بيده، وأمر بصلبه ].

أكمل المصنف رحمه الله الكلام على صفة الاستواء، وقرر بعض الأصول المنهجية التي خالف فيها أهل الأهواء أهل السنة، ثم عاد إلى تقرير الصفات تفصيلاً، ومن الصفات التي سيقررها صفة نزول الرب سبحانه وتعالى، وهذه الصفة ثبتت بأحاديث صحاح لا يمكن دفعها، وهي من الصفات الثابتة لله عز وجل على ما يليق بجلاله دون تحكم في كيفيتها أو في لوازمها التي ربما توهم التشبيه، فالكيفية واللوازم التي توهم التشبيه يجب على المسلم ألا يعتقدها، وألا يقف عندها.

وهنا أنبه على مسألة نبهت عليها كثيراً وهي: أن كل صفة فعلية أحياناً قد يشتبه أمرها على بعض الناس خاصة غير المختصين، فيحسن الإشارة إلى أن أي سامع لخطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ولخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمور الغيب، وعلى رأسها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذا سمع شيئاً من ذلك مثل النزول قد يتوهم في خاطره أشياء، ويتخيل خيالات لا ينفك العاقل عن هذه الخيالات، فما الموقف من هذا الخيال؟

أقول: إن الخيال لا يستطيع الإنسان أن ينفك منه؛ لأن الخيالات هي الأمور التي تقرب معنى الحقائق، لكن يجب أن يعتقد السامع أنما يتخيله في حقيقة النزول ليس هو ما عليه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه أحد صمد، ليس كمثله شيء.

فإذاً: ما تتوهمه وتتخيله عندما تسمع الصفات فاعلم أنه قطعاً ليس حقيقة الصفة، سواء كانت صفة ذاتية أو صفة فعلية، والصفة الذاتية مثل: اليد والعين، والصفة الفعلية مثل: النزول والمجيء، فهي صفات تثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع الجزم بأن هذا الفعل ليس كفعل المخلوقين، فالنزول ليس كنزول المخلوقين، ولا تلزم فيه اللوازم المعهودة في الأشياء المخلوقة.

وذلك لما نسي أهل الأهواء هذه القاعدة، قاعدة: أن ما نتصوره ونتوهمه ليس هو حقيقة في صفة الرب -أي: ليس هو كيفية صفة الرب- وقعوا في التشبيه، يعني: وضعوا للنزول كيفيات في أذهانهم فلما وضعوها اعتقدوها، فلما اعتقدوها عرفوا أن اعتقادها باطل، فأرادوا أن يفروا منها ففروا إلى أمر أشنع وهو التعطيل والتأويل، مع أن القاعدة: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، والله ما خاطبنا بها ولا خاطبنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلا لأنها حقائق، لكنها حقائق تختلف عن حقائق ما نعهده في المخلوقات.

إذاً: فالنزول يثبت لله عز وجل ثبوتاً قطعياً حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، مع نفي ما نتوهمه من التشبيه أو التكييف أو الهيئة أو الشكل أو اللوازم، إلا اللوازم التي تعتبر حقاً؛ لأن اللوازم نوعان: لوازم باطلة، وهي الكيفيات، ولوازم حق، وهي التي تستلزمها الصفات، فمن اللوازم الحق في مثل صفة النزول أن نعلم أن من لوازم نزول الله عز وجل: نزول رحمته؛ لأن الله عز وجل ينزل رحمة بالعباد، ولذلك يأمرهم بأن يدعوه، لكن ليس النزول هو الرحمة، إنما الرحمة لازم من لوازم النزل، وكما نقول في اليد: من لوازم إثبات اليد: الكرم لله عز وجل، ومن لوازم إثبات اليد: القوة، ومن لوازم إثبات اليد: القدرة، ومن لوازم إثبات اليد: الخلق، فهذه لوازم حق وكمال لله عز وجل، لكن لا نعدل بها عن أصل الصفة.

وكذلك النزول؛ نعلم أنه بنزول الله عز وجل تثبت رحمته ويثبت أمره وأيضاً قد تنزل ملائكته.. إلى آخره، هذه أمور تتعلق بلوازم الصفة، لكن لا نكتفي باللوازم عن إثبات الصفة، ولا يقال في الصفة: إنها تقصر على لازمها، بل هذا هو منهج أهل الأهواء.

إذاً: امتاز منهج السلف أنهم يثبتون الصفات بما في ذلك صفة النزول وكذلك الاستواء حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع إثبات اللوازم التي تقتضي الكمال لله سبحانه في هذه الصفات، أما ما نتوهمه ونتخيله فيجب ألا نعتقده، والانفكاك عن الخيال صعب؛ لأن كثيراً من ألفاظ الصفات لا يستطيع المسلم أن تثبت في ذهنه معانيها إلا بتخيله، لكن يجب ألا يعتقد الخيال، وأن يعرف أن الخيال أوهام في نفسه، وهو أمور وأمثال تقرب للحقيقة، والله أعلم.

معنى قول السلف في الصفات: (أمروها كما جاءت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله ].

وهذه قاعدة، لكنها قاعدة تحتاج إلى تفسير، ومن قواعد السلف ومناهجهم: أنهم يمرون الخبر كما جاء، والخبر هو ما جاء في القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الأخبار وأعظمها وأجلها وأكملها الأخبار عن الله عز وجل، والأخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

فالخبر الصحيح إذا ثبت عن الله تعالى يذكر على ظاهره، ومعنى يذكر على ظاهره بأن ظاهره حقيقة لا أن ظاهره ما نتوهمه من التشبيه، ولذلك خلط كثير من الناس في تقرير هذه القاعدة، ووقع عندهم شيء من الخلط، وبعضهم نفاها عن السلف، وبعضهم أثبتها من باب التعيير للسلف أنهم يقصدون بالظاهر التشبيه، فأهل الكلام نقدوا قول السلف في هذه القاعدة، وقالوا: إن عقيدة السلف إثبات الظاهر، ويقصدون بإثبات الظاهر التشبيه والتجسيم، وهذا خطأ، فالسلف حينما أثبتوا ظاهر ألفاظ النصوص يقصدون الحقيقة لا يقصدون الظاهر الذي هو الكيفية أو التشبيه، وكذلك العكس: هناك من تردد في إثبات هذه القاعدة عن السلف؛ ظناً منه أنه يلزم من إثباته إثبات التشبيه، مع أن الصحيح أن السلف قالوا بها، وقالوا: إن ألفاظ نصوص الصفات تثبت على ظاهرها، ويقصدون بالظاهر الحقيقة اللائقة بالله عز وجل، أي: أن ألفاظ أسماء الله وصفاته الواردة في النصوص هي حق على حقيقتها، وهذا هو ظاهرها، أما الظاهر الذي هو التكييف فلا شك أنه منفي بالنصوص القاطعة، مثل قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

معنى قول السلف: (يكلون علمه إلى الله)

هنا قاعدة جديدة وهي قوله: (يكلون علمه إلى الله)، وهذه أيضاً التبست على بعض الناس، وظن أنهم يكلون حقيقته، وهذا خطأ، وهو قول المتكلمين الذين زعموا أن قول السلف: إننا نكل علمه إلى الله، معناه: أننا نكل الحقيقة إلى الله، وليس كذلك، بل الحقيقة ثابتة؛ لأن الله ما كلمنا إلا بالحق وكلامه حق وكلام رسوله حق.

فليس المقصود أن السلف يكلون علمه إلى الله يعني: يكلون حقيقته، وإنما المقصود بأنهم يكلون علم الكيفية إلى الله، فالتكييف هذا هو الذي يوكل إلى الله؛ لأنه ليس بمقدور العقول أن تعرفه.

فإذاً: قوله: (ويكلون علمه إلى الله) ينصرف إلى معنيين: أحدهما الحق، والثاني: باطل، أما أن يكلوا علمه، يعني: كيفيته، فنعم، هذا هو الحق، فالسلف يكلون علم ألفاظ الصفات، أي: كيفيتها إلى الله عز وجل، والمعنى الثاني باطل وهو ما يقوله أهل الأهواء بأن معنى قوله: (يكلون علمه) أي: يكلون حقيقته فلا يثبتون الحقيقة إلا بتأويل أو تعطيل، وهذا باطل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله ].

وهذه قاعدة، لكنها قاعدة تحتاج إلى تفسير، ومن قواعد السلف ومناهجهم: أنهم يمرون الخبر كما جاء، والخبر هو ما جاء في القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الأخبار وأعظمها وأجلها وأكملها الأخبار عن الله عز وجل، والأخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

فالخبر الصحيح إذا ثبت عن الله تعالى يذكر على ظاهره، ومعنى يذكر على ظاهره بأن ظاهره حقيقة لا أن ظاهره ما نتوهمه من التشبيه، ولذلك خلط كثير من الناس في تقرير هذه القاعدة، ووقع عندهم شيء من الخلط، وبعضهم نفاها عن السلف، وبعضهم أثبتها من باب التعيير للسلف أنهم يقصدون بالظاهر التشبيه، فأهل الكلام نقدوا قول السلف في هذه القاعدة، وقالوا: إن عقيدة السلف إثبات الظاهر، ويقصدون بإثبات الظاهر التشبيه والتجسيم، وهذا خطأ، فالسلف حينما أثبتوا ظاهر ألفاظ النصوص يقصدون الحقيقة لا يقصدون الظاهر الذي هو الكيفية أو التشبيه، وكذلك العكس: هناك من تردد في إثبات هذه القاعدة عن السلف؛ ظناً منه أنه يلزم من إثباته إثبات التشبيه، مع أن الصحيح أن السلف قالوا بها، وقالوا: إن ألفاظ نصوص الصفات تثبت على ظاهرها، ويقصدون بالظاهر الحقيقة اللائقة بالله عز وجل، أي: أن ألفاظ أسماء الله وصفاته الواردة في النصوص هي حق على حقيقتها، وهذا هو ظاهرها، أما الظاهر الذي هو التكييف فلا شك أنه منفي بالنصوص القاطعة، مثل قوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].