شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [11]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن بعض السلف: قدم الإسلام لا يثبت إلا على قنطرة التسليم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله).

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله.

وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس! من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

وعن محمد بن كعب القرظي قال: (دخلت على عمر بن عبد العزيز ، فجعلت أنظر إليه نظراً شديداً، فقال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي وأنا بالمدينة، فقلت: لتعجبي، فقال: وممَ تعجب؟ قال: قلت: لما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفى من شعرك، قال: كيف ولو رأيتني بعد ثلاثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وسال منخراي في فمي صديداً؟ كنت لي أشد نكرة، حدثني حديثاً كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل شيء شرفاً، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة، لا تصلوا خلف نائم ولا محدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدر بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار، ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الذي يجلد عبده، ويمنع رفده، وينزل وحده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي يبغض الناس، ويبغضونه، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً، أولا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، إن عيسى عليه السلام قام في قومه فقال: يا بني إسرائيل! لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا، ولا تكافئوا ظالماً، فيبطل فضلكم عند ربكم، الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فكلوه لله عز وجل) ].

في هذه الآثار وما تخللها أيضاً من عظات ونصائح يتبين لنا جانب من جوانب مناهج السلف كثيراً ما يوردونه في كتب الآثار وكتب السنن وكتب العقائد، حتى إن بعض الناس قد يقول: لماذا يوردون هذه الجزئيات والأحكام في باب العقائد؟ وهي في جميع كتب السنة المطولة إلا النادر، مثل كتب اللالكائي وكتب الصابوني وكتب ابن بطة وابن خزيمة.. وغيرهم من أئمة السلف، نجد أن هؤلاء في الكتب المطولة يسمونها كتب العقائد والآثار والسنن يوردون مثل هذه المعاني، وهي متفرقة كما ترون من خلال سياقها هنا، لكن يجمعها جانب منهجي إذا عرفناه أرجعنا كل جزئية إلى أصولها، هذا الجانب المنهجي هو أن السلف يرون أن مسألة السلوك والآداب وأساليب التعامل مع الناس ومع الآخرين، أو أساليب التعامل مع الأشياء أنها من مناهج الدين، بصرف النظر عن جزئياتها التي يختلف عليها، فقواعد الآداب من مناهج الدين، وقواعد السلوك من مناهج الدين، وقواعد التعامل مع الآخرين؛ والتعامل مع الأشياء، والتعامل مع الأمور ومع الأحداث كلها من مناهج الدين، وكذلك جانب الموعظة والرقائق والزهديات من مناهج الدين، وجانب أسس الأخلاق -وهو أهم هذه الأمور- أيضاً من مناهج الدين، فلذلك كانوا يوردون هذه الأمور على سبيل الاستشهاد بما ترجع إليه أصولها، ولذلك ورد في آخر أثر عمر بن عبد العزيز وما أورده له أيضاً زائره -وهو محمد بن كعب القرظي - بعض القضايا المنهجية التي فيها إشارة إلى ما ذكرته.

فمن ذلك: الاستفادة من الحكم التي وردت وأثرت عن بني إسرائيل، سواء نسبت إلى التوراة والإنجيل أو إلى غيرهما، وهذه خاضعة للقاعدة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وأنهم لا يصدّقون ولا يكذّبون؛ لأنه قد يرد عنهم بعض الأشياء التي تعتبر من المناهج العامة في الدين، أو المناهج العامة في الأخلاق والسلوكيات، لكنها لا تؤخذ تشريعاً، إنما تؤخذ كمناهج؛ لأن مناهج الأنبياء متفقة؛ لأن المناهج داخلة في باب العقائد، فمثلاً: لا يعقل أن يكون نبي يخرق قاعدة تحريم الكذب، أو تحريم الخيانة، أو تحريم الغدر، هذه قواعد أخلاقية توجد عند جميع الأنبياء، وهي داخلة في العقائد؛ لأن العقائد كما هو معروف مبناها على أمرين:

الأمر الأول: الأمور المعرفية والإيمانية التصديقية، وهذا هو المفهوم السائد عند أكثر الناس، ولا يخالفون فيه.

الأمر الثاني الذي تنبني عليه العقيدة، وهو أساس من أسس العقيدة ويجهله كثير من الناس، وهو: العمل والتصديق، ويظهر لي أن الجوانب العملية التطبيقية في العقائد أكبر بكثير وأخطر بكثير من الجوانب الإيمانية المعرفية؛ لأن الجوانب الإيمانية المعرفية أغلبها ليست محل نزاع، ثم إنها محدودة، ثم إن الاعتراف بها سهل يعترف بها المسلم والمنافق، ويظهرها جميع الناس، لكن المحك على العمل، ولذلك العقيدة إنما هي قول وعمل، كما قال السلف في تعريف الإيمان، قالوا: قول وعمل، والإيمان بمفهومه واسع يدخل فيه جميع أعمال الدين، فالإيمان بمصطلح السلف ليس المقصود به مجرد الإيمان الاصطلاحي الضيق، إنما الإيمان المقصود به الدين كله، فإذا قال: الإيمان قول وعمل أو الإيمان اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الأركان فهذا الدين كله، والإيمان لا شك أنه أساس الدين.

فعلى هذا أقول: إن ما أورده الصابوني من بعض التعاليم والمناهج إنما هي داخلة في باب العقائد، مثال ذلك: قوله: (الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه)، وهذه راجعة إلى قاعدة: (الحلال بين والحرام بين)، قال (وأمر اختلف فيه فكلوه إلى الله عز وجل) بمعنى: إذا كان من أمر العقائد فيوكل أمره إلى الله عز وجل، ويسلم بالأصل، فما لا يدركه الإنسان يسلم بأنه حق على حقيقته على مراد الله عز وجل وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يسلم بأنه حق، هذا إذا لم يترتب عليه عمل، إما إذا ترتب عليه العمل فالمشتبه الأَولى اجتنابه، وهذا كما أنه في الأحكام كذلك هو في العقائد، كما أنه في أحكام الحلال والحرام كذلك يخضع لأعمال العقائد، بل هو في أعمال العقائد أولى؛ لأن المشتبه غالباً يكون أقرب إلى البدع؛ لأن أمور العبادة واضحة مقررة، بخلاف أمور الأحكام، فأمور الأحكام ترجع إلى قواعد، وفيها مستجدات، وتخضع لأصول الاجتهاد، أما أمور العبادات والعقيدة فما اشتبه منها فاحذره، واعلم أنه أقرب إلى البدعة حتى يتبين أمره، كصلاة لا تعرف أنها مشروعة أو غير مشروعة، فالأصل اجتنابها؛ لأن هذا يدخل في باب المشتبهات. والله أعلم.

ومناهج الدين ومناهج الشرع ومناهج الأخلاق العامة من العقيدة.

والأنبياء متفقون في المناهج التي هي قواعد الأمور، القواعد العامة، أما المنهاج الذي هو الشريعة فلا شك أن لكل أمة شريعة، لكن الأصول العامة التي ينبني عليها الدين هذه مشتركة عند جميع الأنبياء وداخلة في الاعتقاد، ولذلك جوانب الاعتقاد الأنبياء فيها يستوون ليس بينهم أي خلاف، ويبقى الخلاف بينهم في جوانب تشريع الحلال والحرام.

إذاً: فكلامي بالمناهج هنا لا أقصد به المنهاج الذي قصده الله عز وجل في كتابه الذي هو الشرع، إنما أقصد به القواعد والأصول والضوابط العامة التي تتفرع عن أصول الاعتقاد.

حكم المخالف لما ثبت بالكتاب والسنة

السؤال: المخالف لما ثبت بالكتاب والسنة أيكون كافراً أو يكون فاسقاً أو يكون عاصياً؟

الجواب: المخالفة تختلف من حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فإذا كانت المخالفة للثابت في الكتاب والسنة ينبني عليها اعتقاد فاسد فهي كفر، لكن لا يلزم أن يحكم بكفر قائلها حتى يتثبت من حاله، فقد يكون جاهلاً وقد يكون متأولاً، أما من خالف الكتاب والسنة مخالفة عملية لا تعتبر مضادة للكتاب السنة، مع الإقرار بأخذ الحق، كأن يؤمر بأمر ويتركه دون الفرائض، أو ينهى عن شيء ويفعله من صغائر الذنوب وكبائرها فهذا فاسق ومرتكب كبيرة إذا كان الأمر من الكبائر، ويسمى عاصياً، فإن كلمة (عاصي) تنطبق على الأمرين، وليست من الألفاظ والأسماء والأحكام الحدية، لكن الغالب أن المعاصي تطلق على الكبائر والصغائر لا على الكفريات، هذا هو الغالب، وعلى هذا العاصي هو المسلم الذي يقع في الكبائر أو في الصغائر، فعلى أي حال هذه من الألفاظ التي لا نستطيع أن نحكم على أصحابها إلا بالتثبت من حالهم، فالمخالف إن خالف معلوماً من الدين بالضرورة أو قطعيات الكتاب والسنة بعد إقامة الحجة فهذا كفر، أما إذا كان خالف مع عدم قيام الحجة أو مع وجود المعاذير له أو احتمال المعاذير له فلا يحكم بكفره، وإن كان قوله أو فعله كفراً.