شرح العقيدة الطحاوية [67]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس ] .

يعني: من جنس الذنوب والكبائر، وإن كانت البدع أغلظ ولا شك، لكن عند التفصيل لا تخرج عن جنس الذنوب، فالبدع منها صغائر ومنها كبائر ومنها مكفرات ومنها مخرجات عن الملة.

قال رحمه الله تعالى: [ فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً ] .

ولذلك ما كفر السلف أهل البدع المؤولة، مثل أكثر المعتزلة وبعض الجهمية والخوارج وأصحاب البدع العملية الذين لا يرتكبون الشركيات، هؤلاء لم يكفرهم السلف مع أنهم بدعوهم وهجروهم وتكلموا فيهم وقبحوا أعمالهم، وأمروا بتعزيرهم أحياناً، ومع ذلك لم يكفروهم.

قال رحمه الله تعالى: [ فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة، ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفوس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها ] .

مسألة التكفير في المسائل الواضحة غير التكفير في مسائل غامضة، وفرق بين من تعمد اعتقاداً مخالفاً في المسائل الواضحة، مثل مسألة القول بخلق القرآن أو نفي الرؤية، وبين الأمور التي ليست واضحة، ولذلك فإن مما ينبغي أن يراعى في مسألة إطلاق الأحكام على الناس اختلاف الظروف واختلاف الزمان والمكان.

فعلى سبيل المثال: مسألة القول بخلق القرآن، ففي القرن الأول ما كانت تثار هذه المسألة، لكن في القرن الثاني والثالث اتفق السلف أو كانوا على ما يشبه الإجماع على أن القول بخلق القرآن كفر، وأن إنكار الرؤية كفر؛ لأن هذا من قطعيات الدين، وصار من المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الحجة قامت فيه على الناس في ذلك الوقت، لكثرة الكلام فيه، فالكلام فيه دخل كل بيت وكل حجر ومدر، وأصبح قضية القضايا، خاصة في القرن الثالث، لا سيما في عهد المأمون ومن بعده، حتى امتحن العامة فيها، فتكلم السلف في ذلك فوق المنابر وفي كل مجال وفي كل مناسبة، فكانت الحجة فيها قائمة، فتقرر هذا الأصل وبقي أصلاً واضحاً إلى اليوم؛ فصارت قضية القول بخلق القرآن من القضايا الخطيرة التي يعلمها أهل العلم جميعاً.

لكن لو افترضنا -وهذا ما أردت أن أقوله، وأرجو أن يفهم على وجهه الصحيح- أن إنساناً عامياً لم يسمع بهذه المسألة أبداً، ثم جاءه متحذلق من بعض المفتونين يختبره ويمتحنه، يقول: ما تقول في القرآن؟ فأجاب عن جهل بمثل قول الجهمية، فهل نكفِّره لأول وهلة؟ الجواب: لا، بل يعلم، ولا شك أنه إذا كان مسلماً مؤمناً أخذ الحق بدليله.

وكذلك الرؤية، فهي من الأمور الواضحة عند أهل العلم، وكانت في أصل إثارتها من القضايا البدهية؛ لأنها تثار عند العوام وعلى المنابر وفي كل مكان.

على أي حال فقد أردت بهذا التنظير لأمر مهم، وهو قضية التكفير، ليس كل أمر يستفاض التكفير فيه يكفر فيه الناس، وهذا ما أردت أن أقوله أن الناس بحسب الزمان والمكان وبحسب الظروف والملابسات، فقد يأتي يوم من الأيام ينسى فيه الكلام في بعض قضايا العقيدة، فلا يتكلم فيها إلا خاصة العلماء، فالناس يعذرون إذا جهلوها، ولا يكفرون إذا خالفوها؛ لأنه ليس قصدهم المخالفة في قلوبهم، لا سيما إذا كانت من الأمور العلمية وليست من الأمور البدهية الفطرية، ولا شك أن مثل مسألة الرؤية والكلام ليست من الأمور البدهية الظاهرية، إنما هي من الأمور العلمية، وإن كان اتضح فيها القول بحمد الله، وأصبح الناس كلهم يعرفون القول فيها أو أغلبهم، لكنها مع ذلك تعتبر من الأمور التي تحتاج إلى تعلم؛ لأنها غيبية توقيفية، وليست فطرية عقلية.

قال رحمه الله تعالى: [ وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.

وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ] .

هذا الكلام مبهم مجمل، فقوله: [ إلا بأمر تجوز معه الشهادة ] كلام مبهم، يقصد به أنك لا تشهد على المعين إلا بأمر تستطيع أن تشهد به، كما تشهد عند القاضي في أمر من الأمور الثبوتية، بمعنى أنك لو استشهدت على شخص لم تره ولم تسمعه لكن سمعت عنه ما قيل فيه، فهل تشهد عليه بمجرد قول الناس عند القاضي؟ الجواب: لا تشهد، وكذا مسألة تكفير المعين، فمهما قال الناس فيه ومهما نقل عنه يجب ألا تشهد إلا بعلم، والعلم لا يتم إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، أن تقيم الحجة على الشخص، وتسمع منه، أو ترى منه، ثم تتأكد من أنه ليس متأولاً، وأنه ليس بمكره، وأنه ليس بجاهل في أمور تستوضحها بنفسك، وما لم تستوضح بنفسك فلا تأخذ بأحكام الناس وأقوال الناس في المعين، إلا ما كان عن طريق الاستفاضة عند أهل العلم الموثوقين الراسخين الذين يقيمون الحجة، فهذا أمر يمكن أن تتبع فيه غيرك، بمعنى أن تقول: أقول ما يقوله العلماء، وتسند الأمر إلى العلماء، لكن أن تشهد بشهادة غيرك فلا، فالأمر المستفيض في الحكم على المعين إذا كنت لا تعرفه تقول فيه: أنا لا أخرج قولي عن قول أهل العلم، ومع ذلك لا أشهد بنفسي؛ لأنه ما توافرت عندي شروط الشهادة، أما من لم يستفض خبره -وأغلب أحكام الناس على ما لم يستفض- فهذا أمر لا يجوز الكلام فيه بتكفير المعين أبداً.

وقد ذكرت في قواعد سابقة أن تكفير المعين ليس في مقدورنا، بل ليس من حق كل شخص أو كل طالب علم، ولا يتم ذلك إلا ممن يملكون الاجتهاد وإقامة الحجة والقدرة العلمية ثم الرسوخ والاستعداد وتوافر الشروط في الحكم على المعين، فالحكم على المعين لا يأتي بمجرد اجتهاد فرد أو فردين أو ثلاثة في مسائل معينة إلا في أمور محدودة يعرفها أهل العلم، أما فيما يتعلق بما يحدث بين الناس الآن وقبل الآن فأكثره مما لا تتوافر فيه الشروط، وأكثره من القول بالظن والرجم بالغيب.

قال رحمه الله تعالى: [ فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ].

هذه لوازم التكفير، وهي لوازم شرعية وليست لوازم عقلية، فهي لوازم شرعية صحيحة، بمعنى أنه من أعظم البغي أن تكفر الشخص بغير علم؛ لأنك إذا كفرته فكأنك قلت بأن الله لا يغفر له إذا مات على ذنبه، ولا يرحمه؛ لأن الكافر لا تشمله رحمة الله عز وجل إلا إذا تاب، وكذلك إذا حكمت بالكفر على الشخص ومات على ذلك فقد حكمت بتخليده في النار، فهذه أمور كلها خطيرة جداً، تدل على خطر الكلام في التكفير.

قال رحمه الله تعالى: [ فإن هذا حكم الكافر بعد الموت؛ ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي) وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علي رقيباً؟! فقال: والله لا يغفر الله لك. أو: لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟! أوكنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) وهو حديث حسن ] .

هذا الحديث لا شك أن فيه مواطن عبرة، وفيه أيضاً قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يجب أن يلتزمها المسلمون وطلاب العلم بالخصوص، وهي أن مسألة الحكم على الناس مسألة غيبية، لا سيما أن أغلب الأحكام تتعلق بالقلوب، والظواهر ليست دليلاً على البواطن دائماً، هذا أمر.

الأمر الآخر أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعدى حدود ما كلفه الله به في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على إقامة الحجة وعلى العمل بما يجب شرعاً من تعزير وغيره للوالي أو من ينوبه، لكن لا يصل إلى حد القول على الله فيما يتعلق بمصائر العباد، وأن المذنب مهما أذنب فإنه ما دام له في الله تعلق وله في الله رجاء يرجى له الخير ويرجى له أن يرحمه الله تعالى مهما بلغت ذنوبه، ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتألى على الله عز وجل، وقد يكون هذا الذي على العبادة قال هذا الكلام غاضباً، لكن ينبغي ألا يؤدي الغضب بالإنسان إلى أن يتجاوز الحدود الشرعية، فلا شك أن مثل هذا قد يقال: إنه موقف استفزاز؛ لأن هذا المذنب استفز هذا الناصح فجعله يقول هذا القول حينما أصر على الذنب، نقول ومع ذلك فالمسلم يجب عليه أن يضبط نفسه في هذه الأمور، وليس عليه إلا أن يأمر وينهى وينصح ويعمل ما يستطيعه، والتوفيق والهداية بيد الله عز وجل، ولا تذهب نفسه حسرات على الناس، ولا يتجاوز في الأعمال الحد الشرعي الذي يجب عليه، فمن تجاوز الحد فقد تجاوز ما هو مطلوب منه شرعاً، فمن هنا يكون قد تنطع، والتنطع في الدين مهلكة.

قال رحمه الله تعالى: [ ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم ذرّوني، ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه ].

يجب على المسلمين تجاه إقامة حدود الله عز وجل وإقامة شرعه أن يعملوا بالظواهر، لكن لا ينسحب هذا الحكم على القلوب أو على مصائر العباد، فالقلوب ومصائر العباد أمور غيبية ولن تقوم القرائن عندنا إلا باستنفاذ جهد كبير، ولا يمكن أن يكون بمجرد التعامل العادي، فالسلف كانوا يفرقون بين إجراء الحكم على الظاهر وما يترتب على ذلك من أمور في تعامل الناس بعضهم مع بعض، وبين الجزم بما في قلب الشخص، فالجزم أمر لا يستطيع الناس أن يتناولوه، اللهم إلا إذا توافرت أمور مثل التصريح بالردة عن الإسلام أو نحو ذلك، هذا أمر مفروغ منه، لكن الكلام فيما يتعلق بالظواهر فقط، يعني: قد يظهر لبعض الناس أن أحد المذنبين كثير الفجور كثير الأعمال الخبيثة، وكثيراً ما يعرض عن بعض الخيرات، فيعتبر هذه قرائن على أنه خبيث النية، ومع ذلك لا يجزم بخبث هويته، ولذلك كان المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تجرى الأحكام عليهم بحسب ظواهرهم، وكان المسلمون يعاملونهم بأحكام المسلمين، ومع ذلك هم منافقون في الحقيقة، ولكن لا يعلم نفاقهم إلا الله عز وجل ومن أطلعه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلعه ربه على بعض المنافقين، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أطلع حذيفة على بعض المنافقين.

وهذا أمر انقطع الآن، فلا يقل أحد من الناس: إنه يعلم الباطن، إذاً يجب أن نفرق بين الحكم بالظاهر وبين الحكم على القلوب، فالحكم على القلوب صعب، ولا يصح إلا بأمور علمية شرعية لا بد من أن تتوافر فيها شروط، وأن تنتفي فيها موانع، وهذا من أكثر الأمور التي يخلط فيه الناس اليوم ويجهلونها.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ].

يقصد بذلك أنه يفرق بين كون العمل أو القول كفراً، وبين الحكم على من يفعل، فمسألة أن القول أو العمل كفر سهلة؛ لأن النصوص واضحة فيها، أما أن من فعل أو قال الكفر يكفر لأول وهلة فلا، إذ الغالب أن المسلمين الذين يقعون في الأمور الكفرية لا يكفرون؛ لأنه يكثر فيه من الجهل، ويكثر فيه التأول، وقد يحصل فيه الإكراه، ويكثر فيهم التقليد، فالحكم بأن شيئاً من الأشياء كفر بمقتضى النص الشرعي سهل، وتأويله سهل في النصوص الشرعية، لكن ليس كل من فعله أو قاله يكفر إلا بشروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط لا توكل إلى كل من ادعى العلم وهو ليس من أهله الراسخين، بل لا بد من توافر القدرة وتوافر الحجج والعلم الراسخ.

قال رحمه الله تعالى: [ ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين ] .

وهؤلاء كفرهم ليس محل نقاش، وهذه المسألة يجب أن تكون واضحة ويجب أن توضح للناس، لأن هناك من بدأ يخلط في هذه المسائل ويلبس على الناس بدعوى أنه لا يجوز أن يكفر المعين، فيفتن الناس بكافر يهودي أو نصراني أو مشرك ويقول: لا نستطيع أن نكفره! فمن كان يهودياً أو نصرانياً مشركاً لا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، وهذه مسألة مفروغ منها وليست محل نقاش، وليست هي التي قررها أهل العلم في كتبهم، فكل ما قاله أهل العلم في تكفير المعين يخص تكفير أهل القبلة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، ولا ينطبق على الكفار الخُلّص، فهؤلاء مفروغ منهم.

قال رحمه الله تعالى: [ وصنف: مؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً ] .

الصنف الأول معلوم، وليس محل جدال، والصنف الثاني أيضاً معلوم، وهم المسلمون الذين يظهرون شعائر الإسلام، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون شعائر الدين، ويظهرون الإسلام ويحبون الله ورسوله، هؤلاء لا شك أنهم مسلمون، ولا نستطيع أن نخرجهم من الملة إلا بمخرج قطعي، حتى وإن ارتكبوا آثاماً وارتكبوا مظالم وارتكبوا معاصي وارتكبوا بدعاً، إلا البدع الشركية.

أما الصنف الثالث فهو الذي يخفى أمره، وهم المنافقون، فالمنافق حكمه الظاهر هو الإسلام إذا ادعى الإسلام، وحكمه الباطن إلى الله عز وجل، ولا نستطيع أن نقول فيما في قلبه شيئاً، فهؤلاء يعلمهم الله عز وجل، ونحن لا نعلمهم، لكن قد تتوافر عندنا قرائن على أن الإنسان فيه نفاق تكثر أو تقل، قد تظهر عليه علامات النفاق والزندقة، ولكن مع ذلك لا نقيم عليه الحكم والحجة إلا بقرينة، كإقرار أو نحو ذلك مما يعرفه أهل العلم.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق ] .

من العلامات التي يمكن نعرف بها الزندقة والنفاق مثل من يسب الله عز وجل أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يهين المصحف، أو نحو ذلك من الأعمال الشنيعة التي ليس فيها احتمالات، فهذه لا شك أنها تدل على الزندقة والكفر القطعي، وتدل على النفاق.

وأما الساحر فيقتل لسحره وفتنته وفساده في الأرض، قد يكون كافراً، وقد لا يكون كافراً في مسألة ما منه، وأغلب السحرة وقعوا في الكفر، وبعض السحرة يمارس الدجل ويفتن الناس طمعاً في الدنيا أو الشهرة، فإذا عمت فتنته فإنه يقتل لفساده في الأرض، وقد يقتل أكثر السحرة لكفرهم؛ لأن أغلب السحرة يقعون في الكفر؛ لأنه لا يمكن أن ينالوا السحر -في الغالب- إلا بالوقوع في الكفريات من الشركيات وغيرها، ومع ذلك يكف شره عن المسلمين ولو بالقتل؛ لفساده في الأرض، ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه لا يستتاب، بل مجرد الفساد في الأرض يكفي، وقد لا يكفر، وأمره إلى الله عز وجل، فليست الحدود دائماً تبنى على ضرورة الوقوع في الكفر، لذلك فالبغاة إذا بغوا على المسلمين أو أثاروا فتنة في الأرض يقتلون لمجرد أنهم أثاروا الفساد في الأرض والفتنة، وكذلك قطاع الطريق، فقطاع الطريق قد يكونون من المسلمين، لكن غلبتهم شهواتهم وشقوتهم فقطعوا السبيل، فإذا قدر عليهم قبل أن يتوبوا فإنهم يقتلون.

قال رحمه الله تعالى: [ وهنا يظهر غلط الطرفين؛ فإنه من كفّر كل من قال القول المبتدع في الباطن يلزمه أن يكفّر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) ] .

هذا من النصوص التي لا يطيقها الخوارج وأمثالهم، ويضيقون بها ذرعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم شهد لهذا الرجل مع أنه حد في كبيرة من الكبائر بأنه يحب الله ورسوله، فينبغي للمسلمين أن يقتدوا بمثل هذه النصوص الجامعة الحاكمة، فهذا من النصوص الحاكمة التي تعطي التوازن، ويجب أن يرجع إليها الناس في مسألة الوعد والوعيد، فإن هذا الرجل اجتمع فيه تحقيق الوعيد والوعد له من النبي صلى الله عليه وسلم، فنفذ في هذا الرجل الحد في الدنيا بأن جلد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بجلده، وفي نفس الوقت شهد له بالإيمان، إذاً: مثل هذا النص يمثل القاعدة التي يجب أن يحتذيها المسلمون جميعاً في الحكم على أهل القبلة، حتى في مسألة الولاء والبراء، فالقاعدة الشرعية أنك تحب المسلم بقدر ما فيه من الخير والفضيلة، وبقدر ما يظهر منه من الطاعات، وفي الوقت نفسه تكرهه بقدر ما يظهر منه من المعاصي، فإذا كان هناك من المسلمين من فيه معاص وفيه بعض مظاهر الخير تحبه بقدر ما فيه من الخيرات وتكرهه بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع الحب والبغض والولاء والبراء في الشخص الواحد، وهذا أمر بدهي ضروري، فإذا أخذنا الأمور كلها بحزم فمن الذي نزكي؟! ولو أن طائفة زكت فلاناً وأخرى لم تزكه فإن الفتنة تقع في الأرض.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير ] .

يقصد بذلك أن بعض العلماء قد تكون منه زلة يوافق فيها بعض أهل البدع أو أهل الأهواء عن اجتهاد أو عن تأويل، أو لعدم بلوغ الدليل أو نحو ذلك، فهذه الزلة يجب ألا تقلل من قيمة العالم، ويجب ألا نتبعه فيها، ثم إن هذه الزلات صارت من أسباب الفتنة عند أهل الأهواء؛ لأن أهل الأهواء كل منهم الآن يزعم أن له سلفاً من خيار هذه الأمة، ذلك أنهم يلتقطون الزلات من العلماء فيجعلونها مرتكزاً لأهوائهم، وهذا ما عليه كثير من أهل الأهواء في كل زمان، فكل من كان له هوى تجده يلتقط من زلات العلماء في التاريخ ما يوافق هواه فيفتن به الناس، وهذا كثير جداً، وليس في أهل البدع فقط، بل في بعض أهل السنة، فحينما تحدث بينهم بعض الخلافات والفتن في بعض الظروف تجد منهم من يبحث عن بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الزلات للعلماء لتأييد هواهم، وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر.

فأقول: إن كثيراً من أهل البدع وأهل الأهواء قد يحتجون بزلات العلماء من المعاصرين والأولين، الأموات والأحياء، وهذه مسألة يجب أن يقعد لها طلاب العلم ويتبصروا فيها، لا سيما أنها تحصل الآن من كثير ممن سببوا وقوع الكثير من الناس في الأهواء والفتن لعدم معرفتهم بالأصول الشرعية.

ويكفينا أن نضرب مثلاً لما وقع من أهل الأهواء بالفرق الكبرى في اتكائها على بعض الزلات التي وقعت من بعض العلماء، فمثلاً: المعتزلة يزعمون أن لهم سلفاً من الصحابة، وهم أولئك الذين اعتزلوا الفتنة، لمجرد الاشتباه في اللفظ فقط، أخذوا اللفظ وجعلوه موطن فتنة للمسلمين، فزعموا أن الاعتزال هو مذهب أولئك الذين ما شاركوا في الفتنة بين الصحابة، ففهموا أن هؤلاء هم أصل المعتزلة، وأنهم أقرب إلى الحق لأنهم ما وقعت ألسنتهم ولا أيديهم في الفتنة، وصاروا هم أزكى الأمة، فزعمت المعتزلة أنها أزكى الأمة، ثم جاء الشيعة المتأخرون فزعموا أن لهم سلفاً من الأمة، فقالوا: كانوا على التشيع سفيان الثوري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني ، قالوا: إن هؤلاء فيهم تشيع، إذاً: التشيع موجود في السلف، وهكذا تجد أن كل مبطل يدعي أن له من هذه الأمة سلفاً، والآن كثرت البلوى بهذه الأمور، الأمر الذي يوجب على طلاب العلم أن يحرروا هذه المسائل ويبينوها للناس ويعطوا الناس المفاهيم والموازين، وكيف توزن أعمال السلف أنفسهم على ضوء قواعدهم؛ لأن السلف وضعوا قواعد بعضهم قد يخالفها لا عن قصد، لكن عن اجتهاد، فالعبرة بالمناهج والقواعد والأصول وليست بمفردات التصرفات، فالعبرة في أخذ منهجهم هي بما قالوه وما قرروه في جملتهم من مناهج وأصول، وليست العبرة بمفردات سلوكهم، وإن كان سلوكهم في الجملة لا شك أنه على هذه الأصول، لكن أقصد أنه قد تحدث بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الكلمات التي تخالف الأصل، فيأتي من هو مفتون أو جاهل فيأخذ هذه الكلمات فيقررها أصلاً خلاف الأصل الأول الذي اعتمد عليه السلف، وأنا أدعي أن أكثر السلف الذين وقعوا في بعض المواقف أو خرجت منهم بعض الكلمات التي هي خلاف منهج السلف حينما ألفوا التزموا منهج السلف في المسألة التي خالفوا فيها عن اجتهاد، وهذا يجعل في مجموع الأمة العصمة، وليس في مفردات تصرفاتهم.

قال رحمه الله تعالى: [ فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفِّرون ].

قال رحمه الله تعالى: [ ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله تعالى، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ] .

هذه الفقرة يمكن أن نضع لها عنواناً فنقول: المسائل التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الأمور التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الكبائر التي سميت كفراً، أو: نماذج من الكفر الأصغر، أو: نماذج من الكفر العملي، أو: المعاصي المكفرة التي لا تخرج من الملة. وكل النماذج التي جاء بها الشيخ من النصوص أكثر أهل العلم على أنها لا تخرج من الملة، وقد يكون منها صور مخرجة، لكن ليست هي الأصل، فالأصل في هذه الأمور أنها ليست مخرجة من الملة، وهذا ما عمله سلف الأمة؛ لأن أكثر السلف كانوا يضربون هذه الأمور أمثلة على أنه ليس كل كفر مخرجاً من الملة.

فالصحابة والتابعون وأئمة السلف ثم الأئمة الذين كتبوا وصنفوا في العقائد فيما بعد كلهم عندما يتناولون هذه المسألة يقررون أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، وهو بمثابة الكبائر أو عظائم الذنوب، ثم يضربون أمثلة عليه بهذه النصوص، وهي نصوص ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جداً، فكثير مما وصفه القرآن بأنه كفر أو وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كفر من أعمال المسلمين أهل القبلة ليس من الكفر المخرج من الملة.

فأغلب ما ورد في القرآن الكريم وما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وألسنة الصحابة وأئمة التابعين من إطلاق الكفر على أهل القبلة في تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم مما لا يخرج من الملة.

وأغلب الكفر الذي وصف الله به المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو من الكفر المخرج من الملة، فالقاعدة تنعكس في الكفار الخلص.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ].

واضح في الحديث أنه اعتبر قتال المسلم كفراً، ولا شك أنه كفر غير مخرج من الملة؛ لأن الله عز وجل وصف المقتتلين في كتابه بأنهم إخوة.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ].

هذا الحديث قد تأتي فيه صور تعني الكفر المخرج من الملة، لكن هذا قليل، فظاهر الحديث أن من قال لأخيه المسلم الذي من أهل القبلة: يا كافر. فقد باء بها أحدهما، بمعنى: أنه حينما أطلق عليه الكفر وهو لا يستحقه رجع الكفر إلى القائل، لكن هل قال: خرج من الملة؟ والجواب: لا؛ لأنه سماهما أخوان فقال: (من قال لأخيه)، فلا يزالان في إخوة الإيمان.

حتى القائل الذي ارتكب إثماً بالتكفير حينما كفر أخاه لا يرتد إليه الكفر المخرج من الملة، إلا في بعض الحالات والله أعلم، كما لو اعتقد أن أخاه خارج من الملة، فقد يرتد إليه نفس الحكم، وقد لا يرتد أيضاً.

وهذه مسألة تحتاج إلى تحقيق، وتحتاج إلى بحث، لكنها على أي حال من ألفاظ الوعيد، وألفاظ الوعيد لا تجرى على ظاهرها؛ لأنها لا بد أن تقيد بالنصوص الأخرى وبقواعد الشرع بالضرورة، وإلا فلو أخذنا هذه النصوص على ظواهرها لأخرج كثير من المسلمين من الإسلام بمجرد الحكم، ويترتب على ذلك ما يترتب في الزواج والطلاق والمواريث والصلاة .. إلى آخره.

وهذا الذي جعل المكفرة يسمون الخوارج ويخرجون عن أهل السنة والجماعة، ذلك أنهم حينما حكموا بمثل هذه النصوص والكفر المخرج من الملة أخرجوا أكثر المسلمين وما بقي غيرهم، فمن هنا وقعوا في الفرقة، ووقعوا في مذهب الخوارج.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) ].

هذا الحديث لا بد أيضاً من أن يرد إلى الحديث الآخر، حديث أبي ذر في إثبات الإيمان للزاني والسارق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنى وإن سرق) هذا شيء.

الشيء الآخر: أن حديث النفاق فيه دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفاق إلى نوعين: إلى نفاق خالص، وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وإلى نفاق جزئي، يعني: خصلة من خصال النفاق، والكفر كالنفاق، فقد يقال عن إنسان بأنه كافر خالص، وهذا الكافر الخالص معلوم، وقد يقال: فيه خصلة من الكفر، ومع ذلك لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة.

وأكثر ما ورد الوعيد في الكفر - كما ذكرت سابقاً - بالنسبة لأهل القبلة هو أنهم يقعون في خصال الكفر في بعض أقوالهم وأفعالهم، لكن لا يكفرون كفراً خالصاً مخرجاً من الملة.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة)، رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهنا فصدقه أو أتى امرأة في دبرها؛ فقد كفر بما أنزل على محمد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)، ونظائر ذلك كثيرة ].

حمل نصوص التكفير بما ليس بمكفر على واقع عهد النبوة يزيل شبهة الخوارج

ما نفهمه من هذه الخلاصة مما هو معلوم ويجب أن يعلم: أن كل النصوص التي أوردها المؤلف إنما هي في كبائر الذنوب التي لا تخرج من الملة، ولذلك نجد أن مشكلة الخوارج أنهم كفروا بالذنوب بناء على النصوص السابقة، بناء على اشتباه الأمر عندهم في النصوص السابقة، حيث ظنوا أن الكفر الذي أطلق في القرآن أو أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل الآيات والأحاديث السابقة يعني الكفر المخرج من الملة؛ لأنهم ما ردوا النصوص بعضها إلى بعض، ولا فقهوا معاني الكفر وإطلاقاته في الشرع، ذلك أن الكفر في الشرع أطلق على عدة معان، وأن ذلك معلوم بالضرورة؛ لأنه حدثت هذه الأمور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

فالأمور التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها كفر حدث منها أشياء كثيرة في وقته، فهل كفر النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها وأخرجه من الملة وحكم بردته؟! والجواب: أن العكس هو الذي حصل؛ إذ لما رأى من يلعن شارب الخمر زجره وشهد للشارب بالإيمان.

ثم إن الصحابة تعلموا ذلك، فلذلك لما كثرت مظاهر هذه الأفعال في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة ما كفروا أصحابها.

ثم إن الخوارج ظهروا في عهد الصحابة فكفروا بهذه النصوص، فخالفهم الصحابة وقاتلوهم على ذلك.

إذاً: المسألة واضحة، وأنا أعجب من تلبيس بعض الناس على بعض طلاب العلم في هذه المسألة، أعجب لأني رأيت العجب فعلاً من بعض الذين يأتون ليناقشونا ويسألوا عن بعض المسائل، حيث تجد الواحد منهم يقول: قال فلان كذا، وأورد الحديث، فما جوابي على الحديث؟!

فأقول: كيف تقول: ما جوابي؟! وكأن الحديث نزل تواً، أما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، وسمع الصحابة ثم التابعون مثل هذا النص؟! أما أعرفت أن هذه القضية هي القضية الكبرى بين الخوارج وبين أهل السنة؟! فينسى لأنه قد لا يقرأ، أو لقلة تمعنه في هذه الأمور، فيأتيه من صغار المتحذلقين من يورد الإشكال على ذهنه.

وأقول: لا ينبغي لطلاب العلم أن تفوتهم هذه الأمور، فينبغي أن يؤسسوا علمهم على أصول، خاصة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي بدأت تثار الآن، وأصبحت من الأمور التي تشكل خطراً على عقائد أهل السنة والجماعة وعلى مناهجهم وعلى أبنائهم، فيجب على الناس أن يتبصروا في مثل هذه الأمور.

الجواب عن نصوص التكفير بالذنوب التي لا تخرج من الملة

قال رحمه الله تعالى: [ والجواب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام.

ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً؛ إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] إلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب.

وقال تعالىوَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9] إلى أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] .

ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين.

فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال قد شتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم .

وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو سيئاته. وهذا مبسوط في موضعه.

والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً، وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً، فالخلاف بينهم لفظي فقط ].

ما نفهمه من هذه الخلاصة مما هو معلوم ويجب أن يعلم: أن كل النصوص التي أوردها المؤلف إنما هي في كبائر الذنوب التي لا تخرج من الملة، ولذلك نجد أن مشكلة الخوارج أنهم كفروا بالذنوب بناء على النصوص السابقة، بناء على اشتباه الأمر عندهم في النصوص السابقة، حيث ظنوا أن الكفر الذي أطلق في القرآن أو أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل الآيات والأحاديث السابقة يعني الكفر المخرج من الملة؛ لأنهم ما ردوا النصوص بعضها إلى بعض، ولا فقهوا معاني الكفر وإطلاقاته في الشرع، ذلك أن الكفر في الشرع أطلق على عدة معان، وأن ذلك معلوم بالضرورة؛ لأنه حدثت هذه الأمور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

فالأمور التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها كفر حدث منها أشياء كثيرة في وقته، فهل كفر النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها وأخرجه من الملة وحكم بردته؟! والجواب: أن العكس هو الذي حصل؛ إذ لما رأى من يلعن شارب الخمر زجره وشهد للشارب بالإيمان.

ثم إن الصحابة تعلموا ذلك، فلذلك لما كثرت مظاهر هذه الأفعال في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة ما كفروا أصحابها.

ثم إن الخوارج ظهروا في عهد الصحابة فكفروا بهذه النصوص، فخالفهم الصحابة وقاتلوهم على ذلك.

إذاً: المسألة واضحة، وأنا أعجب من تلبيس بعض الناس على بعض طلاب العلم في هذه المسألة، أعجب لأني رأيت العجب فعلاً من بعض الذين يأتون ليناقشونا ويسألوا عن بعض المسائل، حيث تجد الواحد منهم يقول: قال فلان كذا، وأورد الحديث، فما جوابي على الحديث؟!

فأقول: كيف تقول: ما جوابي؟! وكأن الحديث نزل تواً، أما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، وسمع الصحابة ثم التابعون مثل هذا النص؟! أما أعرفت أن هذه القضية هي القضية الكبرى بين الخوارج وبين أهل السنة؟! فينسى لأنه قد لا يقرأ، أو لقلة تمعنه في هذه الأمور، فيأتيه من صغار المتحذلقين من يورد الإشكال على ذهنه.

وأقول: لا ينبغي لطلاب العلم أن تفوتهم هذه الأمور، فينبغي أن يؤسسوا علمهم على أصول، خاصة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي بدأت تثار الآن، وأصبحت من الأمور التي تشكل خطراً على عقائد أهل السنة والجماعة وعلى مناهجهم وعلى أبنائهم، فيجب على الناس أن يتبصروا في مثل هذه الأمور.