دروس الحرم [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فمن الموارد المالية للدولة الإسلامية الجزية التي تؤخذ من الكفار إذا لم يسلموا، واختاروا دفع الجزية بدلاً من قتال المسلمين، وقد اختلف العلماء هل تؤخذ الجزية بغير اسمها؟

فأجاز ذلك كثير من العلماء واستدلوا بقصة نصارى بني تغلب مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنهم قالوا له: فرضت علينا الجزية، واعترفنا بها، وصالحنا عليها، إلا أننا نأنف من تقديمها؛ لأن تقديمها كما قال تعالى: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] ، والعرب تأنف من ذلك؛ قالوا: فخذ منا كما تأخذ من المسلمين، لأن ما يأخذه من المسلمين في الزكاة أكثر مما يأخذه من أهل الذمة في الجزية.

فامتنع عمر ، فزادوه، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين من أموالهم، فأرادوا أن يدفعوا ضعف الجزية باسم الزكاة ولا تكون باسم الجزية، قالوا: وإلا فدعنا نرحل إلى أرض الشرق، ونخرج من الجزيرة، فشاور عمر من حضره، فقالوا له: يا عمر ! اقبل منهم، وأبقهم تحت يدك بدلاً من أن يخرجوا عن طاعتك فيكونون عليك بعد أن كانوا لك وفي قبضتك، فقبل منهم، وأضعف عليهم العشر كما يقال، وأبقاهم على ما هم عليه، باتفاق بينهم وبينه.

هذه هي الجزية على الكفار، والزكاة تكون على المسلمين في الأموال.

اجتهاد عمر رضي الله عنه بعدم قسمة الأراضي المغنومة

ومن الموارد: الخراج، والعشر، والخراج مختص بالأرض المزروعة، ولا علاقة له بالأشخاص، والجزية مختصة بالرقاب والأشخاص ولا علاقة لها بالأراضي.

وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه أوقف قسمة الأراضي المغنومة على الغانمين، ولما عارضه بلال وابن الزبير وقالا له: اقسم علينا كما قسم رسول الله خيبر وبني النضير، قال: إن الرسول فتح مكة ولم يقسمها.

وقال: إنني رأيت رأياً وأستشيركم فيه، إننا لو قسمنا كل ما فتحه المسلمون على الغازين، فسيأتي وقت ويأتي أجيال فيما بعد فلا يجدون من الغنائم شيئاً، وإننا في الوقت الحاضر في حاجة إلى المال بصفة مستمرة للمصالح العامة، لنمون الثغور، ونجهز الجيوش، ونطعم الأيتام والأرامل والمحتاجين، فمن أين نأتي بالمال لهذا كله إذا كنا نقسم كل قرية فتحت على الغانمين؟ ولو فعلنا ذلك لم يبق عندنا شيء، فإني أرى أن نقسم ما كان منقولاً من الثياب والأموال والحيوانات على الغانمين قسمة غنيمة، ونبقي الأرض ونجعل عليها خراجاً لمن هي تحت أيديهم.

وهذا الخراج بمعنى أجرة، جزية، جُعل، غرامة، وكل هذا يقول به بعض العلماء، وإذا جئنا إلى استعمال القرآن لكلمة خراج أو خرج لوجدنا أنها تدور بين الجُعل وبين الإجارة، كما في قصة أصحاب السد: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] فـ(خرجاً) هنا بمعنى: أجرة على هذا العمل، وبعضهم يقول: إن هذا الخراج الذي فرض على الأراضي أجرة تؤخذ ممن هي تحت أيديهم.

وكيف يقدر الخراج على الأراضي المختلفة في النتاج والغلة؟

قالوا: أرسل عمر رضي الله تعالى عنه خبيراً، فجعل على النخل ثمانين درهماً، والعنب ستين درهماً، وما عداهما من الأرض البيضاء والحبوب والخضروات عشرين درهماً، أي أنه وضع نسباً مختلفة لأرض النخيل ولأرض الأعناب، وعلى الأرض البيضاء كذلك.

قيل: وجعل الخراج على الأرض البيضاء والسوداء أيضاً، والبيضاء هي: التي لم تزرع، والسوداء هي: المزروعة المسودة بخضرة الزرع الذي هو فيها، قيل: جعل الخراج على السوداء والبيضاء ليهتم أصحاب القرية بإحياء الموات، ولا يبقى بياض في الأرض.

وهناك من يقول: إنما جعل الخراج على الأراضي السوداء التي تنتج، وترك الأرض البيضاء لولي الأمر ليمنح منها، ويقطع الإقطاع منها لمن يريد، أو تركها لمن يحيي مواتاً منها فهي له، وهكذا كان الخراج على الأرض تختلف النسبة فيه بنوع الثمرة والغلة، فعلى النخيل أكثر مما على العنب، وعلى العنب أكثر مما على الخضروات.

إرسال عمر رضي الله عنه للمعشرين

وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرسل إلى الحدود وإلى ثغور بلاد الإسلام المعشرين، فإذا مر بهم تاجر يريد أن يدخل أرض الإسلام لتجارة نظر المعشر لشخصيته، سواء كان مسلماً جاء من أرض أخرى إلى أرض جوار أرضه، أو كان ذمياً أتى بتجارة إلى أرض المسلمين، أو كان حربياً له عهد أو في وقت هدنة وأتى بمال إلى أرض المسملين.

كل هؤلاء يسمح لهم بدخول بلاد المسلمين، فالمسلم يدخل الأرض الإسلامية، والذمي يدخل الأرض الإسلامية، والحربي بالمعاهدة وبالصلح يدخل الأرض الإسلامية، فكان المعشر يأخذ من المسلم ربع العشر على تجارته، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر، وهكذا تحصل الأموال بالتعشير على اختلاف الأشخاص بصرف النظر عن نوعية التجارة التي أتى بها، والتي يريد أن يروجها في أرض المسلمين.

ثم كان يقع الظلم على أهل الأموال عند تعشيرها، فكان أحدهم يمر على هذا المعشر فيأخذ منه، ثم في طريقه يمر على غيره فيأخذ ولا يصدقه بأنه قد دفع، فأنشئت السندات؛ ففي أول معشر يمر به ويدفع له العشر أو نصفه أو ربعه يعطيه سنداً على أنه عشر ماله، بحيث لو مر على عدة معشرين لا يكرر عليه أخذ مال منه.

واتفقوا على أن من تكرر مجيئه في السنة الواحدة لا يكرر عليه العشر قبل الحول، إلا الحربي، فإذا أتى وباع تجارته، ثم رجع إلى بلده، ثم جاء مرة أخرى عُشِّر ماله ولو كان قبل الحول.

واتفقوا على أنه لا يعشر مال أقل من نصاب الزكاة، وهو مائتا درهم من الفضة، وعشرون مثقالاً من الذهب.

هذا ما يتعلق بالأموال التي تدخل على المسلمين بطريق المعشرات.

والغنيمة هي: المال المأخوذ بغلبة السيف، فما فتح عنوة من القرى فهي وما فيها غنيمة، والغنيمة تخمس ثم يقسم ما عدا الخمس على المجاهدين، إلا أن عمر أوقف قسمة الأراضي على المجاهدين وقال لهم: أوقف قسمة تلك الأراضي من أجل أن يستمر خراجها لسد حاجة المسلمين الآن ولمن يأتي بعد ذلك، ثم أعلن لهم وقال: وجدت حجته من كتاب الله، وذكر قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ.. [الحشر:8]، ثم وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ.. [الحشر:9]، ثم وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10]، واستقر الأمر على ذلك.

فالفيء طريقه مثل طريق الغنيمة، ولكنه ما أخذ بدون قتال كما قال تعالى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [الحشر:6].

مشروعية النفل من الغنيمة

النّفل: النفل جزء من الغنيمة ينفله قائد الجيش لمن رآه أهلاً لذلك، فمثلاً: أرسل سرية من جيشه إلى جهة من الجهات أو كما يقولون: إلى جيب من جيوب العدو، فذهبت السرية وانتصروا، وغنموا منهم غنائم، فلقائد الجيش أن ينفل تلك السرية مما غنموه زيادة لهم، والباقي يضمه إلى أموال غنيمة الجيش؛ لأن عموم الجيش يشاركهم في غنيمتهم، وهم يشاركون عموم الجيش في غنائمه.

والخراج هو: ما جعل على الأرض.

والجزية هي: ما جعلت على الأشخاص.

هذا ما يتعلق بالأموال التي تؤخذ من غير المسلمين عند القتال في سبيل الله.

مقدار الجزية

الجزية مصدرها الأشخاص، وكم مقدارها؟

هناك من يقول: هي محددة بدينار على كل محتلم، وهناك من يقول: أربعة دنانير، وهناك من يقول: على الموسر ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى العامل: اثنا عشر درهماً.

والظاهر أنه حسب اجتهاد الإمام وحالة من يدفع الجزية، وهذا محل اجتهاد، وليس توقيفاً.

هذه الأموال تساق إلى بيت مال المسلمين لتصرف في مرافق المسلمين بصفة عامة.

أخذ الجزية من المجوسي

[عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها -يعني: الجزية- من مجوس هجر) ]:

قال عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه هذا حينما توقف عمر في أمرهم، وقال: ما أدري ماذا أفعل بهم؟ فقال قائل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي: في الجزية، وابن عوف يقول: إن الرسول أخذها من مجوس هجر، فالرسول أخذها وخفي ذلك على عمر ، أو نسي عمر ، المهم أن الجزية أخذها رسول الله وفعلها عمر مع وجود الصحابة، وكانت الجزية موجودة من قديم، وجاء الإسلام وعدل فيها بالرفق والشفقة.

عرفنا أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، فمن المجوس؟

عرف العلماء المجوس كما في كتاب الملل والنحل للشهرستاني أو لـابن حزم ، وكذلك عرّفهم الشوكاني في نيل الأوطار.

المجوس: أمة كان لها كتاب، سئل علي رضي الله تعالى عنه عنهم فقال: أنا أعرف الناس بهم، كانوا أمة لهم كتاب، لكن كتابهم رفع!! نزع الله كتابهم منهم، فأصبح الكتاب ورقاً أبيض ليس فيه كتابة، وانتزع من صدروهم ما كان محفوظاً منه من صدورهم، والذي كان مكتوباً محاه الله من صحفهم، وأصبحوا بدون كتاب.

ومن هنا كان فيهم شبه بأهل الكتاب؛ لأنهم باعتبار ما كان أهل كتاب، فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).

إذاً: الجزية من أهل الكتاب مفروغ منها؛ لأنها بنص القرآن الكريم، والجزية من غيرهم ثبتت بالسنة، أعني بالحديث الفعلي والقولي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الجزية تكون على الأشخاص، والخراج يكون على الأرض.

والخراج يكون باجتهاد الإمام على حسب إنتاج الأرض، والآن هناك الأراضي التي فيها القطن أو القصب، وفيها مزروعات ما كانت موجوة من قبل، فيكون خراجها على حسب رأي الإمام.

هل مقدار الجزية بالتوقيف أو باجتهاد؟

باجتهاد، وقيل: على الغني ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى العامل بيده اثنا عشر درهماً.

وقد بينا نظام العشر على التجارة، وممن يؤخذ، وكم مقدار المأخوذ، سواء كان المال من الحديد أو الحبوب أو القماش.

والتجار ثلاثة أصناف: مسلم، وذمي، وحربي، فالمسلم يدفع ربع العشر زكاة، والذمي: نصف العشر ضعف ما يدفعه المسلم، والحربي: العشر كاملاً.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.