كيف تلهو؟!


الحلقة مفرغة

الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية.

أيها المسلمون: إن حياة الناس بعامة مليئة بالشواغل والصوارف المتضخمة، والتي تفتقر من حيث الممارسات المتنوعة إلى شيء من الفرز والترتيب لقائمة الأولويات، مع عدم إغفال النظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب، ثم إن الضغوط النفسية والاجتماعية الكبيرة الناتجة عن هذا التضخم ربما ولدت شيئاً من النهم واللهث غير المعتاد تجاه البحث عما يبرد غلة هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارها.

إن الحضارة العالمية اليوم قد عنيت بإشعال السلاح، ورفع الصناعة، وعولمة بقاع الأرض، تلكم الحضارة التي حوَّلت الإنسان إلى شبه آلة تعمل معظم النهار -إن هي عملت- ليكون ساهراً أو سادراً أو خامداً ليله، هذه هي الثمرة الحاصلة ليس إلا.

إن تلكم الحضارة برمتها لم تكن كفيلة في إيجاد الإنسان العاقل.. الإنسان المدرك.. الإنسان الموقن بقيمة وجوده في هذه الحياة وحكمة خلق الله له، بل إنما فيها من آليات متطورة وتقنيات، كان سبباً بصورة ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياة العامة، مما ولد المناداة في عالم الغرب بما يُسمى علم اجتماع الفراغ، وإن لم يكن هذا الفراغ فراغ وقت على أقل تقدير فهو فراغ نفسٍ، وفراغ قلبٍ، وفراغ روح، وأهدافٍ جادةٍ، ومقاصد خالية من الشوائب.

يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:1-4].

إن الحضارة العالمية حينما تُوفِّر للإنسان -بالتقدم العلمي والجهد الصناعي قوة الإنسان ونشاطه- مزيداً من الوقت، ثم يكون في نفسه وقلبه وروحه ذلك الفراغ، فهنا تحدث المشكلة، ويكمن الداء، الذي يجعل أوقات الفراغ في المجتمعات تعيش اتساعاً خطيراً، حتى صارت عبأً ثقيلاً على حركتها وأمنها الفكري والذاتي، ومنفذاً لإهدار كثيرٍ من المجهودات والطاقات المثمرة.

إن غياب الضبط والتحليل والترشيد للظاهرة الحضارية الجديدة المنشأة -أوقات الفراغ- ليمثلُ دليلاً بارزاً على وجود شرخٍ في المشروع الحضاري والعولمة الحرة، غير بعيدٍ أن تؤتى الأمة المسلمة من قبله، وإن عدم وعينا التام بخطورة هذا المسلك تجاه أوقات الفراغ، وعدم وعينا التام بالمادة المناسبة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليات التنموية والفكرية، والاقتصادية البناءة، لجدير بأن يقلب صورته إلى معول هدمٍ يُضاف إلى غيره من المعاول -من حيث نشعر أو لا نشعر- التي ما فتئ الأجنبي عنها يبثها ليل نهار؛ لنسخ حضارة المسلمين على كافة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ ) رواه البخاري .

إن الإسلام دين صالح للواقع والحياة، يُعامل الناس على أنهم بشر لهم أشواقهم القلبية وحضوضهم النفسية، فهو لم يفترض فيهم أن يكون كل كلامهم ذكراً، وكل شرودهم فكراً، وكل تأملاتهم عبرة، وكل فراغهم عبادة! كلا. ليس الأمر كذلك، وإنما وسع الإسلام التعامل مع كل ما تتطلبه الفطرة البشرية السليمة من فرح وترح، وضحك وبكاء، ولهو ومرح، في حدود ما شرعه الله، محكوماً بآداب الإسلام وحدوده.

عباد الله: إن قضية إشغال الفراغ باللهو واللعب والفرح، لهي قضية لها صبغة واقعية على مضمار الحياة اليومية، لا يمكن تجاهلها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتد الأمر ويزداد عند وجود موجبات الفراغ كالعطل ونحوها، حتى أصبحت عند البعض منهم مصنفة ضمن البرامج المنظمة في الحياة اليومية العامة، وهي غالباً ما تكون غوغائية تلقائية ارتجالية، ينقصها الهدف السليم ولا تحكمها ضوابط زمانية ولا مكانية فضلاً عن الضوابط الشرعية، وما يحسن من اللهو وما يقبح.

عباد الله: الترويح والترفيه هو إدخال السرور على النفس، والتنفيس عنها، وتجديد نشاطها، وزمها عن السآمة والملل، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم إبَّان حياته يُؤكد أحقية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حرب : قلت لـجابر بن سمرة : (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. كان طويل الصمت، وكان أصحابه يتناشدون الشعر عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية، ويضحكون، فيبتسم معهم إذا ضحكوا ) رواه مسلم .

وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [[لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أُريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه ]].

وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنه قال:[[إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو غير المحرم فيكون أقوى لها على الحق ]].

وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: [[قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا بُغي منه حاجة وُجِدَ رجلاً ]]، وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه قال: [[أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان ]].

يقول ابن الجوزي : "ولقد رأيت الإنسان قد حمل من التكاليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حمل: مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس".

وبمثل هذا تحدث أبو الوفاء ابن عقيل فقال: "العاقل إذا خلا بزوجاته وإمائه لاعب ومازح وهازل، يعطي للزوجة والنفس حقهما، وإن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل، وهجر الجد في بعض الوقت".

هذه بعض الشذرات حول مفهوم اللهو والتسلية والترويح، يُؤكد من خِلاله أن الإسلام قد عني بهذا الجانب حق العناية؛ غير أننا نود أن نبين هنا وجه الهوة السحيقة بين مفهوم الإسلام للترويح والتسلية، وبين اللهو والمرح في عصرنا الحاضر، والذي هو بطبيعته يحتاج إلى دراسات موسعة تقتنص الهدف للوصول إلى طريقة مُثلى للإفادة منها في الإطار المشروع، فينبغي دراسة الأنشطة الترويحية الإيجابية منها والسلبية، والربط بينها وبين الخلفية الشرعية والاجتماعية للطبقة الممارسة لهذا النشاط، ومدى الإفادة من الترويح، والإبداع في الوصول إلى ما يُقرِّب المصالح ولا يُبعدها، وما يُرضي الله ولا يُسخطه، وتحليل الفعل وردود الفعل بين مُعطيات المتطلبات الشرعية والاجتماعية، وبين متطلبات الرغبات الشخصية المشوهة، وأثر تلك المشاركات في إلكاء الطاقات والكفاءات الإنتاجية العائدة للأسر والمجتمعات بالنفع في الدارين.

ولكن ساعة وساعة

إن علينا جميعاً كمسلمين أن نشد عزائمنا؛ لصيانتها ما أمكن من أي ضياعٍ في مرحٍ أو لهوٍ غير سليم، أو مما إثمه أكبر من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يُطلقوا لأنفسهم العنان في الترويح، بحيث يزاحموا آفاق العمل الجاد، واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغل عن الواجبات، أو تضييع الفرائض والحقوق بسبب الانغماس فيه، إذ ليس استباحة الترويح مضيعة للجد وما هو إلا ضربٌ من ضروب العون وشحذ الهمة على تحمل أعباء الحق، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأن ما للجد أولى بالتقديم مما للهو والترويح، وبهذا يُفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لـحنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- وقد شكا إليه تخلل بعض أوقاته بشيءٍ من الملاطفة للصبيان والنساء، فقال له صلى الله عليه وسلم: {ولكنْ ساعةً وساعة } أمَّا أن يُصبح الترويح للنفس طابع الحياة في الغدو والآصال، والخلوة والجلوة، وهماً أساسياً من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروج به عن مقصده وطبيعته، واتجاه بالحياة إلى العبث والضياع، والإنسان الجاد عليه أن يجعل من اللهو والترويح له ولمن يعوله وقتاً ما، ويجعل للعمل والجد أوقاتاً لا العكس، لاسيما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النفوس فيه كل جديد وطريف، حتى صارت أكثر انجذاباً إلى احتضان واعتناق ما هو وافد عليها في ميدان اللهو والمرح.

ولا غرو في ذلك عباد الله! فإن الاسترخاء الفكري وهشاشة الضابط القيمي لدى البعض منا هما أنسب الأوقات لنفاد الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمل الخطورة ويستفحل الداء.

أخطار اللهو المنفتح على الأمة الإسلامية

إن اللهو المنفتح والذي لا يُضبط بالقيود الواعية؛ إنه ولا شك يتهدد الأصالة الإسلامية لتُصبح سبهللاً بين خطرين، أحدهما: خطر في المفاهيم؛ إن كان هناك شيءٌ من بعض المسابقات تدعى ثقافية تقوم في الغالب على جمعٍ للتضاد الفكري، أو تنمية الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابت المعلوماتية لدى المسلمين، بقطع النظر عن التفسير المادي للتاريخ والحياة، أو على أقل تقدير: الإكثار من طرح ما علمه لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد.

والخطر الثاني عباد الله: تلك التي تُعدّ وسائل للترويح والتسلية عبر القنوات المرئية التي تنتج مفاهيم مضللة عبر طرق جذابة في الثقافات والشهوات لاسترقاء الفكر؛ من خلال فنون أو أساطير أو عروض لما يفتن، أو للسحر والشعوذة وما شاكلها، ونتاج الخطرين ولا شك تمزقٌ خطير متمثل في سوء عشرة زوجية، أو تباين أفراد أسرة إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطف، والانتحار والتآمر، والمخدرات والمسكرات، وهلمَّ جرَّاً.

وما حال من يقع في هذا الترويح إلا كقول من يقول: "وداوني بالتي كانت هي الداء!" أو كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فلرب لهوٍ لمرةٍ واحدة يقضي على برجٍ مشيدٍ من العلم والتعليم للنفس.

ويالله كم من لذة ساعة واحدة أورثت حزناً طويلاً: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:95-96].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

إن علينا جميعاً كمسلمين أن نشد عزائمنا؛ لصيانتها ما أمكن من أي ضياعٍ في مرحٍ أو لهوٍ غير سليم، أو مما إثمه أكبر من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يُطلقوا لأنفسهم العنان في الترويح، بحيث يزاحموا آفاق العمل الجاد، واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغل عن الواجبات، أو تضييع الفرائض والحقوق بسبب الانغماس فيه، إذ ليس استباحة الترويح مضيعة للجد وما هو إلا ضربٌ من ضروب العون وشحذ الهمة على تحمل أعباء الحق، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأن ما للجد أولى بالتقديم مما للهو والترويح، وبهذا يُفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لـحنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- وقد شكا إليه تخلل بعض أوقاته بشيءٍ من الملاطفة للصبيان والنساء، فقال له صلى الله عليه وسلم: {ولكنْ ساعةً وساعة } أمَّا أن يُصبح الترويح للنفس طابع الحياة في الغدو والآصال، والخلوة والجلوة، وهماً أساسياً من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروج به عن مقصده وطبيعته، واتجاه بالحياة إلى العبث والضياع، والإنسان الجاد عليه أن يجعل من اللهو والترويح له ولمن يعوله وقتاً ما، ويجعل للعمل والجد أوقاتاً لا العكس، لاسيما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النفوس فيه كل جديد وطريف، حتى صارت أكثر انجذاباً إلى احتضان واعتناق ما هو وافد عليها في ميدان اللهو والمرح.

ولا غرو في ذلك عباد الله! فإن الاسترخاء الفكري وهشاشة الضابط القيمي لدى البعض منا هما أنسب الأوقات لنفاد الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمل الخطورة ويستفحل الداء.