الهجرة النبوية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.. وبعد:

فإن أنسب ما يتناوله المتحدث ويناوله الناس في هذه الآونة، بل وفي هذا الوقت، مواضيع تتعلق بأحداث الساعة، وقد تحدثت بها الإذاعات والصحف ومجالس الناس، وأحاديث عن حدث الهجرة، وما فيها من مواعظ ودروس وعبر، وحيث أن الكل له أهميته، ويرغب البعض الآن أن يكون الحديث عن الهجرة النبوية، فتحقيقاً لهذه الرغبة نقدم ما يسر الله في أمر الهجرة.

أهمية الحديث عن الهجرة النبوية

لنعلم جميعاً أن الحديث عن الهجرة والحديث عن أي حدث من أحداث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو جزء من سيرته العطرة، والسيرة النبوية بصفة عامة تعتبر التطبيق العملي لتعاليم الإسلام بكاملها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطبق والمنفذ لما أوحي إليه من ربه، والله سبحانه جعله صلى الله عليه وسلم أسوة للأمة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه من البشر، وتجري عليه أحكام البشر، ويطبق عملياً ما يمكن للبشر أن يطبق.

والهجرة عند الدارس المتأمل تعتبر همزة الوصل التي تصل بين شقي الزمن: شق الماضي وشق المستقبل، والماضي نوعان: ماض بعيد في عهد النبوات والمرسلين، وماض قريب ابتداءً من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكانت الهجرة نقلة انتقلت الدعوة من مهدها الأول بعد ثلاث عشرة سنة، وجاءت إلى المدينة لعشر سنوات فقط وبها تمت الرسالة.

أما ما قبل البعثة فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله نظر إلى العالم فمقتهم؛ لما كانوا عليه من عبادة الأصنام ومن جاهلية جهلاء، وصفها جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه عند النجاشي رضي الله تعالى عنه حينما خرج مهاجرون من المسلمين إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة وذلك بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما تأتي الإشارة إليه، فأرسلت قريش -لتنتقم من المسلمين- أرسلت إلى النجاشي تستعيد وتسترد أولئك المهاجرين الأولين، وقالوا: إن طلبتنا وثأرنا بالحبشة.

ويهمنا في كلمات جعفر عند النجاشي : كنا في جاهلية جهلاء: يأكل قوينا ضعيفنا، نأتي المحرمات، نقطع الأرحام، نغدر بالعهود -أشياء كثيرة ذكرها في جاهليتهم- فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ونسبه وولادته، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، ونهانا عن الكذب، وأمرنا بصلة الأرحام، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن كل منكر .. وعدد محاسن الأخلاق.

إرادة الله الخير للناس ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم

كانت الحياة في مكة على ما وصف جعفر، ولما أراد الله سبحانه وتعالى الخير لبني آدم أو للإنسانية جمعاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم تاريخها طويل، وذلك أن الله سبحانه بعلمه وقدرته وإرادته ورحمته رسم ذلك من قبل أن يوجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وقبل أن توجد هذه الأمة، وأخذ العهد على جميع الأنبياء أنه إذا جاءهم ليؤمنن به ولينصرنه، وجاء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأعلن البشارة بمجيئه صلوات الله وسلامه عليه لقوله: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] فسماه باسمه.

بل إن المولى سبحانه يسجل لرسول الله حق الرسالة، ويسجل لأصحابه الذين معه صفاتهم ومثلهم في الأمم الماضية قبل مجيئهم، وذلك في أواخر سورة الفتح في أمر الحديبية من أول السياق: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي [الفتح:27-28] (هو) ضمير الشأن راجع إلى المولى سبحانه: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28] و(الدين) اسم جنس أي: على الأديان كلها: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].

لاحظوا يا إخوان هذا السياق: جاء في سورة الصف: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] وفي سورة الفتح: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] وفي سورة التوبة: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] وتذييل القرآن الكريم على السياق الواحد بتذييلين متغايرين يدل على مغايرة الموقف؛ لأن الموقف في سورة الفتح تكريم لرسول الله ولأصحابه معه؛ لأنه بعد السياق: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] أي: على هذا الوعد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ [الفتح:27-28] يعني: هو الذي يتولى أمره، ولم يكله إليكم، أي: ما دام هو الذي أرسله سيتولى تمديد وإبلاغ تلك الرسالة بتأييد من عنده.

وكفى بالله شهيداً على إتمام ذلك وإنفاذه، ثم تأتي شهادة من عند الله بالجملة الاسمية: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] وهذا ردٌ على ما جاء به سهيل بن عمرو حين جاء يفاوض وكتبوا الاتفاقية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي : هذا ما صالح أو عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا تكتب! لو كنت أعلم أنك رسول الله ما صددتك عن البيت، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، اكتب اسمك واسم أبيك، فكأن المولى تعالى يقول: إذا هم لم يشهدوا أنك رسول الله، فإن الله يشهد أنك: (محمد رسول الله) ولو أبى أولئك الناس.

صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في القرآن

إن الله ذكره باسمه فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] فالرسالة اصطفاء واختيار، والله قد اصطفاه من قبل أن يولد ويولد آباؤه، وبشر به عيسى بني إسرائيل من قبل، ولكن الذين معه أفراد في الأمة، ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكن القرآن يأتي بذكرهم في معرض التكريم، وبيان عظيم الشأن ورفعة المكانة: وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29].

(محمد رسول الله) إخبار من الله بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يتناول من معه، بعض العلماء يقول: تلك المعية (معه) أي: في الحديبية، أو معه في عصره من عموم الصحابة، أو معه على الإسلام أي: أن المعية هنا إما عامة أو خاصة أو أخص.

عامة: في كل مسلم مع رسول الله على الإسلام، خاصة: في الصحابة الذين في عصره، أخص من ذلك كله: الذين شهدوا الحديبية؛ وكل ذلك محتمل.

يهمنا (والذين معه) ما شأنهم؟

هذه الطبقة التي اختارها الله لتكون مع رسوله، كما جاء في بعض الآثار في كنز العمال أو في غيره: إن الله اصطفى رسوله واصطفى معه أصحابه.

وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] الشدة والرحمة متغايران ومتنافيان، فحيثما وجدت الشدة فلا رحمة، وحيثما وجدت الرحمة فلا شدة، ولكن يقول علماء البحث والمناظرة: إذا اختلفت الجهة -انفكت الجهة- وتغاير المتعلق فلا مانع، والشدة والرحمة ليستا متوجهتين على متعلق واحد، وإنما على متعلقين متغايرين (أشداء) على الكفار، (رحماء) على المؤمنين، (رحماء بينهم).

إذاً: هم لهم جانبان، والجانبان لهما متعلقان:

جانبٌ خارجي: علاقتهم بالكفار الشدة: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].

وجانب داخلي: علاقته فيما بينهم رحماء، وفي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) فيجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الوصفين بهذين الاعتبارين المتغايرين، ولذا قال في الموطن الثاني: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، فهم على الكافرين أعزة بقوة لا يلينون معهم، ولا يخضعون إليهم، ولكن فيما بينهم أذلة، وليس معنى الذل الهوان! بل كما قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] لأن الرحمة والرأفة تعتبر مدحاً في حق الشخص، وبعض الناس ربما يعتبر لين بعض الأشخاص ضعفاً؛ لأن الرحمة إذا كانت عن قوة تكون مدحاً، أما إذا كانت عن خوف ربما لو تنازل عن حقه يكون غصباً عنه.

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54] كأنه يتلطف مع المؤمن ويعامله في صورة المتذلل له، وذلك مبالغة في إكرامه والتلطف به، ثم يصفهم بوصفهم:

تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29] ما قال: راكعين ساجدين، باسم الفاعل، قال: (رُكّعاً) (سُجّداً) على وزن (فُعّلْ) وهي من صيغ المبالغة، كأنه يصفهم بإقام الصلاة المفروضة وزيادة، يصلون النوافل مع الفرائض: رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29].

وبين حقيقة مقصدهم وشهد الله لهم بأنهم صادقون في ركوعهم وسجودهم: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] وينبه العلماء هنا في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] على أنه ما قال: يبتغون أجراً من الله؛ لأن الذي يبتغي الأجر يعتد ويحتسب بعمله، يقول: أنا عملت لك عملاً فأعطني أجرة؛ لكن عندما يأتي ويقول: أعطني من فضلك، هل يعتد لنفسه عندك بعمل أم يعتبرك متفضلاً عليه بما تعطيه؟! إنما يطلبك من واسع فضلك وإحسانك، وهكذا المؤمن يقدم الطاعة والعبادة لله، ويبتغي فضل الله لا يحتسب بعمل يعده على الله يطالبه بمقتضاه، فانظر الدقة واللطافة في أسلوب القرآن الكريم! يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] يعني: يعملون لمرضات الله، وإن كان كل إنسان يرغب في الأجر، ولكن فرق بين أن تقول: أعطني أجري وقد ركعت وسجدت، وبين أن تقول: أنا أديت الواجب الذي فرضته عليّ وأنا أسألك من فضلك.

وهناك شفافية! وإعجاز في كتاب الله: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] السيماء: العلامة، والسيماء من الوسم، والوسم عند العرب: هو الوسم الذي يميز إبل القبيلة عن إبل قبيلة أخرى، وكذلك الاسم للإنسان وللبلد وللكتاب ولغيره علامة تميزه عن غيره، (علي ومحمد وحسن وحسين) هذه أسماء تميز هذا عن هذا، وإلا فالكل إنسان بعينين وفم سواء، فالأسماء هي التي تميز الأشخاص، والكل من السمو والارتفاع، بل اسمك شيء سما وعلا، أي: علا صاحبه، مثلما تأتي بلوحة وتعلقها على المحل، فإنها تميز هذا المحل عن ذاك المحل، وأنت علقتها فوق ما رميتها في الأرض.

سيماهم يعني: علاماتهم، وهل المراد: بالسيماء في وجوههم كما يظن بعض الجهلة أنه كلحة أو شيء في الجبين مثل الكلع، كما يقولون: تكلع البعير؟

لا، إنما هي بشاشة، ونور، وحلاوة، وارتياح، كما قال بعض العلماء: الولي لله من إذا رأيته ذكرك بالله، لأنك: تجد على وجهه سماحة وارتياحاً، وكما جاء: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)، فالسيما إنما هي سماحةٌ وطلاقة ونور في الوجه يعلوه لما كان منهم من كثرة الركوع والسجود.

ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] التوراة أنزلت على نبي الله موسى، وهو نبي بني إسرائيل، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه مثلهم في التوراة ينزل وحياً على موسى فيكتبه الله في الألواح، ويقرؤه بنو إسرائيل؛ بأن أصحاب محمد الذين سيكونون معه هذه صفاتهم، فأي منزلة أعلى من هذه؟!

ثم يأتي مثل آخر: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ [الفتح:29] والإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام، وعيسى من أنبياء بني إسرائيل.

قال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29] وهذه صورة عجيبة جداً! فالحبة تدفن، ثم يطلع العود الأول، ثم يرتفع من الأرض قليلاً، وقبل أن ينضج تخرج منه عيدان صغار، هذه الأعواد الصغار تلتف حول العود الأصلي، فيؤازر بعضها بعضاً، ويلتف هذا الزرع بعضه ببعض حتى يستوي على سوقه، ومع التفافه يكون في نظارته وحسنه وروائه ونمائه: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح:29] لأن الزراع هم الذين يعرفون حسن الزرع وجماله ونجاحه، ثم يبين: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] أي: في التفافهم وتآزرهم وتعاونهم وترابطهم.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29] وهذا تفضل من الله.

الفرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنصارى

من إعجاز القرآن في أسلوبه وسياقه لا في ألفاظه أن ذكر مثلين لأصحاب رسول الله: الأول: (ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا). والثاني: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى).

فقوله: رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29]، جعل مثلاً لأصحاب موسى الذين هم اليهود، والثاني لأصحاب عيسى الذين هم النصارى، وكلا المثالين ثابتان لأصحاب رسول الله، ولو أخذنا المثالين ونظرناهما في التوراة والإنجيل لم يختلف وصف أصحاب محمد، فالوصفان ثابتان، ولكن هذا التوزيع المدرج شيء مقصود متلائم مع سياقه.

ولهذا يجب علينا أن نتوجه إلى الله العلي القدير أن يشرح صدورنا لفهم كتاب الله، إذا نظرنا إلى المثل الأول نستطيع أن نجعل له عنواناً: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [الفتح:29] عبّاداً راكعين ساجدين يبتغون فضلاً من الله، كأنهم زهاد في الدنيا.

وإذا جئت للمثل الثاني فإذا هو: زرع وماء ورواء وشدّ! وكأنها عملية استثمار وإنماء، وعملية إعمار للأرض، فكأنهم مشغولون بالدنيا.

وكلا المثالين لأصحاب رسول الله في كمال المدح؛ لأنهم جمعوا بين أمر الدنيا والدين معاً، في الدنيا زرع ونماء، وفي الدين ركّع سجّد، بخلاف اليهود والنصارى، فاليهود كان موقفهم من أمور العبادات ما قص الله في قوله تعالى:

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] فاستحلوا ما حرم الله بالحيل، وكانت تغلب عليهم الماديات، حرم الله عليهم العمل يوم السبت، وامتحنهم في الحيتان: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] فألقوا الشباك يوم الجمعة وذهبوا، وجاءت الحيتان يوم السبت شُرّعاً ووجدت الشباك فأمسكتها، وتركوها في الشباك ثم يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك، فهل عملوا يوم السبت شيئاً؟

قالوا: ما عملنا شيئاً، احتالوا على ما حرم الله، فكانت الماديات غالبة عليهم.

فعندما يأتيهم مثل أصحاب محمد (ركعاً سجدا) وأنه يكون هذا المثال في الأمة التي ستأتي بعدهم، ويأتي ذكرها على سبيل المدح، فإنه يكبح جماحهم في الماديات، ويأتيهم بالمثل المثالي الذي ينبغي أن يرجعوا إليه، وأن يؤدوا حق الله في العبادة تأسياً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين سيأتون فيما بعد.

والنصارى أصحاب عيسى كانت طبيعتهم الروحانيات، قال تعالى وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] كان الغالب على النصارى القبوع في الأديرة وعدم التعرض للدنيا، وحتى كانوا يقولون: (إذا ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن!).

فتركوا الدنيا ورضوا بالذلة؛ ولذا غلب عليهم اليهود، فهؤلاء يأتيهم مثل لا ليزيدهم في الرهبانية (ركعاً سجداً)، بل ويأتيهم المثل الذي يقول لهم: اخرجوا وانتشروا وامشوا في الأرض، وذللوها واستخرجوا ثمارها وازرعوا.

إذاً: المثل الذي ضربه الله لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم للنصارى يتناسب معهم ليرشدهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه، وكلا المثالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعهما كان لهم الكمال؛ لأن اليهود غلبت عليهم المادية، أي: أن الإنسان من روح وجسد، والروح تتطلب إلى غذائها، وغذاء الروح العبادات، والجسم غذاؤه النباتات، فهذا الجسم هو من الطين ويرجع إليه، والروح من أمر الله، أمرها علوي إلهي رباني، فهي تسمو وتصعد إلى الله.

فاليهود غلبوا جانب الجسم وأشبعوه بالمادة وخنقوا الروح، والنصارى أمعنوا في جانب الروح وأضعفوا الجسم، والجسم هو وعاء الروح التي تسكنه، وإذا كنت تسكن بيتاً قويا فسيحاً فإنك تنشرح وتنشط، وإذا كنت تسكن في عشة أو في بيت متهاوٍ فتكسل وتضيق، فجاء الإسلام وجمع بين الحسنيين، فأعطى الجسم حقه دون إفراط ولا تفريط، وأعطى الروح حقها دون إفراط ولا تفريط.

ولذا جمع سبحانه بين الأمرين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:9-10] أي: أنهيتم مهمة العبادة وإجابة الداعي وسعيتم إلى ذكر الله، وقضيتم هذا الواجب الحق عليكم لله فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ، لا تمكثوا في أماكنكم، فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الجمعة:10] ابتغوا من فضل الله بعمل الدنيا من بيع وزراعة وصناعة واذكروا الله، أي: اجمعوا بين الأمرين، ولا تلتهوا بالدنيا، قال تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37] وهم من هذه الأمة الإسلامية.

لنعلم جميعاً أن الحديث عن الهجرة والحديث عن أي حدث من أحداث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو جزء من سيرته العطرة، والسيرة النبوية بصفة عامة تعتبر التطبيق العملي لتعاليم الإسلام بكاملها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطبق والمنفذ لما أوحي إليه من ربه، والله سبحانه جعله صلى الله عليه وسلم أسوة للأمة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه من البشر، وتجري عليه أحكام البشر، ويطبق عملياً ما يمكن للبشر أن يطبق.

والهجرة عند الدارس المتأمل تعتبر همزة الوصل التي تصل بين شقي الزمن: شق الماضي وشق المستقبل، والماضي نوعان: ماض بعيد في عهد النبوات والمرسلين، وماض قريب ابتداءً من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكانت الهجرة نقلة انتقلت الدعوة من مهدها الأول بعد ثلاث عشرة سنة، وجاءت إلى المدينة لعشر سنوات فقط وبها تمت الرسالة.

أما ما قبل البعثة فقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله نظر إلى العالم فمقتهم؛ لما كانوا عليه من عبادة الأصنام ومن جاهلية جهلاء، وصفها جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه عند النجاشي رضي الله تعالى عنه حينما خرج مهاجرون من المسلمين إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة وذلك بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما تأتي الإشارة إليه، فأرسلت قريش -لتنتقم من المسلمين- أرسلت إلى النجاشي تستعيد وتسترد أولئك المهاجرين الأولين، وقالوا: إن طلبتنا وثأرنا بالحبشة.

ويهمنا في كلمات جعفر عند النجاشي : كنا في جاهلية جهلاء: يأكل قوينا ضعيفنا، نأتي المحرمات، نقطع الأرحام، نغدر بالعهود -أشياء كثيرة ذكرها في جاهليتهم- فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ونسبه وولادته، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، ونهانا عن الكذب، وأمرنا بصلة الأرحام، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن كل منكر .. وعدد محاسن الأخلاق.

كانت الحياة في مكة على ما وصف جعفر، ولما أراد الله سبحانه وتعالى الخير لبني آدم أو للإنسانية جمعاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم تاريخها طويل، وذلك أن الله سبحانه بعلمه وقدرته وإرادته ورحمته رسم ذلك من قبل أن يوجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وقبل أن توجد هذه الأمة، وأخذ العهد على جميع الأنبياء أنه إذا جاءهم ليؤمنن به ولينصرنه، وجاء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأعلن البشارة بمجيئه صلوات الله وسلامه عليه لقوله: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] فسماه باسمه.

بل إن المولى سبحانه يسجل لرسول الله حق الرسالة، ويسجل لأصحابه الذين معه صفاتهم ومثلهم في الأمم الماضية قبل مجيئهم، وذلك في أواخر سورة الفتح في أمر الحديبية من أول السياق: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي [الفتح:27-28] (هو) ضمير الشأن راجع إلى المولى سبحانه: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح:28] و(الدين) اسم جنس أي: على الأديان كلها: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].

لاحظوا يا إخوان هذا السياق: جاء في سورة الصف: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9] وفي سورة الفتح: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] وفي سورة التوبة: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33] وتذييل القرآن الكريم على السياق الواحد بتذييلين متغايرين يدل على مغايرة الموقف؛ لأن الموقف في سورة الفتح تكريم لرسول الله ولأصحابه معه؛ لأنه بعد السياق: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28] أي: على هذا الوعد: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ [الفتح:27-28] يعني: هو الذي يتولى أمره، ولم يكله إليكم، أي: ما دام هو الذي أرسله سيتولى تمديد وإبلاغ تلك الرسالة بتأييد من عنده.

وكفى بالله شهيداً على إتمام ذلك وإنفاذه، ثم تأتي شهادة من عند الله بالجملة الاسمية: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] وهذا ردٌ على ما جاء به سهيل بن عمرو حين جاء يفاوض وكتبوا الاتفاقية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب يا علي : هذا ما صالح أو عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا تكتب! لو كنت أعلم أنك رسول الله ما صددتك عن البيت، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، اكتب اسمك واسم أبيك، فكأن المولى تعالى يقول: إذا هم لم يشهدوا أنك رسول الله، فإن الله يشهد أنك: (محمد رسول الله) ولو أبى أولئك الناس.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس الحرم [15] 3176 استماع
دروس الحرم [7] 3056 استماع
دروس الحرم [12] 2965 استماع
دروس الحرم [6] 2947 استماع
الهجرة النبوية [8] 2904 استماع
دروس الحرم [9] 2903 استماع
الهجرة النبوية [4] 2890 استماع
دروس الحرم [14] 2801 استماع
دروس الحرم [16] 2728 استماع
دروس الحرم [1] 2666 استماع