صراع الحق والباطل


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعـد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].

عباد الله! إن تاريخ الحياة البشرية منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى اليوم، هو تاريخ الصراع بين الحق والباطل، ولقد مضى اليوم من عمر البشرية كثير، كما دلت على ذلك النصوص، بل إن هذا العمر قد ذهب معظمه وبقي أقله، قال الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:1-2] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] وقال: يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [الأعراف:187] إلى غير ذلك من النصوص والآيات.

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيح: {بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} مشيراً إلى أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من علامات قُرب الساعة، ودنو القيامة، وقرب نهاية هذا العالم الدنيوي.

وإذا أدركت ذلك، ثم التفت إلى الوراء لتقرأ في تاريخ الأمم والشعوب كلها، لوجدت أن معظم هذا التاريخ، لم يكن تاريخ الصراع على المرعى، ولا كان تاريخ الصراع بين القبائل، ولا كان تاريخ العُشاق الذين ذهب الواحد منهم يضرب البحار والفيافي والقفار بحثاً عن معشوقته.... كلاَّ!!

وإنما كان تاريخ الصراع والحرب بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنبوة والشرك، هذا هو التاريخ.

انتصار الحق واندحار الباطل

ولم يكن للباطل ظهور ولا انتفاش ولا انتشار ولا امتداد إلا في غيبة الحق؛ فإن أمامنا قاعدة ربانية راسخة، أنه كلما ظهر الحق خنس الباطل واختفى وهرب، قال الله عز وجل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] وقال تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].

ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كان في مكة، بل كان في الكعبة ثلاثمائة وستون نُصباً -صنماً- فكان عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأنصاب والأصنام بعودٍ في يده، فتتهاوى وتتساقط واحداً بعد الآخر، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] وقال تعالى: جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].

إن تاريخاً طويلاً من الوثنية في جزيرة العرب ومن الشرك ومن عبادة الأوثان، حين كان العرب يعتبرون الصنم هو إلههم ومعبودهم ومرجعهم ومستشارهم، ومع ذلك هذا التاريخ الطويل العريض كله مسح في غداةٍ واحدة، حينما دخل النبي المصطفى المختار عليه صلوات الله وسلامه مكة فاتحاً، فكان يطعن الأصنام بعود، ما احتاجت إلى شيء آخر، ما احتاجت إلى فأس ولا إلى منجل، وإنما كان يطعنها بعود في يده، فتتهاوى وتتساقط، وكان ذلك إيذاناً بأن بنيان الباطل زائل مهما ضُربت حوله الطبول، ورفعت حوله الأعلام، وجندت له الجنود، فإن بناء الباطل مبنيٌ على شفا جرفٍ هار، فانهار به في نار جهنم.. فمتى ظهر الحق اختفى الباطل، ومتى علت كلمة التوحيد اندحر الشرك، إن كلمة الله تعالى لا يقف في وجهها أحد، وإن دين الله تعالى منصورٌ بقوة الحق الذي يحمله، ومنصورٌ بأن الله تعالى معه، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

ولم يكن للباطل ظهور ولا انتفاش ولا انتشار ولا امتداد إلا في غيبة الحق؛ فإن أمامنا قاعدة ربانية راسخة، أنه كلما ظهر الحق خنس الباطل واختفى وهرب، قال الله عز وجل: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] وقال تعالى: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].

ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كان في مكة، بل كان في الكعبة ثلاثمائة وستون نُصباً -صنماً- فكان عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأنصاب والأصنام بعودٍ في يده، فتتهاوى وتتساقط واحداً بعد الآخر، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] وقال تعالى: جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49].

إن تاريخاً طويلاً من الوثنية في جزيرة العرب ومن الشرك ومن عبادة الأوثان، حين كان العرب يعتبرون الصنم هو إلههم ومعبودهم ومرجعهم ومستشارهم، ومع ذلك هذا التاريخ الطويل العريض كله مسح في غداةٍ واحدة، حينما دخل النبي المصطفى المختار عليه صلوات الله وسلامه مكة فاتحاً، فكان يطعن الأصنام بعود، ما احتاجت إلى شيء آخر، ما احتاجت إلى فأس ولا إلى منجل، وإنما كان يطعنها بعود في يده، فتتهاوى وتتساقط، وكان ذلك إيذاناً بأن بنيان الباطل زائل مهما ضُربت حوله الطبول، ورفعت حوله الأعلام، وجندت له الجنود، فإن بناء الباطل مبنيٌ على شفا جرفٍ هار، فانهار به في نار جهنم.. فمتى ظهر الحق اختفى الباطل، ومتى علت كلمة التوحيد اندحر الشرك، إن كلمة الله تعالى لا يقف في وجهها أحد، وإن دين الله تعالى منصورٌ بقوة الحق الذي يحمله، ومنصورٌ بأن الله تعالى معه، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقال تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

لقد خُيل للناس خلال فترة مضت، أن عصر (الإيديولوجيات) كما يقولون قد انتهى، وأن المرحلة الجديدة هي مرحلة تبادل المصالح، أو مرحلة الصراع على الماديات وعلى الدنيويات، وخدعنا العلمانيون كثيراً بمثل هذا الكلام، وكتبوه في الصحف، ونشروه في الكتب، وروجوا له في أجهزة الإعلام، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وأن هذا الكلام سوف يدخل إلى عقول الناس، وما علموا أن أول مكذبٍ لدعاويهم هو العالم العلماني الذي درسوا فيه، وأخذوا عنه وتخرجوا من جامعاته، ورددوا في بلاد الإسلام أطروحاته وأفكاره، فإذا بالعالم العلماني الغربي يكون أول مكذبٍ لهذه الدعوى الباطلة، فبعد سقوط الشيوعية، التي كانت تواجه الغرب بدأ العالم كله غربيه وشرقيه يتمحور حول العقائد.

أسباب عودة العالم الغربي إلىالنصرانية

فالعالم الغربي أدرك أنه مهددٌ بالعقيدة الإسلامية، وهي عقيدة تحمل من القوة والصفاء والسلامة والتأثير والعمق، والكمال ما يجعلها محل إغراءٍ للكثيرين ممن سلمت فطرهم وعقولهم، وأقبلوا على الحق، وليس هذا بحاجةٍ إلى تدليل؛ لأنه يكفي المسلم أن يعرف أن الإسلام دين الله تعالى، وأن هذه العقيدة يتلقاها المسلم اليوم كما تلقاها المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غضةً طرية، من القرآن الكريم مباشرة، ومن الحديث الشريف مباشرة، قال الله تعالى:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فشعر العالم الغربي أن الإسلام يملك بذاته من وسائل القوة والتأثير والجاذبية الكثير، ولو كان الإسلام محجوباً بمساوئ أهله وعيوبهم، ولو كان الكثيرون يعزفون عن الإسلام لِأنهم يرون في المنتسبين إليه رداءة الأخلاق، أو التخلف العلمي، أو الغباء السياسي، أو التبعية للغرب أو الشرق، أو غير ذلك من الآفات والأمراض الكثيرة التي حاول الغرب أن يحجب بها مساوئ الإسلام، لكن رغم هذا كله، فإننا نجد عند العالم الغربي حركة في التوجه إلى الإسلام والالتزام بدين الله تعالى، ليس على مستوى العمال مثلاً، ولا على مستوى شعب من الشعوب، وإنما في قلب العالم الغربي وفي منطلق الحضارة، بل في مهد الحضارة.. في الجامعات الغربية وفي مراكز البحوث والدراسات!!

وقد زرتُ أحد المراكز هناك، فأخبروني أنه يسلم عندهم أسبوعياً ما يزيد على عشرين، بعضهم من أساتذة الجامعات، وقد لقيت بعض هؤلاء، فرأيت فيهم الحماسة للدين والاغتباط بهداية الله تعالى والفرح برحمته: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

لقد بدأ العالم الغربي يشعر بخطورة الإسلام، ولهذا لم يجد أمامه إلا أن ينكفئ إلى الوراء، ليعود إلى العقيدة النصرانية بتحريفها وتبديلها وتغييرها، وما فيها من التناقض، وما فيها من المخالفة للعقل، وما فيها من المخالفة للدين، ولكنها هي الحل الوحيد أمامه.

يريد أن يعود إليها وينفخ فيها روح الحياة من جديد، وقد ظهرت في العالم جماعات ودعوات ومنظمات تدعو إلى تجديد النصرانية، ولعل من أحدثها وأشهرها (جماعة بورٍ أجن) التي تدعو إلى الدخول في النصرانية أو اكتشاف الدين النصراني من جديد.

إنهم يشعرون أن دينهم بحاجة إلى دماء جديدة، وإلى تغيير جديد ولأنه ليس ديناً حقيقياً، بل هو محرف، وهو منسوخ، فإنه لا مانع عندهم أن يجروا له عدداً من العمليات الجراحية؛ حتى يتلاءم مع الهدف المحدد الذي حركوه لأجله؛ لأنهم حركوه من أجل أن يوظف هذا الدين في مواجهة الإسلام وفي مقاومة المد الإسلامي، وليكون حصانةً فكرية وعقائدية ودينية، يغرون بها بسطاء العقول والسذج من بني قومهم لئلا يتأثروا بالإسلام.

إننا في الوقت الذي نجد فيه أن كثيراً من الناس في بلاد العالم الإسلامي، يستكثرون علينا صحوتنا الإسلامية، وعودتنا إلى دين الله تعالى، وتمسكنا به وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على رغم أنه الدين الحق، وأن هذه الأمة بحمد الله مازالت راية الإسلام فيها مرفوعة هنا أو هناك لم تسقط أبداً:

إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ      قئولٌ بما قال الكرام فعولُ

فهذه الأمة في مجملها أثبتت أنها أمة الإسلام، وأنه إن تخلى منها قوم، خرج آخرون، كما وعد الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] وقال: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

هذا وعد قائم؛ قائم للجيل الأول، وقائم لي ولكم، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].

إننا نجد اليوم أن رؤساء الدول الغربية وأن كبار العلماء، وكبار المتخصصين، وأصحاب الفكر، وأصحاب النفوذ، وغيرهم أنهم أصبحوا يطالبون بأن تقوم الدول الغربية بإشباع الحاجات المعنوية والروحية للإنسان، وقد قال كبير من كبارهم، ورئيسٌ لحامية الصليب في العالم، رئيسٌ سابق، قال: إننا لا يجوز أن نقصر مهمتنا على دعم العالم بالمساعدات المادية التي أثقلت ميزانياتنا، ولم تُجد نفعاً، ولكننا ينبغي أن ننتقل إلى تقديم المساعدات الروحية للعالم، وإلى إشباع الحاجات العاطفية للناس، ويجب أن نقدم لهم الإنجيل بيد، ونقدم لهم المساعدات باليد الأخرى.

ولهذا أصبحوا اليوم، يبتزون الناس بأموالهم ومساعداتهم، لصرف الناس عن دينهم، مقابل أن يشبعوا جوعتهم، أو يرووا ظمأهم، أو يكسوهم من عُري، أو يعالجوهم من مرض، أو يمنحوهم مساعدة، أو جنسية، أو منصباً، أو علاوة، أو رتبة، أو أي شيء آخر.

ميدان الصراع بين الأديان

إنها معركة واضحة، ميدانها اليوم الإنسان الذي تتنافس عليه القوى المختلفة، فكل أصحاب الأديان رجعوا إلى أديانهم، وبدءوا يدعون إليها، ويسعون إلى تأليف الناس وتأليبهم حولها، وهذا يدل على أن هناك معركة حقيقية تدور في الخفاء، ميدانها العقل، وميدانها القلب، ولكن عقل مَنْ؟

وقلب مَنْ؟

إنه عقل الإنسان وقلبه، الذي هو مدير المعارك العسكرية، والقائم على الإعلام، والمسئول عن السياسة، والمتصرف في أجهزة الدول.

إذاً، وهي وإن كانت معركة خفية إلا أن شررها يتطاير وآثارها تظهر بين آونة وأخرى، بل في كل وقتٍ وفي كل حين.

تقليص الإسلام وتوطيد النصرانية

إننا في الوقت الذي نجد فيه المطالبة على أشُدها في بلادٍ إسلامية كثيرة بتقليص الإسلام، وتحجيم دعوته، وإغلاق مجالات النشاط الشرعي بأوهى الحجج، بحجة أنها مكان لنفوذ الأصوليين، أو مكان لتغلغل المتطرفين، أو أنها تُعتبر منابع يتخرج منها المتدينون، ولا بُد من تجفيف المنابع، بتغيير التعليم، وتغيير الإعلام، وعلمنة أجهزة الدول كلها، والقضاء على كل الجمعيات والمؤسسات والمراكز والمساجد التي تكون منطلقاً للدعوة الإسلامية، إننا في الوقت نفسه نجد أن العالم الغربي يقطع خطوات كبيرة في تيسير عملية التعبد على الطريقة النصرانية للمواطن العادي.

فقد أصبح بإمكانه أن يتعبد زعماً وإلا فهي عبادة للشيطان حقيقةً، أن يتعبد وهو متكئ على أريكته في عقر بيته، من خلال متابعة برنامج تلفزيوني، أصبحت البرامج التلفزيونية بالمئات بل بالآلاف في دولة واحدة فقط مثل أمريكا!! فضلاً عن الجهود الأخرى المكثفة والكثيرة، التي تُنادي بالقضاء على العلمنة في التعليم وفي الإعلام وفي الحياة العامة، وقد أصبحت هناك مطالبات كثيرة بإتاحة فرص أوسع للطلاب، للتعليم الديني، ولأداء الطقوس في مدارسهم وأماكن عملهم.

إنها مفارقةٌ عجيبة ففي الوقت الذي ينكفئ العالم الغربيُّ إلى دينه الفاسد المحرَّف المبدَّل المنسوخ، فإننا نجد أن من المسلمين اليوم من لا يزال يغط في سُباتٍ عميق، ويستكثر على المسلمين عودتهم إلى دينهم، ويحاول أن ينفخ الحياة من جديد في جسدٍ ميت، إنه جسد العلمانية التي هي كما قال الله تعالى عنها وعن غيرها من الباطل: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26].

إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتلمسوا مواقع أقدامهم، ويدركوا أي حالٍ هم قادمون عليها، وأية خطةٍ تدار بشأنهم، يتنادى إليها الغرب والشرق على رغم أن المسلمين لا يملكون الكثير، ولكن أعداء الله تعالى هم كما وصف الله تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:10] وقال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] وقال تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

خياران لا ثالث لهما يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [الكهف:20].

فأسأل الله تعالى أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يرزق المسلمين الوعي والبصيرة في دينهم، وأن يثبت أقدامنا وأقدام المسلمين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا الله يغفر لكم ويتُب عليكم؛ إنه هو التواب الرحيم.

فالعالم الغربي أدرك أنه مهددٌ بالعقيدة الإسلامية، وهي عقيدة تحمل من القوة والصفاء والسلامة والتأثير والعمق، والكمال ما يجعلها محل إغراءٍ للكثيرين ممن سلمت فطرهم وعقولهم، وأقبلوا على الحق، وليس هذا بحاجةٍ إلى تدليل؛ لأنه يكفي المسلم أن يعرف أن الإسلام دين الله تعالى، وأن هذه العقيدة يتلقاها المسلم اليوم كما تلقاها المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غضةً طرية، من القرآن الكريم مباشرة، ومن الحديث الشريف مباشرة، قال الله تعالى:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فشعر العالم الغربي أن الإسلام يملك بذاته من وسائل القوة والتأثير والجاذبية الكثير، ولو كان الإسلام محجوباً بمساوئ أهله وعيوبهم، ولو كان الكثيرون يعزفون عن الإسلام لِأنهم يرون في المنتسبين إليه رداءة الأخلاق، أو التخلف العلمي، أو الغباء السياسي، أو التبعية للغرب أو الشرق، أو غير ذلك من الآفات والأمراض الكثيرة التي حاول الغرب أن يحجب بها مساوئ الإسلام، لكن رغم هذا كله، فإننا نجد عند العالم الغربي حركة في التوجه إلى الإسلام والالتزام بدين الله تعالى، ليس على مستوى العمال مثلاً، ولا على مستوى شعب من الشعوب، وإنما في قلب العالم الغربي وفي منطلق الحضارة، بل في مهد الحضارة.. في الجامعات الغربية وفي مراكز البحوث والدراسات!!

وقد زرتُ أحد المراكز هناك، فأخبروني أنه يسلم عندهم أسبوعياً ما يزيد على عشرين، بعضهم من أساتذة الجامعات، وقد لقيت بعض هؤلاء، فرأيت فيهم الحماسة للدين والاغتباط بهداية الله تعالى والفرح برحمته: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

لقد بدأ العالم الغربي يشعر بخطورة الإسلام، ولهذا لم يجد أمامه إلا أن ينكفئ إلى الوراء، ليعود إلى العقيدة النصرانية بتحريفها وتبديلها وتغييرها، وما فيها من التناقض، وما فيها من المخالفة للعقل، وما فيها من المخالفة للدين، ولكنها هي الحل الوحيد أمامه.

يريد أن يعود إليها وينفخ فيها روح الحياة من جديد، وقد ظهرت في العالم جماعات ودعوات ومنظمات تدعو إلى تجديد النصرانية، ولعل من أحدثها وأشهرها (جماعة بورٍ أجن) التي تدعو إلى الدخول في النصرانية أو اكتشاف الدين النصراني من جديد.

إنهم يشعرون أن دينهم بحاجة إلى دماء جديدة، وإلى تغيير جديد ولأنه ليس ديناً حقيقياً، بل هو محرف، وهو منسوخ، فإنه لا مانع عندهم أن يجروا له عدداً من العمليات الجراحية؛ حتى يتلاءم مع الهدف المحدد الذي حركوه لأجله؛ لأنهم حركوه من أجل أن يوظف هذا الدين في مواجهة الإسلام وفي مقاومة المد الإسلامي، وليكون حصانةً فكرية وعقائدية ودينية، يغرون بها بسطاء العقول والسذج من بني قومهم لئلا يتأثروا بالإسلام.

إننا في الوقت الذي نجد فيه أن كثيراً من الناس في بلاد العالم الإسلامي، يستكثرون علينا صحوتنا الإسلامية، وعودتنا إلى دين الله تعالى، وتمسكنا به وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على رغم أنه الدين الحق، وأن هذه الأمة بحمد الله مازالت راية الإسلام فيها مرفوعة هنا أو هناك لم تسقط أبداً:

إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ      قئولٌ بما قال الكرام فعولُ

فهذه الأمة في مجملها أثبتت أنها أمة الإسلام، وأنه إن تخلى منها قوم، خرج آخرون، كما وعد الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] وقال: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

هذا وعد قائم؛ قائم للجيل الأول، وقائم لي ولكم، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].

إننا نجد اليوم أن رؤساء الدول الغربية وأن كبار العلماء، وكبار المتخصصين، وأصحاب الفكر، وأصحاب النفوذ، وغيرهم أنهم أصبحوا يطالبون بأن تقوم الدول الغربية بإشباع الحاجات المعنوية والروحية للإنسان، وقد قال كبير من كبارهم، ورئيسٌ لحامية الصليب في العالم، رئيسٌ سابق، قال: إننا لا يجوز أن نقصر مهمتنا على دعم العالم بالمساعدات المادية التي أثقلت ميزانياتنا، ولم تُجد نفعاً، ولكننا ينبغي أن ننتقل إلى تقديم المساعدات الروحية للعالم، وإلى إشباع الحاجات العاطفية للناس، ويجب أن نقدم لهم الإنجيل بيد، ونقدم لهم المساعدات باليد الأخرى.

ولهذا أصبحوا اليوم، يبتزون الناس بأموالهم ومساعداتهم، لصرف الناس عن دينهم، مقابل أن يشبعوا جوعتهم، أو يرووا ظمأهم، أو يكسوهم من عُري، أو يعالجوهم من مرض، أو يمنحوهم مساعدة، أو جنسية، أو منصباً، أو علاوة، أو رتبة، أو أي شيء آخر.

إنها معركة واضحة، ميدانها اليوم الإنسان الذي تتنافس عليه القوى المختلفة، فكل أصحاب الأديان رجعوا إلى أديانهم، وبدءوا يدعون إليها، ويسعون إلى تأليف الناس وتأليبهم حولها، وهذا يدل على أن هناك معركة حقيقية تدور في الخفاء، ميدانها العقل، وميدانها القلب، ولكن عقل مَنْ؟

وقلب مَنْ؟

إنه عقل الإنسان وقلبه، الذي هو مدير المعارك العسكرية، والقائم على الإعلام، والمسئول عن السياسة، والمتصرف في أجهزة الدول.

إذاً، وهي وإن كانت معركة خفية إلا أن شررها يتطاير وآثارها تظهر بين آونة وأخرى، بل في كل وقتٍ وفي كل حين.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع