خطب ومحاضرات
إيحاءات العام الجديد
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
إخوتي وأحبتي: حيَّا الله هذه الوجوه بالسلام، ومساها الله تعالى بالخير، والحمد لله على اجتماعنا بعد التفرق، فإننا الآن نستأنف هذه الدروس، دروس الأحد العلمية العامة، بعد انقطاع بمناسبة الامتحانات ثم بمناسبة موسم الحج، ولعل من توفيق الله تعالى أن نعيش في هذه الليلة أول ليالي العام الجديد، فإنك حين تقرأ التاريخ في هذه الليلة تجد أنه الأول من الشهر الأول من عام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة.
وفيها ينعقد هذا الدرس وهو الدرس الثالث عشر من الدروس العلمية، وقد فرض عليَّ هذا التاريخ موضوعاً بعينه لن يسعني أن أتجاوزه بحال من الأحوال.
ولا أكتمكم أنني بعد أن جمعت كتبي ومراجعي وأوراقي وبدأت في الإعداد لموضوعٍ سبق أن وعدت به، وجدت أنه من غير المستساغ أن أتجاهل هذه المناسبة الكبيرة ونحن نعقد هذا المجلس في أول ليلة من ليالي هذا العام، بل في أول ليلة في بداية عقد جديد من تاريخ المسلمين.
فقد خلع المسلمون -أفراداً وشعوباً وأمماً- عشر سنوات من أعمارهم وتاريخهم في هذا القرن، وبدءوا يستأنفون عشر سنوات أخرى والله تعالى أعلم ما يكون فيها، ولذلك كان لا بد أن يكون موضوع هذا المجلس هو: إيحاءات العام الجديد.
وأول إيحاءٍ دعاني إلى التأمل والتفكر فيه هو: قضية التاريخ الهجري وكيف كان.
لقد كان العرب خاصة في زمن الجاهلية ثم المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وإنما كانوا ينسبون الأشياء إلى الأحداث القريبة منها، فيقولون -مثلاً-: فلان توفي قبل بدر بسنة، وفلان توفي بعد أحد أو بعد الأحزاب بسنة، وفلان أسلم عام فتح مكة، وفلان قبل ذلك، وفلان ولد قبله أو بعده؛ فكانوا يؤرخون حسب الأحداث الكبيرة التي جرت لهم، ولم يكن لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وهكذا كان الحال في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وردحاً من خلافة عمر.
سبب نشأته
فجاء كتابٌ إلى عمر من أبي موسى رضي الله عنه، فكان عمر يقلبه ويقول: شعبان أي شعبان؟!
أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟!
ومن حينئذٍ بدأ عمر يفكر ويستشير المسلمين في قضية التاريخ، فأشار عليه الهرمزان الفارسي بالتاريخ الفارسي، وقال: إن الفرس لهم تاريخ يؤرخون به، فلو أخذتم به، فكرهه المسلمون، فأشار بعض من حضر من مسلمي اليهود بالتاريخ اليهودي، وكانوا ينسبونه إلى الإسكندر أو غيره، فقالوا: لو أخذت بالتاريخ اليهودي فكره ذلك المسلمون، ثم تشاوروا بم يأخذون؟
فاتفقوا وأجمعوا إجماعاً لا تردد فيه ولا خلاف على أن يبدأ التاريخ منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
سبب تحديد بداية التاريخ بالهجرة النبوية
أولاً: لأن الهجرة لم يُختلف في تاريخها، بخلاف المبعث والمولد فقد اختلف فيها العلماء، فإن مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد لا يومه ولا شهره بل ولا سنته، وهذا أكبر رد يوجه للذين يحتفلون بالمولد النبوي، وهو أن نقول: حددوا لنا أولاً متى المولد قبل أن تحتفلوا به، فالمهم أن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد، لا يومه ولا شهره بل ولا سنته.
وكذلك مبعثه صلى الله عليه وسلم فيه اختلاف، أما هجرته عليه الصلاة والسلام فلا يكاد يختلف الناس في أنها كانت في ربيع الأول، ويحددونها باليوم الثامن أو قريباً من ذلك، فرأوا أن التحديد بالهجرة أنسب لأنه متفق عليه.
وهنا يأتي سؤال: لماذا لم يحددوا التاريخ من وفاته عليه الصلاة والسلام؟
مع أن وفاته عليه الصلاة والسلام كانت معروفة مضبوطة؛ لأنها كانت بحضور أصحابه، وكلهم يعرفون أي يوم بل أي ساعة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الطاهرة، فالسؤال لماذا لم يبدأ التاريخ منذ وفاته عليه الصلاة والسلام؟
لم يحددوا بالوفاة لأنه لم يكن من اللائق ولا من المناسب أن يبدأ التاريخ بحدث كهذا؛ لأنه من الأحداث الأليمة التي تحزن لها النفوس وتنقبض لها القلوب، ويكره الناس أمرها وتذكرها، فكرهوا أن يبدأ التاريخ بها، ولهذا فإن السبب الثاني في أنهم حددوا بداية التاريخ بالهجرة:
أن الهجرة كانت بداية خير ونصر للمسلمين، حيث انتقلوا فيها من الذل إلى العز، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، وبدءوا حركة الفتوح والجهاد والمغازي، فكانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ المسلمين، وكان من المناسب أن يبدأ التاريخ الهجري بهذا الحدث العظيم.
لقد حدثت الهجرة في ربيع الأول، ولذلك قال المسلمون: نبدأ السنة من أولها من شهر المحرم، لأنه أول السنة، فقالوا: نعتبر السنة الأولى من الهجرة، ولا نبدأ من ربيع الأول وإنما من المحرم، وعلى هذا جرى أكثر العلماء والمؤرخين، ومنهم من يبدأ السنة بربيع الأول، ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله جرى على هذا، لكن أكثر العلماء والمؤرخين جروا على اعتبار بداية السنة من محرم.
وكان أول يوم في السنة هو يوم الخميس أو يوم الجمعة، كما ذكره الكافيدي في كتابه المختصر في علم التاريخ وغيره.
وكان بداية اعتماد المسلمين للتاريخ في السنة السابعة عشرة للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فمنذ ذلك الحين بدءوا اعتبار التاريخ، كما يقولون بلغة العصر الحاضر: بأثر رجعي، فقالوا: أول سنة نـزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بـالمدينة نعتبرها السنة الأولى، ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا، فبدءوا يحسبون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت السنوات التي يحسبون بها سنوات قمرية وليست شمسية، والسنة القمرية تعتمد على بزوغ الهلال، فيكون الشهر فيها تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، وهي بلا شك أقصر من السنوات الشمسية، فاعتمد المسلمون على السنوات القمرية، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا} إلى غير ذلك من النصوص التي دلت المسلمين على أنه ينبغي أن يعتبروا رؤية الهلال في خروج الشهر ودخوله.
ولذلك أقول -أيها الأحبة-: لقد أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والأمة كلها من ورائهم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان على اعتبار التاريخ الهجري لا الميلادي؛ لا ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ميلاد عيسى، ولا ميلاد غيرهم من الأنبياء، ولا على غير ذلك من الحوادث، بل على اعتبار التاريخ الهجري، فكان ذلك إجماعاً رائعاً صحيحاً ثابتاً مستقراً، ومن المحال أن يأتي إنسان بما ينقض هذا الإجماع بأي صورة وبأي شكل.
وكذلك أجمعوا إجماعاً آخر لا شك فيه على اعتبار الشهور والسنوات القمرية لا الشمسية؛ أما السنوات الشمسية فكان الرومان هم الذين يؤرخون بها ويستخدمونها -وهي كما قلت- أطول.
ولذلك قد تجد السنة ألفاً وأربعمائة وعشرة للهجرة، بالتاريخ الهجري القمري، لكنك لو نظرت إليها في التاريخ الشمسي لو جدت وهذا غير مقصود به التاريخ الهجري الشمسي أنها ألف وثلاثمائة وحوالي السبعين أو زيادة على السبعين أو قريباً من ذلك.
المهم أن التاريخ الهجري القمري هو المعتمد في الإسلام، ولذلك نعلم أنه لا يجوز لأحدٍ أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي على سبيل الاستقلال، ومع الأسف أن هذا هو الموجود في جميع البلاد الإسلامية باستثناء هذه البلاد، ففيما أعلم أن جميع البلاد الإسلامية تؤرخ بالتاريخ الميلادي، إما استقلالاً أو تذكر معه التاريخ الهجري تبعاً، ففي بعض الأمصار لا يعرفون إلا التاريخ بالميلاد؛ والميلاد المقصود به ميلاد المسيح عليه السلام، فهذا أيضاً غير معروف ولا محدد، ولا يمكن القطع به ولا الجزم به، وهو تاريخ وثني غير إسلامي؛ بل هو تاريخ نصراني أُثر عن الأمم الكافرة غير المؤمنة، التي اتخذت من عيسى عليه السلام إلهاً من دون الله عز وجل.
وفي بعض البلاد الأخرى يؤرخون بالتاريخ الميلادي ويذكرون بعده التاريخ الهجري، فيقولون مثلاً: هذا العام (1990م) الموافق (1410هـ)، فيبدءون بالتاريخ الميلادي ويعتبرونه أصلاً، ثم يذكرون ما يوافقه من التاريخ الهجري، وهذا لا شك فيه مضاهاة للأمم الكافرة المشركة بالله عز وجل.
محاولات استبدال التاريخ الهجري وحكمه
ولذلك كان هذا الاتفاق والتواطؤ بين التاريخ الهجري الشمسي والتاريخ الميلادي، ذريعة عند بعض الضعفاء لجلب التاريخ الميلادي إلى هذه البلاد، ومحاولة نشره وترويجه بين المسلمين، والذي لا أشك فيه: أنه يحرم على المسلمين أن يوقتوا بالتاريخ الميلادي استقلالاً، بحيث يبدءون يعتبرونه دون غيره، ويلغون التاريخ الهجري ولا يعتمدونه ولا يعتبرونه، وذلك لأسباب:
أولاً: لأنه خلاف الإجماع كما أسلفت، وهو إجماع رائع ربما يكون من أقوى الإجماعات، فإن العلماء الآن يقول الواحد منهم: أجمع العلماء على كذا، ويذكر لك مسألة قد يكون فيها خلاف يسير، وليس هناك دليل قاطع على الإجماع، لكن في موضوع التاريخ الهجري نتحدى أي إنسان أن يذكر لنا منذ عهد عمر -من يوم اتفق الصحابة على ذلك- إلى عصر الناس هذا خلافاً للمسلمين في اعتبار هذا التاريخ واعتماده والعمل به، ولا يوجد من ذلك شيء إلا بعض التساهل الذي ينتشر عند بعض المسلمين بسبب مجاورتهم لليهود أو للنصارى أو للفرس أو لغيرهم، أما أن يكون تاريخاً معتمداً لدى الأمة الإسلامية فلا، وقد أجمع الصحابة على ذلك فمخالفة إجماعهم لا تجوز.
ثانياً: إن نقل الأمة من التاريخ الهجري القمري، إلى التاريخ الهجري الشمسي أو الميلادي، فيه عزل للأمة عن تاريخها، وعن كتبها، فإذا نسي الناس التاريخ الهجري القمري واعتمدوا التاريخ الشمسي أو التاريخ الميلادي فكيف سيقرءون كتبهم؟
ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج إلى مترجم إذا قرأ كتاب البداية والنهاية لـابن كثير أو الكامل لـابن الأثير أو تاريخ الطبري أو غيره، ويحتاج أيضاً إذا قرأ كتاباً من كتب الرجال والتراجم وكتب الحديث إلى مترجم يذكر له هذه السنة وما يقابلها، وهذا فيه عزل للأمة عن ماضيها وعن تاريخها، وحيلولة بين الشباب وبين تراثهم وثقافتهم، فهو مثل من يريد أن يشيع اللغة العامية لتكون بديلاً عن اللغة العربية، ويريد أن يجعل في الناس عجمة وجهالة فلا يستطيعون أن يقرءوا كتبهم، ولا يفهموا ما قال علماؤهم، ولا يفهموا كتاب ربهم ولا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن هذا فيه تشبه بالأمم الكافرة، من الرومان الوثنيين المتلبسين بـالنصرانية، والفرس واليهود وغيرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} ولا شك أن التواريخ يرتبط بها أعياد ومناسبات، ويرتبط بها حوادث وعزل وولاية وأشياء كثيرة جداً، فالتواريخ من أعظم الشعارات التي تفاخر بها الأمم وتتعرف بها، ويلتقي بها الحاضر بالغابر.
فالتشبه بهم في التاريخ من أعظم ألوان التشبه وأخطره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
رابعاً: إن التاريخ الهجري القمري هو الذي رُتبت عليه المواقيت الشرعية؛ من دخول الأهلة كدخول رمضان وخروجه، وعشر ذي الحجة، ويوم عاشوراء وغيرها من المناسبات، فإنها مبنية على أساس رؤية الهلال وعلى أساس التاريخ الهجري القمري لا غيره.
فلذلك لا يجوز بحالٍ من الأحوال استبداله بغيره، ونقول لمن يريد عنه بديلاً: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61].
وهذه الوقفة أعتبر أنها وقفة مهمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس تنطلي عليهم مثل هذه الأشياء، وقد لا يدركون هذه المحاولة الخطرة التي يحاولها البعض، وإن كان مما يجب أن يقال في هذه المناسبة يشكر للجهات المختصة أنها أصدرت أمراً باعتماد التاريخ الهجري القمري في جميع المناسبات، وهذا فيه قضاء على هذه المحاولات اليائسة من بعض المضللين.
ومن أراد المزيد من الدراسة في موضوع التاريخ وبداية التاريخ وما يتعلق به، وهي بحوث نفيسة مهمة كنت كتبت فيها بحيثاً صغيراً، لكنني بحثت عنه خلال إعدادي لهذا الدرس فلم يقع في يدي، فبإمكانه الرجوع إلى عدد من الكتب أذكر منها كتاب: المختصر في علم التاريخ؛ وهو كتيب مختصر صغير مفيد للكافيدي، وكتاب: الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للإمام السخاوي، وكتاب: مفتاح السعادة للشيخ طاش كبرى زاده من شيوخ العثمانيين، وكذلك كتاب: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي مادة أرخ، وكتاب: الخطط المقريزية للمقريزي، وغيرها من الكتب.
ثم حدثت حادثة في عهد عمر رضي الله عنه؛ استدعت أن يفكر المسلمون في قضية التاريخ من جديد، وهذه الحادثة اختلف الرواة في صياغتها، فمنهم من يقول: إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: [[إنه يأتينا من أمير المؤمنين صكوك وكتابات، فيها أن هذا محله في شعبان، فلا ندري أي الشعبان؛ أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟!]] وفي بعض الروايات على العكس من ذلك، وهو أن أبا موسى الأشعري وغيره من العمال والأمراء كانوا يكتبون إلى عمر رضي الله عنه بالكتب، ويؤرخونها بالشهور، فربما تأخر وصولها في البريد؛ لأنه لم يكن الناس كما هو عهدهم اليوم، من البريد بالطائرات وغيرها، فلم يكن يعرف المسلمون البريد إلا على الخيل والإبل، فربما مكث الكتاب في البريد شهراً أو أسبوعاً، وربما مكث أطول من ذلك.
فجاء كتابٌ إلى عمر من أبي موسى رضي الله عنه، فكان عمر يقلبه ويقول: شعبان أي شعبان؟!
أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟!
ومن حينئذٍ بدأ عمر يفكر ويستشير المسلمين في قضية التاريخ، فأشار عليه الهرمزان الفارسي بالتاريخ الفارسي، وقال: إن الفرس لهم تاريخ يؤرخون به، فلو أخذتم به، فكرهه المسلمون، فأشار بعض من حضر من مسلمي اليهود بالتاريخ اليهودي، وكانوا ينسبونه إلى الإسكندر أو غيره، فقالوا: لو أخذت بالتاريخ اليهودي فكره ذلك المسلمون، ثم تشاوروا بم يأخذون؟
فاتفقوا وأجمعوا إجماعاً لا تردد فيه ولا خلاف على أن يبدأ التاريخ منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأسباب:
أولاً: لأن الهجرة لم يُختلف في تاريخها، بخلاف المبعث والمولد فقد اختلف فيها العلماء، فإن مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد لا يومه ولا شهره بل ولا سنته، وهذا أكبر رد يوجه للذين يحتفلون بالمولد النبوي، وهو أن نقول: حددوا لنا أولاً متى المولد قبل أن تحتفلوا به، فالمهم أن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد، لا يومه ولا شهره بل ولا سنته.
وكذلك مبعثه صلى الله عليه وسلم فيه اختلاف، أما هجرته عليه الصلاة والسلام فلا يكاد يختلف الناس في أنها كانت في ربيع الأول، ويحددونها باليوم الثامن أو قريباً من ذلك، فرأوا أن التحديد بالهجرة أنسب لأنه متفق عليه.
وهنا يأتي سؤال: لماذا لم يحددوا التاريخ من وفاته عليه الصلاة والسلام؟
مع أن وفاته عليه الصلاة والسلام كانت معروفة مضبوطة؛ لأنها كانت بحضور أصحابه، وكلهم يعرفون أي يوم بل أي ساعة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الطاهرة، فالسؤال لماذا لم يبدأ التاريخ منذ وفاته عليه الصلاة والسلام؟
لم يحددوا بالوفاة لأنه لم يكن من اللائق ولا من المناسب أن يبدأ التاريخ بحدث كهذا؛ لأنه من الأحداث الأليمة التي تحزن لها النفوس وتنقبض لها القلوب، ويكره الناس أمرها وتذكرها، فكرهوا أن يبدأ التاريخ بها، ولهذا فإن السبب الثاني في أنهم حددوا بداية التاريخ بالهجرة:
أن الهجرة كانت بداية خير ونصر للمسلمين، حيث انتقلوا فيها من الذل إلى العز، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، وبدءوا حركة الفتوح والجهاد والمغازي، فكانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ المسلمين، وكان من المناسب أن يبدأ التاريخ الهجري بهذا الحدث العظيم.
لقد حدثت الهجرة في ربيع الأول، ولذلك قال المسلمون: نبدأ السنة من أولها من شهر المحرم، لأنه أول السنة، فقالوا: نعتبر السنة الأولى من الهجرة، ولا نبدأ من ربيع الأول وإنما من المحرم، وعلى هذا جرى أكثر العلماء والمؤرخين، ومنهم من يبدأ السنة بربيع الأول، ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله جرى على هذا، لكن أكثر العلماء والمؤرخين جروا على اعتبار بداية السنة من محرم.
وكان أول يوم في السنة هو يوم الخميس أو يوم الجمعة، كما ذكره الكافيدي في كتابه المختصر في علم التاريخ وغيره.
وكان بداية اعتماد المسلمين للتاريخ في السنة السابعة عشرة للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فمنذ ذلك الحين بدءوا اعتبار التاريخ، كما يقولون بلغة العصر الحاضر: بأثر رجعي، فقالوا: أول سنة نـزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بـالمدينة نعتبرها السنة الأولى، ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا، فبدءوا يحسبون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت السنوات التي يحسبون بها سنوات قمرية وليست شمسية، والسنة القمرية تعتمد على بزوغ الهلال، فيكون الشهر فيها تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، وهي بلا شك أقصر من السنوات الشمسية، فاعتمد المسلمون على السنوات القمرية، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا} إلى غير ذلك من النصوص التي دلت المسلمين على أنه ينبغي أن يعتبروا رؤية الهلال في خروج الشهر ودخوله.
ولذلك أقول -أيها الأحبة-: لقد أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والأمة كلها من ورائهم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان على اعتبار التاريخ الهجري لا الميلادي؛ لا ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ميلاد عيسى، ولا ميلاد غيرهم من الأنبياء، ولا على غير ذلك من الحوادث، بل على اعتبار التاريخ الهجري، فكان ذلك إجماعاً رائعاً صحيحاً ثابتاً مستقراً، ومن المحال أن يأتي إنسان بما ينقض هذا الإجماع بأي صورة وبأي شكل.
وكذلك أجمعوا إجماعاً آخر لا شك فيه على اعتبار الشهور والسنوات القمرية لا الشمسية؛ أما السنوات الشمسية فكان الرومان هم الذين يؤرخون بها ويستخدمونها -وهي كما قلت- أطول.
ولذلك قد تجد السنة ألفاً وأربعمائة وعشرة للهجرة، بالتاريخ الهجري القمري، لكنك لو نظرت إليها في التاريخ الشمسي لو جدت وهذا غير مقصود به التاريخ الهجري الشمسي أنها ألف وثلاثمائة وحوالي السبعين أو زيادة على السبعين أو قريباً من ذلك.
المهم أن التاريخ الهجري القمري هو المعتمد في الإسلام، ولذلك نعلم أنه لا يجوز لأحدٍ أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي على سبيل الاستقلال، ومع الأسف أن هذا هو الموجود في جميع البلاد الإسلامية باستثناء هذه البلاد، ففيما أعلم أن جميع البلاد الإسلامية تؤرخ بالتاريخ الميلادي، إما استقلالاً أو تذكر معه التاريخ الهجري تبعاً، ففي بعض الأمصار لا يعرفون إلا التاريخ بالميلاد؛ والميلاد المقصود به ميلاد المسيح عليه السلام، فهذا أيضاً غير معروف ولا محدد، ولا يمكن القطع به ولا الجزم به، وهو تاريخ وثني غير إسلامي؛ بل هو تاريخ نصراني أُثر عن الأمم الكافرة غير المؤمنة، التي اتخذت من عيسى عليه السلام إلهاً من دون الله عز وجل.
وفي بعض البلاد الأخرى يؤرخون بالتاريخ الميلادي ويذكرون بعده التاريخ الهجري، فيقولون مثلاً: هذا العام (1990م) الموافق (1410هـ)، فيبدءون بالتاريخ الميلادي ويعتبرونه أصلاً، ثم يذكرون ما يوافقه من التاريخ الهجري، وهذا لا شك فيه مضاهاة للأمم الكافرة المشركة بالله عز وجل.
ومع الأسف أقول: قد بدأ الماء الآسن يتسرب إلى المنبع الصافي، فبدأنا نجد من يحاول أن يفرض التاريخ الميلادي، وإذ كان من الصعب على المسلمين في هذه البلاد أن يتقبلوا التاريخ الميلادي هكذا مكشوفاً عارياً، فإننا قد وجدنا من يحاول أن يبدأ عن طريق ما يسمى بالتاريخ الهجري الشمسي؛ وذلك لأن من ميزة التاريخ الهجري الشمسي أنه يوافق التاريخ الميلادي، بمعنى: أنه منضبط معه، فإذا وضع -مثلاً- بداية معينة كبداية الدراسة، وحددت بتاريخٍ معين على مدار السنين، فهي لا تختلف في التاريخ الميلادي ولا تختلف في التاريخ الهجري الشمسي؛ لكنها في التاريخ الهجري القمري تختلف من سنة لأخرى.
ولذلك كان هذا الاتفاق والتواطؤ بين التاريخ الهجري الشمسي والتاريخ الميلادي، ذريعة عند بعض الضعفاء لجلب التاريخ الميلادي إلى هذه البلاد، ومحاولة نشره وترويجه بين المسلمين، والذي لا أشك فيه: أنه يحرم على المسلمين أن يوقتوا بالتاريخ الميلادي استقلالاً، بحيث يبدءون يعتبرونه دون غيره، ويلغون التاريخ الهجري ولا يعتمدونه ولا يعتبرونه، وذلك لأسباب:
أولاً: لأنه خلاف الإجماع كما أسلفت، وهو إجماع رائع ربما يكون من أقوى الإجماعات، فإن العلماء الآن يقول الواحد منهم: أجمع العلماء على كذا، ويذكر لك مسألة قد يكون فيها خلاف يسير، وليس هناك دليل قاطع على الإجماع، لكن في موضوع التاريخ الهجري نتحدى أي إنسان أن يذكر لنا منذ عهد عمر -من يوم اتفق الصحابة على ذلك- إلى عصر الناس هذا خلافاً للمسلمين في اعتبار هذا التاريخ واعتماده والعمل به، ولا يوجد من ذلك شيء إلا بعض التساهل الذي ينتشر عند بعض المسلمين بسبب مجاورتهم لليهود أو للنصارى أو للفرس أو لغيرهم، أما أن يكون تاريخاً معتمداً لدى الأمة الإسلامية فلا، وقد أجمع الصحابة على ذلك فمخالفة إجماعهم لا تجوز.
ثانياً: إن نقل الأمة من التاريخ الهجري القمري، إلى التاريخ الهجري الشمسي أو الميلادي، فيه عزل للأمة عن تاريخها، وعن كتبها، فإذا نسي الناس التاريخ الهجري القمري واعتمدوا التاريخ الشمسي أو التاريخ الميلادي فكيف سيقرءون كتبهم؟
ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج إلى مترجم إذا قرأ كتاب البداية والنهاية لـابن كثير أو الكامل لـابن الأثير أو تاريخ الطبري أو غيره، ويحتاج أيضاً إذا قرأ كتاباً من كتب الرجال والتراجم وكتب الحديث إلى مترجم يذكر له هذه السنة وما يقابلها، وهذا فيه عزل للأمة عن ماضيها وعن تاريخها، وحيلولة بين الشباب وبين تراثهم وثقافتهم، فهو مثل من يريد أن يشيع اللغة العامية لتكون بديلاً عن اللغة العربية، ويريد أن يجعل في الناس عجمة وجهالة فلا يستطيعون أن يقرءوا كتبهم، ولا يفهموا ما قال علماؤهم، ولا يفهموا كتاب ربهم ولا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن هذا فيه تشبه بالأمم الكافرة، من الرومان الوثنيين المتلبسين بـالنصرانية، والفرس واليهود وغيرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} ولا شك أن التواريخ يرتبط بها أعياد ومناسبات، ويرتبط بها حوادث وعزل وولاية وأشياء كثيرة جداً، فالتواريخ من أعظم الشعارات التي تفاخر بها الأمم وتتعرف بها، ويلتقي بها الحاضر بالغابر.
فالتشبه بهم في التاريخ من أعظم ألوان التشبه وأخطره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
رابعاً: إن التاريخ الهجري القمري هو الذي رُتبت عليه المواقيت الشرعية؛ من دخول الأهلة كدخول رمضان وخروجه، وعشر ذي الحجة، ويوم عاشوراء وغيرها من المناسبات، فإنها مبنية على أساس رؤية الهلال وعلى أساس التاريخ الهجري القمري لا غيره.
فلذلك لا يجوز بحالٍ من الأحوال استبداله بغيره، ونقول لمن يريد عنه بديلاً: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61].
وهذه الوقفة أعتبر أنها وقفة مهمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس تنطلي عليهم مثل هذه الأشياء، وقد لا يدركون هذه المحاولة الخطرة التي يحاولها البعض، وإن كان مما يجب أن يقال في هذه المناسبة يشكر للجهات المختصة أنها أصدرت أمراً باعتماد التاريخ الهجري القمري في جميع المناسبات، وهذا فيه قضاء على هذه المحاولات اليائسة من بعض المضللين.
ومن أراد المزيد من الدراسة في موضوع التاريخ وبداية التاريخ وما يتعلق به، وهي بحوث نفيسة مهمة كنت كتبت فيها بحيثاً صغيراً، لكنني بحثت عنه خلال إعدادي لهذا الدرس فلم يقع في يدي، فبإمكانه الرجوع إلى عدد من الكتب أذكر منها كتاب: المختصر في علم التاريخ؛ وهو كتيب مختصر صغير مفيد للكافيدي، وكتاب: الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للإمام السخاوي، وكتاب: مفتاح السعادة للشيخ طاش كبرى زاده من شيوخ العثمانيين، وكذلك كتاب: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي مادة أرخ، وكتاب: الخطط المقريزية للمقريزي، وغيرها من الكتب.
ننتقل بعد ذلك إلى إيحاء آخر من إيحاءات هذه الليلة المباركة وهذا العام الجديد، وهذا العقد الجديد من القرن الخامس عشر، وهي نظرة وداعٍ إلى السنة الماضية بل إلى العقد الماضي.
فمن نظر إلى سنة قد طواها وتعداها وتركها وراء ظهره، بل إلى عقدٍ بأكمله قد تخطاه وأصبح مجرد ذكرى تمر في خاطره فإنه يكثر من ذلك عجباً، أعطوني -بالله عليكم- ماذا بقي لنا وماذا بقي بأيدينا، لا أقول من سنة مضت أو من عقد مضى، بل من عُمُرٍ مضى، من عاش منا معاشاً ينظر ماذا بقي في يده من عمره الماضي كله، إنه ينظر فلا يرى شيئاً.
أصناف الأعمال الماضية
الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها، يقول الشاعر لولده:
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل |
فاللذة ذهبت، لكن بقي الإثم ينتظره الإنسان يوم يلقى ربه، موفوراً في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبقيت -أيضاً- آلام المعصية يقاسيها الإنسان في الدنيا، وآلام المعصية كثيرة، منها:
ألم في القلب على مخالفة أمر الرب جل وعلا.
ومنها: ألم قد يجده الإنسان في الواقع؛ فإن المعصية يتبعها ذل وفضيحة وعقاب؛ إما بالضرب في السجن والتوبيخ، أو بالقتل أو بغير ذلك من العقوبات، فبقيت آلام المعصية وعقوباتها الدنيوية والأخروية وذهبت لذتها حتى كأن لم تكن.
الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8] ويكفي من سرور الطاعة ما يحس به الإنسان من الانتصار على الهوى والشهوة وطاعة الله عز وجل، فيورث الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بين ذل المعصية وعز الطاعة.
يقول بعض الصالحين: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب.
ويقول رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وهو يعني بذلك: السرور بمناجاة الله تعالى والقرب منه ودعائه وذكره واستغفاره، فيكفي هذا من ثمرة الطاعة.
الصنف الثالث من أعمالنا التي عملناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة... إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} رواه مسلم.
ومن هذه الأعمال الدنيوية مالا حاجة للإنسان به، فوا عجباً من إنسان يكدح ليله ونهاره في جمع أموالٍ، يعلم أنه لو أكل بكل ما يستطيع وأنفق بكل ما يستطيع لم يكد يأتي على آخرها! فهل كل هذا الجهد الذي يبذله الإنسان حباً في أولاده من بعده، حتى أصبح حب أولاده وورثته من بعده أشد وأعظم من حبه لنفسه؟!
كلا! والله ليس الأمر كذلك، بل إننا نجد ممن يجهدون في جمع الأموال من يكون الواحد منهم عقيماً لا وارث له.
ومن الغرائب والعجائب التي نسمعها من أخبار الأمم الكافرة: أن امرأة غنية ثرية ماتت في أمريكا أو غيرها، وخلفت وراءها أموالاً طائلة هائلة، فلما فتحوا وصيتها وجدوا أنها قد أوصت بهذه الأموال الطائلة إلى قطتها الأثيرة الحبيبة لديها، ووالله إنك تنظر في حال كثير من كبار الأثرياء والأغنياء الذين وسع الله عليهم بالمال، فلا تجد لهم فضلاً إلا فضل الشهادة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فالعقول متقاربة، فإن هذا الإنسان الذي يجمع الأموال الطائلة ويبخل بها حتى على نفسه لا عقل له، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
فواعجباً ممن يتعب في جمع هذه الأموال، ويقضي فيها ليله ونهاره، مع أنه يرى أن هذه الأيام والليالي كل يوم تنقله مرحلة إلى القبر وتقربه منه، وتبعده عن العمل الصالح وتحول بينه وبينه، ثم واعجباً من ذلك!!
هذا فضلاً عما يفعله كثيرٌ من أولئك من ارتكاب الحرام في جمع الأموال وجمع الحطام؛ من أكل الربا وأكل أموال اليتامى، ومن الغش والخيانة والزور والكذب إلى غير ذلك من الوسائل، وليس الكلام فقط عن أصحاب الأموال، بل أنت تجد مثل ذلك في أصحاب الوظائف الذين يتوسلون إلى الوصول إلى المناصب بكافة الوسائل المحرمة، وفي أصحاب الدنيا بأصنافهم وألوانهم.
فلا بد -أيها الإخوة- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسم الدنيا إلى قرون، وقسم القرن إلى سنين، وقسم السنين إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر الإنسان أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف، فيأتي الإنسان مناسبة شهر رمضان ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة أيام الحج والعشر، ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة بداية العام وشهر المحرم، ثم إذا خرج جاءته مناسبة وهكذا، حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ويأخذ من يومه لأمسه، كما قال الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] أي: إذا فات الإنسان عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فات الإنسان عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار.
وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، ويقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [الإسراء:12] وهي القمر وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة [الإسراء:12] وهي الشمس: لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12].
فإن من الحكمة في تقسيم السنين والشهور والأيام: معرفة الحوادث وعدد السنين والحساب، وابتغاء الفضل من الله عز وجل، وتذكر ما مضى، وأن يعي العاقل فيستدرك، ويأخذ مما بقي لما مضى.
أعظم نتيجة إيجابية تحققت خلال العقد الماضي
وأريد أن أشير إلى نتائج إيجابية، فأعظم نتيجة إيجابية تحققت للأمة خلال عشر سنوات مضت هي قضية الصحوة الإسلامية، التي أصبحت واقعاً وحقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، وقد رأينا أحوال المسلمين في بلاد شتى، فلا تجد بلداً إلا وتجد الصحوة فيه، كالإنسان الذي قعد سنيناً طويلة مريضاً، ثم كتب الله تعالى له العافية فبرئ وقام، وأصبح يحاول أن يغير كثيراً.
وقد مررنا في بعض البلاد غير الإسلامية، بحي من الأحياء التي للمسلمين، فأصبحنا نتلفت فنجد مكتبة السلام، مكتبة النور، دار المعرفة، دار العلم، مكتبات بلا عدد، ثم تجد محلات التسجيل الإسلامية؛ فتجد التسجيلات والأشرطة، ثم تنظر فتجد المطاعم الإسلامية؛ فتجد اللحم الحلال والذبح على الطريقة الشرعية، فتساءلنا وقلنا سبحان الله! هذا شيء طيب. فقال لنا بعض الإخوة: لو أتيتم قبل خمس سنوات لما رأيتم من ذلك شيئاً، فلم يكن في هذا المكان إلا أماكن للدعارة والبغاء وبارات الخمور وأماكن الفساد واللهو الحرام، ولا تكاد تجد مكتبة ولا مطعماً إسلامياً ولا محلاً لتسجيل الأشرطة الإسلامية، لكن هذا نورٌ أفاضه الله تبارك وتعالى على عباده، فأشرق عليهم بعد ظلام.
فهذه الصحوة -الآن- أصبحت صحوة عارمة عامة طامة في كل مكان ولله الحمد، وهذا نصر تحقق خلال عشر سنوات، لكن يجب أن نقول بعد ذلك: على مدى عشر سنوات قادمة يا ترى ما الذي يجب أن نفعله؟
بل ما الذي يجب أن تحققه هذه الصحوة الإسلامية؟
ومن البشائر -أيضاً- والنتائج الإيجابية: أن الإسلام أصبح شيئاً عظيماً لا يهم حتى أعداء الدين بالنيل منه، فالذين كانوا بالأمس من الشيوعيين وأعداء الدين يسبون -أحياناً- الإسلام، وقد يسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يسبون رب العزة جل وعلا، غيروا لهجتهم وأصبحوا لا يستطيعون -الآن- أن يقولوا هذا، بل قد يسبون العلماء أو الدعاة، أو ينالون من المصلحين، ولا يستطيعون أن يتجرءوا على النيل من الدين، بل ينالون من أهل الدين، وهذا دليل على أن الدين أصبح له عزة وقوة.
شيء آخر: بعض اليساريين وأعداء الدين، الذين كانوا بالأمس -وإن تمسحوا بالإسلام، أو كتبوا عن الدين للتجديد وقد قرأت لبعض هؤلاء- كانوا بالأمس يقولون: إن الإسلام لا يصلح أن يحكم في الواقع؛ لأن الدنيا تغيرت والأمور اختلفت. والآن تغيرت اللهجة وأصبحوا مقتنعين بأنه لا بد أن يحكم الإسلام بلاد الإسلام.
فأوجدنا -بحمد الله- على مدى عشر سنين وأكثر، قناعة عند الناس بأن الإسلام دين هذه الأمة، وهو الذي يجب أن يحكمها في جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها، وقد اعترف بذلك حتى الذين كانوا بالأمس يرفعون شعار العلمانية، أو الماركسية، أو القومية، أو البعثية، أو الناصرية، أو غيرها من الشعارات الدخيلة على هذه الأمة، فأصبحوا يعترفون الآن -إن صدقاً وإما على سبيل أنهم يركبون الموجة- بأنه لا بد من الإسلام، وهذا مكسب عظيم.
إذن لا بد أن ننتقل الآن إلى مسألة أنه لا بد أن يستقر الإسلام في واقع الأمة الإسلامية في كل صعيد؛ فيجب أن يستقر الإسلام في مجال الاقتصاد ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الصحة والطب ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في العلوم الاجتماعية ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال التعليم ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الإعلام ويتخصص لذلك أهله، ثم يكون هناك التعليم الشرعي الصحيح الذي يخرج لنا العلماء والفقهاء الذين يرعون المسيرة ويضبطونها.
وأعمالنا التي عملناها في الماضي لا تتعدى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها، يقول الشاعر لولده:
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل |
فاللذة ذهبت، لكن بقي الإثم ينتظره الإنسان يوم يلقى ربه، موفوراً في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبقيت -أيضاً- آلام المعصية يقاسيها الإنسان في الدنيا، وآلام المعصية كثيرة، منها:
ألم في القلب على مخالفة أمر الرب جل وعلا.
ومنها: ألم قد يجده الإنسان في الواقع؛ فإن المعصية يتبعها ذل وفضيحة وعقاب؛ إما بالضرب في السجن والتوبيخ، أو بالقتل أو بغير ذلك من العقوبات، فبقيت آلام المعصية وعقوباتها الدنيوية والأخروية وذهبت لذتها حتى كأن لم تكن.
الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8] ويكفي من سرور الطاعة ما يحس به الإنسان من الانتصار على الهوى والشهوة وطاعة الله عز وجل، فيورث الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بين ذل المعصية وعز الطاعة.
يقول بعض الصالحين: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب.
ويقول رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وهو يعني بذلك: السرور بمناجاة الله تعالى والقرب منه ودعائه وذكره واستغفاره، فيكفي هذا من ثمرة الطاعة.
الصنف الثالث من أعمالنا التي عملناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة... إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} رواه مسلم.
ومن هذه الأعمال الدنيوية مالا حاجة للإنسان به، فوا عجباً من إنسان يكدح ليله ونهاره في جمع أموالٍ، يعلم أنه لو أكل بكل ما يستطيع وأنفق بكل ما يستطيع لم يكد يأتي على آخرها! فهل كل هذا الجهد الذي يبذله الإنسان حباً في أولاده من بعده، حتى أصبح حب أولاده وورثته من بعده أشد وأعظم من حبه لنفسه؟!
كلا! والله ليس الأمر كذلك، بل إننا نجد ممن يجهدون في جمع الأموال من يكون الواحد منهم عقيماً لا وارث له.
ومن الغرائب والعجائب التي نسمعها من أخبار الأمم الكافرة: أن امرأة غنية ثرية ماتت في أمريكا أو غيرها، وخلفت وراءها أموالاً طائلة هائلة، فلما فتحوا وصيتها وجدوا أنها قد أوصت بهذه الأموال الطائلة إلى قطتها الأثيرة الحبيبة لديها، ووالله إنك تنظر في حال كثير من كبار الأثرياء والأغنياء الذين وسع الله عليهم بالمال، فلا تجد لهم فضلاً إلا فضل الشهادة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فالعقول متقاربة، فإن هذا الإنسان الذي يجمع الأموال الطائلة ويبخل بها حتى على نفسه لا عقل له، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
فواعجباً ممن يتعب في جمع هذه الأموال، ويقضي فيها ليله ونهاره، مع أنه يرى أن هذه الأيام والليالي كل يوم تنقله مرحلة إلى القبر وتقربه منه، وتبعده عن العمل الصالح وتحول بينه وبينه، ثم واعجباً من ذلك!!
هذا فضلاً عما يفعله كثيرٌ من أولئك من ارتكاب الحرام في جمع الأموال وجمع الحطام؛ من أكل الربا وأكل أموال اليتامى، ومن الغش والخيانة والزور والكذب إلى غير ذلك من الوسائل، وليس الكلام فقط عن أصحاب الأموال، بل أنت تجد مثل ذلك في أصحاب الوظائف الذين يتوسلون إلى الوصول إلى المناصب بكافة الوسائل المحرمة، وفي أصحاب الدنيا بأصنافهم وألوانهم.
فلا بد -أيها الإخوة- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسم الدنيا إلى قرون، وقسم القرن إلى سنين، وقسم السنين إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر الإنسان أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف، فيأتي الإنسان مناسبة شهر رمضان ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة أيام الحج والعشر، ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة بداية العام وشهر المحرم، ثم إذا خرج جاءته مناسبة وهكذا، حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ويأخذ من يومه لأمسه، كما قال الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] أي: إذا فات الإنسان عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فات الإنسان عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار.
وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، ويقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [الإسراء:12] وهي القمر وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة [الإسراء:12] وهي الشمس: لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12].
فإن من الحكمة في تقسيم السنين والشهور والأيام: معرفة الحوادث وعدد السنين والحساب، وابتغاء الفضل من الله عز وجل، وتذكر ما مضى، وأن يعي العاقل فيستدرك، ويأخذ مما بقي لما مضى.
وهنا -أيضاً- وقفة لا أريد أن أتجاوزها: وهي إذا كان الكلام الذي ذكرته فيما يتعلق بالأفراد، فلننظر فيما يتعلق بالأمة الإسلامية على مدى عشر سنوات مضت فقط، ماذا حققت الأمة الإسلامية وماذا تحقق لها؟
وأريد أن أشير إلى نتائج إيجابية، فأعظم نتيجة إيجابية تحققت للأمة خلال عشر سنوات مضت هي قضية الصحوة الإسلامية، التي أصبحت واقعاً وحقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، وقد رأينا أحوال المسلمين في بلاد شتى، فلا تجد بلداً إلا وتجد الصحوة فيه، كالإنسان الذي قعد سنيناً طويلة مريضاً، ثم كتب الله تعالى له العافية فبرئ وقام، وأصبح يحاول أن يغير كثيراً.
وقد مررنا في بعض البلاد غير الإسلامية، بحي من الأحياء التي للمسلمين، فأصبحنا نتلفت فنجد مكتبة السلام، مكتبة النور، دار المعرفة، دار العلم، مكتبات بلا عدد، ثم تجد محلات التسجيل الإسلامية؛ فتجد التسجيلات والأشرطة، ثم تنظر فتجد المطاعم الإسلامية؛ فتجد اللحم الحلال والذبح على الطريقة الشرعية، فتساءلنا وقلنا سبحان الله! هذا شيء طيب. فقال لنا بعض الإخوة: لو أتيتم قبل خمس سنوات لما رأيتم من ذلك شيئاً، فلم يكن في هذا المكان إلا أماكن للدعارة والبغاء وبارات الخمور وأماكن الفساد واللهو الحرام، ولا تكاد تجد مكتبة ولا مطعماً إسلامياً ولا محلاً لتسجيل الأشرطة الإسلامية، لكن هذا نورٌ أفاضه الله تبارك وتعالى على عباده، فأشرق عليهم بعد ظلام.
فهذه الصحوة -الآن- أصبحت صحوة عارمة عامة طامة في كل مكان ولله الحمد، وهذا نصر تحقق خلال عشر سنوات، لكن يجب أن نقول بعد ذلك: على مدى عشر سنوات قادمة يا ترى ما الذي يجب أن نفعله؟
بل ما الذي يجب أن تحققه هذه الصحوة الإسلامية؟
ومن البشائر -أيضاً- والنتائج الإيجابية: أن الإسلام أصبح شيئاً عظيماً لا يهم حتى أعداء الدين بالنيل منه، فالذين كانوا بالأمس من الشيوعيين وأعداء الدين يسبون -أحياناً- الإسلام، وقد يسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يسبون رب العزة جل وعلا، غيروا لهجتهم وأصبحوا لا يستطيعون -الآن- أن يقولوا هذا، بل قد يسبون العلماء أو الدعاة، أو ينالون من المصلحين، ولا يستطيعون أن يتجرءوا على النيل من الدين، بل ينالون من أهل الدين، وهذا دليل على أن الدين أصبح له عزة وقوة.
شيء آخر: بعض اليساريين وأعداء الدين، الذين كانوا بالأمس -وإن تمسحوا بالإسلام، أو كتبوا عن الدين للتجديد وقد قرأت لبعض هؤلاء- كانوا بالأمس يقولون: إن الإسلام لا يصلح أن يحكم في الواقع؛ لأن الدنيا تغيرت والأمور اختلفت. والآن تغيرت اللهجة وأصبحوا مقتنعين بأنه لا بد أن يحكم الإسلام بلاد الإسلام.
فأوجدنا -بحمد الله- على مدى عشر سنين وأكثر، قناعة عند الناس بأن الإسلام دين هذه الأمة، وهو الذي يجب أن يحكمها في جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها، وقد اعترف بذلك حتى الذين كانوا بالأمس يرفعون شعار العلمانية، أو الماركسية، أو القومية، أو البعثية، أو الناصرية، أو غيرها من الشعارات الدخيلة على هذه الأمة، فأصبحوا يعترفون الآن -إن صدقاً وإما على سبيل أنهم يركبون الموجة- بأنه لا بد من الإسلام، وهذا مكسب عظيم.
إذن لا بد أن ننتقل الآن إلى مسألة أنه لا بد أن يستقر الإسلام في واقع الأمة الإسلامية في كل صعيد؛ فيجب أن يستقر الإسلام في مجال الاقتصاد ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الصحة والطب ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في العلوم الاجتماعية ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال التعليم ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الإعلام ويتخصص لذلك أهله، ثم يكون هناك التعليم الشرعي الصحيح الذي يخرج لنا العلماء والفقهاء الذين يرعون المسيرة ويضبطونها.
إيحاء ثالث في مطلع هذا العام الجديد وهذا العقد الجديد، ألا وهو: ماذا يقول الناس في مثل هذه المناسبات؟
أكثر ما يتحدث الناس به أنهم يلوون ويقلبون رؤوسهم ويقولون: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! ثم بعد ذلك تجد طائفة كبيرة منهم ينحون باللائمة والسب على الدهر.
يقول الإمام ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وهو كتاب مفيد نفيس، ينبغي لطالب العلم أن يقرأه ويتأمله ويحذر ما فيه من السقطات، فإن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في هذا الكتاب نَقدَ في ثلاثة مواضع أو أكثر من يسميهم بالمشبهة، وكأني به يقصد بذلك أهل السنة والجماعة، فغفر الله تبارك وتعالى لنا وله وتجاوز عنا وعنه، لكن الكتاب في الجملة كتاب مفيد، وفيه عبر وعظات، يقول في هذا الكتاب: ما رأت عيني مصيبة نـزلت في الخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وفي الحديث الآخر -الحديث القدسي- يقول الله عز وجل: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر} يقول ابن الجوزي: ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهليكم وتنسبونه إلى الدهر، والله تعالى هو الفاعل لذلك كله، حتى رأيت الحريري أبا القاسم يقول:
ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى عن الرشد في أنحائه ومقاصده |
تعاميت حتى قيل عني أخو عمى ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده |
فانظر كيف أخطأ الحريري فنسب الدهر إلى العمى، ونسب إليه الأحداث والأعمال، وإن الله تعالى هو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي يفعل ما يشاء ويختار.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا |
وقد نهجوا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
أما هذه الشمس التي تطلع علينا فوالله الذي لا إله غيره إنها هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، بل هي الشمس التي طلعت على آدم وموسى وعيسى وهارون وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الليل الذي يظلنا هو الليل الذي أظلهم وأظلم علينا، وهذا النهار هو نهارهم.
أما الديار فإنها كديارهم وأرى نساء الحي غير نسائها |
الذي اختلف هو الإنسان فنحن الذين تغيرنا، ولهذا عاد اللوم علينا كما قال الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا |
نحن المعيبون والملومون، والزمان لا ذنب له في ذلك، فالناس هم الذين يفعلون الأحداث، حتى العادات التي تنتشر في عصر أو بيئة إنما يصنعها الناس، وأحياناً تجد الإنسان يفعل شيئاً ويقول: هذه عادة لا أستطيع أن أتركها. وهذه العادة من الذي أوجدها؟
ومن الذي جعلها عادة؟
فما الذي أوجدها أنا وأنت وفلان وفلان فالعادة هي ما اعتاده الناس، وأخذوا عليه، فالناس هم الذين يصنعون عاداتهم وتقاليدهم وينشرونها فيما بينهم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |